فرضيات التصعيد العسكري في العراق وضغوط قيام واقع سياسي جديد

تتناول هذه الورقة مجريات التصعيد بين القوات الأميركية في العراق والميليشيات المتهمة بالعلاقة مع إيران. تحاول الورقة وصف خلفيات التصعيد، وسياقه السياسي، وفرص قيام مواجهة مسلحة، قد تشمل إيران، دون أن يؤثر تفشي وباء كورونا على نشوب نزاع عسكري.
الأوروبية-أرشيف
القوات الأميركية في العراق أعادت انتشارها لتوفير قدرات دفاعية بوجه الهجمات الصاروخية (الأوروبية-أرشيف)

برغم أجواء وباء كورونا التي تخيم على العالم، إلا أن العراق يعيش على وقع تحدٍّ آخر يتمثل باحتماليات تصعيد عسكري أميركي ضد ميليشيات عراقية متهمة بالهجوم على مواقع للقوات الأميركية وعلى سفارة واشنطن في بغداد. تلويح الإدارة الأميركية بالتصعيد واضح وصريح، وأبرزه تهديد علني من الرئيس دونالد ترامب لإيران بدفع "ثمن ثقيل" في حال تعرضت أي مواقع أميركية في العراق لهجوم من قبل طهران أو من وكلائها، حسب تغريدة ترامب يوم الأربعاء الماضي.

هذه التطورات تجري بينما تقف كل من الولايات المتحدة وإيران في مركز وباء كورونا، مسجلة أعدادًا ضخمة من الإصابات والوفيات، لكن من الواضح أن تنافسهما العلني على ربح ورقة السيطرة على العراق لم يعد قابلًا للتوفيق والحلول الوسط. بلغت الاستحقاقات السياسية والأمنية في العراق حدودًا قصوى من التوتر مع انقسام سياسي حاد حول اختيار رئيس وزراء جديد بعد أربعة أشهر من استقالة حكومة عادل عبد المهدي، وفي قلب هذا التوتر والصراع، تبرز المصالح المتعارضة بحدة بين واشنطن وطهران، في سابقة من الخصومة بين الطرفين على النفوذ في العراق لم تحصل منذ الغزو عام 2003. 

 كان من المتوقع أن يتسبب تحول كل من إيران والولايات المتحدة إلى بؤرتين عالميتين لوباء كورونا إلى إشغالهما عن هذا الصراع داخل العراق، غير أن الاستحقاقات الجيوسياسية الضاغطة تفرض نفسها بقوة على ما يظهر من سجال راهن، بل ويبدو أن تشدد السياسة الأميركية تجاه إيران خلال أزمة الوباء ورفض واشنطن أي تخفيف للعقوبات، هو أحد الأسباب الأساسية للتصعيد ضد الأميركيين في العراق على أساس قاعدة صفرية جرى إعلانها منذ أن قتلت غارة أميركية القيادي الإيراني البارز، قاسم سليماني، في بغداد مطلع العام الحالي.

بطبيعة الحال، لن يُعرف بشكل واضح حدود هذه المواجهة المفترضة أو نتائجها، لكن من الواضح أن الوضع الرخو للعراق، سيجعل من مثل الصراع سببًا مباشرًا لتعقيد الوضع الداخلي، لاسيما أن الأرضية مهيأة لذلك. ومع تغول الميليشيات، وتراجع قدرة الدولة، والوضع الاقتصادي الموشك على الانهيار، والذعر من انتشار وباء كورونا، وانعدام الثقة بين الجميع، فإن الاستقطاب الحاد تجاه الطرفين الأجنبيين، وربما الصراع الداخلي، يبدو أحد تجليات هذا الصراع، ومخرجاته.

فرضيات المواجهة العسكرية

خلال أسبوع واحد قبيل نهاية مارس/آذار الماضي، تراكمت مجموعة عناصر اعتُبرت فرضيات لصدام عسكري محتمل في العراق. قد يكون أبرز هذه العناصر البيان الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي المستقيل، عادل عبد المهدي، وحذَّر فيه من "القيام بأعمال حربية مضادة ومدانة وغير مرخصة" تستهدف معسكرات ومواقع عسكرية عراقية، متحدثًا عن طلعات طيران "غير مرخص" فوق مناطق عسكرية(1).  

جاء بيان عبد المهدي متزامنًا في توقيته مع انسحاب القوات الأميركية من عدة معسكرات عراقية، في الموصل وكركوك والأنبار وبغداد، مقابل التمركز في قواعد محددة أكثر تحصينًا وقدرة على رد أي هجوم. وصفت القوات الأميركية ذلك بأنه (إعادة تمركز)، وتعمدت منح الانسحاب بُعدًا احتفاليًّا مع تفسير رسمي، ينفي أية صلة بالهجمات الصاروخية التي تسبب بعضها بمقتل وإصابة جنود أميركيين، كما نفت علاقة الأمر بتفشي وباء كورونا، وأرجعته إلى قرار مسبق بالاتفاق مع الحكومة العراقية يستند إلى جاهزية قوات الأمن العراقية ونجاحها في الحملة ضد داعش(2).

كان مفهومًا رغبة الولايات المتحدة بمنع أي تأويل لخطوتها على أساس أنها تمثل (تراجعًا) أو انسحابًا اضطراريًّا تحت ضغط القصف الذي اتُّهمت بشنِّه ميليشيات عراقية توصف بالتبعية لإيران، لكن هذه الميليشيات سارعت للاحتفال بالخروج الأميركي الجزئي من القواعد والمعسكرات، واعتبرت أن ذلك "يوم وطني كبير"؛ حيث تم "طرد المحتل من أكثر أماكن وجوده في العراق وانسحابه خائفًا ذليلًا"(3).

التكييف الواقعي لهاتين السرديتين المتناقضتين هو النظر إلى (إعادة التمركز) الأميركية على أنها جزء من محاولة حماية القوات الأميركية ومنع الميليشيات من استهدافها بسهولة، وبالنظر لسياقه الزمني، فمن الطبيعي اعتباره نوعًا من (الاضطرار) فرضته هذه الميليشيات في الوقت الراهن على الأقل. لكن هذه الخطوة الأميركية لا تعني كذلك تحقيق الميليشيات (نصرًا) من أي نوع، ففي النهاية، لن يتأثر حجم القوات الأميركية المرابطة في العراق، بما  يتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف جندي، كما أن القدرات الدفاعية ستتعزز مع حصر الوجود الأميركي في قواعد كبيرة مزودة ببطاريات باتريوت وقدرات دفاعية عالية، وهذا يعني عمليًّا منح الأميركيين ميزة تكتيكية وفرصة أكبر للمبادرة الهجومية، مقابل تقليص ذلك بالنسبة للميليشيات. 

تزامنت عملية (إعادة التمركز) مع دعوة السلطات في واشنطن جميع الأميركيين إلى مغادرة العراق فورًا ويشمل ذلك الموظفين (غير الأساسيين) في البعثة الدبلوماسية الأميركية في كل من بغداد وأربيل. وعلى عكس بيان القيادة العسكرية الأميركية، لم يخف إعلان السفارة الأميركية علاقة القرار بالوضع الأمني وتعرض مبنى السفارة إلى هجمات صاروخية، فضلًا عن تفشي وباء كورونا(4).

لا يُتوقع أن تؤدي الخطوة الأميركية إلى تهدئة مطالبات قوى سياسية شيعية بالانسحاب الأميركي الكامل من العراق. كانت نبرة هذه المطالبات التي عارضها السنَّة والأكراد وجزء من السياسيين الشيعة، ظهرت بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي (2020)، وصدر قرار من البرلمان بعد أيام من ذلك الحادث يوصي الحكومة بالعمل لخروج القوات الأميركية بالكامل، ولكن بعد نحو أربعة أشهر من القرار، ما زال الموقف الأميركي هو "الخروج في توقيت معين لم يحلَّ بعد"، حسب تعبير الرئيس، دونالد ترامب. لكن واشنطن تدرك أيضًا أن الرغبة بالبقاء في العراق ينبغي أن تترافق مع تقليص النفوذ الإيراني، وخلق مناخ سياسي مرحِّب ودعوة حكومية صريحة، وهي أهداف قد تفسر الرغبة بحسم الوضع السياسي في العراق ليكون خارج التأثير الإيراني. 

سياق الوضع السياسي المضطرب

يتميز الوضع السياسي في العراق بالانقسام الشديد. ويمكن وضع مختلف الأسباب لهذا الانقسام، ويمكن أيضًا توقيت بروزه بدءًا من عام 2018، مع هزيمة تنظيم الدولة، وإجراء انتخابات برلمانية غير حاسمة، تحوم شكوك كبيرة حول نزاهتها ، لكن من الواضح أن أهم الأسباب يكمن في الخلاف الإيراني-الأميركي منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في ربيع 2017، واستئناف العقوبات على طهران.

تسبب تصاعد الخلاف الإيراني-الأميركي في وقف التنسيق الذي استمر بين الدولتين منذ عام 2003 بشكل مباشر أو غير مباشر لتسيير الأمور في العراق. وقد شمل هذا التنسيق التفاهم العملياتي على الأرض خلال مشاركة الطرفين في المعارك الأساسية ضد تنظيم الدولة، لكن مع إعلان بغداد (النصر) على التنظيم، بدأ الخلاف الشديد بين الطرفين، وقد تصاعد ذلك بشكل واضح خلال الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، فقد وجدت فيها طهران تهديدًا لمصالحها في العراق، فيما أيدتها واشنطن واعتبرتها تعبيرًا عن إرادة الشعب العراقي. بلغ هذا التناقض حدًّا خطيرًا مع استمرار الاحتجاجات واستقالة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي.

خلال أيام قليلة بين عامي 2019 و2020، انهارت بشكل كامل وسريع قواعد الاشتباك براغماتية الطابع بين الطرفين، حينما اتهمت واشنطن ميليشيا مرتبطة بإيران بقصف قاعدة عسكرية قرب كركوك وقتل مقاول أميركي، جرت بعد ذلك سلسلة حوادث سريعة أبرزها الغارة الأميركية التي قتلت قاسم سليماني في بغداد، بعد تلك الحوادث المتعاقبة السريعة لم يعد ممكنًا العودة للوراء أو توقع إيجاد مقاربة للتسوية كما جرى في السنوات السابقة. كان الخيار الصفري قد بدأ عمليًّا بين الطرفين، وسيتخذ ذلك مظاهر متعددة ويستخدم كل القدرات الممكنة بما فيها العسكرية.

من الواضح أن الخطوط الفاصلة بين (مصالح) كل من إيران والولايات المتحدة داخل العراق قد انهارت، وبات كل طرف يريد أن يُخرج الآخر بالكامل وينفرد بالسيطرة، أو أنه يريد أن يستفيد من مخرجات هذا الصراع في إطار الاستراتيجية الإقليمية لكل من الطرفين. وقد شجَّع على تواصل هذه المواجهة دون رادع أو حدود، ما يبدو من تراجع خطير لهيبة الدولة في العراق وضعف المؤسسات أمام هيمنة الميليشيات والأحزاب وآليات الفساد. وقد كشفت الاحتجاجات الشعبية عن الخلل الجسيم في بنية الدولة والنظام السياسي المهيمن، حتى باتت شرعيتهما محل شكوك كبيرة.

منذ استقالة عادل عبد المهدي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي (2019)، تكشَّفَ حجم الخلل في النظام السياسي العراقي. ظهر عقم هذا النظام وعدم قدرته على إصلاح نفسه ذاتيًّا وافتقاره إلى مرجعيات نزيهة وواضحة لإيجاد حلول لمشكلاته، وما زال منذ ذلك الوقت غير قادر على اختيار رئيس وزراء بديل. لا يمكن اعتبار أن هذا الخلل طارئ أو جديد، أو إنه من نتاج الاحتجاجات الشعبية فقط. هو بالتأكيد تأثر بشدة بهذه الاحتجاجات لأنها جعلته أقل قدرة على تمرير ما يريد، لكن أحد الأسباب المباشرة الأخرى لانكشاف وهشاشة النظام السياسي في العراق، يتمثل بالصراع الأميركي-الإيراني.

أثَّر هذا الصراع على اختيار بديل عن عبد المهدي؛ حيث فشل المكلَّف، محمد توفيق علاوي، بسبب رفضه من قبل السنَّة والأكراد وجزء من الشيعة، ويعاني المكلَّف الثاني، عدنان الزرفي، من نفس المشكلة، مع فارق أن رفضه يأتي من قبل أغلب القوى السياسية الشيعية الرئيسية، لسبب مباشر يتعلق بالاحتجاج على آلية اختياره من قبل رئيس الجمهورية، لكن مع سبب آخر يتعلق باتهامه بالعلاقة الخاصة مع الأميركيين.

تولى الزرفي منصب محافظ النجف لسنوات عديدة حتى العام 2015، وهو جزء من قلب المؤسسة السياسية الشيعية، لكنه متهم من رفاقه السابقين بالميل للأميركيين بعد لجوئه للولايات المتحدة منذ عام 1994 وحصوله على الجنسية الأميركية، ويبدو أنه أبتعد عن الإسلام السياسي الشيعي، وقدَّم نفسه على أنه ليبرالي، وبمجرد تكليفه من قبل رئيس الجمهورية أواسط مارس/آذار، اتهمته الأوساط الحزبية الشيعية على أنه "مرشح أميركا لمنصب رئيس الوزراء"(5).

تُمثِّل إشكالية تمرير رئيس وزراء جديد في العراق، نموذجًا لتأثير الصراع الأميركي-الإيراني. ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد توافر الأصوات النيابية الكافية لتحقيق ذلك، ولا بالآليات الدستورية المتبعة، فهذه المعطيات تبدو أساسية في النظم البرلمانية بما فيها الديمقراطيات الناشئة، لكن في حالة العراق، يتعلق الأمر بشبكة معقدة من الآليات السياسية تحت شعار التوافق والمحاصصة وتبادل المنافع، وبدستور متخم بالغموض والتفسيرات المتناقضة، وبتأثير سياسي لبعض القوى يتجاوز القدرات البرلمانية أو التمثيل الشعبي، بسبب ما تحظى به من قوة مسلحة خاصة على شكل ميليشيات مندرجة في إطار الحشد الشعبي أو ضمن ما بات يعرف بمصطلح (المقاومة الإسلامية)، وهو ما يرمز إلى مجمل الميليشيات المحلية المسلحة المرتبطة بإيران في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن.

قوة الميليشيات مقابل ضعف الدولة

خلال ولاية عادل عبد المهدي التي بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تحولت الميليشيات إلى قوة فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي العراقي. رافقت الميليشيات نشوء النظام السياسي الراهن بعد 2003، لكنها كانت محدودة العدد تنحصر بشكل خاص في (فيلق بدر) الذي كان تأسس في إيران عام 1982 من عراقيين معارضين لنظام لرئيس الراحل، صدام حسين، وليكون ذراعًا عسكرية لـ(المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) وشارك في حرب الثماني سنوات إلى جانب إيران. ورغم صلاته العضوية التفصيلية بالحرس الثوري الإيراني، إلا أنه تعاون مع الأميركيين بعد الغزو، وسمح بانخراط عناصره في أجهزة الجيش والشرطة (الجديدين) فيما سُمي بالدمج، وبقي مع ذلك كقوة سياسية قبل أن يعيد تشكيل نفسه عسكريًّا كميليشيا مستقلة.

الميليشيا الأساسية الثانية كانت (جيش المهدي) التابعة للسيد مقتدى الصدر، وهذه تشكَّلت بعد عام 2003، وجاهرت بعدائها للأميركيين وخاضت معهم مواجهة في النجف عام 2004، لكنها اتُّهمت بارتكاب فضائع ضد السكان السنَّة خلال الحرب الطائفية (2006-2008). شكَّلت هذه الميليشيا أساس قوة وتأثير الصدر في المشهد السياسي العراقي حتى قبل أن يحظى بتمثيل قوي في البرلمان، وقد مرَّت الميليشيا بمراحل مختلفة حتى استقرت تحت اسم (سرايا السلام). شهد (جيش المهدي) انشقاقات عديدة، وتوالد عنه الكثير من الميليشيات التي أصبح بعضها أساسيًّا في المشهد الأمني، مثل: (عصائب أهل الحق).
أصبح لهذه الميليشيات غطاء رسمي بعد تأسيس الحشد الشعبي في 2014، وظهر العشرات من الميليشيات الأخرى الأصغر حجمًا، وقد وفر لها وجودها ضمن الحشد شرعية قانونية ومصدرًا ماليًّا وتسليحيًّا، كما منحها سلطة معنوية وأمنية تفوقت بها أحيانًا على سلطة الجيش والشرطة.

تحول الحشد الشعبي إلى مؤسسة عسكرية رسمية في 2016، تتبع رسميًّا للقائد العام للقوات المسلحة، لكن من الناحية العملية، تنوعت ولاءات فصائل الحشد حسب مرجعيتها السياسية والدينية، وهي على هذا الأساس تنقسم إلى ثلاث فئات فرعية: الأولى هي فصائل تشكَّلت بعد تأسيس الحشد من طلبة الحوزات في النجف، وتدين بالولاء للسيد علي السيستاني ويطلق عليها (حشد المرجعية)، والفئة الثانية، تشمل ميليشيات أكبر حجمًا وأكثر قوة وتسليحًا، تأسست منفردة قبل ظهور الحشد الشعبي أو بعده بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني تدريبًا وتسليحًا، وتعلن رسميًّا أن مرجعيتها تعود للمرشد الإيراني، السيد علي خامنئي، وباتت تُعرف باسم (الحشد الولائي)، ولهذه الفصائل قدرات عسكرية كبيرة نسبيًّا لاسيما في القوة المدرَّعة والصاروخية، وجزء كبير منها شارك في الحرب في سوريا ضمن الميليشيات التابعة لإيران. أما الفئة الثالثة، فهي الميليشيا التابعة للتيار الصدري المسماة (سرايا السلام)، وقد كان اسمها من قبل (جيش المهدي)، وهذه تخضع لسلطة رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر(6).

بطبيعة الحال، لا يمكن بالضرورة اعتبار أن هذا التقسيم سيعني تمزق الحشد أو فقدان فرص السيطرة عليه، فتنوع هذه الفئات وتباين مرجعياتها يفرض نمطًا نسبيًّا من السيطرة الحكومية، ولا يلغيها، لكنها سيطرة محكومة بقواعد وتوازنات هي في معظمها ذات بُعد محلي وربما شخصي. وقد كان يدير هذه التوازنات بمهارة، النائب السابق للحشد وقائده الفعلي، أبو مهدي المهندس، الذي قتلته غارة أميركية بصحبة قاسم سليماني مطلع هذا العام. أسس المهندس لسيطرة التيار الموالي لإيران على قيادة الحشد وموارده وصورته العامة، وبعد مقتله، حاول هذا التيار (الحشد الولائي) وراثة القيادة عبر اختيار القيادي في (كتائب حزب الله)، الملقب أبو فدك، مكان المهندس، لكن رئيس الوزراء لم يصادق على الاختيار بعدما اعترض (حشد المرجعية) المقرب من السيد السيستاني على ذلك معتبرًا أن المنصب صار من حقه(7).

أخذ الجزء (الولائي) من الحشد، على عاتقه مهمة الثأر لمقتل سليماني والمهندس، وصعَّدت ميليشياته المختلفة ولاسيما (كتائب حزب الله العراق)، من لهجة الوعيد ضد القوات الأميركية، مكررة المطالبة بخروجها من العراق، لكن أيًّا من هذه الفصائل لم يتبنَّ عمليات القصف التي طالت السفارة الأميركية أو القواعد العسكرية التي كان يقيم فيها الجنود الأميركيون، وفي ذات الوقت تعرضت مقرات هذه الميليشيات لقصف القوات الأميركية أكثر من مرة ردًّا على تلك الهجمات.

تبدو العلاقة ملتبسة بين حكومة عبد المهدي وهذه (الفصائل الولائية)، فالأخيرة تواصل تأييدها للحكومة وتأكيد علاقتها بالقائد العام، لكنها تستمر أيضًا بتوجيه التهديدات وتوزيع اتهامات تجاه مؤسسات أمنية رسمية على أساس صلتها بالأميركيين، وكان لافتًا، اتهامها المباشر لرئيس جهاز المخابرات الحالي، مصطفى الكاظمي، بالتورط في العملية الأميركية التي تسببت بقتل سليماني والمهندس و"بعلم من إحدى الرئاسات الثلاث التي سهَّلت هذا العمل الجبان"(8)، وقد نُشرت هذه الاتهامات خلال فترة تداول اسم الكاظمي كمرشح محتمل لرئاسة الوزراء، واستمرت أيامًا قبل أن تتوقف فجأة بعد أن اجتمع الأخير مع رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الذي زار بغداد.

صمتت حكومة عبد المهدي على اتهام مباشر وخطير وجَّهته قوة عسكرية تتبع رسميًّا للقائد العام تجاه أحد الرؤساء الثلاث (رئيس الجمهورية، ورئيس البرلمان، ورئيس الوزراء) وكذلك لرئيس المخابرات، ولم تتحرك لا لمحاسبة هذه الميليشيا ولا للتحقيق في دعاواها، وهو سلوك تكرر بشكل واضح خلال ولاية عبد المهدي تجاه الميليشيات، وسلوكها الميداني أو تدخلها في جوهر العملية السياسية والدستورية الخاصة بتكليف رئيس وزراء جديد.

يفسَّر هذا النمط من سلوك الميليشيات على أنه تغول على الدولة، ويمكن بدون عناء كبير رصد سجل حافل للحشد (ككيان أو كفصائل) في تشغيل نظامٍ موازٍ للقيادة والسيطرة يمكنه رفض الأوامر القانونية الصادرة عن رئيس الوزراء، وتجاوز سلطاته بانتظام، وبشكل شبه دائم. وتتصرف قيادة "الحشد الشعبي" كدولة موازية: فهي تدير نظامًا قضائيًّا موازيًا وسجونًا موازية، واقتصادًا موازيًا غير شرعي، وجهدًا حربيًّا موازيًا يقوِّض وحدة القيادة عبر جميع قوات الأمن العراقية(9).

ويمكن تسجيل بروز هذه الظاهرة من التغول بعد مقتل سليماني والمهندس. قبل ذلك كان هذا الثنائي قد تمكن من بناء قوة هذه الميليشيات في العراق، وتحويلها إلى ذراع إيرانية استراتيجية، لها قدرة الدولة الموازية، لكنهما كانا يمتلكان أيضًا قدرة الضبط العالية والحق في السيطرة على الجميع. تمكن المهندس بوصفه القائد المباشر لكل هذه الفصائل، من تنظيم علاقتها ببعضها، وعلاقة الجميع بالدولة، وبالقوات الأمنية، وكذلك بقوات التحالف الدولية، وكانت لديه قدرة ضبط الأزمات الناشئة عن التناقض بين أجندات كل من الحشد والدولة.

ومن جانبه، كان قاسم سليماني يقدم دعمًا جوهريًّا للمهندس، ويدير معه هذا الملف بتناغم خاص، لكنه كان مسؤولًا بشكل أكبر عن مجمل أذرع إيران الإقليمية، وعن استخدام هذه الأذرع لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة لإيران على حساب خصومها، ومنهم الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته كان سليماني ينظم العلاقة مع هؤلاء الخصوم على أساس براغماتي، استفادت منه أميركا في أوقات معينة، لاسيما في إطار حربها ضد تنظيمي القاعدة وداعش، أو ربما في حل بعض الأزمات السياسية والأمنية في العراق. برحيل سليماني والمهندس، لم يعد هذا التنظيم قائمًا، ومن الواضح أن الميليشيات العراقية أصبحت بلا قائد يضبطها ويوازن سلوكها، وهو ما خسرته إيران أيضًا، ولذلك لن يكون غريبًا الاعتقاد بأنها أطلقت يد الميليشيات (الولائية) العراقية لمواجهة القوات الأميركية، حتى لو تسبب ذلك بتوريط العراق، وجعله ساحة لمواجهة عسكرية مفتوحة.

هل يمكن أن تكون المواجهة محتومة؟

من الواضح أن الرغبة الإيرانية بخروج القوات الأميركية من العراق ليست موقفًا تكتيكيًّا مؤقتًا، وطهران لم تُخْفِ أيضًا أن هذا الأمر هو مجرد مقدمة لإنهاء الوجود الأميركي في المنطقة بكاملها. كان هذا الهدف هو ما اعتبرته طهران الرد المناسب على مقتل سليماني(10). وبالتالي، فتطور الهجمات التي تقوم بها (الفصائل الولائية) ضد القوات الأميركية في العراق هو جزء من هذا السياق، ولكن بالمقابل هناك إرادة سياسية واضحة في واشنطن غير معنية بأية تسوية مع إيران، إن لم تكن تفتش عن فرصة مناسبة لمواجهتها عسكريًّا. على هذا الأساس، لا يمكن أمام هذا الاختناق الاستراتيجي داخل الجغرافيا العراقية غير واحد من ثلاثة مسارات: انسحاب القوات الأميركية بالكامل من العراق، وتخلي إيران عن نفوذها وأذرعها في العراق والانشغال بترتيب أوضاعها الداخلية، أو بتصعيد قد يتخذ شكل المواجهة العسكرية المفتوحة المرتبطة بمتغيرات سياسية حادة وعنيفة. 

واستنادًا إلى المعطيات على الأرض، لا يبدو من الواقعي في الظروف الحالية تصور أيٍّ من الخيارين، الأول والثاني، في حين أن الخيار الثالث الذي يبدو مرجحًا ينفتح على قدر واسع من التكهنات والاحتمالات.

واقعيًّا، لا يبدو التصعيد العسكري مع الميليشيات في العراق خيارًا أميركيًّا مناسبًا في هذا الوقت على الأقل، فهو من ناحية يسحب الولايات المتحدة نحو صراع غير متكافئ مع قوة غير محددة الملامح، تنتشر بين السكان المدنيين، ويمكن لإيران -المتهمة برعايتها- أن تستبدل بعناصرها وتعوِّض خسائرها البشرية من بين موالين كثر في العراق، مما يجعل أي خسائر مفترضة لهذه الميليشيات غير مؤثرة على وجودها وتأثيرها. بالتالي، فنتائج الخيار العسكري قد تصبح غير حاسمة، وما لم يقض الهجوم الأميركي الموعود بشكل جدي وجوهري على هذه الميليشيات، فسيكون ذلك بمنزلة هزيمة بالنسبة للولايات المتحدة.
والخيار العسكري سيمثل انتكاسة كبيرة لعلاقة واشنطن المتوترة أصلًا مع بغداد، فهو سيُفسَّر على أنه انتهاك لسيادة العراق، وإهانة لحكومته، واعتداء على قوات أمنية رسمية، وتجاوز من قبل قوات التحالف لمهامها المحددة بمحاربة الإرهاب وتدريب القوات العراقية.

والعمل العسكري كذلك يمكن أن يتحول إلى مغامرة لإدارة ترامب في عامها الانتخابي، وقد يجر إلى حرب أوسع وبشكل مباشر مع إيران، ويتطلب -حسب قائد القوات الأميركية في العراق- آلاف الجنود الإضافيين والمزيد من الموارد العسكرية المتناسبة مع العمليات القتالية، فضلًا عن أن ذلك قد يتسبب في مزيد من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط -حسب البنتاغون- والتأثير على رغبة إدارة ترامب بتقليص الوجود العسكري في المنطقة(11)

وقد يضيف البعض إلى ذلك أزمة وباء كورونا التي باتت تعصف بالولايات المتحدة، وما يمكن أن تتسبب به أية عملية عسكرية من انتقادات لإدارة ترامب على تشتيت الموارد والجهود وعدم تقدير الأولويات، لكن حسابات المخاطر قد لا تستمر في حال تواصلت الهجمات على القوات الأميركية، لاسيما إن تسببت بخسائر بين الجنود الأميركيين. وقد عبَّر الرئيس، دونالد ترامب، عن موقف أميركي حازم وواضح بالذهاب إلى خيار التصعيد في حال وقوع مثل هذه الهجمات، وكتب على حسابه في تويتر الأربعاء محذرًا إيران من "دفع ثمن ثقيل" في حال قيامها هي أو وكلائها في العراق بمهاجمة القوات الأميركية. ومن غير الواضح بعد، ما إن كان تصريح ترامب الذي استهدف إيران بشكل مباشر، سيجعل طهران تفكر بالعواقب في حال مضت بعيدًا في استخدام وكلائها للتصعيد العسكري.

من جانبها، تواصل (الفصائل الولائية) إصدار البيانات التي تتحدى الولايات المتحدة، وتصدر جميع البيانات والتصريحات والتغريدات على تويتر باسم هذه الفصائل دون أن يكون لقيادة الحشد الشعبي أي موقف أو تعليق، كما أن بقية الفصائل في الحشد لا تبدو معنية بالأمر، بل إن الجزء (الصدري) من الحشد ممثَّلًا بفصيل (سرايا السلام) اعتبر أنباء الحرب مجرد تسريبات أميركية، ودعا إلى التركيز على الجهد الدولي لمواجهة وباء كورونا(12).

وربما يكون من الواقعي الاعتقاد بأن هذا التصعيد المتبادل قد يؤدي إلى تراجع الطرفين في اللحظة الأخيرة، لكن التصعيد هذه المرة مرتبط بحسابات وترتيبات سياسية في العراق تتعلق خصوصًا باختيار رئيس جديد للوزراء، من الصعب إيجاد حلول وسط بشأنها، وقد شهد العراق على وقع الصراع السياسي خلال الأشهر الماضية ما يمكن اعتباره تمهيدًا للتصعيد العسكري المفترض.

لقد أُشيعت داخل العراق أنباء عن قرب حدوث انقلاب عسكري تدعمه الولايات المتحدة وقد يجري بتدخل مباشر من القوات الأميركية. جاءت هذه (المعلومات) من إيران، ونشرتها صحيفة كويتية نقلًا عن مراسلها في طهران، وتضمَّن تقرير الصحيفة معلومات من مصادر داخل فيلق القدس الإيراني حول تأهب الحرس الثوري والفصائل العراقية الموالية له تحسبًا لهذا الانقلاب(13). لم يكن ممكنًا إخراج هذه المعلومات عن سياقها ولا عن طبيعة مصدرها، وبالطبع عن استخدامها محليًّا داخل العراق لتحقيق أغراض سياسية. ويمكن متابعة بيانات متلاحقة أصدرتها (الفصائل الولائية) تحذِّر وتتوعد (الانقلاب الأميركي) واعتبار أن رئيس الوزراء المكلَّف، عدنان الزرفي، هو بحدِّ ذاته رمز هذا الانقلاب، واتهام "جهاز عسكري عراقي، وآخر أمني" بالمشاركة في المخطط الأميركي ضد الحشد الشعبي و(المقاومة الإسلامية)(14).

قدمت أطروحة (الانقلاب العسكري) نموذجًا للمناخ الذي يمكن أن يكون مواتيًا لتصعيد عسكري، لكن لا يمكن التعامل مع هذا اللغط حول حرب مقبلة على أنه حقائق نهائية، ويمكن أيضًا التعامل مع المعلومات الصحفية الصادرة من الولايات المتحدة أو من إيران على أنها تسريبات تهدف إلى الحرب النفسية لتحقيق أقصى فائدة ممكنة في مرحلة الفراغ السياسي الراهن في العراق. ينظر الطرفان إلى هوية رئيس الوزراء المقبل على أنها ستكون حاسمة لتحديد مستقبل موقع العراق بين كل من واشنطن وطهران. وليس من الواضح كيف يمكن أن ينتهي هذا التنافس دون توافق كما جرى في كل السنوات السابقة منذ 2003، إلا أن الحرب التي تبدو خيارًا صعبًا بحسابات الربح والخسارة بالنسبة للطرفين الغارقين أصلًا بمشاكل عميقة وخطيرة، هذه الحرب هي في الوقت ذاته قد تكون الحل الممكن الوحيد لحل مشكلة الانسداد الحالي في الأزمة العراقية، وحسم صراع النفوذ بين واشنطن وطهران. وعلى ما يبدو، فلن يكون وباء كورونا سببًا لتأجيل هذا الاستحقاق، وقد يكون غطاء مناسبًا لإنجاز الأمر دون ضجيج كبير. 

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) تصاعد لبوادر التوتر بالعراق: تحذير من طيران غير مرخص فوق مناطق عسكرية، العربي الجديد، 30 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/3au9qwB 

 (2)Coalition departs K1 Air Base, transfers equipment to ISF, Operation Inherent Resolve, March 29, 2020, (Enter 29/3/2020): https://www.inherentresolve.mil/Media-Library/Article/2129619/coalition… /

(3) الولائي يهدد بـ"قطع اليد": الأميركيون انسحبوا حفظًا لماء الوجه، ناس، 29 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/2vVsl4u 

(4) واشنطن تسحب موظفيها (غير الأساسيين) من العراق، الحرة، 27 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 29 مارس/آذار 2020): https://arbne.ws/3bBKgwa 

(5) النائب عن الفتح حامد الموسوي: الزرفي مرشح أمريكي وتكليفه أمر مبيت، وكالة أنباء براثا، 23 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/2QW9zRK 

 (6)FANAR HADDAD, Understanding Iraq’s Hashd al-Sha’bi, March 5,2018 (Enterd:30/3/2020): https://tcf.org/content/report/understanding-iraqs-hashd-al-shabi

(7) العراق.. خلافات داخل "الحشد الشعبي" بعد تعيين خليفة المهندس، الحرة، 22 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020): https://arbne.ws/2JudCRa 

(8) كتائب حزب الله ترد على بيان الحشد وتجدد مهاجمة مصطفى الكاظمي، ناس، 4 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/2UyqMmO 

(9) التكريم من دون الاحتواء، مستقبل الحشد الشعبي في العراق، معهد واشنطن، مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020):
 https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/honored-not…;

(10) خامنئي: الرد العسكري خطوة ضرورية والأهم إنهاء الحضور العسكري الأميركي بالمنطقة، الميادين، 8 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/3aymbXg 

 (11)Pentagon Order to Plan for Escalation in Iraq Meets Warning From Top Commander, The New York Times, March 27,2020 (Entered:30/3/2020): https://www.nytimes.com/2020/03/27/world/middleeast/pentagon-iran-iraq-…;

(12) بعد تسريبات صحيفتي الواشنطن بوست ونيويورك تايمز.. سرايا السلام: أمريكا تحاول جر العراق إلى الحرب، الغد برس، 31 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 31 مارس/آذار 2020): https://www.faceiraq.org/inews.php?id=7648209 

(13) تأهُّب إيراني تحسبًا لانقلاب أميركي في العراق، الجريدة، 22 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 31 مارس/آذار 2020): https://www.aljarida.com/articles/1584809786840621900 /

(14) كتائب حزب الله العراق تحذِّر من مخطط أميركي جديد، المركزي، 25 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول 31 مارس/آذار 2020): https://central-media.org/35107/599