التقدير الأميركي للحرب في أفغانستان

من المهم فهم أبعاد التقرير العسكري للحرب على أفغانستان الذي أصدرته الإدراة الأمريكية فهو الأول منذ قرار إدارة أوباما زيادة حجم القوات الأميركية في أفغانستان، ومنذ بدء الاستراتيجية التي وضعها الجنرال باتريوس، قائد القوات الأميركية في افغانستان، في إتيان ثمارها







أعلن في واشنطن، الخميس 16 ديسمبر/ كانون أول، عن ملخص للتقدير الذي قامت به وزارة الدفاع الأميركية، بقيادة فريق مجلس الأمن القومي، لوضع الحرب في أفغانستان. هذا هو التقدير الثاني الذي يصدر عن الحكومة الأميركية حول الحرب خلال أسبوع واحد، بعد التقدير الذي صدر عن مجموع الوكالات الاستخباراتية، بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية. ولكن، بينما كان التقدير الاستخباراتي متشائماً، مشيراً إلى أن ما تحقق حتى الآن لا يوحي بتقدم ملموس، جاء تقدير المؤسسة الدفاعية أكثر تفاؤلاً، وإن بحذر. الجدير بالتنويه أنه من المفترض أن تكون المؤسسة الاستخباراتية، وهي كذلك عادة، أكثر استقلالاً وموضوعية في تقديراتها عن أجهزة الدولة المرتبطة بالإدارة الأميركية.


أهمية التقرير وحمولته
العامل الباكستاني
إلى أين؟


أهمية التقرير وحمولته





الحرب في أفغانستان، في إستراتيجيتها الجديدة، قد حققت مكاسب هامة، تتعلق بإجبار طالبان على التخلي عن الإنجازات التي حققتها في أشهر هذا العام الأولى، وفي إضعاف القاعدة في منطقة الحدود الأفغانية – الباكستانية، وإيقاع خسائر ملموسة بها، وإجبار من تبقى من قادتها على الاختباء
بالنظر إلى أن التقدير الدفاعي قد أنجز بهدف تقديمه للرئيس، وأن الرئيس قام بالإعلان عنه والتعليق عليه، فالواضح أن هذا التقدير سيكون الأكثر تأثيراً في صنع سياسة إدارة أوباما في أفغانستان خلال المرحلة القصيرة المقبلة. هذا هو التقدير العسكري الأول للحرب منذ قررت إدارة أوباما زيادة حجم القوات الأميركية في أفغانستان، ومنذ بدأت الإستراتيجية التي وضعها الجنرال باتريوس، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، في إتيان ثمارها. وهذا ما يضفي أهمية مضاعفة على قراءة التقدير للموقف، وما يستبطنه من إيحاءات حول مستقبل الوضع الأفغاني وأهداف الحرب الأميركية.

يشير التقدير في جزئه المعلن إلى التالي:



1- أن الحرب في أفغانستان، في إستراتيجيتها الجديدة، قد حققت مكاسب هامة، تتعلق بإجبار طالبان على التخلي عن الإنجازات التي حققتها في أشهر هذا العام الأولى، وفي إضعاف القاعدة في منطقة الحدود الأفغانية – الباكستانية، وإيقاع خسائر ملموسة بها، وإجبار من تبقى من قادتها على الاختباء.


2- ويشير التقدير إلى أهم الوسائل التي وظفت في مواجهة طالبان، بما في ذلك الاستهداف الدقيق والمستمر لقادة طالبان المحليين في المناطق المختلفة، وإخراج طالبان من عدد من المواقع الهامة في قندهار وهلمند.


3- ولكن التقدير يعترف بأن التقدم الذي تحقق في الحرب لم يزل هشاً، وأن التحدي الرئيس في أفغانستان الآن هو تحويل ما تحقق إلى مكاسب ثابتة، غير قابلة للتغيير.


4- إحدى أهم النقاط التي احتواها التقدير هي تلك المتعلقة بباكستان، التي أكدت على أهمية أن تقوم باكستان بتبني سياسة تستهدف حرمان القاعدة من الملجأ الآمن، وقطع قنوات تعزيز قوة طالبان في أفغانستان. ولكن التقدير يتجنب في الآن ذاته توجيه لوم ما للحكومة الباكستانية.


5- وفي تحول ملحوظ في هدف الحرب، يشير التقدير إلى أهمية تدمير القاعدة وقدرتها على الفعل، وإلى إضعاف طالبان إلى الدرجة التي تصبح فيها غير قادة على إطاحة الحكومة الأفغانية (وليس إيقاع الهزيمة بطالبان، كما كان هدف الحرب المفترض طوال السنوات الماضية).


6- كما يؤكد التقدير على أن الحرب لن تكفي وحدها لإنجاز المهمة في أفغانستان، وأن من الضروري اتباع سياسة تنمية شاملة، تحرم طالبان من الالتفاف الشعبي حولها. ولكن التقدير في الوقت نفسه، يحجم عن التوصية بتبني نهج التفاوض مع طالبان.


منذ حملة انتخابات الرئاسة الأميركية، وجه أوباما انتقادات لاذعة لسياسة سلفه في الحرب ضد الإرهاب، ليجعل من حسم الحرب في أفغانستان هدفاً رئيساً لإدارته. كما كانت العراق حرب بوش الابن، أصبحت أفغانستان حرب أوباما. ولكن الرئيس لم يدرك حجم وأعباء المهمة التي كان عليه أن يواجهها. خلال العامين الماضيين، حققت طالبان إنجازات كبيرة على الأرض، بينما تعثرت جهود بناء الحكم والجيش في كابل. الآن، وبعد أن أصبحت الحرب في عامها العاشر أطول الحروب الأميركية، ووصل تعداد القوات الأميركية في أفغانستان إلى مائة ألف جندي، وباتت الحرب تتطلب ميزانية من 113 مليار دولار سنوياً، يبدو أن إدارة أوباما أكثر تواضعاً في الأهداف التي ترجو تحقيقها.


في صيغته الجديدة، يعلي التقدير الأميركي للحرب من استهداف القاعدة، وذلك باعتباره هدفاً يسهل تسويغه، وتسويغ الحرب من وراءه، أمام الرأي العام الأميركية، الذي يوشك أن يصاب بالإرهاق من الحرب وتكلفتها البشرية والمادية. وقد تخلت إدارة أوباما عن هدف بناء الدولة الأفغانية، وعن إيقاع هزيمة قاطعة بطالبان؛ بمعنى أنه ما إن تحقق الحرب هدف إضعاف طالبان، فستصبح أفغانستان شأن حكومة كابل. والواضح أن توكيد التقدير لإمكانية بدء انسحاب أميركي تدريجي في صيف 2001، كما كان أوباما قد وعد من قبل، أريد به التغطية على التزام الإدارة بالبقاء في أفغانستان حتى 2014، والمتوقع حتى أبعد من ذلك، كما سبق الإعلان في اجتماع لشبونه لحلف الناتو في نوفمبر/ تشرين ثاني.


بيد أن إدارة أوباما، كما يبدو، ترى أن الوقت لم يحن بعد لتبني سياسية واضحة للتفاوض مع طالبان (بالرغم من تشجيعها حكومة كارزاي للتفاوض)، ربما لأن مطالب طالبان لم تزل أعلى مما يمكن قبوله أميركياً، وأن من الضروري استمرار الحرب لإضعاف طالبان إلى أن تصبح مطالبها أكثر تواضعاً، أو ربما لأن قيادة طالبان لا تزال ترفض التفاوض بدون إقرار شروطها الأولية المتعلقة بالإعلان عن العزم على انسحاب القوات الأجنبية جميعاً واقتصار المفاوضات على طالبان والأميركيين. ولكن الارتباك في محاولات إدارة أوباما انتهاج إستراتيجية عمل محددة، يتضح في توكيد التقدير على أن الحرب لن تكون كافية وحدها لحل المسألة الأفغانية. فإن لم تكن الحرب كافية، فهل يمكن حل المشكل الأفغاني بمجرد تبني عدد من مشاريع تنمية اقتصادية واجتماعية، مع الإقرار بأن هزيمة طالبان العسكرية القاطعة غير ممكنة؟ وهنا، بالتأكيد، يأتي العامل الباكستاني.


العامل الباكستاني





ترى باكستان في الحرب الأميركية على الإرهاب، ودائرتها الأفغانية على وجه الخصوص، كارثة كبرى فقد تجر واشنطن باكستان إلى ساحة المعركة ضد القاعدة وحسب، بل وأجبرتها على الموافقة على إطاحة نظام طالبان في كابل، ودفعت إلى إشعال حرب أهلية في المقاطعات الباكستانية الحدودية
لم تزل باكستان، كما يؤكد التقدير، العامل الأهم والأبرز في معادلة القوة الأفغانية، بالرغم من أن ليس هناك إجماع في صفوف قيادة طالبان على تولي باكستان مهمة تمثيل طالبان. ما تطالب به واشنطن، إدارة ومؤسسة عسكرية، كما طالبت دائماً من قبل، أن تبدي باكستان تعاوناً أكبر وأعمق وأكثر شفافية وشمولاً مع الجهد الأميركي العسكري ضد طالبان. العلاقات بين إسلام آباد وواشنطن هي الآن أفضل مما كانت عليه خلال سنوات إدارة بوش، عندما كانت تشوب العلاقات بين البلدين اتسمت الضغوط الفجة على باكستان والاتهامات المتكررة لأجهزتها. ولكن ذلك لا يعني أن باكستان قد تخلت كلية عن طالبان، وأنها على استعداد للمشاركة في مواجهة سافرة لإضعافها.

الحقيقة أن القيادة الباكستانية منقسمة حول المسألة الأفغانية. الباكستانيون أولاً يفرقون بين طالبان باكستان، التي تعتبر خطراً أمنياً على استقرار باكستان، وطالبان أفغانستان، التي تعتبر ضرورة إستراتيجية لاستمرار الدور الباكستاني في أفغانستان وحماية ظهر باكستان الغربي. بعض الدوائر الباكستانية، من جهة أخرى، ترى أن طالبان أفغانستان تمثل خطراً محتملاً أيضاً، ذلك أن انتصارها في أفغانستان قد يعزز معنويات الإسلاميين المسلحين في الجانب الباكستاني من خط ديوراند ويجعلهم أكثر تصميماً على مواصلة الحرب الإرهابية ضد الدولة. ولكن المؤكد حتى الآن أن وجهة النظر الأولى، التي ترى في طالبان أفغانستان ضرورة إستراتيجية، هي الغالبة، وهذا ما أسس للإشارة إلى باكستان في التقدير الأميركي الأخير.


من ناحية أخرى، ليس ثمة شك أن باكستان ترى في الحرب الأميركية على الإرهاب، ودائرتها الأفغانية على وجه الخصوص، كارثة كبرى. لم تجر واشنطن باكستان إلى ساحة المعركة ضد القاعدة وحسب، بل وأجبرتها على الموافقة على إطاحة نظام طالبان في كابل، ودفعت إلى إشعال حرب أهلية في المقاطعات الباكستانية الحدودية. الآن، وبعد سنوات من تحول كابل إلى بؤرة عداء ضد باكستان، يوفر صعود طالبان فرصة أخرى لاستعادة الموقع الباكستاني الاستراتيجي في أفغانستان. ولذا، فمن المستبعد إلى حد كبير أن تستجيب إسلام آباد للطلب الأميركي بالتخلي عن طالبان، بغض النظر عن الحزب الحاكم في إسلام أباد.


بيد أن الباكستانيين يعرفون حدود ما يستطيعون تحقيقه في هذه المرحلة، سيما وهم يرون عزم إدارة أوباما على أن لا تخرج الولايات المتحدة من الحرب في صورة مشابهة للهزيمة السوفيتية. وهذا ما يجعل إسلام آباد تصر على أن المخرج هو تسوية تفاوضية، تؤدي إلى مشاركة طالبانية ملموسة ومرضية في الحكم، وليس مجرد مفاوضات تجميلية يقودها كارازاي، تستهدف تحييد طالبان أو قطاع واسع من قواها. وإلى أن يعتمد الأميركيون خيار التفاوض مع طالبان، ستحرص إسلام آباد على التزام سياسة غموض آمن، تعكس رغبة باكستان في دعم الحرب الأميركية ضد القاعدة، من ناحية، وتوفير دعم غير مباشر لطالبان، يساعدها على البقاء قوة فاعلة في الساحة الأفغانية.


إلى أين؟


إن من المبكر جداً الإقرار بالتفاؤل الذي يوحي به تقدير المؤسسة العسكرية ومجلس الأمن القومي فيما يتعلق بمستقبل الحرب في أفغانستان (مسألة القاعدة باتت منفصلة إلى حد ما). فمن المحتمل أن تستطيع القوات الأميركية، وقوات إيساف الأخرى، إيصال الأوضاع إلى حد تصبح فيه حكومة كابل آمنة من احتمال إطاحتها من قبل قوات طالبان. ولكن المؤشرات الحالية ليست كافية بعد لترجيح هذا الاحتمال. فتخلي طالبان عن مواقع لها تحت ضغط الهجمات الأميركية أو البريطانية ليس جديداً؛ وتظهر السوابق العديدة أنه ما أن تضعف قبضة هذه القوات، أو تنتقل إلى مهمات أخرى، حتى تعود طالبان إلى المواقع التي أخلتها. العامل المهم في هذه المعادلة ليس المقدرات العسكرية المكرسة لموقع أو مديرية ما، بل رؤية الأفغان أنفسهم في المنطقة لطبيعة الصراع. ما يراه الأفغان اليوم أن طالبان مهما ضعفت فهي الباقية، وأن الأميركيين سينسحبون في النهاية؛ وهذا هو العامل الأهم في موقفهم من طالبان والحرب.


المسألة الأخرى، أن البشتون، الذي يشكلون زهاء نصف سكان أفغانستان، يجدون أنفسهم في موقع من يتحمل أعباء الحرب، طالبانيين كانوا أو أهالي، وأنهم باتوا مهمشين في أجهزة الحكم والدولة. المدهش، مثلاً، أن النواب البشتون يمثلون الآن أقلية في البرلمان الأفغاني الجديد، وذلك للمرة الأولى في تاريخ أفغانستان. مثل هذا الوضع لن يقرب البشتون من قوات الاحتلال، حتى بوجود رئيس بشتوني ضعيف مثل كارازاي. هذا، بينما تتزايد المؤشرات على أن قوات طالبان وقياداتها المحلية تعمل جاهدة على تغيير سلوكها وتعاملها مع الأهالي، وتقديم رؤية جديدة للتعددية الأفغانية ككل، والتعبير عن موقف تسامحي تجاه الخصوم السياسيين.


ما يحاوله الرئيس الأميركي في الوقت الراهن هو بناء رأسمال في الحرب يساعده في مسعاه لولاية رئاسية ثانية بعد عامين، مهما كانت التناقضات التي يستند إليها رأس المال هذا. ولكن أوباما سيجد نفسه مجبراً في النهاية على مواجهة حقيقة أن خيار استمرار الحرب هو خيار الكتلة الجمهورية في مجلسي النواب والشيوخ، وليس قاعدته الديمقراطية، وأن الأمور لا تسير على أرض أفغانستان كما تتمنى إدارته، وأن من الصعب إجبار باكستان على التخلي عن مصالحها الإستراتيجية، وأن ليس بإمكانه خوض نصف حرب وتحقيق أهداف تتطلب مئات الألوف من الجنود. وعندها، عليه أن يتخذ القرار الضروري بالتفاوض مع طالبان، أو أن تبقى أفغانستان ساحة حرب متعددة الأطراف، ليس بينهم من رابح.