تونس: حظوظ القوى السياسية

تحاول قوى اليسار في تونس أن تتحالف لتقف في وجه الإسلاميين خلال الانتخابات القادمة، لكنهم ليسوا متفقين فيما بينهم ويشككون في مصداقيتهم بتهربهم من الامتحان الديمقراطي
1_1067606_1_34.jpg

أعلن في تونس يوم 31 مايو/أيار عن تأسيس تحالف أحزاب جديد أطلق على نفسه اسم "القطب الديمقراطي الحداثي"، وهو تحالف ضم 6 أحزاب في انتظار التحاق خمسة أحزاب أخرى لا تزال المشاورات جارية معها لضمها إليه. يضم "القطب الديمقراطي الحداثي" أحزابا يسارية صغيرة اجتمعت كلها حول مبادرة نشأت في أوساط حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) بزعامة أحمد إبراهيم. وهذه الأحزاب هي على التوالي "حركة التجديد" و"الوفاق الجمهوري" و"الاشتراكي اليساري" و"حركة الوطنيين الديمقراطيين" و"الطليعة العربي الديمقراطي" و"حركة المواطنة والعدالة".

توافق لقناعات فكرية أم لتحالفات آنية
توجهات الشمهد السياسي التونسي

القناعات الفكرية أم التحالفات الآنية 

من الغريب أن منطق التحالفات يبقى حصرا على أحزاب اليسار وتحالف الوسط، ولا يكاد أحد يتحدث عن إمكانية تحالفات في جهة الإسلاميين
غير أن اللافت للنظر هو أنه تم الحديث في البداية عن وجود أحد عشر حزبا في هذا التحالف، ما يؤشر إلى بعض الصعوبات في تشكيله. وكان قد أعلن في مناسبة سابقة عن تشكيل تحالف أحزاب آخر أطلق على نفسه اسم "جبهة تحالف أحزاب الوسط"، وقد ضم كلا من "التحالف الوطني للسلم والنماء" و"المجد" و"الوفاق الجمهوري" و"الحرية والتنمية" و"الحرية من أجل العدالة والتنمية" و"الوسط الاجتماعي" و"شباب تونس الأحرار" و"العدالة والتنمية". غير أن هذا التحالف تعرض أيضا، وهو في أول خطواته، إلى اضطراب أدى إلى تخلي عدد من أعضائه منه.

من جهة أولى، يعتبر انضمام أحزاب لتحالفات من هذا النوع إقرارا بضعف تمثيليتها وعجزها عن الفعل المؤثر في الساحة السياسية. فمعظم هذه الأحزاب هي أحزاب جنينية لا يتجاوز عدد منخرطيها أحيانا بعض الأفراد أو عشرات الأفراد. فمعظم هذه الأحزاب نشأت بعد 14 يناير/كانون الثاني، حيث نجد اليوم في تونس 81 حزبا سياسيا، ويقال أن هناك أكثر من 20 ملف طلب ترخيص آخر على مكتب وزير الداخلية. أما من جهة ثانية، فإن هذه التحالفات تبدو في حقيقتها متأرجحة بين منطقين: منطق الاشتراك في قناعات فكرية معينة، ومنطق تشكيل تحالفات انتخابية، وهذا الأخير يتطلب أكثر من مجرد التوافق النظري.

من الغريب أن منطق التحالفات يبقى حصرا على أحزاب اليسار وتحالف الوسط، ولا يكاد أحد يتحدث عن إمكانية تحالفات في جهة الإسلاميين. لكن ذلك طبيعي من وجهة نظر المراقبين، فكل هذه التحالفات إنما تنشأ في مواجهة حركة النهضة (إسلامية) من أجل جمع أكبر عدد ممكن من الناخبين لمنع اكتساحها المحتمل لمقاعد المجلس التأسيسي في الانتخابات المزمع تنظيمها في أكتوبر. تبدو حركة النهضة مسيطرة على التيار الإسلامي، مع سعي واضح للاقتراب من قوى أخرى، وهو ما يبدو من تحالفها غير المعلن مع حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" (بزعامة الدكتور منصف المرزوقي) التي أظهرت بعض الاستطلاعات غير الرسمية أنه قد يشكل المفاجأة في الانتخابات القادمة على حساب "الحزب الديمقراطي التقدمي" بزعامة أحمد نجيب الشابي.

في الأثناء، يبدو لكثير من المراقبين أن تأجيل الانتخابات لم يكن لأسباب تقنية فحسب وإنما أيضا لأسباب سياسية تتلخص في عدم قدرة اليساريين على تنظيم أنفسهم قبل الموعد الأصلي للانتخابات في 24 يوليو/تموز. وبالفعل، فإن المسار الذي بدأت في إتباعه الأحزاب اليسارية بزعامة حركة التجديد كان يهدف بصورة واضحة إلى ربح المزيد من الوقت لتوسيع جبهة التحالف ضد الإسلاميين. غير أن حركة التجديد لن تستطيع مع بقية الأحزاب المتحالفة معها تحويل هذا التحالف الحداثي إلى تحالف انتخابي يترجمه تقديم قائمات انتخابية موحدة يوم الاقتراع. وسبب ذلك أن حركة التجديد لا تحظى بأي إجماع داخل الطيف اليساري بسبب مهادنتها للنظام السابق وقبولها الدخول في انتخابات تشريعية وحتى رئاسية في العهد الماضي، وهي مشاركة أعطت الانطباع بأن حياة ديمقراطية طبيعية كانت تجري، علاوة على أنها ربحت بعض المقاعد في البرلمان عن طريق رؤساء قوائم اختارتهم السلطة نفسها.

وحتى بعد أن تحول "الحزب الشيوعي" إلى "حركة التجديد" بهدف تجميع اليساريين في حركة واحدة، فإن الدلائل الإحصائية تشير إلى أن الشيوعيين خرجوا من هذه الحركة ولم يدخلوا إليها، مخيرين الانضمام إلى حركات يسارية أكثر راديكالية. هذا الشعور بضعف الحضور في الشارع هو الذي جعل حركة التجديد تقدم شخصية من خارج هياكلها لرئاسة "القطب الديمقراطي الحداثي"، وهو الصحفي رياض بن فضل الذي كان قد تعرض في بداية التسعينات لمحاولة اغتيال من تدبير جهاز المخابرات التونسي، ما يعني تمتعه بمصداقية لا يتمتع بها أيا من رموز حركة التجديد الآخرين.

توجهات المشهد السياسي التونسي

على مستوى الحضور الإعلامي تبدو التحالفات التي يعقدها الشيوعيون أكبر بكثير من أهميتها في الواقع، وخاصة في قدرتها على إحداث تغييرات كبيرة في الرأي العام الذي سيحدد مصير الانتخابات القادمة
بالنسبة لكثير من المتابعين للشأن الداخلي التونسي، يبقى المشهد السياسي موزعا بين ثلاثة قوى رئيسية: حركة النهضة، حركة التجديد وبعض التيارات اليسارية الأخرى، والحزب الديمقراطي التقدمي، حيث ترجح كثير من الأوساط تحول هذا الأخير إلى حزب لا إيديولوجي بما يسمح له بتعويض الحزب الحاكم السابق "التجمع الدستوري الديمقراطي". وبالفعل فقد ترك الحزب الديمقراطي التقدمي أفكار اليسار، ودخل في صراع مع حركة التجديد بسبب التراجع عن تنظيم الانتخابات في وقتها المحدد، مقتربا في نفس الوقت من أوساط رجال الأعمال ورموز الحزب الحاكم السابق المنحل. وإذا كان كلا الطرفين،النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي، مطمئنا إلى قوته على الساحة (وهو سبب تمسكهما بإجراء الانتخابات في موعدها الأول) فإن الطرف اليساري يبدو غير قادر على تجميع أحزاب قوية حول أطروحاته، بالرغم من سيطرته على "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" وأغلبيته الساحقة في "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات". يدل على ذلك عدم انضمام "حزب العمال الشيوعي التونسي" إلى القطب المذكور، وهو أحد أكبر الأحزاب الشيوعية على الساحة في الوقت الحالي. كما أن مناضليه لعبوا دورا حاسما في المظاهرات التي ساهمت في إسقاط حكم الرئيس السابق، مما يعطي قيادته مصداقية كبيرة في الشارع السياسي التونسي. وتراهن حركة التجديد على مهاجمة الإسلاميين في قضايا المرأة رغم الضمانات التي قدمتها النهضة بخصوص الحفاظ على المكتسبات في هذا الشأن. وتشن جمعيات أخرى نسائية مثل "جمعية نساء وتنمية" و"جمعية النساء الديمقراطيات" نفس الهجوم على الإسلاميين، وهي جمعيات غير كبيرة ولكنها مؤثرة بسبب إمكانياتها المالية (دعم خارجي فرنسي بالخصوص) وعلاقاتها بهياكل الدولة والإدارة.

على مستوى الحضور الإعلامي تبدو التحالفات التي يعقدها الشيوعيون أكبر بكثير من أهميتها في الواقع، وخاصة في قدرتها على إحداث تغييرات كبيرة في الرأي العام الذي سيحدد مصير الانتخابات القادمة. وقد أثر نقض الشيوعيين للموعد الانتخابي على نصيب من مصداقيتهم في أوساط كثيرة. كما أن الإشارات التي يطلقها رموزهم من حين لآخر حول عدم جدوى التوجه للانتخابات وربما ضرورة العودة إلى الدستور القديم (الذي وقع إيقاف العمل به)، قد أحدثت تأثيرات سلبية كبيرة في أوساط الرأي العام المتلهف لانتخابات تنهي وضعية عدم الاستقرار العام وتضع حدا للطابع المؤقت لكل مؤسسات الحكم الحالية.

من خلال متابعة هذه التطورات يمكن القول أن الشيوعيين اتخذوا مواقف أفقدتهم حاليا الكثير من حظوظهم للفوز في حملتهم ضد خصومهم، بل إن أكثر المتفائلين لا يرجح أن يكون للتحالفات التي يعقدونها تأثيرا كبيرا على نتيجة الاقتراع المزمع تنظيمه. فمحاولة كسب الوقت على حساب استقرار البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولدواعي حزبية وإيديولوجية بحتة، لا يخدم الصورة التي يريد الشيوعيون اكتسابها بوصفهم في الوقت نفسه حداثيين وديمقراطيين.