بدأت الأزمة التي أدت إلى اندلاع الموجة الثانية للثورة المصرية بتظاهرة حاشدة في ميدان التحرير يوم الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني. واتسمت بمشاركة بارزة من القوى الإسلامية. وكان القصد منها الاحتجاج على محاولة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ممثلاً بنائب رئيس الوزراء، الوفدي-الليبرالي، علي السلمي، فرض وثيقة دستورية–إجرائية، تضع قواعد فوق-دستورية وقيودًا على إجراءات اختيار الجمعية التأسيسية وطريقة عملها، التي سيناط بها كتابة مسودة الدستور المصري الجديد. خلال الأيام القليلة التالية، تداعت الأحداث لتتحول في النهاية إلى مواجهة مباشرة بين ثوار ميدان التحرير والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
بيد أن جذور موجة الثورة الثانية هي بالتأكيد أعمق من أحداث 28 نوفمبر/تشرين الثاني والأيام التالية.
فيما يلي قراءة لأحداث موجة الثورة الثانية في أسبوعها الأول: الأسباب المتراكمة التي أدت إليها، مواقف أطرافها المختلفة، إنجازاتها، والمخرج الذي تراه أطرافها الرئيسية للأزمة.
الأحداث
انفض المحتشدون في ميدان التحرير مساء 18 نوفمبر/تشرين الثاني، كما وعدت القوى السياسية التي دعت للمظاهرة من قبل. ولكن مجموعة من أهالي شهداء ثورة يناير/كانون الثاني قررت البقاء في الميدان للمطالبة بمعاملة عادلة من الحكومة، التي يتهمونها بالتهاون في مطالبهم بالرغم من وعود متكررة برعايتهم. في اليوم التالي، السبت 19 نوفمبر/تشرين الثاني، هاجمت قوات الأمن مجموعات الأهالي الصغيرة في الميدان بعنف كبير، موقِعة عدة إصابات؛ مما أثار ردود فعل واسعة، وخاصة في دوائر النشطين الشبان. بمرور ساعات اليوم، كان الحشد في الميدان يتزايد، والاشتباكات بين الشبان وقوات الأمن تتصاعد. مع اقتراب المساء، ولأن قوات الأمن المصرية عادت إلى عادتها السابقة في استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، أُعلن عن سقوط عدد من القتلى.
المواجهات الأعنف جرت يوم الأحد 20 نوفمبر/تشرين الثاني؛ حيث تعرض المحتشدون بميدان التحرير بالقاهرة لهجمات بالغة العنف من قوات الأمن، شاركت فيها قوات من الشرطة العسكرية، ووحدات من القوات الخاصة في الجيش. بعد ذلك بيومين، ادعى ناطق عسكري بأن قوات الجيش التي شاركت في أحداث الأحد لم تشارك في الهجوم على المحتجين في الميدان، بل استُدعيت لحماية وزارة الداخلية من محاولة بعض الشبان الغاضبين اقتحامها. لكن مراقبين ينفون صحة هذا الادعاء.
شهد الأحد معارك كرٍّ وفرّ للسيطرة على الميدان، انتهت بتأمين الميدان كلية لصالح المحتجين. وكان عدد من المظاهرات قد اندلع عبر أنحاء البلاد، بما في ذلك الإسكندرية ومدن قناة السويس وبعض مدن الصعيد، تضامنًا مع المحتجين في القاهرة. في نهاية اليوم، كانت مصر قد استقبلت عشرات آخرين من القتلى، وأصبح واضحًا أن الأزمة وصلت ذروتها.
استمرت الاشتباكات طوال ساعات نهار يوم الاثنين 21 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي شهد أيضًا إعلان المحتشدين عن أول مطالبهم، بما في ذلك استقالة حكومة عصام شرف، ومحاسبة المسؤولين عن العنف الذي مارسته قوات الأمن طوال الأيام الثلاثة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بصلاحيات تنفيذية وتشريعية كاملة، وعقد انتخابات رئاسية في إبريل/نيسان، تضع نهاية لسيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على موقع رئاسة الجمهورية، وتنهي بالتالي المرحلة الانتقالية. مساء الاثنين، تقدم عصام شرف بالفعل باستقالة حكومته؛ كما أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن دعوة القوى السياسية الرئيسة في البلاد للحوار يوم الثلاثاء 22 نوفمبر/تشرين الثاني التالي.
شهد يوم الثلاثاء المليونية الأولى لموجة الثورة الثانية. وقد اختُتم اليوم بإلقاء المشير محمد حسين طنطاوي بيانًا على الشعب المصري، تضمن ما اتُّفق عليه في لقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع القوى السياسية. ويعتبر البيان انتصارًا لإرادة المتظاهرين في ميدان التحرير؛ فللمرة الأولى منذ توليه شؤون البلاد، وافق المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تحديد موعد انتخابات رئاسة الجمهورية في يونيو/حزيران المقبل؛ وبتولي رئيس الجمهورية المنتخب مسؤولياته، تنتهي المرحلة الانتقالية ويعود الجيش إلى ثكناته. بالإضافة إلى أن طنطاوي أعلن أيضًا قبول استقالة حكومة شرف؛ مما يعني وضع نهاية للجدل المتعلق بما عرف بوثيقة السلمي، وأكّد على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، وعلى بدء التحقيق في أحداث الأيام السابقة.
استمرت الاشتباكات متقطعة يوم الأربعاء 23 نوفمبر/تشرين الثاني بين الشبان وعناصر الأمن في شارع محمد محمود باشا المؤدي إلى وزارة الداخلية من ميدان التحرير، بينما كان المزاج السائد في الميدان أن بيان طنطاوي لم يستجب بشكل كاف لمطالب المحتجين. ولكن التباين بين الميدان والمجلس العسكري ازداد اتساعًا في اليوم التالي، عندما أعلن المجلس عن تكليف د. كمال الجنزوري (78 عامًا)، الوزير ورئيس الوزراء الأسبق في عهد مبارك، برئاسة حكومة الإنقاذ الوطني، فقابلته أغلبية المحتشدين في الميدان بالرفض.
تأكد يوم الجمعة 25 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي شهد حشدًا مليونيًا ثانيًا في ميدان التحرير، رفض الأغلبية الشعبية لتكليف الجنزوري. ومع حلول المساء كان المحتشدون في الميدان قد طرحوا خمسة أسماء، على رأسها المرشحان لرئاسة الجمهورية: عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد البرادعي، كمرشحين لرئاسة حكومة الإنقاذ الوطني، على أن يعين الأربعة الآخرون في القائمة نوابًا لرئيس الوزراء. لكن بمضي الجنزوري في تشكيل حكومته، وإصرار المحتجين على رفضه وتعيين رئيس وزراء من لائحة مرشحيهم للمنصب، أصبح واضحًا، بالرغم من الانتصار الذي تحقق في بيان المشير الصادر يوم الثلاثاء، أن البلاد تدخل أجواء أزمة مستحكمة.
أسباب متراكمة
ليس ثمة شك في أن السياسات التي اتبعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة منذ نهاية مارس/آذار هي المسؤولة عن انفجار موجة الغضب المصرية الثانية. فهذه موجة ثورية موجهة مباشرة ضد المجلس الأعلى وسياساته وليس ضد أي جهة أخرى.
كان المصريون قد صوتوا في استفتاء مارس/آذار الماضي على عدد من التعديلات الدستورية، التي تناولت بعض مواد دستور 1971، وخارطة طريق للمرحلة الانتقالية. وقد أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الاستفتاء إعلانًا دستوريًا مؤقتًا، تضمن المواد التي أقرها الشعب بنسبة عالية. وطبقًا لخارطة الطريق، كان يفترض أن تبدأ المرحلة الانتقالية بعقد انتخابات برلمانية؛ ومن ثَمَّ قيام مجلس الشعب المنتخب باختيار جمعية تأسيسية لوضع مسودة الدستور الجديد خلال ستة شهور، على أن تجري انتخابات رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات البرلمانية بثلاثة شهور، وقبل أن تكتمل عملية كتابة مسودة الدستور؛ فلو كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزم بخارطة طريق الإعلان الدستوري، لكانت مصر قد أكملت الانتقال السياسي مع نهاية هذا العام. ولكن المجلس لم يلتزم.
أُجِّل موعد انعقاد الانتخابات البرلمانية إلى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، على أن تجري الانتخابات على مراحل ثلاث طويلة، لا تنتهي حتى يناير/كانون الثاني المقبل. وأعلن المجلس أن انتخابات مجلس الشورى ستجري بعد الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب، وأن انتخابات رئاسة الجمهورية لن تحدد إلا بعد الانتهاء من وضع مسودة الدستور واستفتاء الشعب عليها؛ وهو ما يعني أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيستمر، على الأرجح، في ممارسة صلاحيات الرئاسة حتى 2013. وفي الوقت نفسه، طُرحت وثيقة السلمي لتحدد قواعد عملية تشكيل الجمعية التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور، بحيث يفقد البرلمان المنتخب حقه الطبيعي في هذه العملية، وتخضع أعمال الجمعية التأسيسية لسلطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. هذا، إضافة إلى أن الوثيقة طرحت مواد دستورية أخرى تمنح الجيش وضعًا خاصًا في جسم الدولة المصرية الجديدة وفي مركز قرارها. وكان واضحًا، على أية حال، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يستغل مخاوف بعض قوى اليسار التقليدي، وبعض القوى الليبرالية، أو شبه الليبرالية، من احتمالات فوز القوى الإسلامية في الانتخابات المقبلة ليمرر تصوره الخاص للدستور والدولة.
هذا هو المصدر الحقيقي للأزمة: أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومباشرة بعد الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية وخارطة الطريق، لم يعد يتصرف كمدير لمرحلة انتقالية، بل على النقيض من ذلك تمامًا؛ ففي الوقت الذي كان الناطقون باسم المجلس وكبار الضباط من أعضائه يؤكدون على رغبة الجيش في تسليم السلطة لحكومة ورئيس منتخبين في أسرع وقت ممكن، كان المجلس يسعى بكل جهد ممكن لإطالة أمد المرحلة الانتقالية، بحيث تُستنزف طاقة الشارع والقوى والسياسية. وبدلاً من أن يقوم المجلس بدور المدير، تحول إلى حاكم مطلق، يقبض على المقدرات السياسية والدستورية للبلاد، ويعمل على تأمين موقع خاص للجيش في تقرير وجهة الدولة المصرية الجديدة.
بيد أن مشكلة المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع الثوار لم تقتصر على المسألة الدستورية الكبرى فقد صمم على استمرار حالة الطوارئ، واستمرار عمل المحاكم العسكرية، التي قدم لها العشرات من النشطين الشبان ممن شاركوا في حركات احتجاجية بعد فبراير/شباط، بينما قدَّم رموز النظام السابق لمحاكم مدينة اعتيادية. وإضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، والتثاقل الملموس في ضبط الحالة الأمنية، أخفق المجلس في التعامل مع حركة الاحتجاج القبطية، إلى أن انتهت نهاية دموية فيما عُرف بأحداث ماسبيرو. فلا أسر شهداء ثورة يناير/كانون الثاني تلقت معاملة كريمة، ولا جرحى الثورة جرت رعايتهم كما ينبغي.
شيئًا فشيئًا، خسر المجلس الأعلى للقوات المسلحة كل رصيد له لدى قطاعات واسعة من الشعب، وحتى أولئك الذي يؤيدون استمراره في الحكم لحين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تتعلق دوافعهم بالخوف من الفوضى أكثر منها بالثقة في المجلس. وربما يمكن القول: إن مقاربة المجلس لدوره في الحكم خلال الفترة الانتقالية تعكس اعتقاد قادة الجيش بأن البلاد تغيرت بفعل انقلاب عسكري وليس بقوة ثورة شعبية.
انقسامات موجة الثورة الثانية
انفجرت الموجة الثانية للثورة المصرية في أجواء تدافع سياسي محتدم بين الشعب والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين القوى والتيارات السياسية الرئيسة في البلاد، وقبل أيام قليلة من انتخابات مجلس الشعب المصري التي جرت مرحلتها الأولى يوم الاثنين 28 نوفمبر/تشرين الثاني. في مثل هذا المناخ السياسي بالغ التعقيد، غابت الوحدة السياسية التي اتسمت بها الموجة الأولى للثورة المصرية.
تحمّل الإخوان المسلمون عبء المواجهة مع وثيقة السلمي، وكانوا القوة الرئيسة خلف الدعوة لمليونية الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني، التي تعتبر بداية انطلاق موجة الثورة الثانية. ولأن مواقف القوى السياسية من وثيقة السلمي تباينت إلى حد كبير، فقد أحجم أغلب القوى الليبرالية واليسارية عن المشاركة في مليونية الجمعة. ولكن طريق الإخوان المسلمين سرعان ما افترقت عن طريق ميدان التحرير، بالرغم من شجبهم الحاسم للسلوك العنيف والدموي لقوات الأمن خلال الأيام التالية؛ حيث رفض الإخوان المشاركة في مليونية الثلاثاء 22 نوفمبر/تشرين الثاني لاعتقادهم بأن قوى في وزارة الداخلية تجرهم لصدام واسع مع قوى الأمن؛ ومن ثم تأجيل انتخابات مجلس الشعب الوشيكة.
في الواقع، شارك عشرات الآلاف من شبان وشابات الإخوان في مليونية الثلاثاء، بغضِّ النظر عن موقف قيادة الجماعة وحزبها. وقد أدى النجاح في تنظيم تلك المليونية والتدفق الجماهيري الهائل على الميدان إلى تبلور مشاعر حادة في ميدان التحرير ضد الإخوان وضد القوى السياسية المتصارعة بشكل عام، وبدا أن الحراك الجماهيري الجديد يطور خطابًا أكثر راديكالية من خطاب الموجة الأولى للثورة؛ حيث طُردت شخصيات سياسية بارزة من ميدان التحرير، وحرص النشطون فيه على توكيد الطابع الوطني للمحتشدين ونفي كل سمة حزبية-سياسية عن الحراك الجماهيري.
مشكلة الإخوان مع ميدان التحرير ازدادت تفاقمًا في مليونية يوم الجمعة 25 نوفمبر/تشرين الثاني، لأن مبررات امتناعهم ومخاوفهم من المشاركة يوم الثلاثاء، لم تعد تجدي لتسويغ عدم مشاركتهم في مليونية الجمعة التالية؛ لاسيما أن أنصارًا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة جهدوا طوال عدة أيام لتنظيم حشد آخر في ميدان العباسية بشرق القاهرة، دعمًا للمجلس وشجبًا لما أسموه بـ "ديكتاتورية ميدان التحرير"؛ وكان يفترض بالإخوان العمل على تعزيز وضع الحراك الجماهيري في مواجهة محاولة إظهار الشارع المصري وكأنه قد انقسم على نفسه. ثمة قوى سياسية متعددة، إسلامية وغير إسلامية، أعلنت مشاركتها في الحركة الجماهيرية ودعمها لمطالبها، ولكن ثقل الإخوان الجماهيري الكبير وقدرتهم الاستثنائية على الحشد وجهت الأنظار إليهم أكثر من أية قوة سياسية أخرى.
وكما وقع الافتراق بين الإخوان المسلمين والحراك الجماهيري في ميدان التحرير، كذلك ظهر انقسام آخر حول تكليف كمال الجنزوري برئاسة الحكومة، فعدد ملموس من الأحزاب السياسية أبدى ترحيبًا به أو لجأ إلى الصمت. ونظرًا لأن الجنزوري اشتهر بنظافة اليد، وأنه سبق أن عُزِل من منصبه من قبل الرئيس مبارك بصورة مهينة، فقد ظهر انقسام حوله في الشارع ككل؛ إذ بينما أعلن المحتشدون في ميدان التحرير رفضه، وطالبوا بتكليف البرادعي أو أبي الفتوح برئاسة حكومة الإنقاذ الوطني، بدا أن قطاعا من الرأي العام يميل إلى قبول الجنزوري أو عدم رفضه.
بعد التراجع الكبير الذي قدمه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيان الثلاثاء 22 نوفمبر/تشرين الثاني، يبدو أن الانقسام حول استمرار الحراك الجماهيري في ميدان التحرير وحول الجنزوري قد أفاد المجلس في لعبة الشد والجذب مع الشبان النشطين من كافة المجموعات والائتلافات في ميدان التحرير.
توقعات واحتمالات الخروج من الأزمة
ليس ثمة شك في أن الموجة الثانية من الثورة المصرية حققت انتصارًا كبيرًا حتى الآن؛ ليس فقط لأن نهاية نفق المرحلة الانتقالية أصبحت واضحة ومحددة وحسب، بل أيضًا لأن وثيقة السلمي تبدو وكأنها دُفنت بالفعل، خاصة بعد إعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن صلاحيات الجيش ستبقى في الدستور القادم مثلما هي في الدستور الحالي. ولكن فقدان الثقة شبه الكامل في المجلس الأعلى ولَّد شكوكًا لدى الحركة الجماهيرية في نوايا المجلس وأهداف خطواته؛ فالمشكلة ليست في سن الجنزوري المتقدم أو في تاريخه الطويل في النظام السابق وحسب، ولكن أيضًا في إصرار المجلس الأعلى على تجاهل إرادة الحراك الشعبي، وتمسكه بأن يتولى الجنزوري الحكومة حتى بعد الانتخابات البرلمانية، ورفضه أن تشكلها الأغلبية الفائزة. كما أن مطالب المحتجين في ميدان التحرير لا تتوقف عند تسمية رئيس الحكومة، بل تطول أيضًا ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة وسريعة للقبض على الضباط المسؤولين عن مقتل 42 من الشبان النشطين حتى الآن وتقديمهم للمحاكمة، واستعداد المجلس للتخلي عن معظم صلاحياته لحكومة الإنقاذ الوطني.
من جهة أخرى، يعتقد أعضاء المجلس وعدد من القوى السياسية أن إعلان المجلس الواضح عن جدول زمني لتسليم السلطة لرئيس جمهورية منتخب قبل نهاية يونيو/حزيران المقبل، وقبول استقالة حكومة عصام شرف، وتخلي المجلس الضمني عن وثيقة علي السلمي (الذي يُعتبر الآن مستقيلاً بحكم استقالة الحكومة) وتصريحه بالإبقاء على صلاحيات الجيش الواردة في الدستور الحالي، هي خطوات كافية للاستجابة لمطالب الشعب المصري. فتصعيد المطالب في ميدان التحرير سيظهر بالتالي وكأنه محاولة لإهانة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وما يمثله.
فما المخرج إذن؟
يمكن بالطبع للمجلس أن يستجيب للمطالب المتبقية للمحتجين في ميدان التحرير ويضع نهاية للأزمة. مثل هذا الخيار سيعزل العناصر القليلة المتشددة في الميدان ويأخذ البلاد، في أجواء صحية، نحو الانتخابات البرلمانية والرئاسية. ولكن المرجح أن المجلس لن يستجيب لمطالب الميدان، أو لأغلبها؛ فثمة من يرى في أوساطه أن إجراء انتخابات المرحلة الأولى وإقبال الناخبين على التصويت، لاسيما في محافظة القاهرة، يعني تهميش ميدان التحرير، وإرساء معادلة جديدة. ومهما حاول المحتجون من اعتصام ودعوة لمليونيات بعد ذلك، فلن يلبث الرأي العام حسب تقديرهم أن يتحول ضد المعتصمين ويتحرك لوضع حد لاستيلائهم على الميدان وشلهم للحركة في وسط العاصمة.
المؤكد بالطبع أن نجاح انتخابات المرحلة الأولى سيضعف من موقف المحتجين في الميدان، ولكن المؤكد أيضًا أن تجاهلهم ليس بالحل الأفضل؛ فالبلاد تمر بأزمة اقتصادية-مالية طاحنة، إضافة إلى الشعور المتزايد بفقدان الأمن. وسيؤدي استمرار الوضع في ميدان التحرير على ما هو عليه إلى المزيد من التدهور الاقتصادي وتعميق الشعور بفقدان الأمن؛ إضافة إلى ما يمكن أن يتركه من تأثير على شرعية الانتخابات ونتائجها.
في حال رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاستجابة الكاملة لما تبقى من مطالب المحتجين، وواصل النشطون الشبان في الميدان الاعتصام والدعوة إلى مظاهرات شعبية، كل يومين أو ثلاثة، فليس ثمة من مخرج سوى أن يبادر المجلس لعقد حوار جاد مع قادة وممثلي الميدان وقادة التجمعات المشاركة في الاعتصام والحراك الجماهيري، بهدف الإقناع واستعادة بعض الثقة والتوصل إلى حل وسط.