إيران: أزمة الخارج وأزمة الداخل

إيران تواجه أزمتين: أزمة خارجية متفاقمة، تتصاعد على خلفية من أزمة داخلية مستحكمة. في كلتا الحالتين، يمسك نظام الجمهورية الإسلامية بالعدد الأقل من خيوط الأزمة، مما يجعل قدرته أضعف في تقرير اتجاه الأحداث.
20122212619845734_2.jpg
بالنظر إلى أن الحكم في إيران اعتاد إمضاء سياساته وتعظيم نفوذه بصورة هادئة، فإن صوت إيران العالي نسبيًا في الخليج ربما يعكس شعورًا بالضعف والارتباك أكثر منه بالقوة والثقة بالنفس (الجزيرة)

خلال أسابيع قليلة، من نهاية العام المنصرم وبداية هذا العام، تصاعدت أزمة علاقات الجمهورية الإسلامية في إيران بالدول الغربية ودول الجوار العربية، إضافة إلى تركيا. وقد ردت إيران على تفاقم أزمة علاقاتها الخارجية من جهة، بتصريحات تهديدية، توحي بأنها سترد بالقوة على مخططات حصارها، ومن جانب آخر رحبت بالحوار مع الغرب تحت رعاية تركية. وتعود الأزمة الإيرانية الخارجية إلى عدة اعتبارات، الأول: يتعلق بمصير الحليف العربي الإستراتيجي الرئيس، سوريا، الذي بات مهددًا بالسقوط. الثاني -وإن بدرجة أقل- يخص المباحثات المرتقبة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان. والثالث: يتعلق بالتأكيد بالمشروع النووي الإيراني. والرابع: يتعلق بما يراه الإيرانيون تحركات غربية للإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية.

بيد أن أزمة إيران الداخلية، لا تقل وطأة عن أزمتها الخارجية. والمشكلة هذه المرة لا تخص الصراع المحتدم بين معسكري المحافظين والإصلاحيين، الذي رسم ملامح الساحة السياسية الإيرانية طوال سنوات، بل بمشكلة الرئيس الإيراني محمد أحمدي نجاد، الذي غامر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، بسمعته من أجل دعمه وتأمين رئاسته الثانية بعد انتخابات صيف 2009، التي ثارت الشبهات حول نزاهتها وفجرت حركة احتجاج شعبية واسعة.

الأزمة الخارجية

تفاقمت أزمة إيران الخارجية خلال شهري ديسمبر/كانون الأول 2011 ويناير/كانون الثاني 2012، كما لم تتفاقم من قبل؛ ففي حين بدا أن محاولات الرئيس السوري بشار الأسد لإخماد الثورة الشعبية والمحافظة على نظامه تبوء بالفشل، أثارت مساعي الحليف الآخر، رئيس الوزراء العراق نوري المالكي، لتعزيز قبضته على مقدرات الدولة العراقية، بعد الانسحاب الأميركي، أزمة سياسية محتدمة.

قبل شهور قليلة فقط، بدا أن التحالف الذي تقوده إيران من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت هو المحور السياسي الأكثر أمنًا وسيطرة في الإقليم. ولكن إصرار الثوار على تحدي النظام، والانشقاقات المتسعة في الجيش السوري، وبروز المجلس الوطني باعتباره الممثل الأكثر شرعية للمعارضة السورية، وانحياز تركيا وقطر وعدد من الدول العربية الأخرى للحراك الجماهيري السوري، يزيد من الضغوط على نظام الرئيس الأسد. وقد حاولت إيران حثيثًا، باتصالات مباشرة وغير مباشرة، فتح قنوات مع قوى المعارضة السورية الإسلامية، في سعي منها للتوصل إلى صيغة وسط، تؤمِّن بقاء الرئيس الأسد وصلاحياته العسكرية والأمنية، مع إجراء إصلاحات دستورية تجعل التدافع السياسي مقصورًا على رئاسة الحكومة. ولكن هذه المساعي باءت بالفشل.

من جهة أخرى، نظرت إيران إلى الانسحاب الأميركي من العراق باعتباره نصرًا كبيرًا لنفوذها، وفرصة لتعزيز قبضة حلفائها العراقيين على البلاد. ولكن الخطوات المتسرعة التي تبناها المالكي للإطاحة بخصومه في القائمة العراقية وإخضاع سنة العراق لسيطرة حكومته، أدت إلى اندلاع أزمة سياسية كبرى في البلاد. ولا تقتصر مشكلة إيران والمالكي على مقاطعة وزراء ونواب القائمة العراقية للبرلمان ومجلس الوزراء قبل أن يقرروا العودة للأول ويدرسوا العودة للثاني، بل وتطول مخاوف قوى شيعية أخرى، مثل التيار الصدري، من سياسات المالكي التحكمية، واقتراب القوى الكردية المتزايد من القائمة العراقية. وليس ثمة شك في أن موقف التحالف الكردستاني الإيجابي، لاسيما رئيس الإقليم الكردي البرزاني، من الثورة السورية، والمناهض لسياسات المالكي، يشكِّل ضربة غير متوقعة ولا محسوبة للسياسة الإيرانية في العراق وسوريا.

من جهة ثالثة، تستبطن التحركات الأميركية لبدء حوار مع حركة طالبان اعترافًا أميركيًا بأن الاستقرار في أفغانستان غير ممكن التحقق بدون أن تكون طالبان جزءًا من مستقبل البلاد. وبالنظر إلى الخصومة القديمة بين طالبان وإيران، فإن احتمالات عودة طالبان للحكم في كابل، وإن بصورة غير منفردة، يقرع أجراس الخطر في طهران.

وإن كان الوضع القلق لكل من سوريا والعراق وأفغانستان يهدد النفوذ الإيراني الإقليمي، فإن حزمة العقوبات الجديدة التي تعمل كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على تطبيقها، تهدد الأمن الاقتصادي الإيراني كما لم يتهدد منذ ولادة نظام الجمهورية الإسلامية. تستهدف هذه الحزمة من العقوبات مقاطعة غربية شاملة للنفط والغاز الإيرانيين، وفرض عقوبات موازية على الشركات العالمية التي تعمل في قطاع الطاقة الإيراني؛ مما قد يؤدي إلى إيقاف صادرات إيران النفطية ليس للدول الغربية وحسب، بل ولدول مثل اليابان، وربما الصين كذلك. إن طُبقت إجراءات المقاطعة بصرامة كافية، فستَحرِم الخزانة الإيرانية من عدة مئات الملايين من الدولارات يوميًا، فيُصاب الاقتصاد الإيراني بالشلل.

كان رد الفعل الأول على إعلان حزمة العقوبات الجديدة تراجعًا ملموسًا في سعر العملة الإيرانية، لم يتوقف إلا بتدخل كبير من البنك المركزي الإيراني. ولكن هناك ما هو أهم؛ فقد أوردت تقارير متداولة أن السوق المالية في دبي خلال ديسمبر/كانون الأول 2011 شهدت تدفقًا هائلاً للمدخرات الإيرانية الخاصة، بالعملات الأجنبية، شبَّهه أحد المدراء الماليين بتدفق أموال الطبقة المصرية الحاكمة في فبراير/شباط 2011.

الرد الإيراني

ردت طهران على المخاطر التي تهددها بعدة خطوات؛ ففي سوريا، لا تزال تعتبر نظام الأسد حليفًا إستراتيجيًّا، وتؤكد التزامها باتفاقية التعاون الدفاعي المشترك. وفي العراق، تمارس طهران ضغوطًا لمنع القوى السياسية الكردية من التحالف مع القائمة العراقية، كما تمارس ضغوطًا مشابهة لاحتواء معارضة التيار الصدري والمجلس الأعلى لرئيس الحكومة المالكي. وليس من الواضح بعد كيف ستتعامل إيران مع المباحثات الأميركية المتوقعة مع طالبان.

بيد أن الردود الإيرانية على التحدي الخارجي الأكبر، المتمثل بالعقوبات الغربية، تتسم بقدر من المناورة؛ فمن ناحية، وافقت طهران على استئناف المباحثات حول ملفها النووي مع الدول الغربية في إسطنبول. وفي الوقت ذاته، أجرت سلسلة من المناورات البحرية الاستعراضية في مضيق هرمز، بداية من 23 ديسمبر/كانون الأول 2011، مؤكدة عزمها إغلاق المضيق بالقوة في حال منعوا تصدير نفطها، ومهددة حركة الملاحة الأميركية في الخليج. كما وجهت طهران تحذيرات صريحة للسعودية، ودول الجوار الخليجية الأخرى المصدرة للنفط، من تعويض السوق الدولية عن النفط الإيراني، إن توقفت صادراتها النفطية جزئيًا أو كليًا. وكان مسؤولون سعوديون قد أفادوا بأن بلادهم قادرة على رفع إنتاجها من النفط بكمية تساوي حجم التصدير الإيراني البالغ 2,4 مليون برميل.

يوم الجمعة، 13 يناير/كانون الثاني 2012، نشرت النيويورك تايمز الأميركية خبرًا يفيد بأن الرئيس الأميركي أرسل للقيادة الإيرانية رسالة تحذير قاطعة من إغلاق مضيق هرمز، داعيًا لمباحثات أميركية-إيرانية مباشرة. وفي مواجهة الضغوط، أكد وزير الخارجية الإيراني (19 يناير/كانون الثاني 2012)، أثناء زيارة له للعاصمة التركية، أن بلاده لم تخطط مطلقًا لإغلاق مضيق هرمز؛ كما صرح مصدر إيراني بعد ذلك بيومين بأن وجود السفن الأميركية في الخليج هو أمر عادي.

المتوقع، على أية حال، أن لا تسفر محادثات إسطنبول بين إيران ومجموعة الدول الغربية عن أي تراجع ملموس في موقفي الطرفين؛ فقد أعلنت إيران في أكثر من مناسبة، وعلى لسان أكثر من مسؤول، بما في ذلك مرشد الجمهورية، أنها لن توقف برنامجها النووي. ولا يبدو أن العقوبات الغربية على النفط الإيراني ستكون فعالة وكافية لثنيها عن مواصلة مشروعها. لكن النزاع بينهما سيظل تحت السيطرة، فبالرغم من أن المقدرات الإيرانية العسكرية تستطيع بالفعل إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر منه يوميا 17 مليون برميل من النفط، أي ما يقارب 35 بالمائة من حجم النفط العالمي المنقول بحرا؛ فإن إغلاق ممر بحري دولي بالغ الحيوية للاقتصاد العالمي يعني إعلانًا للحرب، ليس مع السعودية ودول الخليج العربية فحسب، بل ومع القوى الغربية أيضًا.

طوال السنوات القليلة الماضية، ومنذ طرح الملف النووي الإيراني على ساحة الجدل الإقليمي والدولي، وطهران تحاول جهدها تجنب الحرب مع الولايات المتحدة والقوى الغربية. وفي حال أُغلق مضيق هرمز، وحاولت القوات الأميركية البحرية فتح المضيق، فلن تلبث الحرب أن تنشب. ولا يجب أن يكون هناك شك في أن اندلاع الحرب سيوقع خسائر بالغة بإيران. وهذا ما يجعل خياراتها في هذا المجال محدودة إلى حد كبير. وسيكون على الجميع انتظار ما إن كانت مباحثات أميركية-إيرانية ستجري بالفعل، وما إن كانت ستتناول مسألة التوتر في الخليج أو ستتحول إلى مباحثات حول صفقة إستراتيجية.

على جميع الجبهات السابقة: سوريا والعراق والملف النووي، تواجه إيران لحظات عصيبة، فخياراتها أقل وهامش مناورتها أضيق مما كان.

الأزمة الداخلية

لم تنحصر متاعب إيران في جبهاتها الإقليمية فقطً، بل إن الأعباء التي تلقيها الأزمة الداخلية على كاهل نظام الجمهورية الإسلامية لا تقل أثرًا. وتنبع الأزمة الداخلية من التدهور البالغ في العلاقات بين رئيس الجمهورية، أحمدي نجاد، والمرشد على خامنئي ومعه طيف واسع من الكتلة السياسية المحافظة، التي تتمتع بأغلبية مقاعد البرلمان وتسيطر على مقدرات الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية.

والأزمة وإن بدت في الظاهر خلافًا حول شخصية، إسفنديار رحيم مشائي، مستشار نجاد ووالد زوجة ابنه، إلا أنها تندرج في سياق أوسع، هو التعارض بدرجات متفاوتة، منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، بين صلاحيات المرشد ورئيس الجمهورية؛ والموقف من الغرب بين القوى السياسية الإيرانية؛ وكذلك التنافس من الآن داخل جناح المحافظين على الانتخابات الرئاسية المقررة لسنة 2013.

فكثير من المحافظين القريبين من المرشد خامنئي يرون تمسك نجاد بقريبه مشائي، رغم أمر المرشد بالتخلي عنه، ليس تحديًا غير مقبول لسلطة المرشد وحسب، بل مسعى مستمرًا لضمان توليه الرئاسة في الانتخابات القادمة. ففي يوليو/تموز 2009، بعد انتخابات الرئاسة التي تسببت في انقسام بالغ في البلاد، عين نجاد صديقه الحميم نائبًا أول للرئيس؛ مما أثار حفيظة المحافظين، فاضطر إلى التخلي عن قراره؛ ولكن إلى حين فقط. ويقوي هذا الاحتمال في نظرهم العلاقة الوثيقة بين الرجلين، فهي تعود إلى مطلع التسعينيات، عندما كان نجاد محافظًا لأذربيجان، فضلاً عن أن مشائي، الذي تخرج في كلية الهندسة الكهربائية، كان لفترة عضوًا نشطًا في الحرس الثوري، تمامًا مثل الرئيس نجاد. وعندما شكَّل الأخير حكومته الأولى في 2005، عين مشائي وزيرًا للسياحة. ويقف المحافظون عند هذه الفترة، ليثيروا أسئلة حول مشائي وتوجهاته الإسلامية، لاسيما بعد أن نظمت وزارته احتفالاً، رقصت فيه فتيات بملابس تقليدية، وهن يحملن القرآن على أطباق.

وتتقاطع عند مشائي أيضًا الصراعات داخل النظام الإيراني حول الغرب وإسرائيل؛ ففي يوليو/تموز 2008، قال في تصريح شهير: إن إيران صديقة للشعب الإسرائيلي، وإنها لا تحمل عداء له. وبالرغم من أن محاولات بُذلت بعد ذلك للتملص من دلالات التصريح، فقد فُهم حينها أن نجاد لا يعترض على موقف صديقه.

القطاع الأكبر من المحافظين كان يدفع باتجاه الإطاحة بالرئيس، ولكن خامنئي يرى أن صعوبات سياسية ودينية تمنع مثل هذه الخطوة؛ إذ كيف يمكن للمرشد، الذي يتمتع بصفة نائب الإمام المهدي، أن يعلن دعمًا غير متحفظ لنجاد منذ توليه الرئاسة، وأن يخاطر بتأييد إعادة انتخابه في انتخابات 2009، في مواجهة رأي عام إيراني شكَّك في مصداقية الانتخابات، ثم يأتي اليوم ليعلن أنه أخطأ التقدير؟!

يبدو أن الأمور استقرت على أن يبقى نجاد في موقعه، مع تجريده، بصورة غير رسمية، من معظم صلاحياته. بمعنى، أن تتجاهل دوائر الجمهورية الحيوية، لاسيما الجيش وقوات الحرس الثوري ووزارة الخارجية، الرئيس وتوجيهاته، وأن يمارس البرلمان رقابة دقيقة وحاسمة على الوزارات الأخرى، لمنع الرئيس من اتخاذ قرارات تؤثر على الوضع الإستراتيجي للبلاد. وفي ضوء سيطرة أنصار المرشد ومعسكر المحافظين على أغلب دوائر الدولة، يمكن لمثل هذه الوضع الاستمرار؛ ولكن مخاطره تنبع من حالة فقدان اليقين التي تعيشها البلاد ومؤسسات الدولة والحكم، خاصة في ظل المخاطر التي تواجهها إيران، إقليميًا ودوليًا.

خاتمة

لم تمر الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها، التي رافقها انقسام داخلي عميق وانفجار للعنف بين القوى السياسية المتصارعة وحرب طويلة مع العراق، بوضع أكثر حساسية من الوضع الحالي. والسبب خلف الوضع الإيراني القلِق أن أزمة الخارج المتفاقمة، تتصاعد على خلفية من أزمة داخلية مستحكمة. في كلتا الحالتين، يمسك نظام الجمهورية الإسلامية بالعدد الأقل من خيوط الأزمة، مما يجعله أعجز عن تقرير اتجاه الأحداث. وبالنظر إلى أن الحكم في إيران اعتاد إمضاء سياساته وتعظيم نفوذه بصورة هادئة، فإن صوت إيران العالي نسبيًا في الخليج ربما يعكس شعورًا بالضعف والارتباك أكثر منه بالقوة والثقة بالنفس.

حالة فقدان اليقين، والشعور بأن الدولة تعيش مرحلة انتقالية بانتظار نهاية فترة الرئيس الثانية، تفتح الساحة السياسية الإيرانية على مختلف الاحتمالات. وليس من المحسوم أن أزمة الرئاسة تصب لصالح معسكر الإصلاحيين؛ فالمعسكر المحافظ سيقاتل بأسنانه وأظافره للحفاظ على موقعه في جسم النظام والدولة، سواء في الانتخابات البرلمانية المقبلة أو انتخابات الرئاسة في العام القادم. وربما تدفع الأزمة الداخلية المحافظين لإظهار تشدد أكبر في التعامل مع تحديات الخارج، بما في ذلك الملف النووي. ولكن الواضح أن حزمة العقوبات الغربية الجديدة، حتى إن لم تقم كل الدولة المعنية بتطبيقها، صُمِّمت لتحقيق ركوع سياسي كامل أو دفع إيران إلى الحرب. وفي كلتا الحالتين ستكون العواقب وخيمة بالتأكيد.

مخرج إيران المتبقي هو بدء مباحثات مباشرة مع الولايات المتحدة، كما اقترح أوباما. وسيكون السؤال حينها ما إن كانت القيادة الإيرانية على استعداد لتقديم تنازلات مؤلمة، إقليمية ونووية، وما إن كان في جعبة إدارة أوباما ما يكفي من المكافآت الاسترضائية.