بمرور الأسبوع التاسع والعشرين، تشهد المواجهة الطويلة بين الشعب السوري ونظامه الحاكم ثلاثة تطورات بالغة الأهمية، سيكون لها أثر بالغ على مجريات الأزمة الطاحنة التي تعيشها سورية:
- تزايد معدلات الانشقاق في الجيش العربي السوري، ونزوع متزايد للضباط والجنود المنشقين إلى خوض مواجهات مسلحة مع قوات الأمن والجيش التي تهاجم الأهالي والمحتجين في المدن والبلدات السورية.
- تفاقم الأزمة الاقتصادية – المالية لنظام الحكم.
- نجاح المجلس الوطني المنعقد في اسطنبول في توسيع دائرة عضويته، لتضم القطاع الأكبر من قوى المعارضة السورية في داخل وخارج البلاد.
فيما يلي محاولة لقراءة كل هذه التطورات الهامة، وما يمكن أن تتركه من أثر على سياق الثورة السورية والأزمة التي تلفّ البلاد.
انشقاقات وتوجه للعمل المسلح
شهدت الانتفاضة السورية، منذ منتصف الصيف، دلائل متفرقة على توجه لحمل السلاح ضد قوات الأمن والجيش. ولكن هذا التوجه ظل مقصوراً على مجموعات صغيرة من السوريين الذين حركتهم على الأرجح دوافع الثأر والغضب. ولكن الاشتباكات المسلحة التي اندلعت منذ محاولة قوات الأمن والجيش اقتحام مدينة الرستن في 27 سبتمبر/ أيلول، والتي استمرت لأربعة أيام، تؤشر في صورة كبيرة إلى بروز بُعد العسكرة في الانتفاضة الشعبية السورية. الحقيقة أن القوات المهاجمة لم تستطع في النهاية اقتحام الرستن إلا بعد حشد مئات الدبابات والعربات المصفحة، وإيقاع دمار كبير بالمدينة ومنازل الأهالي. وتفيد تقارير دوائر المعارضة السورية أن أعداد القتلى تجاوزت المائة.
تعتبر الرستن ومحيطها العشائري منطقة ذات طابع خاص من حيث علاقتها بالجيش السوري، إذ تذكر تقارير أن 17 ألف ضابط وجندي على الأقل من العسكريين ينحدرون من الرستن وجوارها، مما يجعلها واحدة من أهم الخزانات البشرية للجيش السوري. والمؤكد أن العناصر المسلحة التي واجهت اقتحام الرستن تنتمي في أغلبها إلى ما بات يعرف بالجيش السوري الحر، المشكل من جنود وضباط منشقين خلال الأشهر القليلة الماضية، قرروا الانضواء في كتائب منظمة لحماية الأهالي من هجمات قوات الجيش والأمن وميليشيات النظام القمعية. ونظراً للعلاقة الخاصة بين منطقة الرستن والجيش، وأن أعداداً كبيرة نسبياً من المنشقين هم أصلاً من أبناء المنطقة، فربما كان اختيار الرستن لإظهار مقدرة الجيش السوري الحر على المواجهة أمراً منطقياً.
بيد أن ثمة مؤشرات على أن المواجهات المسلحة لا تقتصر على الرستن، فهناك مواجهات مشابهة، وإن على نطاق أضيق، اندلعت في الوقت نفسه في منطقة حماة. وكانت أخرى شبيهة قد سجلت في مناطق أخرى من سورية، لاسيما في ريف دمشق وريف إدلب ومنطقة الحدود السورية – اللبنانية. بعض الاشتباكات نجم عن هجمات خططت لها مجموعات مسلحة، وبعضها الآخر عن هجمات الجيش على مواقع يعتقد بأن الجنود المنشقين تحصنوا فيها، وثالثة اندلعت تلقائياً بفعل انشقاقات جديدة في صفوف الجيش.
على أن منذ بداية الانتفاضة السورية ووسائل إعلام النظام تروج لوجود جماعات إرهابية مسلحة تنشط في أنحاء البلاد، ولكن تلك الادعاءات في الواقع استهدفت تسويغ عمليات القتل والقمع الدموية التي استخدمها النظام ضد جموع المواطنين المحتجين. الحقيقة أن حركة الاحتجاج السورية انطلقت سلمية ولا تزال في تجلياتها العظمى كذلك. المتغير الطارئ على الانتفاضة الشعبية كان حركة انشقاق الضباط والجنود الذين لم تستطع ضمائرهم احتمال الأعباء الأخلاقية والدينية لقتل شعبهم.
بدأت الانشقاقات المعلنة عن الجيش بخروج الملازم أول عبد الرزاق محمد طلاس يوم 6 يوينو/ حزيران. وبعد ثلاثة أيام أعلن المقدم حسين هرموش انشقاقه هو الآخر، وقد أثارت عملية القبض عليه من الاستخبارات السورية مؤخراً قدراً واسعاً من الجدل. وفي 3 أغسطس/ آب أصدر العقيد رياض الأسعد، أرفع الضباط المنشقين رتبة، البيان الأول للجيش السوري الحر في إشارة إلى توجه الجنود المنشقين لتنظيم أنفسهم.
طبقاً لتصريحات العقيد الأسعد (رويترز- 30 سبتمبر/ أيلول)، فإن تعداد الجنود والضباط المنضوين في صفوف الجيش السوري الحر بلغ 10 آلاف عنصر. هذا رقم كبير بالطبع وليس هناك من طريقة للتأكد من حقيقته. ولكن تقديرات أخرى تشير إلى أن تعداد المنشقين المنضوين تحت راية الجيش الحر لا يتجاوز مئات من الجنود انضمت إليهم مئات أخرى من الأهالي المدربين. ولكن هذا لا يمنع أن تكون أعداد المنشقين قد وصلت فعلاً إلى آلاف من الجنود والضباط لم يتخذ جميعهم قرار الانخراط في صفوف الجيش الحر بعد.
في سورية، كما في معظم أنحاء المجال العربي، ليس من الصعب الحصول على السلاح، لاسيما إن كان المسلحون ضباطاً وجنوداً عملوا في القوات المسلحة حتى وقت قريب، وكانت حاجتهم للسلاح تتعلق بعمليات أقرب إلى نشاطات حرب العصابات. ولكن استمرار المواجهات المسلحة واتساع نطاقها سيتطلب توفير إمكانات مادية متزايدة ليس من الواضح كيفية توفرها.
تدهور أوضاع سورية الاقتصادية
في حديث لصحيفة الغارديان البريطانية (29 سبتمبر/أيلول) أشار مدير سلسلة من الفنادق بمدينة دمشق إلى أن فنادقه كانت محجوزة تقريباً بأكملها في فبراير/شباط الماضي لعدة شهور قادمة، لكن كل تلك الحجوزات ألغيت خلال أسابيع من اندلاع الانتفاضة الشعبية.
ويعتقد أن قطاع السياحة السوري، الذي يدرّ على البلاد ما يقارب 8 مليارات دولار في العام قد أصيب كلية بالشلل. حتى السوريون المغتربون لم تعد سوى قلة ضئيلة منهم ترغب في قضاء إجازاتها السنوية في بلادها.
ولا يمثل قطاع السياحة سوى مؤشر واحد على الانحدار السريع الذي يعاني منه الاقتصاد السوري بعد مرور أكثر من ستة شهور على الانتفاضة الشعبية. ففي أغسطس/آب الماضي قال حاكم البنك المركزي السوري (رفضت واشنطن منحه تأشيرة دخول مؤخراً للالتحاق باجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين) إن البنك أنفق زهاء بليوني دولار حتى الآن للدفاع عن قيمة الليرة السورية (من رصيد لا يتجاوز 16 مليار دولار من الاحتياطي الوطني). ولكن الواضح أن جهود البنك المركزي ليست كافية للحفاظ على وضع الليرة التي يتم تبادل 73 منها لشراء اليورو الواحد في قطاع العملات الخاص، بينما السعر الرسمي لا يتجاوز 66 ليرة لليورو.
وتكاد حركة الدولار تتوقف كلية، لداخل وخارج البلاد، في مؤشر للتراجع الكبير في حجم التبادل التجاري استيراداً وتصديراً. وكانت وزارة التجارة والاقتصاد قد فرضت حظراً على استيراد السيارات وعدد آخر من السلع الكمالية، في محاولة لوقف استنزاف رصيد الدولة الاحتياطي من العملات الأجنبية (سرعان ما تراجعت عنه خشية من الأثر التضخمي الهائل للعقوبات الغربية). ولكن المشكلة أن مثل هذا التدهور الاقتصادي يوقف نشاطات الآلاف من رجال الأعمال الذين لم يزل أكثرهم أقرب إلى وجهة نظر النظام منهم إلى وجهة نظر المحتجين. ويقول ناشطون معارضون ومراقبون من داخل البلاد إن العمل في الموانئ السورية الرئيسية وصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. وبالرغم من أن الدولة لم تزل تدفع رواتب موظفيها بانتظام، فقد فرضت مؤخراً ضريبة إضافية عليهم لدعم ميزانيتها.
بيد أن العبء الأكبر على واردات الدولة سيأتي من العقوبات الاقتصادية والمالية ثقيلة الوطأة التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. أحد أبرز العقوبات يتعلق بوقف استيراد النفط السوري الخام، الذي سيبدأ مفعوله في منتصف شهر أكتوبر/تشرين أول الحالي. والمعروف أن سورية تنتج حوالي 400 ألف برميل من النفط يومياً تصدر منها 150 ألف برميل. هذا رقم ضئيل بالطبع بالنظر إلى حجم سوق النفط العالمية، ولن يترك حظره أثراً يذكر على هذه السوق. ولكن بالنظر إلى أن تصدير هذه الكمية من النفط يدر على الميزانية السورية 6 مليارات دولار سنوياً، فمن السهل تصور أثره. أما ادعاء المسؤولين السوريين سهولة وجود أسواق أخرى لتصدير النفط فلا يبدو أن هناك ما يؤيده، إذ أن النفط السوري من النوع الثقيل الذي لا توجد مصافي نفط مؤهلة لاستخدامه سوى في عدد من الدول الأوروبية.
من المبكر بالطبع القول إن الاقتصاد السوري في طريقه إلى الانهيار أو أن مقدرات الدولة قد جفت كلية. ولكن حجم الاقتصاد السوري صغير نسبياً، ولا يتجاوز أكثر من مائة وقليل من المليارات.
وبالرغم من أن تقارير مبكرة أفادت باستعداد إيران لتقديم عون مالي أو قرض للنظام السوري بعدة مليارات من الدولارات، فإنه لم تتوفر حتى الآن أدلة تؤكد هذه التقارير. مهما كان الأمر، وحتى إن كانت إيران تعتزم تقديم مثل هذا الدعم، فمن المؤكد أن المساعدات الإيرانية ستظل محدودة وقاصرة عن مواجهة أعباء النظام السوري. سورية على أية حال دولة بأربعة وعشرين مليوناً من السكان وليست منظمة سياسية.
الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني الموسع
يتعلق التطور الثالث في الساحة السياسية السورية بالإعلان في مدينة اسطنبول (الأحد 2 أكتوبر/تشرين أول) عن تشكيل المجلس الوطني السوري في صيغته الموسعة التي تضم القطاع الأكبر من قوى المعارضة والحراك الشعبي بما في ذلك: الهيئة الإدارية للمجلس الوطني التي عملت طوال شهرين من أن أجل تحقيق هذا الإنجاز الكبير، إعلان دمشق، الإخوان المسلمون، التجمعان الرئيسان للتنسيقيات، عدة قوى كردية، شخصيات سورية ليبرالية معارضة بارزة مثل برهان غليون. سيضم المجلس زهاء 230 عضواً تتشكل منهم أمانة عامة من 29 عضواً يمثلون كافة الكتل والتوجهات التي انضوت تحت مظلة المجلس، وهيئة رئاسية من سبعة أعضاء يتداولون رئاسة المجلس لفترة زمنية محددة.
كتب بيان الإعلان عن المجلس بلغة راديكالية ومسؤولة في آن، مطالباً بتغيير جذري وشامل في نظام الحكم ومؤكداً على استقلال سورية ورفض التدخل الأجنبي العسكري. ولكن بيان المجلس أكد في الوقت نفسه على مسؤولية المجتمع الدولي في الحفاظ على حياة السوريين الذين يتعرضون للموت والاعتقال والتعذيب على يد قوات النظام العسكرية والأمنية.
خلال ساعات من الإعلان عن ولادة المجلس، الذي لم تكتمل هيئاته القيادية بعد، انطلقت المظاهرات المؤيدة له في كافة أنحاء سورية، لتستمر طوال اليومين التاليين، ورفعت مظاهرات يوم الجمعة شعار "المجلس الوطني يمثلني". وبذلك يكون الشعب السوري قد حسم الجدل حول مسألة تمثيل الثورة وتوحيد قوى المعارضة. كما صدرت عبارات ترحيب بالمجلس من الناطقين الرسميين باسم الحكومتين الأميركية والفرنسية. ويعتقد أن دولاً غربية، إضافة إلى تركيا وبعض الدول العربية، ستؤسس خلال الأسابيع القليلة القادمة علاقات اتصال وعمل وتشاور مع المجلس.
وليس ثمة شك في أن تشكيل المجلس يشير إلى نجاح قوى المعارضة، بخلفياتها الإثنية والفكرية والطائفية المختلفة إضافة إلى مجموعات الحراك الشعبي المحلية، في تجاوز عقبة كبيرة أثارت دوماً الكثير من الأسئلة حول ما إن كان بإمكان الثورة السورية أن تتقدم للعالم بعنوان سياسي يتمتع بثقل تمثيلي مقنع. وقد كانت غيبة مثل هذا الجسم التمثيلي مصدر ارتياح كبير للنظام والملتفين حوله.
الآن يجدر بالنظام أن يستشعر قلقاً إضافياً بفعل هذا التطور، قلق لا يقل عن إخفاقه في قمع واحتواء الحراك الشعبي المتسع.
دلالات واستنتاجات
لم يكن خافياً من البداية أن سورية ستكون واحدة من أصعب حلقات ما بات يعرف بالربيع العربي، ومحاولة الشعوب العربية صناعة تغيير تاريخي تحولي في حياتها السياسية. مع نهاية أغسطس/آب بدا وكأن كفة ميزان القوى قد مالت لصالح الحراك الشعبي. ولكن حملة قمع غير مسبوقة طوال الأسابيع التالية، في سياق من الصمت والتجاهل العربي والدولي، أعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه في منتصف أشهر الصيف: حركة شعبية غير قادرة على إطاحة النظام الحاكم، ونظام عاجز عن اجتثاث أو احتواء الحركة الشعبية. ما أدى إليه هذا الوضع الارتدادي كان اتساع الفجوة بين الشعب والنظام وتوليد حالة من القنوط في أوساط القوى الشعبية، في وقت تجاوز عدد ضحايا الثورة الثلاثة آلاف قتيل ومائة ألف معتقل.
هذا هو السياق الذي يدفع الثورة السورية إلى وجهة عسكرية، بمعنى التخلي عن الطابع السلمي المطلق للثورة والتوجه إلى حمل السلاح للدفاع عن النفس. التجلي الأهم والأبرز لهذا التوجه يتمثل في تنظيم الضباط والجنود المنشقين عن الجيش، والذين تزداد أعدادهم في صورة متسارعة، أنفسهم كقوة مقاتلة.
ليس من السهل بعد تقدير المدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا التطور في مجريات الثورة السورية، أو قدرة الجيش السوري الحر على الصمود. ولكن في حال اتسع نطاق هذه الظاهرة فلن تساهم فقط في انهيار النظام ومؤسسات القمع التي يرتكز إليها، ولكن أيضاً في تفاقم المسألة الطائفية، فالمؤكد أن كل الضباط والجنود المنشقين حتى الآن هم من المسلمين السنة.
من جهة أخرى، وفي مقابل تصاعد حملة القمع الدموي التي يتعهدها النظام، والتي نجحت حتى الآن في منع التظاهرات من تكرار ظاهرة مئات الألوف التي عرفتها حماة في منتصف الصيف ومنع رياح الثورة من الوصول إلى وسط مدينتي دمشق وحلب، فإن خسائر النظام على الصعيدين الاقتصادي والسياسي تبدو فادحة. تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد السوري في طريقه للانكماش هذا العام بمعدل 2 بالمائة على الأقل. أما إيرادات الدولة المالية فستتعرض لضربات مؤلمة بفعل: انهيار السياحة، تراجع معدلات الإنتاج والتصدير، العقوبات المفروضة على النفط السوري، كما على نشاطات شركات ومؤسسات سورية مملوكة لمقربين من النظام.
أما على الصعيد السياسي، فقد نجحت قوى المعارضة والحركة الشعبية في تأسيس مجلس وطني موحد، مما سيسهم في المزيد من عزلة النظام. وإن كان الفيتو الروسي–الصيني المشترك ضد مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن الدولي ضد سياسات النظام السوري يعني أن الموقف الدولي لم يزل عاجزاً عن تقديم عون ملموس للشعب السوري، فذلك لا يجب أن يكون مصدر ارتياح كبير للنظام في دمشق. هذا الفيتو ليس سوى توكيد جديد على انقسام القوى الكبرى من المسألة السورية، وليس على تحسن المناخ الدولي للنظام. ما ينبغي مراقبته الآن هو مدى استعداد الدول العربية للتعامل مع المجلس الوطني السوري.