النظام السوداني: ضغوط متزايدة وموارد متناقصة

يقع النظام السوداني بين ضغطين؛ داخلي: دعاوى الإصلاح من مؤيدي النظام أو مطالب التغيير من معارضيه, والضغوط العسكرية من الجماعات المتمردة المعززة باستمرار التوتر مع دولة الجنوب, ومن المصاعب الاقتصادية؛ وخارجي: استمرار الضغط الغربي ومحكمة الجنايات الدولية.
201221217318709734_2.jpg
تبين بأسرع مما هو متوقع أن الانفصال ليس حلاً لأزمات السودان, بل أصبح مدخلاً لأوضاع أكثر تعقيدًا (الجزيرة)

يقترب نظام حكم الرئيس السوداني عمر البشير من الاحتفال بمرور ثلاثة وعشرين عامًا على وصوله للسلطة في انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو/حزيران 1989, مسجلاً بذلك سابقة النظام الأطول عمرًا في تاريخ الدولة الوطنية السودانية؛ حيث تفوَّق على نظامين عسكريين آخرين سبقاه، هما نظاما الفريق إبراهيم عبود (1958 – 1964)، والمشير جعفر نميري (1969-1985)، اللذان امتدت فترتاهما لاثنين وعشرين عامًا, وطال عمره ضعف فترة الحكومات المنتخبة التي ترأَّسها إسماعيل الأزهري (1953 – 1956), عبد الله خليل (1956- 1958), سر الختم الخليفة (1964- 1965) للفترة الانتقالية عقب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 التي أطاحت بنظام عبود, محمد أحمد محجوب (1965 – 1966), الصادق المهدي (1966- 1967), محمد أحمد محجوب (1967-1969), الجزولي دفع الله (1985- 1986) للفترة الانتقالية عقب انتفاضة إبريل/نيسان 1985 التي أطاحت بنظام النميري, الصادق المهدي (1986 -1989).

أثبت المشير البشير, الضابط المظلي, خلال طول فترة حكمه -التي تناهز الآن ربع القرن- قدرة كبيرة على المناورة والقفز فوق حقول ألغام السياسة السودانية المليئة بالحروب والصراعات, وبراعة في اللعب على تناقضات معارضيه وخصومه, وأثبت تفوقًا حتى على الدكتور حسن الترابي, راعي ومهندس الانقلاب الذي قاده إلى السلطة, عندما خرج من عباءته في العام 1999 لينفرد بالحكم، موظِّفًا رموز "الإسلاميين" الذين انحازوا إليه في الصراع مع زعيم "الحركة الإسلامية" لتوطيد دعائم سلطته.

وأسهمت اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية التي وقعتها حكومته في العام 2005م، بعد مفاوضات مارثوانية متعثرة امتدت لأكثر من عشر سنوات, وتسارعت في الثلاثين شهرًا الأخيرة، بفعل ثقل التدخل الأميركي في المفاوضات, في ضمان سنوات إضافية إلى عمر النظام، هي الفترة الانتقالية التي امتدت لست سنوات, وكان يأمل أن يظفر خلالها بجائزة رفع العقوبات والحظر الاقتصادي ورفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب, وتطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن حسب وعود إدارة الرئيس بوش الابن مقابل تحقيق السلام, وهو ما يراه النظام أمرًا مفتاحيًا للحصول على مشروعية دولية، وتطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي التي ظل يبحث عنها منذ وصوله إلى السلطة, فحثت الوعود الأميركية، التي لم تتحقق، النظام على الذهاب إلى تقديم تنازلات غير مسبوقة طوال تاريخ التفاوض لحل قضية الجنوب، ومضت إلى حد الموافقة على تقسيم البلاد في حالة اختيار الانفصال عبر استفتاء الجنوبيين على تقرير مصيرهم, فاعتبر النظام التقسيم ثمنًا مقبولاً لتحقيق معادلة الانفصال مقابل السلام, إضافة إلى الحصول على اعتراف دولي بمشروعية النظام في الانتخابات العامة التي أُجريت إبان الفترة الانتقالية بموجب ترتيبات اتفاقية السلام، فحصل البشير على الرئاسة, وأكثر من خمسة وتسعين بالمائة من مقاعد البرلمان, وكل حكام الولايات الشمالية الخمس عشرة ما عدا واحدة، هي ولاية النيل الأزرق، التي فاز بها زعيم الحركة الشعبية قطاع الشمال مالك عقار، والتي أُقصي منها لاحقًا بعد نشوب حرب بين الطرفين.

حمل عام 2011م تحديات جدية لحكم الرئيس عمر البشير, فقد شهد أوله موافقة الجنوبيين بأغلبية تلامس الإجماع على الانفصال في الاستفتاء على تقرير المصير, ورافق ذلك بدء انتشار موجة ثورات الربيع العربي؛ وحين حل منتصف العام، تقرر تقسيم السودان رسميًّا، في التاسع من يوليو/تموز، فبرز الجنوب دولة مستقلة, ثم توالت في النصف الأخير من العام تعقيدات هذا الحدث الكبير, فالأهداف الرئيسية التي قصدها البشير مقابل موافقته على استقلال الجنوب لم تتحقق.

ثورات بدول الجوار

بدا الحكم في الخرطوم مطمئنًا، وهو يقترب من يوبيله الفضي في السلطة، إلى أنه تجاوز عقدة الأنظمة العسكرية في السودان التي أفل نجمها وانهارت في المرتين اللتين حكمت فيهما البلاد بفعل ثورة شعبية, في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وفي إبريل/نيسان 1985, فمن ناحية عمل النظام خلال السنوات الماضية على الاستفادة من خبرة حلفائه في سنوات المعارضة على تفكيك البنية التحتية للعمل النقابي والقوى المدنية الحديثة التي قادت تخطيط وتنفيذ الحراك الجماهيري للثورتين, كما عمد إلى ممارسة نوع من التدرج نحو انفتاح سياسي محسوب ومحدود السقف دون التخلي عن فرض سيطرته العسكرية والأمنية والسياسية على مفاصل السلطة, فأتاح حرية عمل حزبي وصحافي لم تكن معهودة في النظامين العسكريين السابقين، ليتجاوز التصنيف التقليدي لطبيعة الأنظمة العسكرية المتسلطة, فأسهم في تنفيس الكبت والتقليل من ضغوط التسلط, كما نجح أيضًا في جذب كل معارضيه بصيغ مختلفة, بما فيها الحركات المسلحة, إلى حلبة التفاوض معه وتوقيع اتفاقيات سياسية, فقبِل أغلبهم مشاركته بمقدار في السلطة التي يسيطر عليها, فأفقد هذه المعارضة وهج وجاذبية امتلاك موقف مبدئي معارض للنظام لأنها تقاسمت معه تكلفة قراراته دون أن تكون شريكة فعلية فيها.

بيد أن هذه الطمأنينة لقلة احتمال حدوث ثورة شعبية, على غرار السابقتين في ثورتي أكتوبر/تشرين الأول وإبريل/نيسان, تراجعت بشدة مع اتساع ثورات الربيع العربي ونجاحها على نحو مذهل في الإطاحة بأنظمة عتيدة، كان يُظن أنها شديدة الرسوخ بفعل قبضتها الأمنية القوية, فامتدت هذه الثورات في غضون فترة وجيزة إلى بلدين هما من أقرب جيران السودان: مصر وليبيا, لتخلط أوراق نظام الحكم في الخرطوم, فهي ثورات غير متوقعة، وهبَّت بفعل حراك شبابي خارج حسابات هذه الأنظمة التي ظلت تركز إجراءاتها الاحترازية على قوى المعارضة التقليدية التي لم تكن صاحبة المبادرة في هذه الثورات.

كان أكبر المفاجآت للرئيس البشير أن روح التغيير ورياحها التي أطلقتها الثورات العربية هبّت على شباب حزب المؤتمر الوطني الحاكم فتأثروا بها في وقت كان يُنتظر أن يأتي ذلك من قبل معارضيه, فواجه البشير مطالب قوية صريحة وجريئة بالتغيير من شباب وطلاب حزبه في لقاءات جمعته بهم في مارس/آذار 2011, فخرج البشير بجملة من الوعود تجاوبًا مع تلك المطالب، من بينها أنه لن يرشح نفسه للرئاسة في الانتخابات المقبلة, المقررة بعد ثلاثة أعوام, وأنه سيفتح الباب ليتبوأ الشباب مواقع القيادة, وسيجري تعديلاً وزاريًا لن يكون فيه وجود لمن تعدوا الستين من العمر, أو أمضوا عشر سنوات في مناصب وزارية, وتبنَّى حملة لمكافحة الفساد الذي أصبح الحديث عنه مثارًا بقوة, غير أن البشير تراجع عن الالتزام ببعض هذه التعهدات التي قطعها على نفسه حين حان وقت الوفاء بها، كما تبين لاحقًا عند تشكيل الحكومة الجديدة, فازدادت حالة التململ والسخط والشك في حدوث إصلاح حقيقي في أوساط ناشطي الحزب الحاكم, وأدت بالتالي إلى إحداث حراك احتجاجي.

وتعبِّر "حرب المذكرات" عن مقدار التململ في أوساط أركان الحكم السوداني وشعورهم بانعدام اليقين في المستقبل، حيث دخل الرئيس البشير على خط الجدل الدائر في الصحافة المحلية حولها, فانتقد في حوار بثه التلفزيون الحكومي هذه الحراك الاحتجاجي وأنكر على رافعي هذه المذكرات فعلتهم وهدد بمحاسبتهم على تجاوزهم مؤسسات الحزب, غير أن أهم ما كشفت عنه انتقادات البشير إعلان رفضه لأية وصاية من أي "كيان كان" على المؤتمر الوطني الحاكم في إشارة واضحة إلى "الحركة الإسلامية"؛ مما يُنبئ عن صراع مستتر حولها في قمة السلطة إثر تصاعد المطالب بإعادة إحياء دورها الذي تقلَّص منذ الانقلاب, ولا يزال يتقلص بشكل أكبر بعد الانقسام؛ فالجزء الذي انحاز للبشير أصبح بقيادة نائبه الأول علي عثمان طه يتحاشى لعب أي دور سياسي خارج إطار المؤتمر الوطني, مكتفيًا بدور دعوي, ويقول مطلعون: إن تصريح البشير الرافض لما يصفه بوصاية "أي كيان" على المؤتمر الوطني يأتي في وقت يدور فيه جدل بين فريقين ينادي أحدهما -الذي يقوده البشير- بحل "الحركة الإسلامية" ودمجها في المؤتمر الوطني, بينما ينادي الفريق الآخر بقيادة نائبه علي عثمان باستمراريتها لأداء أدوار دعوية لا يتسنى القيام بها من داخل الحزب الحاكم, فيما يُنتظر أن تعقد "الحركة" في وقت لاحق من هذا العام مؤتمرًا عامًا لانتخاب قيادة جديدة لها بعد انتهاء مدة ولاية أمينها العام الحالي علي عثمان, وفي كل الأحوال يُتوقَّع أن يؤدي الحراك الذي أحدثته المذكرات الاحتجاجية إلى حصول حالة قوية من الجدل وسط الإسلاميين الذين شرعوا في انتقادات متزايدة للنظام الحاكم مع تزايد إدراكهم لوصوله إلى طريق مسدود, كما يُتوقَّع أن يشتد الاستقطاب والصراع من أجل تحديد مستقبل "الحركة الإسلامية" وعلاقتها بالنظام الحاكم, وهو أمر سيكون له بالضرورة انعكاس كبير على مستقبل الحكم.

غير أن أكبر تأثير سلبي وقع على الحكم في الخرطوم بتأثير ثورات الربيع العربي، جاء للمفارقة بسبب صعود الإسلاميين الذي رافقها, فقد ظهر النظام السوداني المستند على "مشروعية إسلامية" كمن يسبح عكس التيار؛ ففي حين بدت الحركات الإسلامية في المنطقة جزءًا مهمًا من عملية التغيير والتحرر من أنظمة استبدادية ونالت ثقة شعبية معتبرة, كان وضع الحكم "الإسلامي" في الخرطوم في الموقع المغاير، مصنفًا في جبهة النظام العربي المتسلط المرشح لأن تطوله ثورات التغيير, وزاد من صعوبة الأمر أن قادة الحركات الإسلامية الصاعدة في المنطقة نأوا بأنفسهم عن تجربة حكم "الحركة الإسلامية" في السودان، ورأت فيها نموذجًا فاشلاً أدى إلى تقسيم البلاد، وسقوطها في أتون حروب أهلية، وردَّة قبلية، وتخلف اقتصادي وتنموي, وفضلت عليها النموذج التركي لحزب العدالة والتنمية على الرغم من حاضنته العلمانية, وقد تسبب ذلك في خسارة معنوية كبيرة للنظام في الخرطوم الذي حاول عبثًا أن يجد لنفسه موقعًا في هذه التحولات، زاعمًا أنه صاحب المبادرة في الربيع العربي بمجيئه للسلطة في العام 1989، مغفلا استخدامه للقوة في الوصول إليها, وللحفاظ عليها كذلك.

رحل الجنوب ولم يأت السلام

كان رهان الخرطوم أن القبول بانفصال الجنوب سيكون ثمنًا باهظًا حقًا, ولكن بالمقابل سيشكِّل حلاً جذريًا لأزمات النظام الخارجية والداخلية؛ فاستمرار الحرب التي جرَّت عليه ضغطًا دوليًا كبيرًا سينتهي وسيُفتح الباب للتطبيع مع المجتمع الدولي, كما سينتهي أيضًا خطر الحركة الشعبية التي كان النظام يراها المهدد الحقيقي لبقائه في السلطة في ضوء ضعف المعارضة الشمالية, كما سيرفع الانفصال عن كاهله كلفة الحرب الثقيلة عسكريًا واقتصاديًا، وسيوفر له فترة من الهدوء ينعم فيها بسنوات إضافية في السلطة دون منغصات.

غير أن أيًا من حسابات الحكم في الخرطوم في الرهان على تسوية نيفاشا لم يتحقق, فقد تبين بأسرع مما هو متوقع أن الانفصال ليس حلاً لأزمات السودان, بل أصبح مدخلاً لأوضاع أكثر تعقيدًا, فقد تسارعت وتيرة السيناريو الأسوأ الذي كان، للمفارقة، الرئيس البشير نفسه أول من حذَّر من حدوثه حين أعرب عن خشيته من أن يتم تقسيم البلاد ولا يتحقق السلام وتعود الحرب, وهو ما حدث مع تباشير الانفصال حين اندلعت الحرب في ولاية جنوب كردفان بين القوات الحكومية وقوات الحركة الشعبية التابع لقطاع الشمال, ثم ما لبث أن لحقت بها بعد شهرين في سبتمبر/أيلول 2011 حرب أخرى اندلعت بين الطرفين في ولاية النيل الأزرق, لتشكِّل الولايتان المتاخمتان لدولة جنوب السودان ما بات يُعرَف بـ"الجنوب الجديد"، وهو تشبيه بالصراع التاريخي بين الشمال والجنوب الذي دام عقودًا.

وزادت التحديات العسكرية بعودة الحرب قبل أن يهنأ الحكم بهدنة سلام بعد الانفصال؛ إذ شكَّلت الحركة الشعبية–قطاع الشمال تحالفًا مع ثلاث من الحركات المسلحة المهمة في إقليم دارفور الرافضة لوثيقة السلام التي تم التوصل إليها في منبر الدوحة بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة, ليتم تشكيل ما بات يعرف بـ"تحالف الجبهة الثورية السودانية"، أو تحالف كاودا نسبة إلى مكان نشوئه في معقل الحركة الشعبية بجنوب كردفان، الذي أعلن أن هدفه إسقاط النظام بالوسائل كافة بما في ذلك القوة العسكرية, ليمتد "هلال التمرد" الجديد من دارفور غربًا مارًا بولاية جنوب كرفان جنوبًا وولاية النيل الأزرق في الجنوب الشرقي.

وعلى الرغم من أن تحالف كاودا, لم يحظ بدعم دولي كما كان ينتظر أصحابه، حيث أعلنت الولايات المتحدة، على لسان مبعوثها الرئاسي للسودان السفير برنستون ليمان, معارضتها لاستخدام القوة لتغيير النظام مفضلة سيناريو إصلاحه دون أن تفصح عن كيفية ذلك, كما أن التحالف لم يقم حتى الآن بعمليات عسكرية كبيرة ضد النظام, فضلاً عن أنه أصيب بنكسة كبيرة إثر مصرع خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة أحد أبرز أضلاعه، وإن تعزز بنجاح قواته في عبور دارفور والانضمام إلى قوات التمرد في جنوب كردفان, إلا أنه مع كل ذلك بات يشكِّل مصدر قلق كبير للحكومة السودانية التي بات يتعين عليها أن تقاتل في أكثر من جبهة في مواجهة حرب عصابات مكلِّفة ومرهقة للغاية لجيش نظامي؛ فالقوات المسلحة السودانية تبسط سيطرتها الكاملة على المدن في الولايتين إلا أن سيطرتها تبقى محدودة خارجها، مما يتيح مجالاً واسعًا أمام تكتيك حرب العصابات الذي يخوضه المتمردون.

كما أن تحالف "هلال التمرد" يشكِّل ضغطًا عسكريًا إضافيًا على الحكومة السودانية في ظل استمرار التوتر مع دولة الجنوب بسبب الفشل في تسوية القضايا العالقة: النفط ومنطقة أبيي المتنازع عليها وترسيم الحدود, مع ازدياد نبرة التهديد بحرب شاملة متبادلة بين الطرفين. وعلى الرغم من توقيع الدولتين على اتفاق عدم اعتداء في أديس أبابا بواسطة إفريقية لنزع فتيل الحرب بعد انهيار محادثات تقاسم النفط, فسيبقى وقف دعم الجماعات المتمردة على حكومة كلتا الدولتين المنصوص عليها في الاتفاق غير واقعي في ضوء بقاء جذور الأزمة بلا حلول حاسمة.

وداعًا للنفط

بدت الحكومة السودانية مرتبكة أمام سرعة وحجم التأثير السلبي الكبير على الأوضاع الاقتصادية جرَّاء الانفصال, الذي كان متوقعا أن حدوثه سينهي صيغة تقاسم العائدات النفطية مناصفة بين الخرطوم وجوبا والتي كانت تشكِّل شريان الحياة للاقتصاد السوداني الذي ظل يعتمد عليها طوال العقد الماضي؛ حيث كان يشكِّل نحو ثلثي موارد الموازنة العامة, وأكثر من تسعين بالمائة من موارد النقد الأجنبي, فجاء الانفصال لتفقد الخرطوم فورًا مصادر مواردها المالية السخية الآتية من النفط دون أن تكون مستعدة ببدائل حقيقية لتغطية العجز الكبير. لم تكن المشكلة متعلقة بتبعات الانفصال مباشرة ولكن بفشل الإدارة الاقتصادية للحكومة السودانية، فقد توفرت لها موارد مالية تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات طوال السنوات العشر الماضية من العائدات النفطية, وبدلاً من إنفاقها في مشروعات إنتاجية تستفيد من موارد السودان الطبيعية الكامنة الضخمة لتحقيق تنمية مستدامة تضمن موارد بديلة للدولة, أنفقتها الحكومة بسخاء في سد عجز الموازنة العامة التي يذهب أكثرها في الإنفاق العسكري والأمني لأغراض تأمين النظام, وفي الإنفاق السياسي على أجهزة الحكم.

وحين استبانت الحكومة متأخرة اقتراب موعد الانفصال وتبعات فقدان العائدات النفطية دون استعداد لعواقبه, قضت المزيد من الوقت في محاولة إنكار الآثار الاقتصادية المترتبة عليه, بدلاً من العمل على تدارك الوضع منذ وقت مبكر, فلم تمر سوى أشهر قليلة على الانفصال حتى تبينت فداحة آثاره الاقتصادية، كالارتفاع الكبير للأسعار, وتدهور قيمة العملة السودانية حتى فقدت مائة بالمائة من قيمتها, ولا تزال التأثيرات السلبية مستمرة على الاقتصاد بسبب تعثر محاولات الحكومة الحصول على قروض أو منح من الدول العربية الغنية, وتدني الإنتاج الزراعي هذا العام الذي تراجع بنسبة خمسين بالمائة من إنتاج عام 2011.

ويزيد من تفاقم الوضع الاقتصادي أن البرنامج الإسعافي الذي تبنَّته الحكومة لمواجهة هذا المأزق والخروج منه في غضون ثلاث سنوات, لم يُثبت نجاعته، ليس بسبب التأخر في تبنيه فحسب بل بسبب أن النظام لم يغير من أسلوب إدارة الحكم، فقد تخلّى عن أول تعهدات البرنامج الإسعافي بتخفيض وترشيد الإنفاق الحكومي بالمزيد من التوسع فيه، فقد جاء تشكيل أول حكومة بعد الانفصال مخالفًا لكل التوقعات لتضم ما يناهز المائة وزير في حكومة غير مسبوقة من حيث حجمها ليس في السودان فحسب بل كذلك في المنطقة, وتمت إضافة المزيد من الولايات بما يعني المزيد من الأعباء في الصرف الحكومي, وبرر الرئيس البشير هذا التوجه المخالف لتعهداته السابقة بتشكيل حكومة "رشيقة"، بأنه يهدف إلى ضمان أكبر قدر من "الإرضاء السياسي" باستقطاب معارضين وضمهم للحكم.

وما يفاقم الوضع الاقتصادي ليس سوء الأداء الحكومي فحسب وعجزه عن الوفاء بمتطلبات الإدارة الكفؤة وفق معايير الجدوى الاقتصادية, بل أيضًا بسبب إعادة إنتاج الحرب في "الجنوب الجديد", فحتى في حالة عدم وجود معارك ساخنة مع الجماعات المتمردة فإن دواعي الحفاظ على حالة الاستعداد العسكري والأمني تتطلب إنفاق المزيد من الأموال، الشحيحة أصلاً، على الحرب والاستعداد لها, وليس في مشروعات اقتصادية تنموية تسهم في التخفيف من وطأة الأزمة.

في مرمى التدخل الخارجي

لا تقتصر الضغوط التي يعانيها الحكم في الخرطوم على العوامل الداخلية من قبيل دعاوى الإصلاح من مؤيدي النظام أو مطالب التغيير من معارضيه, والضغوط العسكرية من الجماعات المتمردة المعززة باستمرار التوتر مع دولة الجنوب, ومن المصاعب الاقتصادية, بل كذلك الضغوط التي تضيفها العوامل الخارجية، وتبرز هنا بشكل خاص مسألة المحكمة الجنائية الدولية التي لا تزال متمسكة بمذكرتها لتوقيف الرئيس البشير الصادرة منذ مارس/آذار 2009, على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات في دارفور, وتجدد تحرك المحكمة الجنائية الدولية من خلال سعي مدعيها العام إلى إصدار مذكرة توقيف بحق وزير الدفاع، الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، المقرب من البشير وحليفه القوي, ويأتي تحريك ملف حسين بصورة مفاجئة بعد سنوات من صمت المحكمة تجاهه، حسب مراقبين، كرسالة من جهات دولية نافذة لتضييق الخناق على الجناح العسكري لنظام الإنقاذ.

علاوة على ذلك، تلوح في الأفق بوادر تدخل دولي قد يتصاعد لأسباب إنسانية على خلفية اتهام واشنطن للخرطوم بعرقلة عمليات الإغاثة الدولية للمتضررين من عودة الحرب في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان؛ فالحكومة السودانية تصر على سماح مشروط لوكالات الأمم المتحدة بتقديم العون الإنساني للنازحين عبر المفوضية الحكومية المختصة بذلك، خشية أن تتسرب المساعدات الإنسانية إلى المتمردين على غرار ما تقول الحكومة إنه حدث إبان عملية شريان الحياة أثناء الحرب في جنوب السودان، لكن وردت تصريحات من مسؤولين أميركيين بأنهم يدرسون خيار التدخل لأغراض إنسانية إن استمرت الخرطوم في موقفها الرافض.

احتمالات المستقبل

كانت آخر محاولات النظام لمواجهة تحديات ما بعد الانفصال مبادرته لتشكيل "حكومة عريضة" بغرض توسيع قاعدة الحكم بضم أحزاب المعارضة الكبيرة, خاصة الاتحادي بزعامة محمد عثمان الميرغني والأمة بزعامة الصادق المهدي, وبعد مرور أشهر على إعلان هذه الحكومة التي شارك فيها الميرغني بصورة كاملة, وشارك فيها نجل المهدي وبقي بحزبه معارضًا, لا يبدو أنها أحدثت انفراجًا كبيرًا في المشهد السياسي المحتقن, في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية القاسية, والضغوط العسكرية في "هلال التمرد" والتوتر المتزايد مع دولة الجنوب, فيما لا يزال اتفاق الدوحة للسلام في دارفور يتلمس طريقه للتنفيذ وسط تحديات جمة.

وأمام السخط المتزايد وتناقص قدرات الحكومة ومواردها على تنفيسه، فإن هناك سيناريوهات لتطور الأوضاع في السودان, وهي تعتمد في ذلك على المواقف التي سيسلكها النظام:

  1. الأول: يبادر إلى تغيير منهجه الإقصائي الراهن، ويوافق على التحول إلى وضع انتقالي يتم الاتفاق على ترتيباته مع القوى المعارضة السياسية والعسكرية الفاعلة، ورسم خريطة طريق باتجاه تحول سلمي ديمقراطي كامل.
  2. الثاني: يصر النظام على المضي قدمًا في رفض أي تحول عميق في أسلوب إدارته للأزمات الخانقة التي تمر بها البلاد, ومقاومة أية محاولة للتغيير, فتتصاعد حالة الاحتقان، وتصير غير قابلة للاستمرار؛ مما يقود لواحد من ثلاث احتمالات:
  • الأول: حدوث انقلاب قصر، مدعوم بغطاء دولي، يمهد الطريق لوضع انتقالي يسهم في إحداث تغيير سلمي.
  • الثاني: حدوث ثورة شعبية قد يقلِّل من كلفتها الإنسانية انحياز المؤسسة العسكرية إليها، كما حدث في ثورتي أكتوبر/تشرين الأول 1964 وإبريل/نيسان 1985.
  • الاحتمال الثالث: أن تحاول حركات "هلال التمرد" إثبات جديتها في سعيها لإسقاط النظام بالقوة وهو ما قد يقود في الغالب إلى وضع غير حاسم يوسِّع من نطاق الحرب الأهلية.