مركز الجزيرة للدراسات
في خطاب مهم وعالي النبرة أمام المجلس الوطني الكبير، أو البرلمان التركي، علق رئيس الحكومة الطيب رجب أردوغان على الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية -الذي أودى بحياة تسعة من الناشطين والمتضامنين الأتراك- بأنه يمثل ميلادًا جديدًا. أما رئيس الجمهورية عبد الله غول فقال: إن العلاقات التركية-الإسرائيلية لن تعود أبدًا إلى ما كانت عليه.
كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل عام 1949؛ وقد تأسست بين الدولتين علاقات وثيقة منذ اتخذت تركيا قرارها بالانضواء تحت مظلة المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد عملت إسرائيل خلال عقد الخمسينيات، على إقامة تحالف المحيط مع إيران وتركيا، باعتباره دائرة إستراتيجية تحيط بالعالم العربي. وعلى الرغم من أن كثيرًا من الغموض ما يزال يغلِّف هذا التحالف، فليس ثمة شك في أن دولاً عربية رئيسية، مثل مصر وسورية، رأت في تركيا طوال النصف الثاني من القرن العشرين مصدر تهديد، بينما أسهمت ترسبات التاريخ في إبقاء العلاقات التركية-السعودية باردة.
شهدت العلاقات التركية-الإسرائيلية خلال السبعينيات والثمانينيات فتورًا مؤقتًا، وعادت للصعود النوعي في النصف الثاني من التسعينيات، عندما عقدت الدولتان سلسلة من الاتفاقات العسكرية والاقتصادية والتجارية. وحتى في السنوات الأولى التي تلت وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى الحكم في نهاية 2002، لم يكن هناك الكثير مما يوحي بالتعثر الذي ستبدأ العلاقات التركية-الإسرائيلية في مواجهته منذ 2008 على الأقل.
تعثر لم يكن حتميًا
الأزمة إسرائيليًا
الأزمة تركيًّا
نتائج
إن الإسرائيليين لم يحاولوا معالجة تعثر علاقاتهم مع تركيا بجدية، بل إنهم -في أكثر من مناسبة- أسهموا إسهامًا مباشرًا في دفع هذه العلاقات نحو المزيد من التدهور. |
فالقول بأن حكومة أردوغان تمثل وجهة نظر إسلامية متشددة، وأن قادتها عقدوا العزم منذ وصولهم للحكم على وضع نهاية للعلاقات التركية-الإسرائيلية، ليس صحيحًا ولا تؤيده الوقائع؛ فقد قام أردوغان بزيارة إسرائيل (والسلطة الفلسطينية)؛ حيث التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي شارون وعرض التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما سهّلت تركيا بعد ذلك واستضافت أول لقاء معلن بين الإسرائيليين والباكستانيين. وحتى قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كانت تركيا تلعب دور الوسيط والمضيف للمباحثات السورية-الإسرائيلية غير المباشرة. وقد استقبلت أنقرة خلال فترتي حكم أردوغان وزراء إسرائيليين بارزين، إضافة إلى رئيس الحكومة أولمرت ورئيس الدولة بيريز. كما عقدت حكومة أردوغان والحكومة الإسرائيلية أكثر من اتفاق في مجالات التجارة والصناعة العسكرية والمياه.
أما أسباب التعثر الذي شهدته العلاقات بين البلدين منذ الحرب الإسرائيلية على غزة فيمكن إرجاعه إلى عدة عوامل:
- هناك أولاً الشعور التركي بأن زيارة أولمرت لأنقرة قبل ساعات من الهجوم على قطاع غزة استبطنت خديعة للجانب التركي؛ وهو الأمر الذي أسهم في ارتفاع وتيرة رد الفعل التركي على الحرب.
- ويتعلق العامل الثاني باتساع نطاق المعارضة الشعبية التركية لإسرائيل وسياساتها. ولأن حكومة العدالة والتنمية جاءت من خارج مؤسسة الحكم التقليدية، وتتعامل بحساسية كبيرة مع توجهات الشعب، الذي هو سندها الرئيس، فكان عليها أن تأخذ اتجاه الرأي العام التركي في الاعتبار.
- أما العامل الثالث فيتعلق بالفراغ الذي تراه حكومة تركية طموحة ونشطة في الجوار، سواء لتراجع دور الولايات المتحدة، أو لانسحاب دول عربية رئيسية من مواقعها. وكان طبيعيًا أن يشجع هذا الفراغ تركيا على القيام بدور أكبر في قضايا المنطقة، وأن يصطدم هذا الدور تلقائيًا بالدولة الإقليمية الثانية الأبرز في الجوار، أي إسرائيل.
ومن اللغة التي استخدمها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في ندوة مؤتمر دافوس الشهيرة في مطلع 2009، إلى حادثة الكرسي المنخفض المهينة في لقاء نائب وزير الخارجية الإسرائيلي مع السفير التركي في العام الماضي، أثبت الإسرائيليون عجزهم عن قراءة الموقف التركي وسياقه الداخلي والإقليمي الجديد. ويمكن القول: إن الإسرائيليين لم يحاولوا معالجة تعثر علاقاتهم مع تركيا بجدية، بل إنهم -في أكثر من مناسبة- أسهموا إسهامًا مباشرًا في دفع هذه العلاقات نحو المزيد من التدهور.
الهجوم الإسرائيلي المسلح على السفينة التركية مرمرة، التي حملت على ظهرها الأغلبية العظمى من المتضامنين الأتراك، وعددًا من النشطاء من بلدان أخرى، هو الذي ولَّد رد الفعل التركي، لا سيما بعد أن اتضح عدد الضحايا الأتراك المرتفع. |
كان بالإمكان -مثلاً- تعطيل سفن القافلة، ومن ثَمَّ سحبها إلى مكان آمن، بدون تماس مباشر مع الركاب. ولكن الحكومة الإسرائيلية اختارت التدخل بقوة مسلحة، بدون أن يكون لديها معلومات كافية عن السفن وركابها والوضع داخلها، وبدون خطة بديلة في حال تعثر عملية السيطرة المسلحة على السفن، أو إحداها؛ ولذا، ما إن نجح ركاب السفينة مرمرة في احتجاز أربعة من الجنود الإسرائيليين الذين انقطعت صلتهم بطائرات الإنزال المروحية، حتى فقد القادة العسكريون الإسرائيليون أعصابهم وتحكمهم في العملية وأعطوا الأوامر بإطلاق النار العشوائي للسيطرة على السفينة، مُوقِعين خسائر فادحة في صفوف المتضامنين.
إن من الضروري بدايةً ملاحظة أن الحكومة التركية لم تلعب أي دور ملموس في تنظيم قافلة الحرية سواء التخطيط لمسيرها، أو الإشراف عليها. كانت الحملة -مثل سابقاتها- عملاً قامت به مؤسسات عمل مدني وخيري في أوروبا وتركيا. وبانطلاق القافلة، اقتصر دور الحكومة التركية على دعوة الحكومة الإسرائيلية للسماح لسفن القافلة بالوصول إلى قطاع غزة. ولكن الهجوم الإسرائيلي المسلح على السفينة التركية مرمرة، التي حملت على ظهرها الأغلبية العظمى من المتضامنين الأتراك، وعددًا من النشطاء من بلدان أخرى، هو الذي ولَّد رد الفعل التركي، لا سيما بعد أن اتضح عدد الضحايا الأتراك المرتفع.
لم يكن باستطاعة أية حكومة تركية غض النظر عن الهجوم الإسرائيلي ونتائجه، فضلاً عن حكومة أعلنت في أكثر من مناسبة سابقة معارضتها للحصار الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية على قطاع غزة، وللسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين عمومًا. وبانطلاق حركة الاحتجاج الشعبي واسعة النطاق ضد إسرائيل في عدد من المدن التركية، أدركت حكومة العدالة والتنمية أن عليها أن ترتفع إلى مستوى الحدث، وأن الموقف يمكن أن يتحول من أزمة دبلوماسية كبيرة إلى فرصة سياسية أكبر. وقد تبلور التحرك التركي في عدة مساقات:
- مخاطبة الرأي العام التركي، لتوضيح رؤية الحكومة للحدث والجهود التي تقوم بها لمعالجته؛ وهذا ما قام به رئيس الحكومة أردوغان في الخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان التركي بعد عودته المتعجلة من جولة في أميركا اللاتينية.
- التحرك في مجلس الأمن للحصول على موقف دولي ضد التصرف الإسرائيلي؛ وهذا هو الدور الذي قام به وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو. وبالرغم من نجاح التحرك التركي في الحصول على بيان رئاسي من مجلس الأمن، إلا أن من الواضح أن نص البيان لم يحمل الإدانة القاطعة التي أرادها الممثلون الأتراك في المجلس؛ ولأن البيان الرئاسي لا يرتقي إلى مستوى القرار الدولي، لم يكن من المتوقع أن تستجيب الحكومة الإسرائيلية بسهولة وسرعة كافيتين للمطالب بالإفراج عن المتضامنين الذين ألقت القوات الإسرائيلية القبض عليهم، أو لتشكيل لجنة تحقيق دولية في الحادث.
- وهذا ما جعل الدبلوماسية التركية تتحرك أيضًا في اتجاه الإدارة الأميركية، لا سيما بعد أن عملت الولايات المتحدة على التخفيف من الصيغة الأولى لبيان مجلس الأمن. وقد استغل وزير الخارجية التركي موعدًا حدد مسبقًا مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ليؤكد على أن أنقرة كانت تتوقع موقفًا أفضل من واشنطن تجاه دولة شريكة في حلف الناتو، تعرَّض مواطنوها للاعتداء من قوات دولة ثالثة.
ولكن الوزير التركي لم يكتف بمحاولة الضغط السياسي على الإدارة الأميركية، بل قام أيضًا خلال لقائه بوزيرة الخارجية الأميركية بتوجيه رسالة صريحة لإسرائيل، تهدد بقطع كامل للعلاقات بين البلدين ما لم يتم الإفراج عن كافة المتضامنين الأتراك وإعادتهم وجثث الضحايا إلى تركيا خلال أربع وعشرين ساعة. وهذا ما تم بالفعل. ولعل المهم هنا أن كلينتون لم تتردد في إيصال رسالة التهديد التركية، في إشارة -مستبطنة ربما- إلى امتعاض إدارة أوباما من الموقف الإسرائيلي. - تمثل المسار الرابع للتحرك التركي بالضغط المباشر على إسرائيل، سواء بسحب السفير التركي في تل أبيب، أو وضع شروط لتطبيع العلاقات بين البلدين، تتعلق برفع الحصار عن قطاع غزة وتعويض الضحايا، مع الإصرار على فتح تحقيق دولي شفاف في الحادث، أو توصية الادعاء العام التركي بفتح تحقيق جنائي في الحادث.
ومن أبرز النتائج التي تمخضت عنها الأزمة والتي يمكن الإشارة إليها في هذا المقام، هي الآتي:
عززت الأزمة من وضع تركيا ودورها الإقليمي؛ وليس ثمة شك في أن هذا الوضع والدور سيزدادان قوةً إن نجحت الضغوط التركية في رفع الحصار عن قطاع غزة. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن خيارات حكومة العدالة والتنمية قد أصبحت -في شكل حاسم، وغير قابل للرجوع عنه- خيارات للدولة التركية. وربما لابد من الانتظار لرؤية ما إن كانت حكومة العدالة والتنمية ستنجح في كسب معركة التعديلات الدستورية، أو ما إن كان الحزب الحاكم سيحقق الفوز في انتخابات العام المقبل. ولكن من الواضح أن الهوة بين الشارع التركي وإسرائيل تزداد اتساعًا، وهو ما سيجعل من الصعب على أية حكومة مقبلة أن تعود بالعلاقات التركية-الإسرائيلية إلى المستوى الذي بلغته في النصف الثاني من التسعينيات. ولأن كل السياسات هي في النهاية سياسات داخلية، فقد كانت الأزمة مناسبة لرئيس الوزراء أردوغان للقيام بحملة سياسية داخلية سريعة، لم يتوانَ خلالها عن الهجوم على خصومه السياسيين.إن الأميركيين اختاروا الانحياز لإسرائيل ضد الحليف التركي الإستراتيجي؛ ولكن الانحياز لم يكن كاملاً وسافرًا كما في مرات سابقة. - عمقت الأزمة من الشكوك المتراكمة في العلاقات التركية-الإسرائيلية، لا سيما بخصوص الصلات الإسرائيلية المحتملة مع حزب العمال الكردستاني التركي المعارض؛ فثمة تقارير تفيد بأن ضباطًا إسرائيليين سابقين -وربما عملاء في جهاز الموساد الإسرائيلي- يقدمون المساعدة لحزب الحياة الحرة الكردي المعارض لإيران، الذي تربطه صلات تنظيمية وثيقة بحزب العمال الكردستاني. ولكن هجوم مجموعة مسلحة من حزب العمال بالصواريخ على قاعدة بحرية تركية في ميناء الإسكندرونة في ذات اليوم الذي تعرضت فيه قافلة الحرية للهجوم الإسرائيلي، ولَّد جدلاً واسعًا في تركيا حول ما إن كان الإسرائيليون يحتفظون بصلات سرية مباشرة مع حزب العمال الكردستاني أيضًا.
- في واحدة من الحالات النادرة في تاريخ العلاقات الأميركية الخاصة مع إسرائيل، وضعت الأزمة واشنطن أمام خيارات صعبة. صحيح أن أزمة قافلة الحرية لم تشكِّل لحظة مصيرية بالنسبة لتركيا وإسرائيل بأي حال من الأحوال، فهذه لم تكن مثلاً لحظة حرب، لتجبر واشنطن على اختيار جانب أيٍّ من حليفتيها، ولكن الأزمة بالرغم من ذلك مثَّلت امتحانًًا لعلاقة واشنطن الخاصة بإسرائيل. ويمكن القول: إن الأميركيين اختاروا الانحياز لإسرائيل ضد الحليف التركي الإستراتيجي؛ ولكن الانحياز لم يكن كاملاً وسافرًا كما في مرات سابقة. وقد أظهر الموقف الأميركي من الأزمة شعور واشنطن المتزايد بثقل العبء الذي باتت إسرائيل تمثله على وضع أميركا في الشرق الأوسط والعالم.
- ولكن تعزيز مصداقية السياسة التركية في الشارع العربي والإسلامي، وازدياد تأثيرها على القوى العربية والإسلامية (التي توصف عادة بالراديكالية) المعادية لإسرائيل، لابد أن يُنظَر إليه في واشنطن باعتباره تطورًا إيجابيًا في الشرق الأوسط، ليس فقط لأنه يوفر للإدارة الأميركية قناة يمكن الثقة بها للوصول إلى هذه القوى، ولكن أيضًا لأن الصعود التركي يتم على حساب دور إيران وتأثيرها، وإن كان استبدال المواقع بين تركيا وإيران لم يزل نسبيًا.
أوقعت الأزمة عطبًا بالغًا في دور مصر وتأثيرها في الجوار العربي-الإسلامي؛ فقد كان الموقف المصري يعاني ضعفًا وتراجعًا قبل الأزمة، ولكن ما بدا أنه توافق مصري-إسرائيلي تجاه قافلة الحرية -من ناحية-، والتحرك التركي السريع لتحويل الأزمة إلى فرصة -من ناحية أخرى- يعزز من صورة السياسة المصرية كما يراها معارضوها، بأنها سياسة مشاركة في حصار قطاع غزة، وفي اتجاه التخلي عن قضايا العرب الكبرى. ولن يستطيع القرار المصري بفتح معبر رفح لأجل غير محدد إزالة الشكوك الشائعة في الشارعين العربي والفلسطيني حول حقيقة المسوغات التي تُوظَّف عادة لتبرير إغلاق المعبر.إقرأ أيضا
- تدل اللغة التي يستخدمها المسؤولون الأتراك على صعيد العلاقات مع إسرائيل أن خيار أنقرة لا يزال عدم التصعيد، مع الإصرار على أن تدفع إسرائيل ثمن تصرفها تجاه قافلة الحرية والمتضامنين الأتراك؛ بمعنى أن تركيا لا تسعى إلى قطع العلاقات مع إسرائيل ولا إلى الانضمام إلى ما يعرف بمعسكر الممانَعَة في الجوار، بل تعمل في هذه المرحلة على إنزال إسرائيل من موقع الدولة فوق القانون. ولا يقل أهمية ما تتضمنه التسريبات المتزايدة في الصحف التركية من أن حكومة أردوغان تتوجه إلى إلغاء ترتيبات التعاون العسكري بين البلدين، التي وُضِعت في النصف الثاني من التسعينيات، وأنها لا تعتزم توقيع اتفاقات جديدة في مجال التصنيع العسكري بعد إنجاز الاتفاقات الحالية.
في النهاية، إن استمر حزب العدالة والتنمية في الحكم خلال السنوات القادمة، فمن المتوقع على أية حال أن تشهد العلاقات بين الدولتين مزيدًا من التأزُّم، ليس لأسباب أيديولوجية بالضرورة، بل لأن سياسة الانفتاح على الجوار، اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، التي تتبناها حكومة العدالة والتنمية لابد أن تصطدم بسياسة الهيمنة والتوسع والسيطرة الإسرائيلية.