ظاهرة الانشقاقات عن النظام السوري.. وقائعها، خصائصها، آثارها

تصيب الانشقاقات في سورية "الدولة" وليس "النظام"، وبالتالي لن يكون لها أثر حاسم وقريب على مصيره فنواته الداخلية تنغلق على نفسها وتتصلب بتأثير الانشقاقات الأخيرة. ومع ذلك مثلت هذه الانشقاقات صفعات معنوية وإعلامية قوية على وجه النظام، وأمدت الثائرين بالعزيمة والتفاؤل.
201281392924292734_20.jpg
من اليمين، العميد مناف طلاس، وعبد اللطيف الدباغ، ورياض حجاب، ونواف الفارس (الجزيرة)

بما يشبه القانون الصارم، وقعت الانشقاقات عن النظام السوري بتناسب طردي مع زجه الجيش، والدولة كلها، في مواجهة السوريين الثائرين. كلما توسع النظام في حملاته الحربية تسبب ذلك في انشقاقات أكثر في مؤسساته. وبفعل تكوينه المتعصب، لا يستطيع إلا التوسع في حربه، معولا عليها إعادة إخضاع المجتمع السوري الثائر، ومتحملا حتى اليوم غرم انشقاقات لا تتوقف.

وقائع الانشقاق

أولى الانشقاقات حصلت بين العسكريين. انشق المقدم حسين الهرموش عن النظام في حزيران 2011 وشكل "لواء الضباط الأحرار"، وبعده بأقل من شهر انشق العقيد رياض الأسعد وشكل "الجيش الحر" الذي غدا المظلة العريضة للمقاومة المسلحة في البلد. وبعدهما لم تتوقف الانشقاقات العسكرية في مختلف مناطق البلد، ومن مختلف الرتب، بما فيها عمداء وألوية. ومن أشهر المنشقين العميد مناف طلاس الضابط في الحرس الجمهوري، ابن وزير الدفاع السابق، وقد كان وأسرته مقربين من الأسرة الأسدية. وقبل أيام انشق اللواء محمد فارس، هو رائد الفضاء السوري الوحيد بعد أن حلق في مركبة روسية عام 1986. ويقدر اليوم عدد الضباط المنشقين بالمئات، بينهم في تركيا فوق مائة عميد. لكن أقل من نصفهم يشاركون في القتال.

وفي شهر أغسطس/ آب الجاري أعلن عن انشقاق العقيد يعرب الشرع الذي كان رئيسا لفرع المعلومات التابع لجهاز الأمن السياسي. وكان المساعد آفاق أحمد من جهاز المخابرات الجوية أعلن انشقاقه في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.

انقضت شهور طوال قبل أن تظهر انشقاقات في صفوف دبلوماسيي النظام. ففي شهور يوليو: تموز 2012 انشق نواف الفارس سفير النظام السوري في بغداد. وتبعته رئيسة البعثة السورية في قبرص والسفير في بيلوروسيا والقائم بالأعمال في بريطانيا، ودبلوماسي في السفارة في عمان. وفي مارس/ آذار 2012 انشق عبده حسام الدين مساعد وزير النفط السوري. لكن أهم مسؤول حكومي ينشق هو بلا ريب رئيس الوزراء السوري رياض حجاب الذي كان انقضى بالكاد شهران على تعيينه على رأس الحكومة، في خطوة أراد لها بشار الأسد أن تبدو إصلاحية. وكان إعلاميون أعلنوا انشقاقهم على النظام، وخرج جميعهم من البلد.

ومن مجلس الشعب الذي انتخب قبل ثلاثة شهور فقط في خطوة أريد لها أيضا أن تكون إصلاحية انشق العضوان إخلاص بدوي وعلي البش.

خصائص الانشقاقات

للانشقاقات عن النظام السوري خصائص مميزة، يفيد الإطلال عليها في قول شيء عن آثارها المحتملة على النظام.

أولى هذه الخصائص أن الانشقاقات تصيب "الدولة" وليس "النظام"، تصيب المؤسسات العامة وليس الأجهزة الخاصة أو "الدولة الخفية". تأثر بالانشقاقات كل من الجيش والجهاز الدبلوماسي والحكومة والجهاز التشريعي والإعلام، وليس النواة الصلبة للنظام، أو عموده الفقري السياسي الأمني. ما يميز النظام الأسدي طوال عقود هو أنه لا يستدل على مراكز السلطة الفعلية من مراتب الدولة الظاهرة. هذه الأخيرة مجرد واجهة لسلطة فعلية تعتمد عموما على القرابة والثقة، وليس على الكفاءة والأهليات الفعلية. وما ذكرناها عن انشقاق العقيد يعرب الشرع والمساعد آفاق أحمد عن أجهزة أمنية لا يغير من الأمر شيئا.

وتتمثل الخاصية الثانية في الطابع غير الجمعي للانشقاقات. انشق أفراد أو مجموعات صغيرة. ومع أن عدد الانشقاقات كبير، لكن لم يحدث انشقاق جماعي لفرقة عسكرية أو للواء، أو حتى لكتيبة بأكملها. وفي جذر ذلك التكوين الأمني الطائفي لوحدات الجيش السوري؛ إذا كان قائد إحدى الوحدات من طائفة، فإن نائبه من طائفة ثانية، ومسؤول الأمن في الوحدة من طائفة ثالثة. وهذا يبقي مستوى الثقة على مستوى الوحدات ككل متدنيا، بحيث يتعذر أن تتصرف على قلب رجل واحد.

ومثل ذلك ينطبق على السفارات التي توصف عادة بأنها فروع أمنية لمراقبة السوريين في بلدان الاغتراب، وليس للدفاع عن مصالح السوريين المغتربين.

الخاصية الثالثة نستدل عليها من أنه لم يعلن عن انشقاق أية شخصية مهمة عسكرية أو مدنية عن النظام قبل أن يجري تأمين أسرته، وهذا لأن من عوائد النظام السوري أن ينتقم من الأبناء بالآباء والإخوة، وهو ما يعرفه أمثال عبد الحليم خدام ومناف طلاس ورياض حجاب جيدا، لذلك لم يعلن أي منهم انشقاقه قبل أن يؤمن جميع أفراد أسرته. والخاصية هذه تتمثل في أن الخروج من النظام غير ممكن فعلا دون الخروج عليه، والخروج عليه يقتضي الخروج من البلد كي ينجو المرء بنفسه، وإلا فمواجهة النظام بالقوة على ما يفعل بعض العسكريين المنشقين.

والشيء اللافت أنه لا يكاد يكون هناك منشقون ظلوا في البلد من غير المحاربين. لم يختر أحد، ولا حتى من الإعلاميين، الجمع بين المشاركة في الثورة وحياة التواري داخل البلد. كل من انشقوا، عدا عسكريين (ليس كلهم)، اتجهوا إلى تركيا أو قطر أو أوربا. وأضحى بعضهم يطل على السوريين من وسائل إعلام عربية. وحتى اليوم لم يعد أحد من المنشقين للمشاركة في الثورة من الداخل.

ومن هنا خاصية رابعة للانشقاقات تتمثل في طابعها الإعلامي. يبدو أن القانون هنا هو أن الانشقاق الذي لا يبث على وسائل الإعلام المرئية لم يحدث. وإذا كان مفهوما وضروريا أن تعلن جميع الانشقاقات لما لإعلانها من مفعول معنوي فإنه يبدو أن أثر بعضها ينتهي بعد إعلانها مباشرة.

إلى ذلك تتفاوت الانشقاقات في دوافعها وفي مآل المنشقين. ليس واضحا دوما إن كان سبب الانشقاق وطنيا وإنسانيا فحسب. يدين جميع المنشقين في بياناتهم النظام، ويعطون الانطباع بأنهم انشقوا بتأثر دوافع ضميرية ووطنية. لكن هل يحتمل أن هناك ترتيبات سياسية غير معلومة وراء بعض الانشقاقات؟ هذا وارد، وإن كان الحصول على معلومات موثوقة في هذا الشأن متعذرا اليوم.

وعلى كل حال يميز عموم السوريين بين منشقين ومنشقين. يتواتر اليوم الكلام على "منشقين خمس نجوم" على غرار مناف طلاس الذي لم يعلن انشقاقه إلا بعد أيام من استقراره في باريس. وكان واضحا من بيان انشقاقه أنه يزكي نفسه رجلا للمرحلة، وأن في انتقاده متطرفين هنا وهناك، من جهة النظام ومن جهة الثورة، ما يشبه تقديم أوراق اعتماد لجهات دولية ما. هل هذا رجل انشق لدوافع محض أخلاقية ووطنية؟ هذا أمر لا يسهل تصديقه.

يسخر ثائرون سوريون أيضا من استقرار كثير من المنشقين العسكريين في تركيا، ويتساءلون إن كان الجماعة يعتزمون القيام بثورة في تركيا!

آثار الانشقاقات

بالاستناد إلى ما سبق قوله عن أن الانشقاقات تصيب "الدولة" وليس "النظام"، فإنه من غير المتوقع أن يكون لها أثر حاسم وقريب لها على مصير النظام. الواقع أنه يبدو أن نواة النظام الداخلية تنغلق على نفسها وتتصلب بتأثير الانشقاقات الأخيرة، ولعلها تعرض أكثر وأكثر نزوعا انتحاريا لم يكن غريبا عليها في أي وقت. واليوم يبدو أن هذا النزوع الانتحاري يشتد بقدر ما يرتد النظام إلى نواته السياسية الأمنية. يمكن تصور وضع يتعرى فيه النظام بالكامل عن هذه النواة، ويشتغل حينها كقوة عمياء تقتل دون تمييز. هو ليس بعيدا اليوم عن ذلك. ويزدادا هذا الاحتمال قوة بفعل ما يتلقاه النظام، أي هذه النواة السياسية الأمنية، والطائفية أساسا، من دعم إيران وحزب الله وروسيا. علاقات إيران وحزب الله تحديدا محصورة بالنظام وحده، فيما تكاد تكون مقطوعة بالدولة. ومن شأن دعم حلفاء النظام له على المدى المنظور أن يبقي "النظام" حيا، حتى وإن ماتت "الدولة".

لكن لا ريب أن الانشقاقات مثلت صفعات معنوية وإعلامية قوية على وجه النظام، وأمدت الثائرين بالعزيمة والتفاؤل، ونشرت شعورا قويا بالتشاؤم في أوساط الموالين له.

لكن هنا أيضا من المفيد التمييز بين مستويين من أهل الولاء. هناك ولاء للنظام لا يبلغ حد التماهي أو الالتحام به. هذا يتخلخل أكثر وأكثر. تسببت الانشقاقات، وتقدم الثورة عموما، في ظهور ما يشبه سياسة النأي بالنفس في هذه الأوساط الموالية، وذلك تحت تأثير خشيتها من أن تحسب على نظام ساقط من جهة، ونفورها من الثورة وخوفها منها من جهة ثانية. لكن هناك موالاة ملتحمة أو متماهية بالنظام، وليس بالدولة. وهذه لا تؤثر الانشقاقات على ولائها، بل لعلها تزداد التحاما بالنظام ورهنا لمصيرها بمصيره. محددات تفاوت مراتب الولاء ليست منقطعة الصلة بالتمايزات الطائفية القائمة في المجتمع السوري، وقد تنشطت كثيرا أثناء الثورة كما تتنشط كل مرة يهتز فيها الترتيب السياسي القائم ويبدو عرضة للسقوط.

هذا يفتح ظاهرة الانشقاقات على تشققات مرشحة لمزيد من العمق في البنية الاجتماعية السورية، وربما في الكيان الوطني ذاته. ليس الترابط بين الانشقاق والتشقق مباشرا. الواقع أنهما مترتبان على شيء مختلف عنهما معا، التعاطي الحربي للنظام مع الثورة، ودون انضباط أيضا بالحد الأدنى من قوانين الحرب. وليس من المحتمل تاليا أن تنتهي ظاهرة الانشقاق التي تصيب الدولة كمؤسسة حكم وتهديد التشقق الذي يصيب الدولة ككيان وطني إلا بانتهاء أصلهما المشترك: نظام الحرب الأهلية القائم في سورية منذ نصف قرن.