الانتفاضة السورية: عدوى الحرية

عمل النظام السوري على وقف الاحتجاجات بطرق شتى، من بينها حصر الانتفاضة في فئة معينة بمناطق معينة لينزع عنها مشروعيتها الوطنية ويحشرها في صفة طائفية، فيمنع التعاطف الداخلي والخارجي عنها.
1_1067365_1_34.jpg

الروحية العامة للانتفاضة ليست سنية، ولا هي دينية، ولم ترفع شعارات دينية سياسية (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

عمل النظام السوري على وقف الاحتجاجات بطرق شتى، من بينها حصر الانتفاضة في فئة معينة بمناطق معينة لينزع عنها مشروعيتها الوطنية ويحشرها في صفة طائفية، فيمنع التعاطف الداخلي والخارجي عنها، وظهرت إستراتيجية النظام في تحركين: الأوصاف التي أطلقها على المحتجين بأنهم سلفيون وإرهابيون، واللقاءات التي عقدها مع زعماء مثل الأكراد، فمارس الإبعاد والتقريب بمعايير ليست وطنية. على أن الانتفاضة تواصلت واتسعت إلى باقي مكونات المجتمع السوري، وإن تفاوتت المشاركة من فئة إلى أخرى، لكن النظام لا يزال يأمل في أن يفرق بينها في استعمال العنف، حيث أنه يتفاداه كما في المناطق الكردية أو مع طوائف أخرى، ويولج فيه إلى حد "الفظائع" كما قال رئيس الوزراء التركي أردوغان في مناطق أخرى.

انتفاضة بصوت الحرية
ركيزة الانتفاضة: المسجد والجمعة

انتفاضة بصوت الحرية 

الواقع أن منحدرين من الجماعة العلوية هم من بين الأكثر مشاركة في الانتفاضة، وإن لم تأخذ مشاركتهم إلا قليلا شكل احتجاجات ميدانية، بل بالأحرى شكل مساندة إعلامية وثقافية، ومساهمات ثمينة في إبطال لعبة النظام الخاصة بإثارة مخاوف الأقليات.
مثل مجتمعات المشرق الشامي العراقي الأخرى، المجتمع السوري تعددي ومركب. فضلا عن أكثرية عربية مسلمة سنية (ثلثي السكان)، هناك أقليات غير عربية، أبرزها الكرد (نحو 10% من السكان) والأرمن والآشوريون (المجموعتان الأخيرتان مسيحيون دينا)، وأقليات غير مسلمة أهمها المسيحيون العرب (دون 10% من السكان حاليا)، وبضع عشرات الألوف من الإيزيديين (ديانة قديمة، يحتمل أنها مرتبطة بالمجوسية، ومعتنقوها كُرد حصرا)، وعدد مجهري من اليهود، وأقليات إسلامية غير سنية، أهمها العلويون (10- 12% من السكان) والدروز (نحو 3%) والاسماعيليون (بين 1 و2 %) والشيعة (نحو نصف بالمائة). والجماعات هذه تنحدر من الانشقاقات الإسلامية الباكرة، وقد استوعبت مذاهبها عناصر ثقافية من مواريث الشرق الأدنى، اليونانية والهندية والمانوية والمسيحية وغيرها.

ومعلوم أن شاغلي المواقع المقررة، السياسية والأمنية، في النظام السياسي السوري ينحدرون من الجماعة العلوية، الأمر الذي يبدو للبعض كافيا لوصف النظام في سورية بأنه علوي أو نظام الأقلية العلوية. هذا غير دقيق لأن في المعارضة علويين مثل عارف دليلة، وحدثت تصدعات كثيرة داخل عائلة الأسد نفسها كما وقع بين الرئيس حافظ الأسد وأخيه رفعت الأسد، لكن لا جدال في أن المنحدرين من البيئة العلوية يتماهون بالنظام بسهولة أكبر من غيرهم.

هذا ما يفضل الاعتقاد به طرفان: (1) مراقبون يفكرون في الشؤون السياسية السورية والمشرقية بلغة الأديان والطوائف، ولا يرون في مجتمعاتنا عموما غير عصبيات خلدونية لا تتغير، وغير بنى انقسامية ثابتة تتجدد هي نفسها من وراء تبدلات شكلية؛ (2) خصوم سياسيون للانتفاضة يحاولون النيل منها عبر نسبتها إلى قطاع من السوريين، وإن لم يصرحوا بذلك علانية. النظام نفسه تكلم على سلفيين وأمارات سلفية مسلحة، وقبل ذلك كان تكلم عن مؤامرة من بندر بن سلطان والحريري وتيار المستقبل اللبناني، في تلميحات مكشوفة إلى بيئة سنية حصرا للانتفاضة.

لكن ليس صحيحا بحال أن المشاركين في الانتفاضة سنيون، وإن تكن مشاركتهم أعلى من غيرهم. لنقل هنا أيضا أن تماهي السنيين بالانتفاضة أيسر من غيرهم، لكن هذه ليست مقتصرة عليهم.

والواقع أن منحدرين من الجماعة العلوية هم من بين الأكثر مشاركة في الانتفاضة، وإن لم تأخذ مشاركتهم إلا قليلا شكل احتجاجات ميدانية، بل بالأحرى شكل مساندة إعلامية وثقافية، ومساهمات ثمينة في إبطال لعبة النظام الخاصة بإثارة مخاوف الأقليات. يقوم بذلك مثقفون وناشطون، بعضهم أسماء معروفة (الكاتبتان سمر يزبك وروزا ياسين، والدكتور منير شحود وآخرون). علما أن الناشطين والمثقفين العلويين يجري تخويفهم وترهيبهم من قبل الأجهزة الأمنية أكثر من غيرهم، للحد من احتمالات انقسام الوسط العلوي، الذي يعتبره النظام قاعدته الموثوقة.

أما في الوسط الاسماعيلي، ومركزه هو بلدة السّلَمِيَّة وسط البلاد، فهو يشهد مظاهرات مهمة كل يوم جمعة، وقد اعتقل عشرات الناشطين بفعل أنشطتهم الاحتجاجية، كان يفرج عنهم عموما بعد أيام. كما تعرضت تجمعاتهم لاعتداءات من قبل بعثيي المنطقة والموالين للنظام غير مرة. وكان آخر مظاهراتهم يوم "جمعة أطفال الحرية"، 3/6، حيث اجتمع نحو 3000 متظاهر، ولم يتعرض لهم أحد هذه المرة، ربما لأن الأجهزة كانت متفرغة لحماة (بلدة السلمية تابعة إداريا لمحافظة حماة) التي خرجت فيها مظاهرة كبيرة جدا، وسقط عدد كبير من الضحايا.

ومثل ذلك، لكن على نطاق أضيق، يجرى في محافظ السويداء ذات الأكثرية الدرزية. لقد خرجت غير مرة مظاهرات صغيرة العدد معادية للنظام، كان يجري تفريقها من قبل الموالين والأجهزة الأمنية. ويتعرض المشاركون فيها لاستدعاءات أمنية متكررة لدفعهم إلى العدول عن المشاركة في هذه التظاهرات. ورغم سنها السبعيني، تتعرض السيدة منتهى الأطرش، ابنة قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي سلطان باشا الأطرش، لمضايقات مستمرة بسبب نشاطها الحقوقي ومواقفها الشجاعة في نقد النظام ومعارضته. وذو دلالة أن أشهر أغنيات الثورة السورية، أغنية "يا حيف" التي تحيي درعا وأطفالها وتدين قمع النظام للأطفال وقتله للمحتجين، هي من تلحين وغناء سميح شقير، الفنان السوري ذي الأصل الدرزي.

وهنا أيضا لناشطين من البيئة الدرزية دور تنسيقي وإعلامي مهم، أسهم بدوره في تعطيل لعبة "تسليف" الانتفاضة و"تسنينها" من قبل النظام.
وبينما لا تشكل مشاركة مسيحيين في أنشطة الانتفاضة ظاهرة لافتة، إلا أن اثنين من قتلاها مسيحيون، وبعض أنشط الداعمين لها والمتكلمين باسمها ينحدرون من الوسط المسيحي مثل جورج صبرا وفهمي يوسف وكاترين التلي.

الواقع أن إصرار الانتفاضة وسلميتها، وتوجهاتها المدنية والوطنية، وشعاراتها المناهضة للطائفية، والمؤكدة لوحدة الشعب السوري، تخاطب روح التمرد والإقدام عند سوريين متنوعين. ليس لدى النظام ما ينافس فيه في هذا الشأن.

ولقد كانت مشاركة الكرد مهمة في الانتفاضة منذ البداية، ولم تتراجع أبدا. ورغم أن أكثريتهم الساحقة مسلمون سنيون، إلا أن الرابطة القومية أقوى حضورا وتشكيلا لمواقف الكرد من الرابطة الدينية لكونهم موضع تمييز، ولأن هويتهم في سورية تبنى بالتمايز عن العرب، الذي يتماهون مع الإسلام بيسر أكبر من أية جماعة أخرى طبعا. في المحصلة أسهمت المشاركة الكردية بدورها في إبطال مناورة النظام لإظهار الانتفاضة خاصة بالعرب السنيين.

وذو دلالة كبيرة أن النظام حريص على التصرف بمرونة مع الاحتجاجات في المناطق ذات الأكثرية الكردية، وفي مدن السلمية والسويداء، فلا يبلغ حد القتل وسيلان الدماء، حيث سقط على يد القوى الأمنية ضحية واحد درزي الأصل في إحدى ضواحي دمشق بينما كان يحاول إسعاف ابنة أخته، لكن السلطات سارعت إلى إلصاق التهمة بالإرهابيين، وشاركت في التعزية بالشاب، وجرى لف جثمانه بالعلم السوري، ولم يسقط كردي واحد رغم المشاركة النشطة للكرد في أنشطة الانتفاضة.

ركيزة الانتفاضة: المسجد والجمعة 

إصرار الانتفاضة وسلميتها، وتوجهاتها المدنية والوطنية، وشعاراتها المناهضة للطائفية، والمؤكدة لوحدة الشعب السوري، تخاطب روح التمرد والإقدام عند سوريين متنوعين. ليس لدى النظام ما ينافس فيه في هذا الشأن.
لكن لماذا تخرج الاحتجاجات من المساجد؟ ولماذا تعلو أصوات المحتجين بهتافات من نوع ألله اكبر، وعالجنة رايحين/ شهداء بالملايين، وما إليها؟

هذه أسئلة يطرحها ولا يكف عن تكرارها متحفظون على الانتفاضة أو متوجسون منها. ولقد قيل مرارا إن المسجد هو مكان التجمع الوحيد الشرعي في سورية، وأن صلاة الجمعة هي أكبر هذه التجمعات. ثم إن مجتمعا مفرغا من السياسة طوال عقود يجد نفسه أسير بيئاته المحلية، التي تستند إلى ما في متناول يدها من عتادها الثقافي والرمزي الموروث.

لا ريب أن خروج بعض التظاهرات من المساجد، وأيام الجمع بخاصة، ينال من قدرتها على اجتذاب منحدرين من بيئات دينية وثقافية أخرى، لكن حساسيتها الوطنية والمدنية والسلمية لا توفر لأحد سبب قويا كي يعاديها. فهل ما يحصل هو تديين الانتفاضة، أم هو زج الدين في سياق وطني وتحرري عام؟ الواقع أن الأمر أقرب إلى إدراج دين الأكثرية في سياق مواجهة تحررية ضد نظام استبدادي لا مبدأ له.

هل كان من شأن الانتفاضة أن تجتذب جمهورا أوسع وأكثر تنوعا لو كانت تنطلق من غير المساجد، ولو غابت عنها هتافات ذات مضمون ديني؟ هذا ما يقوله مهتمون ومتابعون، يصعب الجزم ما إذا كانوا سيشاركون في الانتفاضة لو سارت كما يشتهون.

على كل حال تتوفر قرائن متواترة، ترتفع إلى مستوى دليل قوي، على أن النظام حاول إثارة فتن طائفية هنا وهناك. نسبت زوجة المفكر السوري صادق جلال العظم على صفحتها على الفيسبوك إلى زوجها انه التقى برجال دين مسيحيين في لبنان، وأعلموه أن النظام اجتهد دونما جدوى لإثارة صراع طائفي بين مسيحيي بلدة السقيلبية في محافظة حماة وجيرانهم السنيين من بلدة القلعة. ومنذ الأيام الباكرة لتفجر الانتفاضة تداول ناشطون علويون وسنيون في مدينة اللاذقية المختلطة دينيا ومذهبيا (سنيون وعلويون ومسيحيون) أن النظام عمل على تخويف العلويين من السنيين، والعكس بالعكس. ومثل ذلك تواتر أيضا بخصوص مدينة بانياس المختلطة بدورها، ومدينة جبلة كذلك. وفي مدينة حمص أيضا.

الغرض في جميع الحالات هو إظهار النظام بمثابة إطفائي لحرائق تتسبب بها طبيعة المجتمع السوري التي لا يد له فيها.

في المحصلة العامة، يمكن القول إن مشاركة السوريين في الانتفاضة ليست متكافئة، ولا تعكس نسب المجموعات الدينية والثقافية من عدد السكان. المشاركة السنية أوسع. لكن، بالمقابل، الروحية العامة للانتفاضة ليست سنية، ولا هي دينية، ولم ترفع شعارات دينية سياسية من نوع الدولة الإسلامية أو تطبيق الشريعة. والواقع أن نسيج المجتمع السوري ظهر أقل تمزقا مما كان يخشى المثقفون والمعارضون الديمقراطيون، وبدا السوريون أكثر وعيا بخطر الطائفية مما أمل أشد هؤلاء المعارضين تفاؤلا.