عُمان: السلطان هيثم وتحدي السياسة الخارجية

وعد السلطان هيثم بمواصلة سياسة الحياد الإيجابي، لكنه يواجه لتحقيق ذلك تحديين: الصعوبات الاقتصادية الداخلية، والضغوطات الإماراتية.
(رويترز)
السلطان هيثم الاستمرارية في ظروف مختلفة(رويترز)

تستعرض هذه الورقة تحدي السياسة الخارجية لسُلطان عُمان الجديد، هيثم بن طارق السعيد، والذي تكشفت ملامحه بالفعل قبل وفاة السلطان قابوس بسنوات عدة. يكمُن التحدي في رغبة السلطنة في الحفاظ على سياسة الحياد الإيجابي، والصعوبة الكامنة في تسيير دفة تلك السياسة في ظل تعقد المنظومة السياسية الخليجية والاستقطاب الحاصل فيها، وصعود ما يمكن تسميته بـ"التحدي الإماراتي". يُضاف إلى ذلك تحدي التنمية الاقتصادية داخل عُمان، والذي يكمن فيه مفتاح التقدم نحو دور أكثر قوة واستقلالية في الخليج والإقليم ككُل؛ قوة واستقلالية تحتاجهما عُمان أكثر من أي وقت مضى، ولا يعرقلهما سوى إرث الإدارة المتحفظة المسيطر على السياسة الداخلية. يملك السلطان هيثم مساحات خارجية أقل مرونة للحفاظ على سياسة سلفه وسيتعرض لضغوط متنامية من أجل دفعه للانحياز نسبيًّا للأطراف الذين تحتاجهم عُمان لضمان أمنها مثل الولايات المتحدة، لكنه يملك على الناحية الأخرى إمكانية إجراء تحولات في الداخل قد تتيح له الحفاظ على الحياد العُماني على المدى البعيد.

قلما تحظى سلطنة عُمان بذات الاهتمام الذي تناله دول الخليج الأثقل وزنًا؛ فسياسة الحياد الإيجابي التي اتبعتها لعقود طويلة نأت بها عن بؤرة الضوء، وجعلتها محطة للوساطة الهادئة على عكس جيرانها الذين انخرطوا في صراعات عديدة بالشرق الأوسط. بيد أن الوساطة العُمانية الهادئة لعبت دورًا مركزيًّا في توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية، عام 2015، ومن ثم تحولت الدبلوماسية العُمانية الاستثنائية إلى لُغز لكثيرين؛ يمكن فهمه بالنظر لتاريخ السلطنة الممتد والفريد بين دول الخليج.

بينما تشكلت النظم الخليجية في مرحلة متأخرة من التاريخ الحديث، فإن سلطنة عُمان كمؤسسة تمتلك تقليدًا أقدم وأعقد رغم ارتكازه في الأخير على شخص السلطان العماني. أبرز ملامح ذلك التقليد هو التموقع بعيدًا عن مجريات النظام الإقليمي العثماني سابقًا وفي القلب من النظام الإقليمي الإنجليزي-الهندي لقرن من الزمان تبلورت فيه العلاقة العُمانية مع بريطانيا والهند حتى ظهور النظام الإقليمي العربي. لم تكن البيئة الإقليمية العربية مواتية لعُمان، وشمل ذلك محور الجمهوريات الراديكالية بقيادة مصر ومحور الملكيات المحافظة بقيادة السعودية على السواء، والذين امتدت العداوة بينهم وبين السلطنة لسنوات حتى انحسرت خلال السبعينات(1).

مع طفرة النفط وصعود السلطان قابوس، بدأ اندماج عُمان الهادئ في النظام الإقليمي العربي، دون أن يمحو بالكامل آثار "التموقع البعيد" عن مرتكزاته الرئيسية، مثل الصراع العربي-الإسرائيلي ورفض الاعتماد الصريح عسكريًّا وأمنيًّا على الدول غير العربية؛ فقد احتفظت عُمان بالعلاقة الطيبة مع مصر بعد تطبيع الأخيرة مع إسرائيل، ومدت خطوط التواصل مع إسرائيل نفسها، كما استعانت بأريحية بالجيش الإيراني لمواجهة التمرد في ظفار، واحتفظت بالعلاقات الودية مع إيران بعد ثورتها الإسلامية، وأخيرًا ظلت على صداقتها الوطيدة بالهند على عكس موقف بقية دول مجلس التعاون الخليجي المنحاز إلى باكستان(2).

حافظ قابوس على إرث السلطنة الطويل، وساعده عاملان أساسيان في حماية دبلوماسية الحياد المنفصلة نسبيًّا عن أجندة النظام الإقليمي العربي: أولهما: الثقل النسبي لعُمان داخل الخليج حتى نهاية العقد المنصرم، فعُمان ثاني أكبر دولة خليجية جغرافيًّا وديمغرافيًّا، والثاني هو ثروة النفط -رغم محدوديتها مقارنة ببقية الخليج- التي منحته قاعدة مالية لتحديث الدولة في الداخل وحماية دبلوماسيتها في الخارج. بينما تشرع عُمان في خطواتها الأولى تحت حُكم السلطان الجديد، هيثم بن طارق، فإنها تجد نفسها أمام تحديين يعكسان بدء تآكل هذين العاملين المهمين ومن ثم التساؤل عن إمكانية الحفاظ على الحياد الإيجابي خلال العقد القادم: التحدي الإماراتي، والتحدي الاقتصادي الداخلي.

مُعضلة الدولة الصغيرة

تكمن مُعضلة سلطنة عُمان ابتداءً في بنيتها كدولة نظرًا لحجمها الصغير وتعدادها الضئيل مقارنة بدول العالم من حولها؛ فهناك أكثر من خمسين دولة أكبر منها حجمًا، في حين يقف تعدادها السكاني دون الثلاثة ملايين لتفوقها تعدادًا أكثر من مئة دولة في النظام الدولي(3) . يشير الباحثان، شتاينسون وثورهالسون، إلى أن الدول الصغيرة تعاني من الحدود التي تفرضها قدرتها على تشكيل مركز ثقل في إقليمها، واحتمالية وقوعها تحت سلطان دول أثقل منها يمكنها أن تهدد سيادتها أو تُخضعها على الأقل لضغوط سياسية، بالإضافة للتأثير السلبي للصراعات من حولها على استقرارها الهش، وكذلك السُّبل المحدودة لتحقيق تنمية اقتصادية متكاملة بتعدادها الضئيل(4).

تباعًا، تسعى الدول الصغيرة دومًا إلى الحصول على ضمانات لأمنها وسيادتها من أطراف خارجية ذات مركز ثقل في النظام الدولي، وهو ما نراه في تاريخ عُمان الطويل بالتعاون مع بريطانيا والهند ثم الولايات المتحدة. وتسعى الدول الصغيرة أيضًا إلى موازنة المخاطر الإقليمية المحيطة ببعضها البعض بدلًا من الانحياز الكامل لطرف على حساب آخر، وهو ما يتضح في الحالة العُمانية التي تحتفظ بمسافة بينها وبين السعودية وإيران على حدٍّ سواء. وترحب الدولة الصغيرة كذلك بالأُطر المؤسسية المنظمة التي تمنحها صوتًا مسموعًا وإقرارًا بسيادتها من الأطراف الأثقل في الإقليم مهما كانت خلافاتها معهم، وهو ما دفع بالعُمانيين إلى الانضمام لمجلس التعاون الخليجي فور تأسيسه رغم الخلافات الحدودية مع السعودية والإمارات(5).

أخيرًا، والأهم دبلوماسيًّا، تشرع الدولة الصغيرة في ممارسة دور الوساطة على مستويات عدة بين الدول المتناحرة في إقليمها، كما عُرفَت السياسة العُمانية في العقد المنصرم، حيث تتيح عملية الوساطة فائدة مزدوجة؛ فهي تقلِّل من حدة الاستقطاب الذي يشكِّل خطرًا على استقرارها الأكثر هشاشة بطبيعته من الدول الكبيرة، ويجعل منها نقطة ارتكاز دبلوماسية لحل الصراعات مما يمنحها وزنًا في النظام الإقليمي وصوتًا بين الدول الكبرى يفوق حجمها الطبيعي -الدور العُماني في الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران خلال الاتفاق النووي مثال واضح هنا- والرغبة أيضًا بلعب الوساطة في الصراع العربي-الإسرائيلي لما له من آثار بنيوية ممتدة على النظام الإقليمي العربي(6).

بالنظر للعوامل المؤسساتية التاريخية التي أسهمت في تبلور الدبلوماسية العُمانية كدولة متحررة من قيود النظام الإقليمي العربي، وللعوامل البنيوية التي تتشاركها مع الدول الصغيرة بشكل عام، وامتزاجهما معًا وتجليهما في سياسة الحياد الإيجابي التي اتبعتها السلطنة خلال عهد قابوس، ليس منتظرًا أن تكون هناك تغيرات جذرية في التوجه العُماني بالنظر لجذوره الواضحة في بنيتها كدولة وفي تاريخها كمؤسسة، وهو ما أكده السلطان الجديد بنفسه حين تعهد بالسير على خُطى قابوس في سياسته الخارجية و"الالتزام بالتعايش السلمي.. وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.. وحل الخلافات بالطرق السلمية"(7).

بيد أن استمرارية السياسة الخارجية العُمانية ستواجه تحديين رئيسيين: إقليميًّا يشكِّله صعود الإمارات وما يستتبعه من تغير الموازين الخليجية والإقليمية وضغط القوة الإماراتية الصاعدة على الدور العُماني مع علاقة أبوظبي الوطيدة بالإدارة الأميركية الحالية، وتحديًا آخر اقتصاديًّا/ماليًّا بسبب هبوط أسعار النفط ينعكس على استقرار عُمان الداخلي ووزنها خارجيًّا، ويؤثر سلبًا على استقلاليتها ومبادرتها الدبلوماسية في محيطها.

التحدي الإماراتي

تُعَد الإمارات ثالث أكبر دولة خليجية من حيث المساحة بعد سلطنة عُمان، ولا يتجاوز تعداد سكانها من الإماراتيين ثُلث نظيره العُماني، لكن الثروة النفطية الأكبر لدى أبوظبي منحتها باستمرار دورًا أوسع نسبيًّا من عُمان، دون أن تشكِّل بالضرورة فجوة كبيرة في القوة بين البلدين. بيد أن التوازن بين البلدين الأكثر أهمية بعد السعودية في المنظومة الخليجية بدأ في التغير مع مطلع القرن الجديد حيث شهدت المنطقة الطفرة الثانية لأسعار النفط بعد حرب العراق عام 2003، وهو ما نجحت الإمارات في استخدامه لتحقيق قفزة اقتصادية هائلة تغيرت معها البنية الاجتماعية الاقتصادية للمنطقة، في حين أتى الأداء الاقتصادي العُماني محدوداً لقلة التنويع والاستمرار في الاعتماد المفرط على النفط(8).

بالنظر لسيطرة عُمان على مضيق هرمز عبر شبه جزيرة مسندم المحاطة من كل الجهات من دولة الإمارات، تمتلك الأخيرة طموحات سياسية فيما يخص الدور العُماني تتراوح بين التأثير عليه من الداخل وعبر الضغط عليه، وصولًا للطموح نحو السيطرة الفعلية على مسندم والذي قاومته عُمان ضمنيًّا بسنِّ قانون لمنع تملك غير العمانيين لأراض بمناطقها الحدودية، عام 2018، بعد عمليات شراء قام بها إماراتيون(9). تجلى التوتر العُماني-الإماراتي لأول مرة عام 2011 حين كشفت عُمان رسميًّا عن خلية تجسس إماراتية تلتها خلية أخرى العام الماضي (2019)، وتنامى التوتر كذلك بسبب الخلافات حيال حصار قطر وحرب اليمن. يشكِّل الملف اليمني تحديدًا تحديًا للعلاقات العُمانية-الإماراتية والسعودية نظرًا لتوغلهما في محافظة المهرة اليمنية المتاخمة لعُمان، والتي يرتبط سكانها بصلات تاريخية وثقافية وقبلية بجيرانهم العمانيين(10).

بينما يتزايد الضغط على السلطنة نتيجة التدخل العسكري الإماراتي والسعودي، لا تجد مسقط أمامها اليوم سوى سياسة توطيد علاقتها بسكان المهرة، حيث قامت بتجنيس 69 شخصية من قبيلتي العطاس وبن عفرار عام 2017(11). في ظل الصراع المحتدم هناك، تلعب عُمان بورقة الوساطة المعتادة عبر تواصلها المفتوح مع الحوثيين؛ وساطة مارستها سابقًا طوال سنوات الحرب لإجلاء رعايا أجانب حين اقتحم الحوثيون صنعاء، عام 2014، وهو ما يمنحها مفاتيح دبلوماسية مهمة في الملف اليمني. غير أن احتدام الصراع واستمراره في النهاية نتيجة للوزن الذي تشكله كل من السعودية والإمارات وقدرتهما على الوجود العسكري على الأرض، لاسيما سيطرة الإمارات الفعلية على شبه جزيرة سقطرى ذات الأهمية الجيوسياسية ووجودها في الجنوب، يجعل من الوساطة الدبلوماسية الهادئة محدودة الأثر، ومن ثم تظل مخاطر تأثير تلك الحرب على الأمن العُماني واردة لتشكِّل تحديًا للسلطان هيثم طالما ظلت القوة العُمانية -العسكرية منها والاستخباراتية على وجه الخصوص- محدودة داخل البيت الخليجي بفعل تصاعد القوة الإماراتية وتحالفها الضمني مع السعودية والإدارة الأميركية الحالية.

بالتبعية، تنحسر الخيارات المتاحة للسياسة العُمانية -كما هي الحال حينما تتنامى الصراعات في البيئة الاستراتيجية لدولة صغيرة- لتتركها أمام خيار الاقتراب أكثر من الضامن الرئيسي لأمنها وهو الولايات المتحدة. كان اصطفاف من ذلك النوع على حساب أدوار أكثر حيادية قد بدأ في الظهور حين استضاف قابوس رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، ثم ظهرت بشكل أكثر وضوحًا بأول موقف علني للدبلوماسية العُمانية تحت قيادة السلطان هيثم بحضور السفيرة العُمانية لاجتماع الإعلان عن تصور إدارة ترامب للسلام، أو ما يُعرف بصفقة القرن (12)(13). كان الحضور العُماني للاجتماع مفاجأة لبعض متابعي الشأن العُماني، لكنه إشارة لاتجاه جديد في العلاقات العُمانية-الأميركية سيستمر حتى تتغير الإدارة الأميركية الحالية أو تتبدل الأوضاع الخليجية، لاسيما أن الوساطة في الصراع العربي-الإسرائيلي -على عكس الوساطة بين إيران والغرب- ليست مركزية جيوسياسيًّا، ومن ثم يصبح ضمان الدعم الأميركي، ومواكبة التقارب المتزايد بين إدارة ترامب وأبوظبي، وتجنب الصدام مع إسرائيل ولوبياتها في أروقة السياسية الأميركية، خيارًا عُمانيًّا عمليًّا.

لا تحبِّذ دولة أبدًا -لو مُنحت الاختيار- أن تكون على حدودها دولة أقوى منها، لاسيما في لحظة تنامي قوتها وتوسع حضورها الإقليمي، لكن هذا هو المنعطف الذي تجد عُمان نفسها عنده اليوم، وهو منعطف شبيه بما جابهته فرنسا في مواجهة بريطانيا ثم ألمانيا حتى منتصف القرن الماضي، وما واجهه العثمانيون سابقًا مع صعود الروس، وغيرها من نماذج تاريخية لتحول الخريطة الجيوسياسية والبنيوية لإقليم بعينه مع ظهور قوة جديدة. لكن التحول الخليجي الأبرز الذي شكله صعود الإمارات ليس تحديًا عسكريًّا وأمنيًّا محضًا بطبيعة الحال، فعلى غرار تلك النماذج التاريخية أيضًا يكمن خلف صعود أبوظبي تحول اجتماعي اقتصادي كبير خلال العقدين الماضيين، وهو ما ينقلنا إلى التحدي الثاني المركزي للسلطان هيثم في الداخل والخارج على السواء: التحدي الاقتصادي.

التحدي الاقتصادي

كغيرها من دول المنطقة العربية، شهدت عُمان تظاهرات كبيرة نسبيًّا، عام 2011، متأثرة بمجريات المنطقة العربية، وكانت الرواتب والبطالة محفزًا رئيسًا لتلك التظاهرات؛ مما دفع بالحكومة إلى تعزيز الإنفاق العام وتوسيع التوظيف داخل جهاز الدولة لاستيعاب تلك الموجة الاحتجاجية. أتت تلك التظاهرات على خلفية تعثر التحول إلى اقتصاد غير مرتكز على النفط كما كان مُزمعًا بحلول عام 2020، وغياب الطفرة المرجوة في جذب الاستثمارات وخلق الوظائف للعُمانيين، علاوة على غياب البنية التحتية التعليمية الضرورية ليتمكن العُمانيون من مواكبة كفاءة العمالة الأجنبية.

طوال العقد الماضي، تعقدت الأزمة بهبوط أسعار النفط؛ ما دفع بالحكومة لزيادة الإنفاق مجددًا ليرتفع بحوالي سبعين بالمئة بين عامي 2011 و2012، ويصبح العجز في الموازنة منذئذ سمة مستمرة للوضع المالي العُماني حتى العام الماضي(14). نتيجة لاعتمادها على النفط، وكغيرها من معظم دول الخليج، لا تُلبي البنية التعليمية كافة متطلبات البلد، مما يؤثر عليها سلبًا من عدة أوجه؛ أولها: غزارة العمالة الأجنبية في مناح اقتصادية شتَّى أهمها قطاع الإنشاءات والتجارة والخدمات، وثانيها: غياب فرصة تنمية حقيقية تعتمد على السكان العُمانيين على غرار ما قامت به كل من الإمارات وقطر من تطوير في التعليم أتاح دورًا مركزيًّا للعمانيين في الاقتصاد رغم استمرار حاجتهما للاعتماد على العمالة الوافدة(15).

لا يؤثر النقص في الوضع التنموي والقاعدة التعليمية على السوق بشكل مباشر فقط، بل يؤثر بطبيعة الحال على الدولة كمؤسسة وعلى السياسة الخارجية بشكل خاص، تمامًا كما يشي لنا الوضع الإماراتي الذي شهد طفرة في الملفين التنموي والتعليمي أسفر عن نقلة كبيرة في طبيعة المؤسسة الدبلوماسية وكوادرها في الخارج. على النقيض، تحتفظ عُمان بنهج إدارة متحفظ ورثته عن عهد سعيد بن تيمور واستمر جزئيًّا تحت حكم قابوس؛ حيث أدت مقاومة الانتفاضتين، الإمامية في الشمال واليسارية في ظفار، إلى نشأة نهج محافظ في ملف السياسة الداخلية عمد إلى حماية السلم الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي الذي حققه النفط طوال القرن العشرين، دونما إحداث طفرات اقتصادية أو اجتماعية أو بلورة دور سياسي على غرار ما فعلته كل من قطر والإمارات.

انعكس ذلك، ليس فقط بغياب التنمية خارج قطاع النفط، بل وباستمرار إمساك السلطان والمقربين منه بمفاتيح صنع القرار، مع محدودية في البنية مؤسسية -معتادة بين معظم الدول ذات الاقتصاد الريعي- صبغت الدبلوماسية العُمانية كغيرها من مؤسسات الدولة. ومن ثم، ستظل المُعضلة الرئيسية للسياسة الخارجية العُمانية -بعيدًا عن التحديات الخارجية- هي التحول إلى بناء مؤسسات عوضًا عن القيادة الكاريزمية للأشخاص، وهذا ما يوفر لها مناعة تحول دون نجاح محاولات الاختراق أو شراء الولاءات، ورغم الاستمرارية التي منحتها تلك الدوائر المشرفة على السياسة الخارجية العمانية لعقود، إلا أن الوضعين، الإقليمي والدولي، باتا يفرضان على عُمان تحولًا لمواكبتهما بمزيد من التحديث الاجتماعي والمؤسسي سيكون وحده ضمانة تبلور سياسة خارجية أكثر رسوخًا واستقلالية وحضورًا بين جيرانها(16).

يمكن القول إذن: إن التحديات الخارجية عمومًا، من تزايد الاستقطاب وارتكازه بالأساس على صعود الدور الإماراتي بعد الانتفاضات العربية وآثارها داخل الخليج، تشكِّل تحديًا للسلطان هيثم في المقام الأول بالنظر للتباين بين النموذجين، الإماراتي والعُماني، ومساراتهما على مدار العقدين الماضيين؛ وهُنا تكمُن مركزية الملف الاقتصادي للسياسة الخارجية. بالتبعية، لا يمكن تصور تبلور دور عُماني على المدى البعيد يمكنه أن يُحدث توازنًا مع الدور الإماراتي بدون ظهور نموذج تنموي عُماني يساعد على ترسيخ التحديث الاجتماعي والمأسسة الأوسع لملفات عدة أهمها السياسة الخارجية؛ وهي تنمية تملك عُمان على الأقل مقومات ديمغرافية جيدة للقيام بها مقارنة بالدول الصغيرة في الخليج، كما تملك إرثًا تاريخيًّا قادرًا على استيعابها أكثر من دول الخليج الأكثر حداثة تاريخيًّا ومؤسساتيًّا.

بدائل وخيارات

لعله لم يكن مفاجئًا وقوع اختيار قابوس على هيثم لخلافته، فالرجل هو المسؤول عن رؤية 2040 المركزية لمستقبل عُمان الاجتماعي والاقتصادي، لاسيما مع توقعات بعدم قدرة النفط على لعب دور مركزي في الاقتصاد بعد 2040؛ حيث يتبقى لعُمان اليوم ما يُقدر بخمسة مليارات برميل نفط فقط(17). في تلك الأثناء، وبينما يستمر العجز في الموازنة على المدى القريب، تنفتح سيناريوهات عدة منها اللجوء للبنك الدولي، وهو ما قد يحتم التحول نحو منظومة ضريبية أوسع سيكون تطبيقها محفوفًا بالمخاطر مع ركود مستويات المعيشة منذ 2014، أو اللجوء لدول الخليج المجاورة -كما حدث عام 2011 حين حصلت عُمان على دعم بقيمة عشرة مليارات دولار من دول الخليج(18). في الحالتين، ستضطر عُمان إلى ضبط سياستها الخارجية بما يتوافق مع الالتزامات المالية الخارجية، والراجح بالنظر لخلافاتها مع السعودية والإمارات واقترابها من الإدارة الأميركية حاليًّا أنها ستميل للبنك الدولي عند الحاجة عوضًا عن قيود جيرانها التي باتت تحديًا استراتيجيًّا أصلًا في السنوات الأخيرة.

خلاصة

اتساقًا مع تقليدها الدبلوماسي، تسعى عُمان دومًا للحفاظ على حياد إيجابي داخل النظام الإقليمي العربي الذي تُعَد روابطها به متحررة وحديثة نسبيًّا. بيد أن سلطانها الجديد، هيثم بن طارق، سيتحتم عليه مواجهة تحديين جديدين شَرَعَا في الظهور خلال العقد المنصرم: تحدي الوزن المتزايد للدور الإماراتي وما يشكِّله من صعوبات أمام قيام عُمان بدورها التقليدي، مُضافًا للتحالف بينها وبين السعودية وتعقيداته في اليمن وعلاقتهما الوثيقة مع الإدارة الأميركية، وتحدي التنمية الاقتصادية التي تطمح القيادة السياسية الآن إلى القيام بها وفق رؤية 2040.

حتى تجد عُمان حلًّا ناجعًا لاستيعاب هذين التحديين، ستكون بحاجة إلى الدعم الأميركي لسيادتها أكثر من أي وقت مضى، مما سيستتبع تعديل حيادها في بعض الملفات والاتساق بصورة أكبر مع مواقف الإدارة الأميركية. سيكون خيار الاقتراب خطوة من الأميركيين أخف وطأة على السلطنة من اللجوء للدعم الخليجي مع القيود الجمة التي سيفرضها الأخير على دبلوماسيتها في اليمن ومع إيران؛ وهو أمر لا يمكن بحال تصور قبوله في مسقط. على العكس، لن يكلف الضمان الأميركي مسقط ثمنًا فادحًا، لاسيما أن علاقاتها مع إيران لا تزال مطلوبة -أو مفهومة على أقل تقدير- في واشنطن، كما أنه في ملف القضية الفلسطينية، تواصل عُمان الحفاظ على خطوط التواصل مفتوحة مع مختلف الأطراف بما فيها إسرائيل؛ مما يجنب عُمان إمكانية إفساد إسرائيل لعلاقاتها الحسنة مع الولايات المتحدة، خاصة في هذا الوقت الذي تحتاج فيه عمان الولايات المتحدة لموازنة علاقاتها مع إيران، من جهة، والإمارات والعربية السعودية، من جهة ثانية.

لا تستطيع عمان تكبد مقارعة قوى كبرى، لكن التحدي الإماراتي سيدفعها في المستقبل لامتلاك أوراق ضرورية للتعبير عن آراء أكثر حزمًا تخص أمنها القومي المباشر، وهي أوراق لن يجمعها السلطان هيثم بين يديه في ليلة وضحاها، بل ستتأتَّى فقط بمأسسة أشمل للسياسة الخارجية، ومنح الأولوية لرؤية 2040 مع ضمان إصلاح عثرات رؤية 2020، وأخيرًا ترقية التحديث الاجتماعي والمؤسسي؛ المفتاح الأهم الذي سيمنح عُمان ثقلًا كافيًا تواجه به تحدياتها على المدى البعيد، وتحافظ به على استقلاليتها الدبلوماسية، وتفتح الباب أمام تمركز سياسي واقتصادي أفضل في الخليج والمحيط الهندي ككُل.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 Al Khalili, M. Oman’s Foreign Policy: Foundation and Practice. (Praeger, Wesport, CT, 2009), p. 39.

2 Kechichian, J. A. Oman and the World: The Emergence of Independent Foreign Policy. (RAND, Santa Monica, CA, 1995), p. 100.

3 الساعة السكانية، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، (تاريخ الدخول: 7 فبراير/شباط 2020): https://www.ncsi.gov.om/Pages/NCSI.aspx

4 Steinsson, S. Thorhallsson, B. "Small State Foreign Policy" In Thies, Cameron (ed.) Oxford Research Encyclopedia of Politics, (Oxford University Press, Oxford, 2017).

5-المصدر السابق.

6- المصدر السابق.

7 Lalwani, N. Rubin, J. Winter-Levy, S. “Can Oman's New Leader Uphold Sultan Qaboos's Peaceful Legacy?” Foreign Affairs. Vol. 99, no. 1. January 2020.

8 صلاح، شدوى، "لحقت بركب جيرانها.. هذه أسباب فشل رؤى عُمان الاقتصادية"، الاستقلال، 14 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 2 فبراير/شباط 2020): https://www.alestiklal.net/ar/view/3332

9 Sheline, A. "Oman's Smooth Transition Doesn't Mean Its Neighbors Won't Stir Up Trouble." Foreign Policy, 23 January 2020

) Accessed, Feb 17, 2020) https://foreignpolicy.com/2020/01/23/omans-smooth-transition-saudi-arabia-uae-mbs-stir-up-trouble/

10 Keeler, L. "Can Oman Survive Its Own Neighborhood after the Death of Sultan Qaboos?" Foreign Policy Research Institute. January 2020

 

) Accessed, Feb 17, 2020) https://www.fpri.org/article/2020/01/can-oman-survive-its-own-neighborhood-after-the-death-of-sultan-qaboos/

11 "عُمان تمنح جنسيتها لأسرتي العطاس وبن عفرار"، الجزيرة، 2 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 7 فبراير/شباط 2020):

https://bit.ly/2u3dLac

12 "كيف وصف نتنياهو السلطان قابوس؟ وماذا بحث الجانبان؟"، سي إن إن العربية، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 7 فبراير/شباط 2020): https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2018/10/28/israel-pm-tweets-oman-visit

13 "ترامب يكشف عن صفقته بحضور نتنياهو ومباركة سفراء البحرين وعمان والإمارات"، إضاءات، 28 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 5 فبراير/شباط 2020):

https://bit.ly/37CQh9v

14 الصقري، سعد، الكندي، آن، رؤية عمان 2020 بين الواقع والمأمول، مركز الخليج لسياسات التنمية، 2017، (تاريخ الدخول: 1 فبراير/شباط 2020):

http://gulfpolicies.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2439&Itemid=597

15 السعيدي، حمد بن مسلم، "غياب التعمين يهدد الاقتصاد الوطني"، الرؤية العُمانية، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 6 فبراير/شباط 2020):

https://bit.ly/37xjClR

16 Lefebvre, J. A. Oman's Foreign Policy in the Twenty-First Century. Middle East Policy Council. Vol. XVII, no. 1. Spring. https://mepc.org/omans-foreign-policy-twenty-first-century

17 Lalwani. “Can Oman's New Leader Uphold Sultan Qaboos's Peaceful Legacy?”

18 Valeri, M. “Simmering Unrest and Succession Challenges in Oman”. Carnegie Endowment for International Peace. Jan 2015.

) Accessed, Feb 17, 2020) https://carnegieendowment.org/2015/01/28/simmering-unrest-and-succession-challenges-in-oman-pub-58843