نجحت حكومة الوفاق، الحكومة الشرعية للدولة الليبية المنقسمة على نفسها، في سلسلة من الهجمات السريعة، انطلقت في منتصف أبريل/نيسان2020 ، في طرد قوات اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، من الشريط الساحلي الغربي الاستراتيجي الذي يتحكم في الطريق إلى الجارة، تونس. وخلال أسابيع قليلة تالية، نجحت قوات الوفاق في إبعاد قوات حفتر كلية عن المحيط الجنوبي للعاصمة طرابلس، بعد أن أجبرت مرتزقة فاغنر الروسية على الانسحاب من المنطقة. وفي الخامس من يونيو/حزيران، حصلت الوفاق على الجائزة الكبرى من تحركها الهجومي عندما استعادت مدينة ترهونة، المقر الرئيس لعمليات قوات حفتر في الغرب الليبي.
ما شهدته ساحة الصراع بعد ذلك كان أكثر غموضًا ومدعاة للتساؤل. في الأيام القليلة التالية على استعادة ترهونة لم يُخْفِ مسؤولو الوفاق، العسكريون بينهم والسياسيون، عزمهم مواصلة الاندفاع نحو الشرق للسيطرة على سرت والجفرة، ومن ثم المنطقة النفطية، بهدف إخراج حفتر وقواته كلية من ساحة العمل العسكري والسياسي. بيد أن طوابير قوات الوفاق المسلحة، التي اتجهت على الطريق الساحلي من مصراتة إلى سرت، في نهاية الأسبوع الأول من يونيو/حزيران، سرعان ما تعرضت لغارات جوية دقيقة، من المرجح أن طائرات روسية نفذتها، أوقعت بقوات الوفاق خسائر، وإن محدودة، في الأرواح والمعدات، فاضطرت قوات الوفاق إلى التراجع قليلًا، بمسافة تقدر بثلاثين كيلومترًا، عن مشارف سرت، التي كانت على وشك الوقوع تحت حصار من ثلاث جهات.
منذ منتصف يونيو/حزيران، وعدا اختراقات محدودة من الجانبين، يسيطر الهدوء على خطوط المواجهة، بالرغم من تصريحات مسؤولي الوفاق المتكررة حول استعدادهم للتقدم إلى ما خلف خط سرت-الجفرة، سلمًا أو حربًا. كما لا يبدو أن الجهود السياسية، سواء للتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، أو إطلاق جولة جديدة من المفاوضات السياسية بين الوفاق وقادة معسكر شرق ليبيا، حققت بعدُ تقدمًا ملموسًا، بخطوات واضحة نحو إطار سياسي وجدول زمني محدد للتفاوض.
فلماذا أصبحت الأزمة الليبية أكثر تعقيدًا بمرور الأيام؟ وأين تكمن مسؤولية الأطراف الإقليمية والدولية، ذات المصلحة في مجريات الأزمة، في هذا التعقيد؟ من المسؤول عن فرض حالة الترقب وعدم الحسم العسكري والسياسي؟ وإلى أي حد يرتبط المسار السياسي بالتطورات العسكرية على الأرض؟ وهل يمكن توقع مسار الأزمة المستقبلي على المديين، القصير والمتوسط؟
ساحة تدافعات دولية وإقليمية
بخلاف الثورتين، التونسية والمصرية، تطورت مجريات الثورة الليبية في 2011 لتصبح ساحة للتدخلات الأجنبية، سيما بعد أن تحول الحراك الشعبي ضد نظام القذافي إلى نزاع مسلح بين معارضي النظام، الذين نجحوا في دحر قوات النظام من الشرق الليبي واتخذوا من بنغازي مركزًا لهم، والقوات الموالية للعقيد القذافي. رفض القذافي وأغلب قادة نظامه الاستجابة للمطالب الشعبية، وأظهر تصميمًا على مواجهة الثورة بقوة السلاح وقمع الحركة الشعبية؛ وهذا ما أطلق تحركًا عربيًّا ودوليًّا، وُلِد من مناخ التعاطف مع حركة الثورة والتحول الديمقراطي في المجال العربي. نجح عدد من الدول العربية والكتلة الغربية في تمرير قرار أممي رقم 1973، صيغ بلغة عامة، في مجلس الأمن، يشجب موقف النظام ويفرض منطقة حظر على الطيران ويتعهد بحماية المدنيين؛ وسرعان ما استُخدم القرار كمسوِّغ قانوني دولي لتدخل عسكري، شاركت فيه فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ثم الولايات المتحدة بعد ذلك، لمنع قوات القذافي من اقتحام بنغازي وارتكاب مجزرة في ثاني أهم مدينة ليبية.
وفَّر التدخل الإقليمي، العربي والدولي، سيما بعد الدخول الأميركي إلى ساحة المواجهة، دعمًا ملموسًا للثوار المعارضين للنظام، الذين نجحوا بعد سلسلة من المواجهات في الوسط الليبي في اقتحام العاصمة، طرابلس، وإسقاط النظام. ولكن الليبيين لم يستطيعوا بناء نظام انتقالي مستقر، ولا في تجاوز مرحلة التحول الديمقراطي بسلام. في 2014، وبالرغم من وجود نظام سياسي قلق في طرابلس تحت مظلة المجلس الوطني، أعلن اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، عن تشكيل ما أسماه: الجيش الوطني الليبي وقيادته، متخذًا، في البداية، من مدينة طبرق في أقصى الشرق، مقرًّا لقيادته.
كان واضحًا أن حفتر يتحرك بدعم من مصر والإمارات والأردن، وأن هدفه السيطرة على ليبيا بقوة السلاح وإنشاء نظام شبيه بنظام السيسي في مصر، يقضي على التعددية السياسية ويكرِّس سيطرة العسكر على الحياة السياسية. لم يُخْفِ حفتر ازدراءه للتنافس السياسي بين القوى الجديدة في طرابلس وبنغازي، واصفًا كافة من عارضوا أو رفضوا تـأييد تحركه بالإرهاب أو الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
بيد أن القوى الموالية لحفتر في البداية لم تكن كافية لتحقيق ولو جزء من أهدافه؛ كما لم تستطع منع الانتخابات، التي جاءت بمجلس النواب الليبي في صيف 2014، ولا الوقوف أمام المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة بين مجلسي النواب والمجلس الوطني، ونجحت في التوصل لاتفاق الصخيرات الذي أسس لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس ورسم طريق ليبيا إلى الوحدة وبناء الاستقرار الدستوري والدولة الديمقراطية التعددية.
الملاحظ بعد ذلك أن رئيس مجلس النواب وعددًا ملموسًا من نوابه أبدوا تعاطفًا مع حفتر، وأقاموا علاقات وثيقة مع داعميه في مصر والإمارات. في نهاية 2015، أعلن رئيس المجلس، عقيلة صالح، بتأييد من بعض النواب، اللواء المتقاعد، حفتر، قائدًا للقوات التابعة للمجلس. لم يكن حفتر في الحقيقة ليكترث بالمجلس أو أعضائه، ولا بآلية عمله ودوره الدستوري؛ ولكن القرار وفَّر له شرعية داخلية، ومهَّد الطريق أمامه ليُحسب طرفًا سياسيًّا رئيسًا.
في 2017، نجحت قوات حفتر في السيطرة على مدينة بنغازي، ولم يعد من الممكن تجاهله ولا تجاهل نفوذه المتنامي، سيما بعد أن أخذ في الإشارة إلى أن هدفه النهائي هو التقدم نحو العاصمة، طرابلس، ووضع نهاية لحكومة الوفاق.
بعد مرحلة بنغازي، تزايدت الأدلة على أن الدعم المقدَّم للجنرال لم يعد يقتصر على الإمارات ومصر (والتدريب المموَّل إماراتيًّا في الأردن)، بل فرنسا أيضًا. كما التقى حفتر وزير الدفاع الروسي، مع ظهور بوادر على تزايد تعاطف موسكو معه. لماذا اتخذت فرنسا جانب حفتر في مواجهة حكومة مؤيَّدة ومعترف بها دوليًّا في طرابلس؟ وأية مصالح أمَّلت بتحقيقها من سيطرة حفتر على ليبيا؟ ليس واضحًا، خاصة أن حكومة الوفاق حافظت على علاقات جيدة مع باريس، قبل وبعد صعود ماكرون لموقع الرئاسة الفرنسية، لكن قد يكون التقارب المتزايد بين أبوظبي وباريس في وجهات النظر والمصالح عاملًا مفسرًا لانحياز فرنسا الفعلي إلى حفتر. وأما تعاطف موسكو مع حفتر، وتحركها الحثيث خلال السنوات التالية لدعمه، فيبدو أسلس تفسيرًا.
في 2011، اعتقد الروس أن الغرب خدعهم، بعد أن غضَّت موسكو النظر عن تمرير قرار مجلس الأمن واتخذت القوى الغربية القرار مسوغًا للتدخل العسكري وإطاحة نظام القذافي. ربطت بين ليبيا -خلال حكم القذافي- وروسيا صلاتٌ وثيقة، سياسية واقتصادية؛ ولم تكن موسكو سعيدة بعودة ليبيا منطقة نفوذ غربي. إضافة لذلك، نظرت موسكو بعين الشك لكل ظاهرة الثورة في المجال العربي، خاصة بعد أن أخذت القوى الغربية في إظهار دعمها لعملية التحول الديمقراطي في دول الثورة العربية. ولم يكن خافيًا أن موسكو، سيما بعد الثورة الأوكرانية، باتت تخشى استخدام الغرب سلاح الديمقراطية لإطاحة الأنظمة الموالية لموسكو في الجوار الروسي، بل ونظام بوتين نفسه.
كما في مصر بعد انقلاب 2013، وجدت موسكو في حفتر الرجل العسكري القوي، الذي سيضع نهاية لما تعتبره أوهام الديمقراطية الغربية، ويستعيد التحالف مع روسيا، ويعيد الاستقرار إلى ليبيا. خلال السنوات التالية لما بعد بنغازي، وبعد أن بدأ حفتر هجومه الكبير نحو طرابلس، في ربيع 2019، تصاعد الدعم الروسي للواء المتقاعد.
في المقابل، وحتى توقيع اتفاق التعاون العسكري بين حكومة الوفاق وتركيا، لم تتلقَّ الوفاق دعمًا مباشرًا وملموسًا من أي من القوى الإقليمية والدولية، بالرغم من أنها تمثل الحكومة الشرعية الليبية الوحيدة المعترف بها دوليًّا. قطر وتركيا، وكما موقفهما من كافة عمليات التحول الديمقراطي في دول المجال العربي، أكدَّتا دائمًا على التأييد والدعم السياسي لحكومة الوفاق؛ ولكن أيًّا منهما لم تقدم دعمًا عسكريًّا مباشرًا للوفاق. دول عربية أخرى، مثل المغرب، الذي وُلِد اتفاق الصخيرات بتسهيلات ودعم منه، التزم هو الآخر موقف التأييد السياسي للوفاق.
أما دوليًّا، فبالرغم من أن كافة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن اعترفت ضمنيًّا بالوفاق، لم تعمل أي منها على توفير الدعم العسكري الضروري لطرابلس. حتى الولايات المتحدة، التي راقبت النشاط الروسي المتزايد في ليبيا إلى جانب حفتر، لم تتخذ أية خطوة ملموسة لمواجهة التدخل الروسي أو تعزيز موقف حكومة الوفاق. الاستثناء الوحيد كان الدعم الأميركي الذي قُدِّم لقوات الوفاق عندما خاضت معركة سرت ضد تنظيم الدولة، في 2016، التي انتهت بتحرير المدينة من التنظيم ودحره، قبل أن يطلق حفتر هجومه ضد طرابلس.
روسيا وتجميد الموقف
في تحرك مفاجئ، عكس شعورًا متزايدًا بالثقة، تحركت قوات حفتر، في مطلع 2019، جنوبًا من مواقعها في بنغازي، وفرضت سيطرتها على قاعدة الجفرة الجوية. وفي أبريل/نيسان، بدأ حفتر هجومه الواسع باتجاه طرابلس، مستهدفًا حسم الموقف نهائيًّا في كافة أراضي الدولة الليبية. خلال أيام، نجح الهجوم في السيطرة على مدينة غريان، ثم قاعدة الوطية، ثم الطريق الساحلي الغربي باتجاه الحدود التونسية وكافة المدن التي يمر بها، ومطار طرابلس الدولي، ومدينة ترهونة، ثم فرض حصاراً على العاصمة، طرابلس.
ولكن الهجوم تعثر في محور الزاوية-طرابلس، بفعل مقاومة قوات الوفاق المتمركزة في مدينة الزواية، وإخفاق حفتر في تحريك خلايا موالية له داخل طرابلس ضد حكومة الوفاق، فتوقفت القوات المهاجمة على مشارف العاصمة، فسنحت فرصة لقوات الوفاق بالتوجه إلى خطوط المواجهة.
خلال مرحلة ما قبل انطلاق الهجوم على طرابلس، لم تكن القوى المؤيِّدة لحفتر صريحة وواضحة في دعمها له. حتى مصر، التي أصبحت الممر الرئيس للإمدادات المالية والعسكرية القادمة من الإمارات، حافظت على علاقاتها بحكومة الوفاق واستقبلت رئيسها، فايز السراج. ولكن الموقف تغير بصورة ملموسة بعد بدء عملية طرابلس؛ حيث أصبح دعم الحلفاء واضحًا، وبدون اكتراث يُذكَر بالقانون الدولي. أُرسلت قوافل الإمدادات العسكرية من مصر إلى قواعد حفتر العسكرية في الشرق في وضح النهار، وهبطت الطائرات الإماراتية المحملة بالسلاح والذخيرة في قواعد الشرق الجوية على مرأى ومسمع من العالم كله. وإلى جانب حصول قوات حفتر على معدات عسكرية فرنسية متقدمة، كان لافتًا اكتشاف عبور ضباط استخبارات فرنسيين الحدود الليبية مع تونس، بعد أن سيطرت قوات الوفاق على مدينة غريان في يونيو/حزيران 2019، اتضح أنهم كانوا يوجدون في مقر قيادة قوات حفتر المحاصِرة للعاصمة الليبية.
بيد أن المتغير الأبرز، كان ظهور قوات مرتزقة تابعة لشركة فاغنر الروسية في خطوط المواجهة جنوب طرابلس. فاغنر هي بالطبع شركة عسكريين مرتزقة روس، ولكن كل من يعرف طريقة العمل في موسكو يعرف أن الشركة، التي تديرها شخصية عملت من قبل بقرب الرئيس بوتين، يستحيل أن تشارك في أية ساحة قتال من دون موافقة، وأحيانًا أوامر مباشرة، من الكرملين. وكان مرتزقة فاغنر شاركوا بالفعل في القتال شرق أوكرانيا وفي سوريا، إلى جانب المعسكر الذي تؤيده وتدعمه موسكو في الحالتين.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقَّعت حكومة الوفاق اتفاقية التعاون العسكري مع تركيا، كما مذكرة تفاهم حول ترسيم خطوط المناطق الاقتصادية بين البلدين شرق المتوسط. كانت أنقرة وفَّرت بعضًا من الدعم العسكري المحدود لطرابلس قبل توقيع الاتفاق. بعد توقيع الاتفاق، تطور الدعم التركي بصورة ملموسة، شاملًا طائرات مسيَّرة، وذخائر وعربات ومعدات عسكرية أخرى، وخبراء عسكريين. هذا الدعم هو ما أهَّل قوات الوفاق لإطلاق هجومها الكبير في أبريل/نيسان 2020، الذي نجح في إيقاع هزيمة مؤلمة بحفتر وقواته، ثم طرده كلية من الغرب الليبي، أعقبه تحرك قوات الوفاق إلى مشارف سرت.
هزيمة حفتر في الغرب وتبخر آماله في السيطرة على العاصمة، أحدثا متغيرًا آخر في مواقف القوى الداعمة له. سارعت الإمارات، كما كان متوقعًا، إلى توفير دعم عسكري متزايد للواء المتقاعد، لمساعدته في الحفاظ على مواقعه في الخطوط الجديدة، انتظارًا لتطورات الموقفين، العسكري والسياسي. من جهة أخرى، أظهرت فرنسا ابتعادًا متعمدًا عن حفتر، منكرة تورطها بأية صورة عسكرية من الصور معه. في الوقت نفسه، أعلنت باريس، وأحيانًا على لسان الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، معارضتها التدخل التركي إلى جانب الوفاق، واصفة إياه بالتهديد الاستراتيجي لأوروبا في شرق المتوسط.
كانت قوات فاغنر، لسبب من الأسباب، انسحبت من جنوب طرابلس قبل بدء هجوم قوات الوفاق على مواقع قوات حفتر، ومعها بطاريات الصواريخ الروسية المضادة للطائرات، التي كانت تعرضت لإصابات مباشرة من الطائرات المسيَّرة التركية في معركة قاعدة الوطية الجوية. ولكن قوات فاغنر لم تنسحب من ليبيا كلية، بل انتقلت من جنوب طرابلس إلى التمركز في قاعدة الجفرة الجوية، ومواقع قوات حفتر في سرت؛ إلى أن أفادت تقارير ليبية وأميركية بتحرك عناصر فاغنر أيضًا إلى مراكز النفط والغاز الرئيسة في المثلث النفطي، بما في ذلك ميناء رأس لانوف الصناعي.
في نهاية مايو/أيار، أكدت قيادة أفرو-كوم الأميركية أن 14 طائرة روسية حديثة، من طراز سوخوي 27 وميغ 31، عبرت الأجواء الليبية، متخذة قاعدة الجفرة الجوية مركزًا لها. مثل هذا الطائرات لا توجد بالتأكيد في أيدي مرتزقة ما، ولا يُسمح بنشرها في منطقة بالغة الاضطراب مثل ليبيا، ويستبعد أن تتوافر لحفتر قدرات تقنية أو طيارون لقيادتها وصيانتها. نشر هذه الطائرات، التي يعتقد أن عددها زاد عن الأربع عشرة طائرة الأولى بعد ذلك، كانت المؤشر الأوضح على تدخل روسي رسمي ومباشر في الأزمة الليبية. والأرجح أن عددًا من هذه الطائرات نفَّذ الغارات على قوات الوفاق في محيط سرت في نهاية الأسبوع الأول من يونيو/حزيران، التي أدت إلى توقف هجوم الوفاق على المدينة.
خلال الأسابيع التالية، سجلت عدة مراصد عشرات الرحلات الجوية، التي قامت بها طائرات شركة أجنحة الشام السورية، بين دمشق أو اللاذقية وبنغازي، يعتقد أنها حملت مرتزقة سوريين، جنَّدهم الروس، للقتال إلى جانب قوات حفتر.
في يونيو/حزيران، وأثناء زيارة وفد ليبي يقوده نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، أحمد معيتيق، إلى موسكو، قال مسؤولون روس كبار للوفد الليبي، حسب مصادر ليبية خاصة قريبة من حكومة الوفاق: إن خط سرت-الجفرة خط أحمر، وإن روسيا لن تسمح لقوات الوفاق بالسيطرة على سرت أو الجفرة. كما طالب الجانب الروسي وفد الوفاق بإبرام اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، وإطلاق عملية تفاوض سياسي مع القوى السياسية في شرق ليبيا، مع المحافظة على حدود النفوذ الحالية كما هي. في الوقت نفسه، وبعد استقبالها رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، لم تُخْفِ موسكو أنها لم تعد تعتبر حفتر ممثلًا للشرق، وأنها تدعم صالح، المعترف برئاسته لمجلس النواب، بديلًا عن اللواء المهزوم.
مصر، التي أجرت اتصالات مكثفة بشأن ليبيا مع فرنسا وروسيا بعد اندحار قوات حفتر من الغرب الليبي، كانت تراقب بالتأكيد تعاظم التدخل الروسي في الشرق، ويبدو أنها تعلم برسالة خط سرت-الجفرة التي أُبلغت لوفد الوفاق الزائر في موسكو. ولم يكن غريبًا، بالتالي، أن يحمل خطاب الرئيس المصري، السيسي، الخاص بالأزمة الليبية، 20 يونيو/حزيران، ترجمة حرفية لرسالة الخط الأحمر الروسية. الفارق، أن السيسي استخدم لغة أكثر غموضًا، مهددًا بأن "تجاوز" خط سرت-الجفرة سيدفع مصر للتدخل المباشر في الصراع على ليبيا، بدون أن يحدد طبيعة هذا التدخل.
خلال الأسابيع التالية، وبالرغم من أن نظام السيسي استمر في إرسال رسائل التهديد، سواء عبر اجتماع المجلس العسكري المصري، أو بتصويت مجلس النواب المصري بالموافقة على نشر عناصر عسكرية مصرية عند الضرورة في ليبيا، لا يبدو أن أنقرة، حليف الوفاق الرئيس، أخذت التهديدات المصرية مأخذ الجد. ما بدا واضحًا، أن الموقف الروسي، وليس المصري، ما أخذ يحتل موقع الثقل في حسابات تركيا الليبية. طوال يونيو/حزيران ويوليو/تموز، استمر مسؤولو الوفاق بالضغط لدفع تركيا لتوفير المساعدة العسكرية الضرورية للتقدم ودحر قوات حفتر وحلفائه من سرت، ولكن أنقرة لم ترغب في خوض صدام مباشر مع روسيا.
انطلق الحوار التركي-الروسي حول ليبيا بصورة حثيثة منذ بداية يونيو/حزيران، بما في ذلك عدة اتصالات هاتفية بين أردوغان وبوتين. ولكن تأجيل زيارة كانت مقررة لوزيري الخارجية والدفاع الروسيين لأنقرة، كشف عن خلافات محتدمة بين الدولتين. الخطوة الأهم في هذه الاتصالات جرت في 21 يوليو/تموز، عندما أجرى مساعد وزير الخارجية الروسي مباحثات حول ليبيا مع نظيره التركي، ولكن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التركية بعد اختتام المباحثات لم يشر سوى لإحراز تقدم في الاتفاق على آلية التفاوض وليس حول مسائل التفاوض.
بمعنى أن الدولتين اتفقتا على تشكيل مجموعة عمل دائمة لبحث المسألة الليبية، بدون أن تصلا إلى تفاهم بعدُ حول وقف شامل لإطلاق النار، الذي هو جوهر الموقف الروسي، أو سماح روسيا لقوات الوفاق باستعادة سرت من قوات حفتر قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار، أو حتى انسحاب قوات حفتر من سرت طوعيًّا، الذي هو المطلب التركي.
بهذا، ثبتت خطوط المواجهة على ما هي عليه في الطريق من مصراتة إلى سرت، وإن لم تتوقف المساعي والوساطات السياسية لتحقيق انفراجة ما في المسار السياسي التفاوضي.
بين الحسم العسكري والحل السياسي
بصورة مفاجئة، وصل خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، للرباط، بدعوة من رئيس مجلس النواب المغربي، وذلك بعد ساعات من وصول عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، للعاصمة المغربية. وبالرغم من عدم توافر أدلة على أن الرجلين عقدا لقاء ثنائيًّا، فالواضح أن وجودهما في العاصمة، الرباط، كشف عن مبادرة مغربية كانت تُطْبَخ على نار هادئة منذ بعض الوقت. عقد كل من صالح والمشري مباحثات مع رئيس مجلس النواب ووزير الخارجية المغربيين؛ وكان لافتًا تصريح المشري، بعد اجتماعه بوزير الخارجية المغربي، بوجود أخطاء وقصور في تطبيق اتفاق الصخيرات وأن من الضروري العمل على إجراء تعديلات في الاتفاق. بمعنى أن طرابلس باتت على استعداد للتفاوض حول صيغة جديدة للاتفاق، ترضي كافة الأطراف. هذا، مع توكيد المشري على أن اتفاق الصخيرات يظل أساس كل مفاوضات مستقبلية، وأن لا تفاوض إلا مع المؤسسات التي وُلِدت من الاتفاق؛ وفي هذا إشارة إلى أن طرابلس لن تقبل بحفتر مفاوضًا، بل بعقيلة صالح.
إنْ كانت دعوة الرجلين للرباط مؤشرًا على أن المغرب يعمل على إطلاق جولة تفاوض جديدة بين الأطراف الليبية، فالسؤال هو: كيف ستبدأ المفاوضات؟ وفي أي إطار؟ وهل سينجح المغرب في تحييد الأطراف الإقليمية والدولية النشطة في الساحة الليبية، ومنعها من وضع العقبات في طريق التفاوض؟
كانت الجزائر، بالطبع، طرحت مبادرة لحل الأزمة في ليبيا، قامت هي الأخرى على الاتصال بكلٍّ من حكومة الوفاق وعقيلة صالح، مستبعدة حفتر. والمعروف أن الجزائر، جارة ليبيا الكبرى في الغرب وذات الاهتمام البالغ بالشأن الليبي، لم تكن سعيدة بما أضفاه اتفاق الصخيرات من إعلاء للدور الدبلوماسي المغربي، بالرغم من أن الجزائر لم تعارض الاتفاق. المشكلة، أن التحرك الجزائري يتجاهل اتفاق الصخيرات، ولا يبدو أن الجزائر تنظر للاتفاق باعتباره المؤسِّس للدولة الليبية الجديدة؛ وهذا ما يجعل حكومة الوفاق، ربما، أقل حماسًا للمبادرة الجزائرية منها للجهود المغربية. لم يزل الجزائريون يواصلون اتصالاتهم بالأطراف الليبية، ولكن الأرجح أنه ما لم يتحرك المسار التفاوضي على أرضية مشتركة من المبادرتين، الجزائرية والمغربية، بدعم أوروبي وأميركي، فإن المبادرة المغربية تبدو أوفر حظًّا.
ما تكشفه جهود الجزائر والمغرب، على أية حال، أن الأزمة الليبية تمر الآن بلحظة سباق بين الخيارين، العسكري والسياسي. وإنْ كانت المؤشرات على أن الخيار السياسي يحظى بجهود متزايدة من أكثر من طرف، فإن العسكري يمكن أن ينفجر بصورة مفاجئة، بالرغم من حالة الجمود والمراوحة الحالية. لتأمين طرابلس ومصراتة والمدن الأخرى في الغرب، لابد من خروج قوات حفتر من سرت، وكذلك للإشراف على منطقة الهلال النفطي الحيوية لاقتصاد البلاد. إضافة إلى أن ثمة منطقًا في اشتراط الوفاق انسحاب حفتر إلى ما قبل خطوط أبريل/نيسان 2019، عندما بدأ تحركه الهجومي للسيطرة على طرابلس، وعندما لم تكن لا سرت ولا الجفرة تحت سيطرته، أما تركيا فتشترط للقبول بوقف إطلاق النار انسحاب قوات حفتر إلى خطوط ما قبل اتفاق الصخيرات في 2015.
ويبدو أن تركيا تحاول، عبر المفاوضات مع روسيا، الحصول على موافقة موسكو على انسحاب حفتر من سرت والجفرة تمهيدًا لاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار، ومن ثم التحرك نحو مفاوضات، يمثل فيها عقيلة صالح، وليس حفتر، الشرق الليبي. في حال لم يتم التفاهم التركي-الروسي، يبدو أن من الصعب على أنقرة في الظرف الحالي دعم هجوم على سرت يفضي إلى مواجهة تركية-روسية. مشكلة تركيا في ليبيا اليوم هي أقرب إلى إعادة إنتاج لمشكلتها في سوريا في الفترة بعد سبتمبر/أيلول 2015، عندما بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام السوري، لما كانت أنقرة تأمل في 2015 بأن تدخل الولايات المتحدة ساحة الصراع السوري لموازنة التدخل الروسي. ولكن إدارة أوباما كانت ترى أن سوريا لم ولن تمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، وقررت بالتالي تجنب التورط في ساحة الصراع السورية. في ليبيا، وبالرغم من أن إدارة ترامب تُظهر تأييدًا أكثر صراحة للموقف التركي في ليبيا، وتُعرب عن قلق متزايد من التدخل الروسي في الساحة الليبية، بكل ما يمثله هذا التدخل من مخاطر استراتيجية على أمن أوروبا والحلف الأطلسي، ليس ثمة مؤشر بعد على أن واشنطن ترامب على استعداد لاتخاذ خطوات عملية وملموسة لدعم تركيا في ليبيا، لكن قد تحدث تطورات في الموقف الأميركي والسياق الدولي تعزز موقف تركيا وحكومة الوفاق في سعيهما لاستعادة سرت والجفرة.
عمومًا، وحتى إن استمرت حالة الجمود والمراوحة لبعض الوقت، فإن موقف حكومة الوفاق أصبح أفضل بكثير مما كان عليه قبل ستة شهور، وإن طرابلس أصبحت أكثر أمنًا، وإن ميزان القوى، العسكري والسياسي، قد مال بصورة ملموسة لصالح الوفاق. معضلة إيقاف حفتر تصدير النفط من حقول الوسط والجنوب، يمكن حلُّها ربما بضغوط دولية. وما لم يحاول حفتر، بدفع إماراتي-مصري-روسي، المغامرة من جديد باندفاعة أخرى نحو الغرب، فليس ثمة خطر يهدد وضع حكومة الوفاق والمناطق الخاضعة لها. وإن لم يكن حفتر قد انتهى عسكريًّا بعد، فالأرجح أنه لم يعد طرفًا سياسيًّا يُعتد به.