لم ينقض يوم واحد على وصول أوائل المراقبين العرب إلى دمشق حتى وقع تفجيران في العاصمة السورية، استهدفا "فرعي أمن"، تسبَّبا في مقتل 44 شخصًا وجرح 160 حسب المعطيات الرسمية. وعلى الفور أعلنت الجهات الرسمية السورية أن منظمة القاعدة هي المسؤولة، وفي اليوم التالي أعلن موقع منسوب لجماعة الإخوان المسلمين السوريين مسؤولية الجماعة عن التفجيرين، قبل أن يتبين أن الموقع منتَحل، وأن من وراءه هو ابن مدير مكتب المفتي العام.
تثير هذه الوقائع ظلالاً كثيفة من الشك حول الفاعل المرجّح للعمليتين؛ فلقد اتهم المجلس الوطني السوري وعموم الناشطين السوريين النظامَ بالمسؤولية عن التفجيرين، ورجّحوا أن يكون فعل ذلك بغرض التأثير على بعثة المراقبين، ومحاولة تصوير نفسه ضحية عمليات إرهابية.
النظام يراقب المراقبين
من المؤكد أن النظام يخشى عمل المراقبين بدليل أنه لم يوافق على قدومهم إلا لتفادي التدويل. ويبدو أنه طوَّر إستراتيجية متعددة الأبعاد لتعطيل عملهم أو التأثير عليه بالاتجاه المناسب له.
فمن المحتمل أن من أركان هذه الإستراتيجية التفاهم على تمكين جنرال سوداني، يشتبه بتورطه في أحداث دارفور الدامية، ومعروف بعلاقته الوثيقة بنظام البشير، من ترؤس بعثة المراقبين.
وليس واضحًا إن كان للنظام السوري ضلع في قلة عدد المراقبين (الأرقام متضاربة، 60 أو 75، ودومًا أقل من 100 حتى الجمعة 30 ديسمبر/كانون الأول 2011)، علمًا بأن المراقبين تأخروا 5 أيام أصلاً قبل التوافد على سوريا.
ومن عناصر هذه الإستراتيجية أن المراقبين يتحركون دومًا برفقة عناصر من الأمن السوري، وهو ما تسبب في رفض سكان بابا عمرو في حمص استقبال بعض المراقبين يوم الخميس 29 ديسمبر/كانون الأول 2011.
ومنها أيضًا أن السلطات السورية هي التي تؤمّن وسائل نقل المراقبين، بحيث تستطيع إعاقة تحركاتهم حين لا تناسبها. ولقد أعلن برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري، أنه اتصل بمراقبين في فندق في حمص يوم الأربعاء 28 ديسمبر/كانون الأول 2011 ليحثهم على التوجه إلى حي بابا عمرو، فردوا عليه أنهم طلبوا سيارات تنقلهم إلى هناك ولم تستجب السلطات لطلبهم.
إلى ذلك، فإن بروتوكول مهمة المراقبين يقرر أن هؤلاء سيزورون السجون والمعتقلات والمشافي بالتنسيق مع السلطات السورية التي من الممكن أن تجعلهم يلتقون بسجناء مزعومين هم في الحقيقة عناصر من الأمن أو أشخاص موالون. لقد عرضت الشاشات السورية مشاهد لمراقبين يزورون مصابين في مشاف حكومية، بينما يلح عليهم بشدة أشخاص غير معروفين بأن "إرهابيين" هم من استهدفهم.
ثم إن المعارضة تقول: إنه جرى نقل سجناء إلى ثكنات عسكرية قرب حمص وقرب حلب. وهذه "مواقع عسكرية حساسة" يحظر البروتوكول نفسه على المراقبين زيارتها. ومن المحتمل حسب المعارضة أيضًا أن بعض معتقلي الثورة نُقلوا إلى مواقع غير معروفة في محافظة الرقة أيضًا، على ما تفيد معلومات متداولة.
علاوة على أنه تأكد أن النظام بادر إلى تغيير أسماء بعض الأحياء والبلدات حول حماة ودير الزور ودمشق ذاتها، لإبعاد المراقبين عن البؤر الأشد سخونة للثورة أو عن المناطق التي يفضل النظام صرف المراقبين عن مواقعها من أجل الاستمرار في القمع.
تندرج هذه التكتيكات المتنوعة في سياق إستراتيجية عامة، تهدف إلى تطويق أية آثار سلبية محتملة على النظام كنتيجة لمهمة المراقبين، ولكن دون الظهور بمظهر المعوق المباشر لعملهم.
وفي أساس هذه الإستراتيجية الفصل بين المضمون السياسي للمبادرة العربية وبين عمل مراقبي الجامعة العربية؛ فالمبادرة قضت بوقف القتل وسحب الجيش من المدن والإفراج عن المعتقلين، ثم البدء في حوار سياسي داخلي. لا شيء من ذلك جرى تنفيذه، حتى إنه ليس مؤكدًا أن النظام أطلق سراح أعداد المعتقلين الذين يُعلَن عنهم بين حين وآخر (755 معتقلاً في آخر إعلان، يوم الأربعاء 28 ديسمبر/كانون الأول 2011)، علمًا بأن هذه الأعداد لا تشكِّل إلا نسبة محدودة من المجموع الكلي لمعتقلي الثورة، الذي تقول أدنى تقديرات المعارضة: إنه نحو 15 ألفًا. ومعلوم أن بعض الأسماء المعروفة من معتقلي الثورة لم يفرج عنهم، مثل: نجاتي طيارة وشادي أبو فخر وعامر مطر وريم الغزي وغيرهم.
وكان وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، قد أعلن أن النظام وافق على البروتوكول المنظم لعمل مراقبي الجامعة العربية فاصلاً إياه عن المبادرة العربية، هذا بينما يُفترض أن البروتوكول هو وجهها الإجرائي فحسب. ولعل تكتيكات التلاعب سالفة الذكر هي من باب التفاصيل التي ذكر الوزير المعلم نفسه أن على المراقبين أن يتعلموا السباحة في غمارها.
المراقبون حماية للمتظاهرين
رغم ذلك كله، لا تكفي مشاهدات الأيام المنقضية من عمل المراقبين للحكم على مهمتهم، وإن يكن الميل الغالب عند المعارضة هو توقعات متدنية من عمل البعثة. والواقع أن ما يخفض سقف التوقعات ليس تكتيكات النظام وحدها، ولا اختزاله المبادرة العربية إلى بعدها الإجرائي، بل هو محدد بنيوي أكثر أهمية، يتمثل في أن فريق المراقبين يمثّل النظام العربي. وهذا النظام مفتقر إلى الاستقلالية والشرعية الكافية لمراقبة نظام عضو فيه ويشبهه. ومظاهر التردد التي ميزت عمل فريق المراقبين، كالتأخر في بدء مهمتهم أيامًا، ثم مرور 11 يومًا من مهمة تدوم شهرًا دون أن يتجاوز عددهم 100، ثم سوء تجهيزاتهم، كلها أشياء تشبه ترهل النظام العربي وفتور عزمه. وليس معلومًا فوق هذا كله مستوى تأهيلهم للمهمة الموكلة إليهم، ومدى ارتباطهم بحكومات بلدانهم، وتأثير هذا الارتباط المحتمل على مهمتهم في سوريا.
ولقد انعكست هذه التوقعات المنخفضة في مواقف المحتجين السوريين، على نحو ما تعبر عنها اللافتات المرفوعة في المظاهرات. على أن هذا الموقف السلبي العام يُبطِّنه الرجاء في أن يثمر عملهم عن شيء، أو في مجرد أن يتاح للسوريين أن يُسمِعوا كلامهم لأحد من العالم. فبعد نحو عشرة شهور من العزلة والتنكيل بهم من قبل النظام، بلغت حماستهم في حرستا قرب دمشق أن حملوا على الأكتاف أحد المراقبين العرب، ربما يكون أجاد الاستماع إليهم، أو أبدى قدرًا من التعاطف مع معاناتهم.
رغم مسوغات التشكك كلها، كان لافتًا أنه حيث وُجد المراقبون كانت المظاهرات الشعبية أكثر أمانًا؛ فبفضل وجود المراقبين، لم يتعرض متظاهرو دير بعلبة في حمص لأية اعتداءات مساء الخميس 29 ديسمبر/كانون الأول 2011، ولا متظاهرو الخالدية في حمص يوم الجمعة 30 ديسمبر/كانون الأول 2011، ولا متظاهرو دوما في اليوم نفسه. ولقد سجلت هذه الجمعة الأخيرة زخمًا متجددًا في التظاهر، من حيث أعداد المتظاهرين، أو من حيث اتساع مناطق التظاهر. فهناك تقديرات لمراقبين عن بلوغ 100 ألف متظاهر في دوما يوم الجمعة 30 ديسمبر/كانون الأول، وهو اليوم الذي قصد فيه فريق من المراقبين المدينة المحاذية لدمشق.
إن السلطات السورية ترى هذا الترابط بين تواجد المراقبين وتزايد التظاهرات والمتظاهرين، ومن المحتمل أن تعرقل وصول مزيد من المراقبين أو تبطئ من وصولهم، كتعويق تحركاتهم، أو حسبما قال جهاد المقدسي، الناطق باسم الخارجية السورية: إن السلطات السورية لا تضمن أمن المراقبين في المناطق الساخنة "الخارجة على القانون" حسب وصفه.
ليست هناك ضمانة في أن لا تفتعل السلطات السورية اعتداءات على المراقبين، بحيث تعطّلهم عن أداء مهمتهم من جهة، وتحاول إضفاء شيء من الصدقية على رواية النظام من جهة أخرى. هذا ليس شيئا مستبعدا، بل إن احتماله يزداد قوة إذا بدا للنظام أن مهمة المراقبين، بعد كل مناوراته ، تشكل حماية نسبية للمظاهرات، تجعل الثورة الشعبية السلمية تسترد زمام المبادرة.
فإن توصل النظام لهذه النتيجة فعلا، فربما تشهد الأيام الباقية من تفويض المراقبين تطورات نحو التضييق على مهمتهم، كعرقلة وصول أعداد إضافية منهم، ومحاولة التأثير على مضمون تقاريرهم، علما أن البروتوكول ينصّ على إطلاع السلطات السورية على التقارير قبل إرسالها، دون أن يحق لها إدخال تعديلات.
في المقابل هناك عامل آخر يسند المراقبين في مهمتهم، وهو ردود الفعل الدولية، والجامعة العربية نفسها، وتركز كلها على حياد المرقبين وحقهم في الحصول على تسهيلات تضمن أداء عملهم، وهي كلها متطلبات تقوي موقفهم في مواجهة السلطات السورية. فإن سارت الأمور في هذا الاتجاه، فمن المرجح أن نرى تشدد النظام في التعامل معهم وربما يرفض تجديد مهمتهم بعد انقضاء الشهر المخصص للمهمة الأولى، وتبدأ مرحلة جديدة من سعي النظام إلى كسب الوقت وسعي الجامعة إلى التدويل للضغط عليه.