الثورة اليمنية بعد المبادرة الخليجية: المسارات المحتملة

بعد توقيع المبادرة الخليجية، انقسمت قوى الثورة بين مشارك في السلطة مع قوى من النظام السابق ورافض يصر على إسقاط النظام كله، وهناك احتمالات أن يتحول حلفاء الأمس في ميادين الثورة إلى متخاصمين تستنزفهم قوى النظام القديم.
2011124104256661734_2.jpg

بتوقيع الأطراف السياسية في اليمن على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر/تشرين الثاني، تنتقل الثورة اليمنية إلى مرحلة جديدة، قد تكون مختلفة جذريا عن المراحل السابقة؛ يعتقد البعض أنها ستحرف الثورة عن مسارها وتختصرها في مكاسب سياسية جزئية لا تؤثر في بنية النظام، فيما يرى البعض الآخر أن المبادرة في محصلتها النهائية ستخدم الثورة، وتقربها من تحقيق أهدافها، وتوصلها إلى ما وصلت إليه الثورات الأخرى، في إزالة المعوقات أمام بناء دولة مدنية حديثة على أسس ديمقراطية حقيقية.

وفي كل الأحوال فإن المبادرة الخليجية رغم أنها قد لا تكون في الواقع أفضل الخيارات لتحقيق أهداف الثورة، ويقف أمامها العديد من العقبات والصعوبات، إلا أنها بالنسبة للموافقين عليها الخيار الوحيد المتاح الأكثر أمنا، في ظل معطيات الواقع الداخلي والإقليمي والدولي. وجاءت برأيهم كحل وسط لإخراج البلاد من حالة الانسداد القائمة، وتجاوز خيار الحرب الأهلية المدمر، وتلافي حالة الانهيار الشامل في اليمن في النواحي الأمنية والاقتصادية، وقطع الطريق أمام المشاريع الفرعية داخل الثورة، التي تحاول استغلال حالة الانسداد والانزلاق نحو الحرب لخدمة مصالحها الخاصة كالمشروع الانفصالي في الجنوب، الذي قد ينتهز الظروف الداخلية المناسبة لفرض مخطط الانفصال، وإجبار النظام السياسي والقوى الوحدوية في الشمال والجنوب على قبوله والتعامل معه كأمر واقع، والمشروع الحوثي الذي قد يحاول استغلال انشغال الأطراف الرئيسية بالصراع فيما بينها للتوسع بقوة السلاح في محافظات صعدة وعمران والجوف وحجة وصولا إلى ميناء "ميدي" على البحر الأحمر، وكذلك مشروع القاعدة النامي في محافظات أبين وشبوة وعدن والبيضاء ومأرب.

فالتوقيع على المبادرة حقق مكاسب متكافئة لطرفي الصراع، الثورة والنظام السياسي، تمثلت في إخراج صالح "المتدرج" من كرسي الرئاسة، وإجهاض مشروع التوريث، وتقليص قدرة النخبة الحاكمة على التحكم بموارد الدولة ومقدراتها؛ ويفترض أن يؤدي أيضا إلى الحد من قدرتها على استخدام أدوات القوة لقمع الشعب. في مقابل تأمين خروج مشرف للرئيس صالح عبر انتخابات رئاسية مبكرة، والحصول على ضمانات داخلية بعدم المساءلة والملاحقة القانونية، وبقاء النخبة الحاكمة والحزب الحاكم كقوة مشاركة في السلطة. إلا أن التوقيع على المبادرة والشروع في تنفيذها في الواقع لن يشكل النهاية للمشاكل التي تعاني منها اليمن، وإنما يضع الجميع على بداية الطريق.

تحديات جديدة في مواجهة الثورة

التحدي الرئيسي، دون شك، الذي تواجهه الثورة اليمنية اليوم هو الانقسام الحاصل بين مكوناتها إزاء المبادرة، من خلال التشكيك في أن لا تؤدي المبادرة وآليتها التنفيذية إلى إحداث التغيير المنشود، الذي يكافئ حجم التضحيات التي تم تقديمها حتى الآن، وما يحمله ذلك من تهديد بتمزيق صف الثورة بين الأحزاب والقوى الشبابية الفاعلة المعتصمة في الساحات، وإضعاف محتمل للثورة في حال تعثر تنفيذ المبادرة بعد ذلك.

ورغم أن المبادرة أيدتها القوى الرئيسية للثورة، الأحزاب، والمجلس الوطني الانتقالي، وقطاع من قوى الجيش، وعدد من رموز القوى القبلية، إلا أنها وجدت معارضة واسعة من الشباب المعتصم في الساحات، ضمنهم قطاع من شباب الأحزاب الموقعة عليها، حيث اعتبروها التفافا على الثورة، وخيانة لدماء الشهداء والتضحيات التي قُدمت على مدار الأشهر العشرة الماضية، وبأنها ستسفر في النهاية عن حدوث تغييرات لا تصل إلى مستوى التغيير الثوري المنشود. لكن من جهة أخرى، نظر إليها قطاع من الشباب -معظمهم في الواقع من شباب الأحزاب- كإنجاز يحقق الهدف الأول للثورة، بإجبار الرئيس صالح على التنحي عن السلطة، وبأنها إطار مقبول يحقق تغييرا تدريجيا يخرج الأوضاع من حالة الانسداد القائمة، ويجنب البلاد ويلات الحرب والدمار، وتقديم مزيد من الضحايا.

هذا الانقسام يمثل في الواقع تحديا رئيسيا أمام الثورة اليمنية في المرحلة القادمة، وأمام تنفيذ المبادرة الخليجية نفسها، خصوصا في ظل وجود مؤشرات تدل على أن قبول النظام التوقيع على المبادرة، لم يكن ناجما عن قناعة ذاتية، بقدر كونه ناجما عن حجم ضغوط دولية وإقليمية كبيرة مورست ضد صالح مؤخراً، وثمثلت في تلقيه تهديدات جادة بفرض عقوبات عليه وعلى المقربين منه، تصل إلى تجميد أرصدته وأرصدة عائلته في الخارج، وربما منعه من السفر وإحالته وأقاربه إلى محكمة الجنايات الدولية. وهي تهديدات وضعته أمام مخاطر جسيمة لا يستطيع تحملها، فاختار تقليل المكاسب التي يحصل عليها الطرف الآخر والالتفاف عليها، وقد يسعى إلى محاولة استغلال الثغرات الكامنة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أو التي قد تظهر لاحقا أثناء التنفيذ، وتغذية الانقسام الحاصل في الصف الثوري بأدواته الأمنية والدعائية، لعرقلة تنفيذ المبادرة من جانب، وصولا إلى تفتيت الثورة في المحصلة النهائية من جانب آخر؛ خصوصا أن هناك أطرافا في السلطة بما فيها أقرباء صالح لا يوافقون على المبادرة. وقد يسعى لاستخدام ورقة حادث جامع الرئاسة كوسيلة لإخراج رموز مؤثرة في صف الثورة من دائرة الأحداث- تحديدا اللواء علي محسن والشيخ حميد الأحمر- بغرض خلخلة ميزان القوى الداخلي لصالح النخبة الحاكمة الشابة.

وما يزيد في صعوبة إحداث تحول في النظام طبقا للمبادرة الخليجية هو الحكومة الائتلافية المزمع تشكيلها، تواجه صعوبات جمة ومهاما معقدة، في مقدمتها محاولة تخفيض حدة التوتر العسكري والأمني في ظل انقسام حاد للمؤسسة العسكرية التي لا يبدو أن عملية إعادة هيكلتها بصورة مهنية ستتم قبل إجراء الانتخابات التنافسية. وسيكون تحقيق أي تقدم في تخفيف بؤر الاحتقان العسكري والأمني مرهونا بمدى استجابة أقرباء الرئيس المسيطرين على ما تبقى من المؤسسة العسكرية والأمنية. ورغم أن نائب الرئيس سيكون في الواجهة المسؤول الأول، إلا أن قدرته على الحركة في هذا الجانب ستكون محدودة، لأن السلطة الفعلية لاتخاذ القرار في جوانب معينة ستكون في أيادٍ أخرى، يكون الدخول معها في صدام يعني صداما مع الرئيس صالح نفسه. ولا تُخفي قوىً داخل الحزب الحاكم والنخبة الحاكمة عدم ارتياحها لإسناد المسؤولية إلى نائب الرئيس، وهى التي حرصت على حصرها فيما يتعلق بتنفيذ المبادرة، ومن المتوقع أن لا تستجيب لتوجيهاته وأوامره فيما عدا ذلك. ولا يمكّنه وضعه المكشوف من أي قوة عسكرية تحميه من الدخول في صراع مع القوى المتنفذة داخل النظام.

كما أن الأوضاع المعقدة الأمنية والاقتصادية تحتاج إلى وقت حتى يشعر الناس فعلا بتغيير إيجابي ملموس. ومن المتوقع أن تستغل القوى الرافضة للمبادرة داخل النظام وخارجه عامل الوقت لجعل الأوضاع المعيشية أكثر سوءًا من أجل تشويه الثورة وإفشال المرحلة الانتقالية.

سيناريوهات مسار الثورة

تتجاذب المشهد الثوري اليوم في اليمن ثلاثة سيناريوهات رئيسية، وأخرى فرعية لا مجال لذكرها، من المتوقع أن تدفع تطورات الأحداث خلال الفترة القادمة لترجيح أحدها:

سيناريو الانتقال من الثورة إلى الأزمة
وهو السيناريو الذي خطط له النظام السياسي وسعى إليه طوال الفترة الماضية. وما يجعل هذا السيناريو محتملا أن القوى الرئيسية التي تقود الثورة ممثلة في أحزاب اللقاء المشترك والمجلس الوطني الانتقالي لقوى الثورة، منضوية بصورة أو بأخرى في إطار المبادرة الخليجية، وهناك مخاوف جدية من أن يكون التوقيع على المبادرة والمضي في تنفيذها بداية الانحراف عن مسار الثورة، والدخول في مسار التسوية السياسية، وإخراج هذه القوى الرئيسية المؤثرة تدريجيا من دائرة الفعل الثوري، بسبب الضغوط الخارجية التي ستتعرض لها من الأطراف الإقليمية والدولية الراعية للمبادرة، لإجبارها على تهدئة الصراع مع النظام، وخفض حدة الخطاب الإعلامي الثوري بما يسمح بخلق بيئة مهيأة لتنفيذ المبادرة. وقد تُجبر أيضا على رفع الاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات وإخراج مناضليها من الساحات بشكل تدريجي، بموجب نص المبادرة والاتفاقات غير المعلنة بين الأطراف الموقعة.

كما أن التغيير التدرّجي عبر المبادرة يحتاج إلى وقت قد يمتد كحد أدنى لسنتين وثلاثة أشهر هي إجمالي المرحلة الانتقالية، قد يؤدي تدريجيا إلى خفوت وهج الثورة والاكتفاء بما تم تحقيقه من نجاحات عبر المسار السياسي التفاوضي. وكما يمكن استخدام المبادرة كأداة لتحقيق أهداف الثورة، فإنه يمكن استخدامها أيضا لتفتيت قوى الثورة، وحرفها عن مسارها وحصرها في إطار الأزمة السياسية التي تقتصر على إدخال إصلاحات سياسية وتوسيع دائرة المشاركة في السلطة دون أن تمتد لتحقيق تغييرات جذرية تحول اليمن إلى دولة مدنية ديمقراطية حقيقية، خصوصاً أن المبادرة تضع الكرة – بشكل غير مباشر- أمام القوى الخارجية لتقرير تفاصيل الشأن اليمني، وتحديدا المملكة العربية السعودية الراعي والضامن الرئيسي لتنفيذ المبادرة، وسيكون بيدها ترجيح كفة أحد الطرفين على الآخر في أي خلافات تظهر أثناء التنفيذ. وما تريده هذه القوى –كما هو واضح حتى الآن-، ليس ثورة كاملة، وإنما إدخال إصلاحات على النظام السياسي، وإيجاد صيغة مشاركة بين القوى السياسية تحتفظ بجزء من النخبة الحاكمة الشابة ضمن النظام السياسي الجديد، وذلك قد لا يدعم بناء دولة مدنية حديثة في اليمن.

سيناريو ثورة تولّد أخرى
يدعم إمكانية حدوث هذا السيناريو أن المبادرة أحدثت شقاً عميقا في جسد الثورة. والمضي في تنفيذها سيعمق الانقسام بين القوى الثورية المطالبة بالتهدئة، وتلك الرافضة للمبادرة والمطالبة بالاستمرار في برنامج تصعيد الثورة السلمية حتى إسقاط كامل النظام. وقد تتجه القوى الرافضة للمبادرة إلى قيادة ثورة جديدة، تنقلب على القوى التقليدية في السلطة والمعارضة، يكون شعارها "ارحلوا جميعا" تثيرها القوى الرافضة وتلك المتضررة من الحل التوافقي المتواجدة داخل النظام والمعارضة على السواء، وقد تستغلها أيضا قوى الثورة المضادة.

ومن المحتمل أن تظهر خلال الفترة القادمة تكتلات وائتلافات شبابية، لتكون واجهة الحركة الثورية اليمنية، كقوى جديدة تقود الثورة، تتكون من القوى والشخصيات الرافضة للمبادرة خارج الأحزاب وداخلها.

ويدعم هذا السيناريو أن هناك أطرافا داخلية –كالحراك والحوثيين- تحاول استخدام المبادرة لضرب الأحزاب السياسية في الشارع، وتصويرها كقوى انتهازية، سعت لاستغلال الشباب والتضحية بهم لتحقيق مكاسب ذاتية.

كما أن بعض القوى الليبرالية ومن يمكن أن نسميهم بالعلمانيين الجدد، لديهم مخاوف جدية، أن يؤدي تطبيق المبادرة إلى تقاسم السلطة بين القوى الحزبية التقليدية، على حساب القوى المدنية الطامحة إلى إحداث تغيير حقيقي، لا يقتصر فقط على التخلص من رأس النظام المستبد، وإنما الانتقال إلى نظام ديمقراطي مدني يحترم الحقوق والحريات الأساسية للفرد والمجتمع.

وما يُضعف هذا السيناريو هو أن الثقل الرئيسي لقوى الثورة ينضوي في إطار المبادرة. وتدرك الأطراف الأخرى الرافضة للمبادرة أنها بدون الأحزاب الرئيسية والثقل العسكري والقبلي للثورة ستكون أضعف والخيارات أمامها محدودة لأي تحرك منفرد. ومن الواضح أن القوى الثورية الشبابية والمدنية المستقلة خارج القوى التقليدية لازالت مفككة وضعيفة، وتحتاج إلى وقت حتى تقوى وتكون قادرة على التأثير في حركة الشارع.

سيناريو استمرار الثورة الحالية
يبدو أن سيناريو استمرار الثورة الحالية، وإن كان بوهج أقل حدة، هو السيناريو الأرجح. فالثورة لم تحقق حتى الآن مكاسب كبيرة في مواجهة النظام، ولا يزال جزء كبير من النخبة الحاكمة مستمرا في السلطة، وسيكون في وضع المتربص بالثورة، ينتظر الظروف المناسبة للالتفاف عليها. وتدرك الأحزاب الموقعة على المبادرة أن ارتكانها إلى المبادرة الخليجية والضمانات الخارجية، وانفصالها عن الحركة الثورية لن يكون في صالحها، وسيجعلها ذلك تخاطر بفقد قواعدها الشبابية وأنصارها ومريديها في الشارع، لصالح قوى طامحة جديدة قد تتصدر الثورة. واستمرار الثورة وحركة الشارع يمثل في اعتقادها الضمانة الحقيقية للاستمرار في تنفيذ المبادرة وتحقيق أهدافها بالصورة المؤملة.

وإلى حد ما، لا يوجد تعارض كبير بين تنفيذ المبادرة والاستمرار في الثورة السلمية، فالمبادرة في المحصلة النهائية هي وسيلة لتحقيق أهداف الثورة، في إرجاع السلطة إلى الشعب، وضمان حقه، أفرادا وجماعات، في التعبير عن رأيه بالوسائل السلمية غير العنيفة. ولن تكون أية حكومة ائتلاف قادمة –في الفترة الانتقالية- أو حكومة منتخبة بعدها، قادرة على مصادرة هذه الحقوق والوقوف في وجهها كما يفعل النظام القائم. وضمان حق الشعب في التعبير عن رأيه بالوسائل السلمية من خلال المظاهرات والمسيرات والاعتصامات مكسب جوهري للثورة لا يمكن التراجع عنه. و ما سيعزز ذلك من جانب آخر هو أن تخفيف قبضة النخبة الحاكمة على أدوات القمع وعلى وسائل الإعلام الحكومية، سيؤدي إلى دفع جزء كبير من الأغلبية الصامتة، وتلك المرتبطة مصالحها بالدولة، إلى كسر حاجز الخوف والانضمام إلى حركة المطالب الجماهيرية في الحرية والحياة الكريمة.

ولعل العامل الأكثر تأثيرا في ذلك، أن حركة الثورة اليمنية مرتبطة في الواقع –بالإضافة إلى المحركات الداخلية-، بالموجة الثورية التي تجتاح المنطقة. ولن تتوقف الحركة الثورية في اليمن حتى تُحقق النموذج الأعلى لأهدافها الذي حققته الثورات الأخرى، وهو أن يكون الشعب مالك السلطة ومصدرها، وأن يكون  له الحق في التعبير عن آرائه ومواقفه بحرية دون خوف من القمع. ويقدم نموذج الثورة المصرية صورة واضحة في هذا الصدد.