محمد بديع مرشد جماعة " الإخوان المسلمون" و المشير طنطاوي(الجزيرة |
أصبح واضحًا الآن أن قرار جماعة "الإخوان المسلمين" خوض الانتخابات الرئاسية لم يحدث بتفاهم مع المجلس العسكري، بل نتيجة ازدياد الخلافات بينهما، ولذلك بدا أن حسم اللواء عمر سليمان موقفه وإعلانه الترشح بعد أيام على دخول خيرت الشاطر، مرشح الإخوان المسلمين، السباق الرئاسي (قبل استبعادهما بقرار من لجنة الانتخابات الرئاسية السبت 14 أبريل/نيسان 2012)، وإصرار "الإخوان" على الاستمرار عبر دعم المرشح الاحتياطي د. محمد مرسي، يؤكد أن الطرفين يتجهان إلى مزيد من التباعد. فقد قررت جماعة "الإخوان" تقديم مرشح للمنصب الرئاسي الذي يطمح المجلس الأعلى إلى أن يكون شاغله من بين المقربين إليه لإبقاء نفوذه في السلطة عقب المرحلة الانتقالية.
كما أن هذا القرار جاء بُعيْد بوادر توتر ظهر بشكلٍ ما في الخطاب الذي استخدمه كل من الطرفين تجاه الآخر في الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
فهل يمكن أن يعيد التاريخ إنتاج نفسه وأن يقود هذا التصعيد إلى صدام جديد بين الإسلاميين والعسكريين حتى بعد إخراج خيرت الشاطر من السباق الرئاسي، بالرغم من اختلاف الظروف جملة وتفصيلاً ليس في مصر بل في المنطقة والعالم أيضًا؟
السؤال مطروح جديًا بخلاف ما كانت عليه الحال قبل أسابيع قليلة؛ فالانطباع الغالب على مدى نحو عام كامل، منذ أن تولي المجلس الأعلى إدارة شؤون البلاد مساء 11 فبراير/شباط 2011، هو أن العلاقة بين الطرفين وثيقة. وذهب البعض، وبينهم معظم المختلفين مع "الإخوان" فكريًا وسياسيًا، إلى رفع هذه العلاقة إلى مستوى صفقة كاملة.
الإخوان والمجلس: توافق تكتيكي وتوجس استراتيجي
كان هناك من المؤشرات ما يغري بالقفز إلى الاستنتاج بوجود صفقة، ولكن تدقيق الوقائع والابتعاد عن نظرية المؤامرة يقودان إلى استنتاج ربما يكون الأقرب إلى الواقع، وهو أن كلاً من الطرفين كان في حاجة إلى بناء علاقة إيجابية مع الآخر مع الحذر منه والقلق مما قد يضمره له في الوقت نفسه. فقد قامت العلاقة التوافقية بينهما على اعتبارات المواءمة السياسية التكتيكية وليس على منطق الصفقة الاستراتيجية.
فمع اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها، لم يعد هناك متسع من الوقت؛ إذ يُفترض أن يعود الجيش إلى ثكناته بعد أقل من ثلاثة أشهر دون أن تتضح معالم وضعه في النظام السياسي الذي سيحدده دستور يقوم "الإخوان" بالدور الرئيسي في عملية إعداد مشروعه بعد أن سيطروا على تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستكتبه، قبل أن يصدر القضاء الإداري حكما ببطلان تشكيلها. فمن الطبيعي أن يثير ذلك قلق القوات المسلحة ومجلسها الأعلى.
في الوقت نفسه، يتوجس "الإخوان" من إصرار هذا المجلس على إبقاء حكومة الجنزوري التي يتهمونها ليس فقط بالعجز عن حل المشاكل الأساسية بل بافتعال بعضها لوضع البرلمان الذي يتصدرونه في وضع حرج أمام الشعب.
ولذلك، أخذ الخلاف يتصاعد بين جماعة "الإخوان" والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وصولاً إلى إعلان ترشيح الشاطر ثم سليمان لرئاسة الجمهورية، نتيجة تداعيات الأفعال وردود الأفعال في الأسابيع الأخيرة.
فالأرجح، وفق المعطيات المتوفرة حتى الآن، أن قرار جماعة "الإخوان" ترشيح الشاطر لم يكن مبيتًا من قبل، بل جاء نتيجة تداعيات الأحداث في ظل افتقاد هذه الجماعة رؤية واضحة، وميلها إلى إدارة الموقف السياسي يومًا بيوم، وتغليبها ما هو تكتيكي على ما يعتبر استراتيجيا.
وكانت هذه هي حالها، كغيرها من الأحزاب والقوى السياسية، قبل ثورة 25 يناير، ولكنها استمرت على هذه الحال بعد أن تغير وضعها بشكل كامل وأسست حزبًا سياسيًا (الحرية والعدالة) يعبّر عنها، ثم بعد أن حققت فوزًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية.
وقد بدأ التحول في موقف الجماعة تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بُعيد انعقاد مجلس الشعب الذي افتتح أعماله في 23 يناير/كانون الثاني 2012، ومع وجود حكومة لا علاقة لها بالأكثرية التي يمثلها حزب الحرية والعدالة، ولا طاقة لها بمعالجة مشاكل هائلة متراكمة.
فقد وجد حزب "الإخوان" أنه في موقف صعب، لأن الحكومة لا تحل أيًا من المشاكل التي تثير غضب قطاعات واسعة من المواطنين الذين انتخبوا أعضاء البرلمان أملاً في معالجة هذه المشاكل. وفي ظل وضع بالغ الصعوبة وشديد الارتباك، تحولت العلاقة بين مجلس الشعب، وخصوصًا حزب "الإخوان" فيه، والحكومة إلى خلاف متزايد بسبب ازدياد قلق هذا الحزب والجماعة التي يعبر عنها من تراجع شعبيتهما جرّاء ازدياد المشاكل التي تواجه المواطنين بدلاً من تناقصها. وزاد من حدة الخلاف، أن أغلبية كبيرة من هؤلاء المواطنين لا يميزون بين سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية؛ فقد انتخبوا نوابًا عنهم لحل مشاكلهم، وبدأوا يغضبون من البرلمان وحزب الأكثرية الذي لم يفعل أكثر من حمل هذا الغضب وتوجيهه ضد الحكومة والمطالبة بتغييرها.
ولكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة رفض تغيير الحكومة وأصر على استمرارها حتى إنهاء المرحلة الانتقالية في 30 يونيو/حزيران 2012 حتى لا يتحكم "الإخوان" بالسلطة التشريعية والشق الحكومي في السلطة التنفيذية قبل التفاهم على ترتيبات ما بعد هذه المرحلة، وشكل النظام السياسي الجديد الذي سيلعبون الدور الرئيسي في تحديده عبر سيطرتهم على الجمعية التأسيسية التي انتخبها البرلمان لوضع مشروع الدستور الجديد.
وبالرغم من عدم وجود دليل قاطع يؤكد سعي الطرفين في وقت سابق إلى حل يقوم على إقالة الحكومة وتكليف حزب الحرية والعدالة بتشكيل أخرى جديدة، في مقابل الاتفاق على مساندة مرشح يحظى بقبول المجلس العسكري ويلتزم "الإخوان" بدعمه والسعي إلى الحصول على تأييد أوسع له باعتباره رئيسًا توافقيًا؛ فثمة معطيات ترجح حدوث ذلك بُعيد فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية.
وكان فشل السعي إلى "صفقة" من هذا النوع بداية ازدياد الخلافات بين الطرفين، وصولاً إلى إعلان "جماعة الإخوان" ترشيح الشاطر لرئاسة الجمهورية. وبدت هذه الخطوة قفزة شديدة على الواقع وحرقًا للمراحل؛ فقد أصبحت الجماعة في مرمى نيران هجوم شديد، وفي قلب مغامرة تخاطر فيها بأهم ما تملكه وهو المصداقية وثقة قطاع واسع من الناخبين فيها بعد أن تراجعت عن التزام قطعته على نفسها منذ 10 فبراير/شباط 2011 بعدم تقديم مرشح رئاسي.
كما اتُهمت بتبني منهج انقلابي، وتدبير خطة محكمة للاستيلاء على مختلف المواقع الرئيسية في الدولة وممارسة هيمنة كاملة، على النحو الذي فعله الحزب الوطني من قبل حتى ثورة 25 يناير.
غير أن المعطيات الأكثر اقترابًا من الواقع تفيد بأن جماعة "الإخوان" اندفعت في طريق لم تخطط للسير فيه منذ البداية، بل انجرفت إليه نتيجة أخطاء عدة ارتكبتها منذ فوزها الكبير في الانتخابات البرلمانية عندما شعرت بالقوة التي تُضعف من يمتلكها حين لا يستطيع تجنب شرورها؛ فقد تخلت عن حلفائها من الأحزاب الليبرالية والقومية مما أدى إلى تلاشي "التحالف الديمقراطي" الذي قام بدور رئيسي في طمأنة كثير من المصريين بشأن توجهات الحركة ومصير البلاد في ظل توسع دورها. كما لم تحسن أكثريتها البرلمانية المنتمية إلى حزب الحرية والعدالة إدارة العمل في مجلس الشعب على نحو أضعفه كثيرًا أمام الحكومة، وجعله بين خيارين كل منهما أسوأ من الآخر، وهما: تسول إصدار قرارات تنفيذية أو الصراخ والتهديد بسحب الثقة منها في ظل وضع دستوري ملتبس بشأن العلاقة بين الطرفين (المجلس والحكومة).
وكان الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الأكثرية البرلمانية وساهم بقوة في دفع "الإخوان" في طريق تصعيد الخلافات مع المجلس الأعلى حول قضية الحكومة هو تهميش الدور التشريعي لمجلس الشعب وعدم استخدامه إلا على سبيل الاستثناء كما لو أنه مجلس استشاري لا صلاحيات له في إصدار القوانين وتعديلها، بالرغم من أن هذا هو دوره الرئيسي وأداته الأقوى لإلزام الحكومة –أية حكومة– بإصدار قرارات معينة أو تغيير سياسات محددة وإلقاء الكرة في ملعب المجلس الأعلى وإقناع الرأي العام -الذي أحبطه أداء البرلمان- بأن ممثلي الشعب يقومون بدورهم ويصدرون القوانين التي يريدها الشعب دون تأخر.
ولذلك كله، فقد دخلت العلاقة بين الجماعة والمجلس في أصعب مراحلها منذ يوم 11 فبراير/شباط 2011 على نحو يجعل مستقبل مصر وربما مصيرها متوقفًا على تطورات هذه العلاقة في الأسابيع القليلة المقبلة، فإما التوصل إلى تفاهم حول القضايا الخلافية المسكوت عنها أو الانجراف إلى صدام يسعى الطرفان إلى تجنبه الآن.
احتمالات الصدام وضرورة التوافق
لايزال التفاهم ممكنًا سواء عبر تسوية سياسية -مجتمعية عامة- أو "صفقة" ثنائية ولكنها استراتيجية وليست تكتيكية، بخلاف ما اضطرّا إليه خلال الأشهر الماضية حين كان هناك متسع من الوقت. فإذا لم يتيسر شيء من ذلك، أو ظل كل من الطرفين يناور الآخر، أو حاول أحدهما فرض إرادته بدعوى امتلاكه أغلبية، قد لا يمكن تجنب حدوث صدام بينهما بشكل ما حتى بدون قرار مسبق بالذهاب إليه.
ففي أجواء متوترة تزداد احتقانًا، يمكن الانزلاق إلى هاوية بدون قرار من أحد الطرفين أو كليهما، لأن تداعيات الأحداث قد تدفعهما في هذا الاتجاه في حالة عدم إدراك الحاجة القصوى إلى حوار وطني ومجتمعي عام. وإذا ظل هذا الحوار بعيد المنال، وبقي الغموض هو سيد الموقف والاحتقان هو طابعه، يمكن أن تنزلق البلاد إلى الصدام الخطير في إحدى لحظتين أو مناسبتين.
فإذا لم يتيسر حل أزمة الجمعية التأسيسية بعد قرار القضاء الإداري، الثلاثاء 10 أبريل/نيسان 2012، بوقف تنفيذ قرار تشكيلها ثم جاء موعد الانتخابات الرئاسية (23 و24 مايو/أيار 2012) أو اقترب في غياب دستور يحدد صلاحيات الرئيس، وفي ظل استمرار الاحتقان الراهن وربما ازدياد حدته، ومع تواصل تداعيات الأحداث بطريقة الفعل ورد "الفعل" ربما ينزلق الطرفان إلى لعبة اختبار القوة التي قد تكون عواقبها وخيمة.
أما اللحظة الثانية المحتملة فهي أن يفوز مرشح جماعة "الإخوان" في الانتخابات الرئاسية (د. محمد مرسي الآن) قبل أن تظهر معالم الدستور ومقوماته وهوية الدولة ووضع الجيش فيه، وهو احتمال يبدو أن المجلس يسعى لمنعه بعد أن تسربت أنباء عن رفض المشير طنطاوي إجراء الانتخابات الرئاسية قبل إقرار الدستور. فإجراء الانتخابات الرئاسية في ظل غموض تام بشأن قضايا شديدة الحساسية من هذا النوع ليس مستبعدًا أن يثير قلق "المجلس العسكري". وقد يجد هذا المجلس، ومعه أطراف أخرى في الساحة السياسية والمجتمع، أن تسليم السلطة في وضع يسوده الغموض ينطوي على مغامرة، وعندئذ قد تأخذ الأزمة منحى نوعيًا جديدًا يقود إلى صدام ما. لكن من جانب آخر فإن إقرار الدستور قبل انتخاب الرئيس يحتاج إلى وقت أوسع من الوقت المتبقي للانتخابات الرئاسية، فينفتح الباب أمام تمديد المرحلة الانتقالية بكل ما تحمله من احتقان وتوتر سيكون المجلس العسكري محوره.
وهناك احتمال ثالث لهذا الصدام إذا اتجه المجلس العسكري في حالة استمرار الغموض الراهن إلى محاولة التأثير في مسار الانتخابات الرئاسية، دون أن يتدخل فيها بشكل مباشر. وفي إمكانه أن يستخدم ما يحظى به من شعبية حتى الآن لدى قطاعات معتبرة من الرأي العام تعتبره الضامن الوحيد لاستقرار منشود أو "العمود الوحيد للخيمة".
وقد يحدث الصدام عندئذ إذا اتجه "الإخوان" إلى التصعيد ردًا على هذا التدخل حال ظهور ما يدل عليه، ولم يضعوا سقفًا أو يعتمدوا خطة للعودة قبل بلوغ حافة الهاوية. كما يمكن أن يحدث الصدام إذا أمكن حل أزمة الجمعية التأسيسية التي سيظل لحزبي الحرية والعدالة والنور الوزن الأكبر فيها أيًا كان حجم التصحيح الذي سيحدث في تشكيلها، ثم خسر مرشح جماعة "الإخوان" وتم انتخاب رئيس قريب إلى المجلس أو متطابق معه، فعمد حزبا الأغلبية إلى تجريده من أية صلاحيات في الدستور الجديد عبر إقامة نظام برلماني.
ففي هذه الحالة، يمكن أن يتجه ناخبو الرئيس المجرد من الصلاحيات التنفيذية الأساسية وآخرون من خصوم "الإخوان" إلى تصعيد قد يفضي إلى صدام.
وهكذا يبدو شبح الصدام بين جماعة "الإخوان" والمجلس العسكري مخيمًا على سماء مصر، ما لم يحتكم الطرفان إلى حل توافقي ويضعا حدًا لاختبارات القوة، ويسعيا مع غيرهما من الأطراف إلى تفاهم حول مقومات الدولة والمجتمع ووضع الجيش قبل أن يفوت الأوان على الجميع.