الأطراف الرئيسية المتصارعة في الأزمة السورية تعلن بأشكال متفاوتة دعم خطة عنان التي تدعو إلى وقف العمليات القتالية لكنها لا تراهن في تصرفاتها عليها (الجزيرة) |
بدا خلال مارس/آذار 2012 وكأن النظام السوري يحقق مكاسب ملموسة في مواجهة الثورة الشعبية التي تحاصره منذ أكثر من عام؛ ففي حملة عسكرية شرسة، أعادت قوات النظام السيطرة على أحياء ومدن وبلدات، كانت قد أصبحت شبه محررة منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول 2011 مع تصاعد نشاطات الجيش الحر. وفي الوقت نفسه، لم تستمر روسيا في تعطيل بلورة إجماع دولي في مجلس الأمن وحسب، بل وتؤكد استمرارها في توريد السلاح (وربما إرسال الخبراء حسب تقارير نفتها موسكو) للنظام في دمشق. ولا تقل المساندة الإيرانية للنظام في دمشق عن مثيلتها الروسية، حيث تعهد المرشد علي خامنئي مؤخرا بالدفاع عن النظام السوري.
ثمة أسباب عديدة لمظهر الاستعادة النسبية للثقة في أوساط النظام ومعسكر المساندين له (بالرغم من أن الحملة العسكرية التي يتعهدها لم تنجح، رغم التدمير والقتل، سوى في إعادة الأوضاع في مدن مثل حمص وحماة ودرعا إلى ما كانت عليه قبل شهرين أو ثلاثة). أهم هذه الأسباب على الإطلاق، كان غياب سياسة استراتيجية كلية للتعامل مع الوضع في سوريا، من قِبل القوى الغربية التي وافقت الشعب السوري في المطالبة بتغيير النظام، ومن قبل دولة الجوار الكبرى: تركيا، التي تطالب هي الأخرى بالتغيير السياسي في سوريا، ومن قبل الكتلة العربية الرئيسية التي انتهت إلى ضرورة التغيير كشرط لحل الأزمة السورية. بكلمة أخرى، بينما كان المعسكر المؤيد للنظام في دمشق يبذل كل جهد سياسي واقتصادي وعسكري ممكن لمساعدته على البقاء وإيقاع الهزيمة بالثورة، لم يكن المعسكر المساند للمعارضة والحركة الشعبية قد طور تصورًا واضحًا لمساعدة الثورة والمعارضة على الصمود، ناهيك عن سياسة لإسقاط النظام.
بيد أن ثمة أدلة متزايدة على أن الصراع بين النظام والثوار سيصبح أكثر تعقيدًا، وأن مقاربة معسكر الدول الداعمة للثورة الشعبية تتجه نحو توفير المزيد من العون السياسي وغير السياسي لقوى المعارضة السورية.
المعارضة السورية: توافقات صعبة ومتدرجة
منذ تشكيله في أكتوبر/تشرين الأول 2011، اعتُبر المجلس الوطني السوري الممثل الرئيس والأكثر مصداقية للمعارضة السورية، وهو ما جعله المحاوِر الأول (وإن لم يكن الوحيد) مع الجامعة العربية، والهيئة التي مثّلت الحركة الشعبية أمام مؤتمر أصدقاء سوريا الأول في تونس، واعترف به المؤتمر في لقائه الثاني بإسطنبول، الأحد 1 أبريل/نيسان 2012 ، "ممثلا شرعيا" للسوريين. ولكن المجلس الوطني واجه عددًا من المشاكل على صعيد مصداقيته التمثيلية؛ فإلى جانب إخفاق محاولات سورية وعربية لإيجاد صيغة توافق سياسية وتنظيمية بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق، التي تمثل تجمعًا لعدد من القوى السياسية داخل سوريا، ولا تجد دعمًا شعبيًا ملموسًا، فقد تباطأ المجلس في احتواء العديد من القوى والشخصيات المعارضة المتواجدة في الخارج، كما شهد انسحاب شخصيات ومجموعات أخرى خلال الأسابيع القليلة الماضية. عجز المجلس الوطني أيضًا عن إيجاد صيغة توافقية وفعالة للعلاقة بينه وبين الجيش السوري الحر، ولم ينجح في بناء جسور تواصل وثيقة مع النشطين في الداخل أو توفير الإمكانيات المادية للمجموعات النشطة في فعاليات الثورة أو أُسر القتلى والمعتقلين.
تركت هذه التحديات أثرًا متفاقمًا على صورة المجلس الوطني وعلى صورة المعارضة السورية ككل. ويُعتبر مؤتمر المعارضة الموسع، الذي عُقد بمدينة إسطنبول يومي 26-27 مارس/آذار 2012، بدعوة من وزارتي الخارجية التركية والقطرية، مؤشرًا على حجم الجهود التي تُبذل لتعزيز وضع المعارضة والمجلس الوطني. رفضت هيئة التنسيق الالتحاق بالمؤتمر، كما تغيبت عنه شخصيات معارضة بارزة مثل عارف دليلة وميشيل كيلو، ولكن الحضور شمل قطاعًا واسعًا من المعارضين المتواجدين في الخارج. وقد اتفق المؤتمرون على ميثاق وطني، يحدد التصورات الكلية لسوريا المستقبل، وعلى العمل لإعادة هيكلة المجلس الوطني، بحيث يصبح أكثر تمثيلية. وكان هدف دعاة المؤتمر، تركيا وقطر، أن أن يترك ممثلو المعارضة وقعًا أكثر جدية على مؤتمر أصدقاء سوريا الثاني في إسطنبول.
بيد أن تطورًا لا يقل أهمية على صعيد المعارضة كان قد سُجّل قبل قليل من اجتماع قوى المعارضة السياسية في إسطنبول؛ ففي 24 مارس/آذار 2012، أعلن ناطق باسم الجيش السوري الحر عن اتفاق كافة ضباط الجيش في منطقة الحدود التركية-السورية على توحيد قيادة الجيش وتشكيل أطره القيادية، على أن يرأس العميد الركن مصطفى الشيخ مجلسًا عسكريًا من كبار الضباط، يشرف على استراتيجيات وتمويل وتسليح كافة مجموعات الجيش الحر في الداخل، ويعمل بمثابة وزارة دفاع للجيش، بينما يقود العقيد رياض الأسد قوات الجيش ومجموعاته فعليًا على الأرض. مثل هذه الخطوة، التي أُنجزت أيضًا بضغوط تركية وعربية، تضع الجيش الحر على بداية الطريق لإدارة النشاط المسلح داخل البلاد وتنظيم العلاقة مع المجلس الوطني، ولتلقي الدعم من القوى والدول المؤيدة للثورة السورية.
نحو تسليح الجيش الحر
يشير الجهد الذي تبذله كل من تركيا وقطر مؤخرًا من أجل تعزيز وضع المعارضة إلى عزمهما ممارسة دور أكثر فعالية في الأزمة السورية. وليس ثمة شك في أن فقدان تركيا ثقتها في نظام الأسد وانعطاف موقفها نحو المطالبة بتغيير كلي لنظام الحكم السوري، منذ نهايات أغسطس/آب 2011، واكب تبلور موقف عربي مشابه في الوقت نفسه، كانت قطر الأوضح في إعلانه وفي التأثير على الجامعة العربية لتبنّيه. ولكن لا تركيا ولا المجموعة العربية نجحت في تطوير استراتيجية شاملة للتعامل مع الأزمة في سوريا، توفر بدائل متضافرة لدعم مطالبة الحركة الشعبية السورية بتغيير النظام.
كانت المبادرة العربية، في نسختها الثالثة، محاولة لإنجاز هدف التغيير بطريقة تدريجية وأقل كلفة، ولكن رفض النظام للتعامل بجدية مع المبادرة ترك معسكر المساندين للحركة الشعبية السورية في العراء؛ فلا مجلس الأمن استطاع التوافق على مقاربة محددة، ولا القوى الغربية أبدت استعدادًا للتدخل العسكري، بموافقة مجلس الأمن أو بدون موافقته، ولا الرأي العام العربي كله يحبّذ التدخل العسكري الأجنبي، على أية حال، ولا الدعوات لإنشاء منطقة أو حزام عازل، عبّرت عن حسابات دقيقة ومخطط محسوب. هذا ما جعل معسكر المساندين للثورة يبدو وكأنه فقد زمام المبادرة خلال شهر مارس/آذار.
وخلف هذا الانسداد الظاهر في موقف القوى الدولية المساندة للثورة، التقى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في سيول، 25 مارس/آذار 2012، على هامش مؤتمر السلاح النووي. وكان لافتًا أن أردوغان ذهب للقاء الرئيس الأميركي بصحبة كبار المسؤولين الأتراك المفوضين بمعالجة الأزمة السورية. في نهاية الاجتماع، أعلن الطرفان عن أن مباحثاتهما تناولت "بحث طرق الضغط على الرئيس الأسد للتنحي، بما في ذلك تقديم مساعدات غير قاتلة للمعارضة السورية، مثل المواد الطبية ووسائل الاتصال". ولكن المعروف في مثل هذه المناسبات، عندما تتحدث الدول عن مساعدات "غير قاتلة" لقوى معارضة مسلحة، فإنها تعني أكثر من ذلك. في توجه مواز، أشار رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، في حديث مع قناة الجزيرة (28 مارس/آذار 2012)، إلى أن من حق الشعب السوري الدفاع عن نفسه في مواجهة حملة القمع الدموية التي يشنها النظام.
ليس ثمة معلومات قاطعة بعد حول تسليح جدي للجيش الحر، ولكن مثل هذا التطور لم يعد مستبعدًا. وإن كان تسليح الجيش الحر قد بدأ بالفعل، فلابد أن دولاً عربية، إضافة إلى تركيا، باتت تلعب الدور الرئيس في عملية التسليح، سواء تقديم العون المالي للجيش الحر، أو إمداده مباشرة بنوعية أفضل من السلاح والمعدات والذخائر.
ما يؤيد هذا التطور في مجريات الأزمة أن الحكومة التركية اتخذت قرارًا، سبق مباحثات سيول، بسحب السفير التركي من دمشق، وهي الخطوة التي عملت أنقرة على أن لا تصل إليها، حتى بعد أن سحبت دول الخليج العربية سفراءها. وكون الأتراك يجدون أنفسهم مضطرين الآن لاتخاذ هذه الخطوة يعني أن هناك تطورًا في التحرك التركي تجاه الوضع السوري. كما أن قائد القوات البرية التركية قام على مدى يومين (27–28 مارس/آذار) بتفقد قواته على طول الحدود التركية-السورية، من الغرب إلى الشرق.
مهمة كوفي عنان: دون سقف زمني أو ضمانات
سُمّي كوفي عنان، السكرتير العام السابق للأمم المتحدة، مبعوثًا للمنظمة الدولية وأمينها العام لسوريا في مطلع مارس/آذار 2012، بعد أن تعذّر الوصول إلى توافق بين الدول دائمة العضوية حول الموقف من الأزمة السورية. وقد سارعت الجامعة العربية إلى تبني مهمته باعتباره مبعوثًا مشتركًا للأمم المتحدة والجامعة العربية، على أن يرافقه في مهمته وزير الخارجية الفلسطيني السابق ومبعوث فلسطين السابق في الأمم المتحدة، ناصر القدوة. ولكن دمشق لم ترحب بالقدوة؛ مما ألقى بمعظم العمل إلى أيدي عنان وتُرك القدوة ليقوم بمهمات خلفية.
زار عنان دمشق في 17 مارس/آذار 2012، وعقد مباحثات مطولة مع الرئيس السوري ومسؤولين سوريين آخرين، انتهت بتقديم عنان خطة من ست نقاط لحل الأزمة، ولم يكن ضمن خطة عنان مطالبة بتنحي الأسد عن موقعه، ولكنها تفرض على النظام التوقف عن استخدام العنف (وتوقف المعارضة أيضًا)، والسحب التدريجي للقوات العسكرية والأمنية من الشوارع، والإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولكن الخطة تتضمن نصًا غامضًا حول مراقبة الوضع والتزام النظام بما هو مطلوب منه؛ كما أن عنان تجنب تحديد جدول أو سقف زمني لمهمته، أو لتنفيذ خطته.
خلال الأسابيع القليلة التالية، التقى عنان بمسؤولين أتراك وقيادة المجلس الوطني السوري، كما ذهب في زيارتين لموسكو وبيجين، ويُعتقد أنه يخطط لزيارة العاصمة الإيرانية طهران. وقد تلقى عنان تأييد كل من الصين وروسيا لمهمته، وتأييدًا إضافيًا من القمة العربية المنعقدة ببغداد يوم 29 مارس/آذار 2012، كما أن تركيا كانت قد أبدت دعمًا مشابهًا، وسانده كذلك مؤتمر أصدقاء سوريا المنعقد بإسطنبول. وفي 26 مارس/آذار 2012، أعلن الناطق باسم عنان عن استلام المبعوث الدولي رسالة من الحكومة السورية تفيد بقبول النظام بخطته، بدون أن يكشف عن نص الرسالة السورية.
بيد أن شكوكًا ثقيلة تحيط بمهمة عنان وخطته، عبَّر عنها قادة المجلس الوطني المعارض، وناطقون رسميون أميركيون وأوروبيون، ورئيس الوزراء التركي، وبعض المسؤولين العرب. وتنبع هذه الشكوك من مدى جدية دمشق في الالتزام بوقفٍ لإطلاق النار وسحب القوات العسكرية والأمنية، بينما يستمر سقوط عشرات من القتلى يوميًا في أنحاء سوريا، ومن المدى الزمني الذي سيسمح به عنان قبل أن يطالب باستجابة سورية عملية للمطالب التي تضمنتها خطته، أو الإعلان عن رفض النظام الاستجابة لهذه المطالب. ويعمّق هذه الشكوك أن النظام السوري رافق قبوله بخطة عنان بإشارات حول مزيد من المباحثات في الخطة.
ثمة رأي يقول بأن مهمة عنان ليست أكثر من تجلٍّ لتخلٍّ عربي ودولي عن الشعب السوري. وهذه الأصوات المشكِّكة بخطة عنان والإعلان السوري عن قبول خطته تتردد من واشنطن إلى أنقرة، في إيحاء ربما إلى أن مهمة عنان، على الأقل في هذه المرحلة، لا تعتبر ركنًا يعوَّل عليه في المقاربة الدولية والعربية–الإقليمية للشأن السوري.
إلى أين تتجه الأزمة؟
في 27 مارس/آذار 2012، قال الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، أثناء وجوده في سيول: إن مطلب تنحي الرئيس السوري "لا ينم عن بُعد نظر ولن يؤدي إلى حل للأزمة". وقد سمع رئيس الوزراء التركي خلال لقائه بقائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله خامنئي، يوم 29 مارس/آذار، توكيدًا حاسمًا على أن إيران ستدافع عن نظام الحكم السوري وعن بقائه، وكل المراهنات على تغيير ما في موقفي روسيا وإيران، على الأقل في المدى المنظور، ليست أكثر من تمنيات. هذه بالتأكيد لحظة حاسمة في مسار الثورة السورية، وما نجم عنها من أزمة إقليمية ودولية.
والسؤال الآن: إن كانت المجموعة المساندة للنظام قاطعة وصريحة في موقفها، فما الذي يمكن أن تقوم به المجموعة المؤيدة للشعب والثورة؟
إحدى الإجابات أن تنتظر نتائج مهمة عنان والخطة التي يطرحها؛ سيما أن هناك اعتقادًا بأن وقف عنف القوات النظامية وسحبها سيؤدي إلى تعاظم الحركة الشعبية ضد النظام في كافة المدن، بما في ذلك العاصمة؛ مما سيؤدي في النهاية إلى التغيير السياسي. ولكن تجربة التعامل مع نظام الأسد لا توحي بالتفاؤل، فعنان -بناءً على السابق- لن يحصل على وقف للعنف وسحب لقوات النظام؛ ومن ثَمَّ حرية السوريين في التعبير عن موقفهم من النظام في مظاهرات سلمية في كل أنحاء البلاد؛ فنظام الأسد لن يُقدِم على هذه الخطوة ما لم يكن يفكر جديًا في التنحي.
وتقول الإجابة الثانية بعدم التعويل كثيرًا على مبادرة عنان، على الأقل في هذه المرحلة، بدون أن تدعو لإنهاء المهمة؛ والعمل من ثَمَّ على تعزيز مقدرات المعارضة المالية والعسكرية لفرض توازن جديد على الساحة السورية، بغضّ النظر عن الزمن الذي سيأخذه هذا المسار.
والخلاصة، الأطراف المتنازعة تعلن دعم خطة عنان لكن تصرفاتها في الواقع لا تأبه لها، فالأسد لا يزال يجتاح عسكريا المناطق الثائرة عليه، وروسيا تمده بالسلاح والغطاء السياسي، وإيران تتعهد بالوقف إلى جانبه. وفي المقابل، تتنادى الدول المناهضة للنظام السوري إلى مساندة الثورة بأشكال مختلفة، من الاعتراف السياسي بالمجلس الوطني إلى تسليح الجيش الحر. فالطرفان المتنازعان يعملان في المقام الأولى على تغيير موازين القوى، قبل المراهنة على أي تسوية سياسية لا تستند إلى قوة ملزمة.