مكاسب الخرطوم ومتاعبها بعد مقتل زعيم العدل والمساواة

مقتل خليل إبراهيم، زعيم العدل والمساواة، الحركة المسلحة بدارفور، عدّته الخرطوم مكسبا سيسهل تنفيذ سياستها بالإقليم، ويكسر الحلقة الأقوى في قوس التمرد الجديد، الممتد من الشرق إلى الجنوب، لكن الحركة ظلت، عقب الصدمة، متماسكة ومصممة على إسقاط النظام السوداني.
768353ee9a36442ebd42d6a47f73d73a_18.jpg
مكاسب الخرطوم ومتاعبها بعد مقتل زعيم العدل والمساواة (الجزيرة)

في نهاية عام حافل بالتطورات المصيرية للسودان شهد أوله الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب والذي جاء لصالح انفصاله, ليستقل جنوب السودان رسميًا في منتصفه, ثم تلاحقت التعقيدات التي خلَّفها تقسيم البلاد لتنتج سلسلة من الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ حيث تبددت فرص استدامة السلام بعودة الحرب إلى ما يُعرف بــ"الجنوب الجديد" في ولايتي جنوب كردفان, والنيل الأزرق, واتسعت جبهة العمل المعارض المسلح بتشكيل جبهة القوى الثورية التي ضمت قوس التمرد الجديد الممتد من النيل الأزرق على الحدود الشرقية إلى دارفور على الحدود الغربية.

في خضم هذه التطورات المتسارعة التي كان عنوانها الرئيسي تعثر الرهان على معادلة السلام مقابل التقسيم, بتحقق السيناريو الأسوأ: خسارة وحدة البلاد وعدم استدامة السلام, وانتهاء اتفاقية السلام الشامل بإعادة إنتاج حرب وسط نذر متزايدة بأنها ستكون أوسع نطاقًا وأقرب إلى مركز السلطة مع إعلان تحالف المعارضة المسلحة عن هدفه بإسقاط حكم الرئيس عمر البشير, وفي وقت تتلمس فيه اتفاقية سلام دارفور الطريق لتأكيد جدواها, جاء مصرع الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة ليعيد خلط الأوراق وليضيف المزيد من التساؤلات حول تأثير غيابه المفاجئ من مسرح الأحداث على مستقبل الأوضاع في السودان.

من قتل خليل؟

رافق مصرع خليل إبراهيم جدل حول ملابسات مقتله التي لفها قدر من الغموض زاده الاختلاف في روايتي كل من الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة لحقيقة ما حدث. وإجلاء الغموض عن هذا الأمر تكتنفه الصعوبة لعدم توفر معلومات موثوقة عن الحدث من مصادر مستقلة؛ إذ إن معرفة حقيقة وقائعه تشكل عنصرًا ضروريًا في تحليل اتجاهات ما يترتب على ذلك من تأثير تبعات وتداعيات مقتله على معادلات الصراع في السودان.

كانت القوات المسلحة السودانية هي من بادر إلى الإعلان عن مقتل خليل إبراهيم في وقت مبكر من صباح الأحد 25 ديسمبر/كانون الأول 2011؛ حيث ذكر الناطق الرسمي باسمها أنه لقي مصرعه في اشتباكات مباشرة بين الجيش السوداني وقوات الحركة المتمردة التي كان يقودها, وقال: إن إبراهيم ومجموعة من قواته قد قُتلوا جميعًا في معركة بينما كانوا يحاولون العبور إلى جنوب السودان عبر منطقة ود بندة بولاية شمال كردفان المتاخمة لولاية شمال دارفور, بينما أعلن وزير الدفاع لاحقًا أمام المجلس الوطني, البرلمان, أن طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو السوداني قصفت خليل إبراهيم وقتلته بعد رصد محادثة هاتفية مكّنت من تحديد موقعه.

من جهتها أعلنت حركة العدل والمساواة في بيان لاحق لإعلان الجيش السوداني مقتل خليل, تأكيدها للنبأ, وذكرت في روايتها أن زعيم الحركة قُتل عندما تعرض في الثالثة من صباح الخميس 23 ديسمبر/ كانون الأول 2011 إلى  "قصف جوي غادر بطائرة مجهولة الهوية صوّبت صواريخها بدقة غير مألوفة عن مقاتلات جيش النظام إلى موقعه مما أدى إلى استشهاده وأحد حراسه في الحال"، واتهمت الحركة في بيانها "بعض الأطراف في المحيط الإقليمي والدولي" لم تسمها بأنها "تواطأت وتآمرت" مع الحكومة السودانية لاغتيال خليل.

قتل أم اغتيال؟

هل قُتل زعيم حركة العدل والمساواة أم اغتيل ومن فعل ذلك؟ سؤال قد لا يبدو مهمًا بالنظر إلى أن النتيجة واحدة هي مصرعه وغيابه عن مسرح الأحداث لولا أن موقف حركته في تعريفها للحادثة سيكون مهمًا في توقع ردة فعلها, وفي رسم السيناريوهات المحتملة لتبعات وتداعيات مقتله.

ومن سياق رواية الجيش السوداني المعدلة على لسان وزير الدفاع وما ورد في بيان الحركة ثمة اتفاق بين الطرفين على أن خليل لقي مصرعه بقصف جوي, بيد أن الاختلاف بين الروايتين يأتي من أن القوات الحكومية تبنت مسؤولية العملية بالكامل واعتبرتها عملية قتالية مشروعة في مواجهة متمرد, بينما ألقت الحركة بالمسؤولية في تنفيذ العملية على جهات دولية وإقليمية بالتواطؤ مع الخرطوم وصنَّفتها باعتبارها اغتيالًا سياسيًا لزعيمها.

وتحليل تبعات هذا الاختلاف في تعريف مصرع خليل إبراهيم مهم في تتبع مسار تداعيات هذه العملية إذ قد يؤثر بشكل مباشر في تغيير طبيعة الصراع في الفترة المقبلة, فمن جهة فإن تعريف الحادثة من قبل حركة العدل والمساواة بأنها اغتيال يرجِّح احتمال لجوئها إلى القيام بعملية اغتيال ثأرية تستهدف قادة نظام الحكم في الخرطوم, وهو ما يعني أن ثقافة الاغتيال السياسي التي لم تكن ممارسة معروفة في السياسة السودانية قد تصبح عنوانًا لتصفية الخلافات في المرحلة المقبلة مما يفتح الباب واسعًا لعواقب وخيمة تعقد أوضاع البلاد التي لا تحتاج إلى إضافة المزيد من التعقيدات عليها. كما أن نجاح حركة العدل في تنفيذ ما هدد به بعض المتحدثين باسمها بالانتقام من شخصيات رئيسية في النظام فإن من شأن ذلك أن يؤدي بالتأكيد إلى إعادة خلط أوراق الحكم, واللعبة السياسية في البلاد أيضًا, وتزداد خطورة هذا السيناريو كلما زادت أهمية الشخص المستهدف.

ومن جهة أخرى، فإن صحت رواية حركة العدل من أن جهات خارجية, إقليمية ودولية كما وصفتها دون أن تسميها, تقف وراء عملية الاغتيال المفترضة فإن من شأن ذلك أن يطرح أسئلة مهمة عمن تكون هذه الأطراف المعنية, وعن طبيعة الأجندة التي تسعى لتحقيقها من تنفيذ هذه العملية؛ إذ يُفترض أن إقدامها على تغييب خليل إبراهيم يشير إلى أنها تريد تهيئة مسرح الأحداث في السودان لتطورات مقبلة وأنها ترى في وجود زعيم حركة العدل والمساواة عائقًا أمام تحقيق هذا السيناريو.

تأثير مقتل إبراهيم على حركة العدل

لعل السؤال الأهم هو إلى أي مدى سيؤثر الغياب المفاجئ لخليل إبراهيم على حركة العدل والمساواة التي أسسها وقادها منذ العام 2001, قبل اندلاع أزمة دارفور بعامين؟ ما من شك أن خليل إبراهيم أظهر شخصية قيادية كارزمية شديدة التأثير سواء على صعيد حركته أو في تأثيره على مجريات الأوضاع في البلاد على مدار العقد الماضي, وتؤشر الصدمة الكبيرة التي قابلت بها الحركة مصرع زعيمها, والارتياح الكبير إلى درجة الفرح من جهة أخرى التي استقبلت بها الحكومة في الخرطوم الحدث, إلى المدى الذي وصل إليه دوره المحوري في التأثير على مجريات الأمور داخل حركته وعلى صعيد البلاد.

وتراهن الخرطوم على أن تغييب خليل سيقود بالضرورة إلى نهاية حركته بحرمانها من قيادته المسيطرة والفعالة مما سيؤدي إلى تشرذمها أو إضعافها إلى درجة تجد نفسها مضطرة أمام خيارات محدودة, إما إلى اللحاق بعملية سلام دارفور, أو أن تجد نفسها معزولة وخارج اللعبة تمامًا. إلا أن الملاحظ أن حركة العدل والمساواة مع هول صدمتها بخسارة زعيمها أظهرت إلى الآن قدرًا من التماسك في التعاطي مع هذا التطور المفاجئ, وبادرت إلى تكثيف جهودها لإعادة ترتيب بيتها لمرحلة ما بعد خليل, يبدو ذلك من خلال إظهار التزامها بدستورها ولوائحها الداخلية بإعلانها تولي رئيس مجلسها التشريعي الطاهر الفكي لرئاستها لفترة انتقالية ريثما يتم انتخاب رئيس جديد للحركة في غضون ثلاثة أشهر؛ ولذلك فمن المبكر التكهن بالتأثير الحقيقي لغياب زعيمها على قدرتها على الحفاظ على وحدة صفها, وما ستؤول إليه أوضاع الحركة سيعتمد إلى حد كبير على نجاحها في تجاوز مصاعب وتحديات الفترة الانتقالية.

وثمة مؤشر آخر على إظهار الحركة عزيمة في الحفاظ على تماسكها، وهو نجاحها في اختراق الأراضي السودانية وإدخال جزء كبير من قواتها وآلياتها العسكرية إلى جنوب السودان بعد أيام قليلة فقط من مصرع زعيم الحركة, وفق ما أعلنته الحكومة السودانية التي قدمت شكوى إلى الأمم المتحدة ضد حكومة جنوب السودان لإيوائها لهذه القوات المتمردة, وبالنظر إلى الخسارة الفادحة التي تلقتها الحركة بمقتل رئيسها أثناء قيادته لعملية نقلها باتجاه الجنوب, فقد كان من المتوقع أن تتشتت هذه القوات أو تصاب بإحباط عميق يوهن قدرتها على مواصلة إنجاح مهمتها وسط حصار وضغط كبير من القوات المسلحة السودانية, بيد أن تجاوزها لهذه الصدمة المفاجئة يعطي مؤشرًا على امتصاصها السريع لهذا التغيير الرئيسي في قيادتها, والقدرة على التماسك وتحقيق الهدف الأساسي من تحركها.

ومن المحتمل أن ينم هذا التماسك عن قدرة مؤسسية قد تتعزز من خلال عملية انتقال سلسة لقيادة جديدة, كما يحتمل أيضًا أن يكون عارضًا بدافع المشاعر الفياضة التي رافقت مصرع قائدها الكارزمي, وكذلك بدافع إظهار التحدي والقدرة على البقاء في مواجهة محاولة الحكومة السودانية القضاء عليها ومحوها من الخريطة السياسية.

غير أن الحركة مع ذلك ليست محصنة ضد الانقسامات ولها نصيب وافر من الانشقاقات في مراحل مختلفة من مسيرتها حتى في ظل سيطرة خليل القوية على قيادة الحركة, سواء جرّاء خلافات على أسلوبه القابض في إدارة شؤونها أو بسبب خلافات على خياراته ومواقفه السياسية تجاه عملية السلام في دارفور التي يرونها متصلبة ورافضة للتسوية السلمية.

وغياب خليل قد يوفر فرصة لبروز قيادة جديدة أكثر مرونة وأقل ميلًا لفرض السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور؛ مما يقلل من الاحتقان وسط القادة المتطلعين لدور فعال كما يزيد من احتمالات التوافق بينها مما يجنب من اللجوء إلى خيار الانشقاقات. بيد أن غيابه قد يخلق أيضًا مأزقًا للحركة في حالة العجز عن الاتفاق على قيادة بديلة تجد القبول عند الجميع. على أنه في كل الأحوال فإن القيادة التي ستخلف خليل ستجابَه بتحديات جسيمة في ملء الفراغ الكبير الذي تركه بقدراته السياسية والعسكرية واتصالاته فضلًا عن الشخصية القيادية الكارزمية التي أقر بها خصومه قبل مؤيديه.

الحركة في معادلة التمرد على الخرطوم

على الرغم من أن حركة العدل والمساواة عُرفت على نطاق واسع باعتبارها أحد أبرز أطراف الحرب واللاعبين الأساسيين في أزمة دارفور, ومع أن مسرح وجودها السياسي والعسكري يتركز في دارفور, إلا أنها لا تعتبر نفسها حركة إقليمية أو معنية فقط بتحقيق مطالب في دارفور؛ إذ ترى أن أزمة الإقليم هي جزء من أزمة وطنية أشمل مركزها الخرطوم, وأنه لا يمكن حل قضية دارفور بمعزل عن إعادة هيكلة وبناء السلطة المركزية, ولذلك تعتبر نفسها حركة قومية حيث انتدبت نفسها في بيانها التأسيسي لقيادة "ثورة المستضعفين والمهمشين ضد هيمنة المركز", وتتبنى تشخيصًا للأزمة السياسية في السودان بأنها نتاج سيطرة "أقلية" من شمال السودان هيمنت على السلطة والثروة منذ استقلال البلاد, وتسببت في اختلال التوازن بين المركز والأطراف, وتعتبر الحركة أن حل الأزمة السودانية يبدأ بإعادة تأسيس السلطة المركزية بما يحقق التوازن السياسي والاقتصادي والتنموي بين كل أقاليم البلاد.

ولعل هذه الفكرة المحورية في رؤية الحركة السياسية يفسر لماذا قاومت بشدة مسألة أن يكون مردود مفاوضاتها مع الحكومة السودانية مقتصرًا على حل "أزمة دارفور"؛ إذ إن أجندتها مصوبة على إعادة هيكلة الحكم في الخرطوم, ورفضت تبعًا لذلك مواصلة الانخراط في عملية الدوحة لسلام دارفور, على الرغم من أنها كانت هي الطرف الرئيسي المبادر لتلك المفاوضات مع الحكومة.

غير أن اعتداد الحركة بطرحها القومي الذي جعلها تجد قبولًا من الجماعات المتمردة الرافعة لواء الهامش ضد المركز, يُنظر إليه بقدر غير قليل من الشكوك وربما التردد في القبول بأطروحاتها في أوساط النخب الشمالية على امتداد طيفها السياسي؛ فالحركة على الرغم من خطابها القومي إلا أن خطابها السياسي وبنيتها التنظيمية وشخصيات كوادرها القيادية جعلها محل اتهام بأنها تستند على الثقل القبلي وتمثل قبيلة "الزغاوة" بأكثر مما تشكل وعاءً وطنيًا جامعًا عابرًا للقبلية يحقق شعاراتها المرفوعة, وهو ما يصعب القول معه بأن الحركة حظيت بالاعتراف بقوميتها حتى من قبل معارضي الحكم, فضلًا عن اتهامها بأنها تمثل ذراعًا عسكرية لحزب المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة حسن الترابي, وهو وإن كان اتهامًا مبعثه الحكومة إلا أن كثيرًا من القرائن السياسية بسبب تماهي مواقف الطرفين في كثير من الأحيان تجعل للصلة وجاهة في نظر بعض أوساط الرأي العام.

منعرج تحالف الجبهة الثورية

جاء مقتل خليل إبراهيم بعد أسابيع قليلة من إعلان أربع حركات معارضة مسلحة تشكيل تحالف الجبهة الثورية السودانية في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي, ويضم ثلاث حركات مسلحة دارفورية هي حركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم, وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي, وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور, والحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال- بقيادة مالك عقار والتي كانت تمثل قطاع الشمال للحركة الشعبية الأم التي استقلت بجنوب السودان في يوليو/تموز الماضي.

ويأتي غياب خليل ليطرح تساؤلًا حول تأثير ذلك على مستقبل الجبهة الثورية السودانية وقدرتها على تحقيق ما أعلنت عنه في بيانها التأسيسي من أن هدفها الرئيسي هو "إسقاط نظام المؤتمر الوطني الحاكم بكل الوسائل المتاحة", وإعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية وفق دستور جديد "لإيجاد سودان ديمقراطي, لا مركزي, ليبرالي, موحد على أساس طوعي". ويكتسب تأثير غياب خليل أهميته من أن حركة العدل والمساواة تعد الطرف الأكثر تنظيمًا وقدرة عسكرية من بين حركات دارفور المسلحة.

وبالطبع فإن قراءة احتمالات تأثير مقتل خليل على تحالف الجبهة الثورية سيعتمد بالدرجة الأولى على اتجاه التطورات التي ستشهدها حركة العدل والمساواة وهي تحاول إعادة ترتيب بيتها من الداخل في غضون الأشهر القليلة المقبلة, فتماسك الحركة سيعزز بالضرورة من قدرات الجبهة الثورية, مثلما سيضعفها تفتت الحركة وشرذمتها.

ففي آخر حوار إذاعي أجري مع خليل إبراهيم أكد على أن هدف حركته هو إسقاط حكم الرئيس عمر البشير وحزب المؤتمر الوطني الحاكم, مستبعدًا أن تفلح أية محاولات لإصلاحه أو التفاهم معه, ودعا الشعب السوداني للخروج في ثورة على غرار ثورات الربيع العربي, غير أنه شدد على أن حركته ستعمل على إسقاط النظام بالقوة العسكرية سواء قامت ثورة شعبية أو لم تقم. والملاحظ أن قادة الحركة أعادوا التأكيد على هدف إسقاط النظام في تصريحاتهم التي أعقبت مقتل قائدها, وفي ذلك إشارة تؤكد على الهدف المشترك لتحالف الجبهة الثورية. كما أن إصرار الحركة على نقل قواتها باتجاه الجنوب حتى بعد مقتل خليل تشير إلى أنها تراهن على استمرار تحالفها مع الجماعات المتمردة الأخرى.

ويذهب بعض المحللين إلى أن غياب خليل ربما يشكل عاملاً إيجابيًّا لصالح تحالف الجبهة الثورية بأكثر مما يكون عامل إضعاف له, مشيرين إلى أن شخصية خليل المسيطرة وغير المرنة في المساومات ربما كانت ستتسبب في صراعات بين قادة التحالف الجديد مما يقلل من فاعليته, وقد تفضي إلى تشتته؛ ولذلك فإن وجود شخصية مرنة غير خلافية في قيادة الحركة بديلة لخليل ستجعل إمكانات التماسك بين مكوناته أكثر احتمالًا.

تحول المسرح من دارفور

يشار إلى أنه حتى قبل مقتل خليل إبراهيم فقد شهدت التطورات في السودان تحولًا نوعيًا بانتقال مسرح ثقل الأحداث من دارفور إلى ما بات يعرف بــ"الجنوب الجديد" الذي شهد تجدد الحرب في ولايتي جنوب كردفان, ثم ولاية النيل الأزرق المتاخمتين لدولة جنوب السودان, ثم جاء تشكيل تحالف الجبهة الثورية من الحركات الثلاث المسلحة في دارفور الرافضة لاتفاقية الدوحة للسلام في الإقليم, والحركة الشعبية بشمال السودان, التي تعد امتدادًا للحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب, ليعزز من هذا التحول في مسار الصراع السياسي في البلاد بدارفور و"الجنوب الجديد" في اتجاه حرب شاملة تستهدف إسقاط نظام الحكم.

وما يؤكد هذا التحول أن المجلس الوطني, البرلمان السوداني, أعلن عقب مداولاته حول تقرير اللجنة الطارئة لمتابعة الأوضاع الأمنية بالبلاد الأسبوع الماضي تصنيف دولة جنوب السودان بأنها "المهدد الأمني الرئيسي للبلاد", واعتبرها طرفًا في "مخطط إسرائيلي-أميركي" يستخدم تحالف المعارضة السياسية, وتحالف الجبهة الثورية لشن حرب على السودان.

وقال وزير الدفاع السوداني أمام البرلمان: "إن قوات أوغندية موجودة على الحدود مع إفريقيا الوسطى بحجة محاربة جيش الرب تتأهب للهجوم على الشمال ضمن مخطط تقوده الحركة الشعبية من عدة محاور بمناطق النيل الأزرق, وحدود بحر الغزال مع جنوب دارفور, بجانب قوات تحالف الجبهة الثورية الموجودة في أعالي النيل وولاية الوحدة بجوار جنوب كردفان", وأعلن وزير الدفاع عن "مخطط إسرائيلي-أميركي ذي شقين لزعزعة استقرار البلاد؛ متهمًا أحزاب المعارضة بقيادة المخطط السياسي, فيما تقود الجناح العسكري للمخطط الحركات المسلحة في تحالف الجبهة الثورية, بدعم إسرائيلي فني ولوجستي".

بيد أن تحول مركز ثقل الأحداث جنوبًا لا يعني بالضرورة أن دارفور ستكون خارج دائرة التأثير؛ إذ إن الحركات الثلاث من الإقليم التي انضمت إلى تحالف الجبهة الثورية ستكون مهتمة بالحفاظ على قواعدها الأساسية, وستواصل عرقلة جهود السلام التي تقودها الحكومة السودانية وحركة التحرير والعدالة الموقعة على اتفاقية الدوحة لإثبات عدم جدواه, هذا من جهة, أما من جهة أخرى فإن حركة العدل ستعمل على الاستفادة من مقتل خليل في حشد المناصرين لها من أبناء دارفور الذين ساءهم مصرعه على خلفية إذكاء الحرب للبعد العرقي في الصراع.

حسابات أمريكية

على الرغم من أهمية أدوار الأطراف المحلية وتأثيرها في تشكيل الأوضاع السياسية والعسكرية, إلا أن كثافة التدخل الدولي سياسيًا وعسكريًا الذي شهده السودان على مدار السنوات الماضية مع تدويل قضيتي الحرب والسلام في الجنوب وفي دارفور, جعل للقوى الخارجية لاسيما الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوربيين دورًا مؤثرًا وأحيانًا حاسمًا في توجيه مسار الأحداث في السودان؛ فمقتل خليل إبراهيم الذي عدَّته الحكومة السودانية نصرًا من شأنه إنهاء أو إضعاف حركة العدل والمساواة خصمها العنيد, إلا أنه حتى في حالة تحقق ذلك لا يغير من معادلات الوضع في قضية دارفور التي اكتسبت اعترافًا دوليًا بها بغض النظر عن مدى قوة الحركات المسلحة المعبرة عنها, إضافة إلى أن تبعات ما ترتب على الحرب في دارفور سيظل يشكل هاجسًا للقيادة السودانية؛ فالمحكمة الجنائية الدولية المدعومة من القوى الغربية أضافت مزيدًا من أركان الحكم في الخرطوم للائحة المطلوبين لديها حيث طالب المدعي العام للمحكمة قبل أسابيع قليلة بإضافة وزير الدفاع عبد الرحيم حسين إليها. وحسب معادلة الحكم الراهنة في الخرطوم فإن هذا التحرك للمحكمة الجنائية يُقرأ في إطار محاولة تأثير خارجي لمحاصرة رموز الدائرة العسكرية في السلطة, الرئيس ووزير دفاعه المقرب, لصالح سيناريو أميركي محتمل لإعادة هيكلة السلطة في الخرطوم لتفادي اندلاع حرب شاملة تضار منها المصالح الأميركية.

ويُلاحظ في هذا الخصوص أن المبعوث الرئاسي الأميركي للسودان برنستون ليمان أعلن الشهر الماضي أن  "حكومة الولايات المتحدة تعارض العمل العسكري ضد حكومة السودان، وتراه مثيرًا لمزيد من الحروب والمشاكل، ومهددًا لكيان ووحدة السودان، ويمكن أن ينتقل إلى الجنوب، ويهدد كيانه ووحدته؛ لهذا، نحن حريصون على وحدة السودان (الشمالي). وندعو كل الأطراف إلى العمل لتحقيق ذلك سلميًا".

وأكد ليمان أن بلاده لا تشجع تغييرًا في السودان على النمط الذي شهدته بلدان الربيع العربي قائلاً: "ليس هذا جزءًا من أجندتنا في السودان. بصراحة، لا نريد إسقاط النظام، ولا تغيير النظام. نريد إصلاح النظام بإجراءات دستورية ديمقراطية".

ويبدو أن الدافع المهم في معارضة واشنطن للعمل المسلح ضد النظام ربما يعود في الأساس إلى أنها تريد تفادي تطورات قد لا تستطيع السيطرة عليها تتقاطع مع حساباتها وتخلط أوراق ترتيبات أعدتها لــ"إصلاح النظام بإجراءات دستورية ديمقراطية" حسب تصريح المبعوث الأميركي. وحسب سيناريو لمراقبين، فإن الحرص الأميركي على كبح العمل المسلح ضد النظام  يشير إلى تبلور "صفقة ما" مع أطراف فاعلة داخله للمضي قدمًا باتجاه تطوير النظام ديمقراطيًا, وهو ما يعني، حسبهم، إعادة تركيبه على توازنات جديدة برعاية أميركية واتفاق إقليمي على غرار تسوية نيفاشا تضع في الاعتبار مطالب الأحزاب والحركات المسلحة المعارضة وتؤسس لوضع دستوري جديد, وهو ما يحتاج، حسبهم دائما، طبخه على نار هادئة, وقد تجد لذلك مختلف الأطراف مصلحة مشتركة في تغييب بعض مراكز القوى الحالية الخارجة عن السيطرة في الأطراف المختلفة بأقل الخسائر الممكنة لتهيئة المسرح السياسي السوداني لقواعد لعب جديدة. وفي إطار هذا السيناريو يمكن البحث عن علاقة ما بين تطورات لا يوجد بينها رابط منطقي تلاحقت في غضون أسابيع قليلة: استدعاء المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية المفاجئ لملف وزير الدفاع السوداني, اغتيال زعيم التمرد الجنوبي جون أطور في كمبالا, ثم مصرع زعيم حركة العدل والمساواة بعده بأيام, وكلها تجعل الساحة السودانية مفتوحة على تطورات متسارعة في المستقبل المنظور.