يتجسد هدف توحيد المعارضة في قدرتها على التوصل إلى بنية جديدة وقوية، تضع رؤية مشتركة،وتشكّل قطبًا ديموقراطيًا، يوحّد الجهود
ويدعم ويتواصل مع قوى الحراك، ويرتب العلاقات مع القوى العربية (الجزيرة)
شكّلت قضية وحدة قوى المعارضة السورية هاجسًا لدى النشطاء الميدانيين وقوى الثورة في الداخل السوري، على مدى شهور عديدة خلت، وتحولت إلى مطلب رئيس لمعظم القوى الدولية الفاعلة، التي راحت تضعها شرطًا ضروريًا للإسهام والمساعدة في الخروج من الأزمة السورية.
الإخفاق والتعطيل
يتجسد هدف توحيد المعارضة في قدرتها على التوصل إلى بنية جديدة وقوية، تضع رؤية مشتركة، وتشكّل قطبًا ديموقراطيًا، يوحّد الجهود ويدعم ويتواصل مع قوى الحراك، ويرتب العلاقات مع القوى العربية والدولية. ولم تكُ المشكلة منحصرة في تنوع الأطر السياسية للمعارضة السورية، ولا في الاختلافات الأيديولوجية، لكنّ هناك أسبابًا عديدة كانت تعرقل الوصول إليه، لعل أهمها:
-
حالة العطالة السياسية، الموروثة من عقود الاستبداد وانتفاء السياسة ومصادرتها في سوريا، والتي طبعت العمل السياسي المعارض بطابع من الهامشية، وشوهت الفعل السياسي، بوصفه ممارسة تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفًا أخلاقيًا أو مبدئيًا فقط، الأمر الذي يفسر تعلق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئية فقط، مع غياب الاستراتيجيات السياسية.
-
يضاف إلى ذلك غياب برنامج تغيير واضح لدى معظم قوى وأحزاب المعارضة، وتركيزها على الإرث الشخصي لبعض رموزها التاريخيين، فبات النشاط السياسي منقطعًا عن التحولات الجارية، وصار مرتبطًا بإنجازات شخصية.
-
لجوء بعض الشخصيات المعارضة إلى معارضة المعارضة والمزايدات، وكلها تكتيكات لا تهدف إلى الحد من تغوّل السلطة وإنما إلى مواصلة الصراعات الأيديولوجية والشخصية السابقة بين قوى بعيدة عن السلطة الفعلية.
هذه الصراعات جعلت تشكيلات المعارضة السورية عبئًا على الثورة بدلاً من أن تكون داعمًا حقيقيًا لها، فلم تتمكن من قيادتها ولا توسيع قدرتها على الحركة، بل اكتفت قيادات المعارضة بترديد مطالب المحتجين، الأمر الذي بيّن ضعف تحكمها في الثورة ومسارها وتحولاتها.
والناظر في تركيبة مختلف تشكيلات المعارضة، بما فيها المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطني، والمنبر الديمقراطي وسواها، يجد أنها لم تنبثق من قلب الحراك الاحتجاجي الثوري، لذلك لم تتمكن من تمثيله فعليًا، بل حاولت الالتصاق به والالتحاق بركبه دون أن تتمكن من قيادته ومساعدته. وحتى القوى التي رفضت التدخل الخارجي، خاصة العسكري، لم تنأَ بنفسها عن التدخلات الدولية والإقليمية في شؤونها، وفشلت في توفير الدعم اللازم والضروري للثورة، بينما ذهب الدعم المالي القليل الذي حصلت عليه إلى مجموعات قريبة منها، وتعاملت معه وفق حساباتها المتمثلة في كسب الولاء وليس العمل وفق مقتضيات الحراك الثوري.
وقد بُذلت مساعٍ عديدة مع "المجلس الوطني السوري"، كي يضم مجموعات المعارضة الأخرى، لكنه فشل في ذلك، بالرغم من عقد عدة اجتماعات لقوى المعارضة السورية، أهمها كان مؤتمر القاهرة، الذي عُقد في الثاني والثالث من يوليو/تموز 2012، وصدرت عنه وثائق مهمة.
ومع توالي جهود جمع قوى المعارضة في هيئة أو ائتلاف جديد، برزت مبادرة رياض سيف، التي عُرفت باسم "المبادرة الوطنية السورية"، ولاقت قبولاً ودعمًا قويًا لدى قوى دولية وإقليمية وعربية، حيث اجتمع في لقاء تشاوري بالعاصمة القطرية الدوحة، في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ممثلون عن غالبية قوى وهيئات المعارضة السياسية السورية، إلى جانب شخصيات مستقلة، وممثلين عن قوى الحراك والمجالس المحلية للمحافظات السورية. وبعد ثلاثة أيام من الشد والجذب والنقاشات والاجتماعات، اتفق المجتمعون على تشكيل "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، الذي يعتبر تحولاً في مسار المعارضة السورية، سيؤثر بلا شك بشكل كبير على مسار الأزمة السورية، وقد يسرّع الوصول إلى نهايتها.
رهان القوى الدولية
لعل السؤال المركزي: ما الذي دفع قوى دولية وإقليمية وعربية للمراهنة على مبادرة رياض سيف؟
هناك اعتبارات عديدة، أفضت إلى رهان قوى دولية رئيسية على تشكيل خارطة جديدة للمعارضة السورية، بالاستناد إلى أن رياض سيف يُعد شخصية وطنية، معروفة بنضالها ضد نظام الأسد، في طوريه: الأسد الأب والأسد الأبن، ولما يمثله من اتجاه ليبرالي صناعي، دمشقي المنبت، وبالتحديد من حي الميدان العريق.
ولا شك في أن هدف توحيد صفوف المعارضة السورية، لا يُقصد منه دمجها في هيكل تنظيمي واحد، بل تجميع القوى تحت مظلة واحدة، والتنسيق في المواقف والتوافق في الآراء، لرسم ملامح المرحلة الانتقالية، بغية الوصول إلى سوريا الجديدة، الديموقراطية والتعددية. والأهم هو توحيد الجهود للخروج بمواقف سياسية موحدة، ترقى إلى مستوى التغيير الديموقراطي، وتساعد على وقف نزيف الدم المستمر منذ أكثر من عشرين شهرًا.
ويبدو أن عناصر عديدة، تقف وراء مسعى قوى المجتمع الدولي الفاعلة في الملف السوري لتجميع المعارضة تحت مظلة واحدة.
-
الخشية من الفراغ الذي قد يحدثه سقوط مفاجئ ووشيك للنظام السوري، بناء على التقدم الواضح للجيش السوري الحر والتشكيلات العسكرية الأخرى، وعلى حالة الإنهاك التي بات الجيش السوري يعاني منها، بعد إقحامه في معارك الشوارع والأحياء والبلدات السورية، وحدوث انشقاقات متتالية ومتسارعة في تركيبته. إضافة إلى اقتراب النظام من حالة الإفلاس الاقتصادي وتناقص الموارد المالية، التي يعوض جزءًا منها الدعم الإيراني، ودعم أطراف في الحكومة العراقية وقوى أخرى داخلية وخارجية.
-
التخوف من حدوث حالات انفلات وفوضى نتيجة الفراغ الذي يحدثه سقوط النظام السوري، في ظل غياب مرجعية سياسية مؤهلة للإمساك بزمام الأمور في المرحلة الانتقالية، خاصة مع تعدد مرجعيات القوى المسلحة والمجالس العسكرية، والخوف من حالات انتقام وتصفيات كبرى.
-
الخوف على مصير الأقليات؛ حيث تضع الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الدول الأوروبية، في حساباتها حدوث حالات انتقام من العلويين، بسبب استعمال النظام لهم في قمع الثوار والانتقام من المحتجين، والخوف كذلك على مصير المسيحيين والدروز وسائر الأقليات الأخرى. إضافة إلى خشية تركيا من سيطرة عناصر "حزب العمال الكردستاني" على مناطق سورية محاذية للحدود معها.
-
تخوف الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية من تنامي قوة بعض التشكيلات المسلحة المتشددة، في ظل توارد تقارير عن تدفق عناصر متشددة إلى سوريا، ووجود تشكيلات عسكرية مثل "جبهة النصرة" وبعض المجموعات السلفية المتشددة الصغيرة، حيث توالت الأنباء عن وجود عناصر من تنظيم "القاعدة" في سوريا قدموا من شمال العراق ومن أماكن أخرى، وعن الخشية من أن تتحول البلاد إلى دولة فاشلة، ومأوى لما يسمى بالمجموعات "الإرهابية" والمتشددة.
-
الخوف من امتداد الأزمة السورية إلى دول الجوار، وخاصة إلى لبنان والعراق؛ حيث يحاول النظام السوري جاهدًا تصدير الأزمة إلى الخارج. يشهد على ذلك التوتر والمناوشات التي تشهدها الحدود التركية-السورية، وكذلك الحدود الأردنية، إلى جانب التوتر والاحتقان الذي تعرفه الساحة اللبنانية، خاصة بعد انكشاف ملف التفجيرات الذي اتهم فيه الوزير اللبناني الأسبق جوزيف سماحة، ثم عملية اغتيال رئيس شعبة المعلومات في الاستخبارات اللبنانية؛ حيث ما زالت تبعات عملية الاغتيال تتفاعل في ثنايا توظيفات الطائفية السياسية في لبنان.
-
فوز باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية، ما يعني انتهاء ساسة الولايات المتحدة من حساباتهم الانتخابية، ومن ثم الالتفات إلى الملفات الدولية، وبالتالي إعطاء الملف السوري المزيد من الاهتمام. وهو أمر يعيه الأوروبيون جيدًا؛ حيث أعلنت بريطانيا، خلال زيارة رئيس وزرائها ديفيد كاميرون لمخيم الزعتري في الأردن في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري (2012)، أنها ستفتح خط اتصال مباشر مع المعارضة المسلحة في سوريا، بعد أن كانت تقصر اتصالاتها على القادة السياسيين، ثم جاءت تصريحات رئيس أركان الجيش البريطاني، الجنرال "ديفيد ريتشاردز"، عن إمكانية نشر قوات بريطانية حول الحدود السورية. إضافة إلى تصريحات، "أندرس فوغ راسموسن"، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، عن استعداد الحلف لحماية تركيا من أي خطر ناجم عن الصراع في سوريا، وتأكيده على وجود خطط جاهزة في هذا الصدد.
ترتيب موازين القوى
مع الإعلان عن التشكيل الجديد للمعارضة السورية، بدأت تصدر بيانات التأييد والدعم داخل سوريا، من مختلف التنسيقيات والمجالس المحلية، المدنية والثورية، في المحافظات والبلدات السورية، ومن قوى المعارضة العسكرية، بل إن تظاهرات يوم الجمعة 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 كانت تحت شعار "دعم الائتلاف الوطني"؛ الأمر الذي يعني بداية عملية إعادة ترتيب موازين القوى لمختلف القوى الفاعلة في الثورة السورية.
ويضم "ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية" ممثلين عن "المجلس الوطني السوري"، والمجالس المحلية لجميع المحافظات السورية، والعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة، وشخصيات منشقة عن النظام. كما يضم ممثلين عن الهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، والمجلس الثوري لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، ورابطة الكتّاب السوريين الأحرار، والمنتدى السوري للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وحركة معًا، وحزب الاتحاد الاشتراكي، العضوين في "هيئة التنسيق للتغيير الوطني في سوريا"، والكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، وممثلين عن تنظيمات الحركة التركمانية.
وقد أكدت وثائق الائتلاف على الحفاظ على السيادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري، والحفاظ على وحدة التراب الوطني السوري، ووحدة الشعب السوري، وعلى رفض الحوار مع النظام السوري، وأن لا يبدأ الحل السياسي في سوريا، إلا بتنحية بشار الأسد، ومعه رموز السلطة القامعة، وضمان محاسبة المسؤولين منهم عن دماء السوريين، مع التأكيد على قيام سوريا المدنية التعددية الديمقراطية. وسيسعى الائتلاف إلى إنشاء صندوق دعم الشعب السوري، ودعم الجيش الحر، وإدارة المناطق المحررة، والتخطيط للمرحلة الانتقالية، وتأمين الاعتراف الدولي. وينبثق عنه مجلس عسكري أعلى، يضم ممثلي المجالس العسكرية والكتائب المسلحة، ولجنة قضائية، وفي نهاية المطاف تشكيل حكومة مؤقتة من التكنوقراط.
والناظر في خارطة القوى والشخصيات المشاركة، يجد أنها شاملة لمختلف القوى الفاعلة في الثورة السورية. وهو أمر لم يتحقق من قبل في أي تشكيل سياسي للثورة السورية، والأهم هو أن قادة الائتلاف هم من نتاج الثورة في الداخل السوري، وساهموا في حراكها على الأرض وتعرضوا للسجن والملاحقة، واضطروا إلى مغادرة بلدهم.
ويمكن القول: إن المبادرة الوطنية السورية، التي تمخض عنها تشكيل الائتلاف، نشأت بناء على حاجة داخلية سورية، ولم تك وليدة ساسة قوى خارجية، أي صنعها سوريون، مع عدم التقليل من الجهود الكبيرة التي بذلها المسؤولون في دولة قطر، وبعض سفراء دول الداعمة للثورة السورية في العمل على تقريب وجهات النظر.
ويُنظر إلى الائتلاف الجديد، بوصفه إطارًا يعبئ طاقات وقوى الثورة السورية، بأنه يهدف إلى توفير الدعم للثورة، لتحقيق أهدافها، من خلال السعي إلى عمل كل ما من شأنه أن يسهم في قلب موازين القوى، لصالح إسقاط نظام الأسد، وانتصار الثورة على الصعيدين الداخلي السوري والخارجي.
وتدل تشكيلة الائتلاف الجديد والقوى الدولية التي ساندته على أن هناك تشكّلاً لموازين قوى جديدة، فقوى الداخل السوري باتت أكثر وزنًا من قوى المعارضة السورية بالخارج، وصار الموقف الأميركي متقدمًا على الموقف التركي، وتراجع الموقف المصري بعد أن حاول الامساك بزمام المبادرة من خلال فكرة الحل الإقليمي المتكون من توافق كل من تركيا وإيران والسعودية.
تأثير التحول الجديد
رهان الائتلاف الجديد هو تجاوز خلافات المعارضة فيما بينها، على المستوى الأيديولوجي والسياسي، وعدم جعلها معوقًا، أو مانعًا أمام توحيد وتنسيق الجهود من أجل إسقاط نظام بشار الأسد.
ويمكن لموازين القوى الجديدة أن تعطي دفعة قوية لحراك الناس، من خلال تنفيذ الاتفاق على رؤية استراتيجية للمرحلة الانتقالية في سوريا، وطمأنة السوريين، بمختلف أطيافهم وحساسياتهم، والإجابة على مخاوفهم وهواجسهم من المستقبل في مرحلة ما بعد الأسد. إضافة إلى أن الائتلاف الوطني يمتلك فرصة التوصل إلى توافق على تحديد مواصفات النظام السياسي للمرحلة الانتقالية، وتبيان مكوناته، وبرنامجه، وتحالفاته، وأفكاره الرئيسية، وتحديد المدى الزمني لفترة الانتقال، والاتفاق على دستور جديد، يقطع مع دستور عهود الاستبداد، والعمل على تحقيق العدالة الانتقالية، وصولاً إلى تحقيق الأمن والاستقرار لمختلف مدن ومناطق وبلدات سوريا.
وتتجسد ممكنات تغيير موازين القوى في بناء علاقات قوية بين الائتلاف الجديد وقوى الداخل، كالمجالس المدنية والجيش الحر ومجاميع المقاومة المسلحة، واتباع أسلوب تمويل محدد لهذه القوى، وفق آلية معروفة وممأسسة لوصول المال والمعدات إليها. علاوة على تأمين احتياجات الناس في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من مواد معيشية واحتياجات ضرورية، وتوفير الأمن لهم وسبل عيشهم الكريم. كل هذه الإجراءات ستعطي الائتلاف سلطة على القوى الثورية داخل سوريا، فيتمكن من توجيهها حسب استراتيجيته والتحكم فيها بعد سقوط النظام.
ولا شك في أن تأمين الدعم الدولي والإقليمي والعربي، سيؤثر في قدرة الجيش الحر والمجموعات الأخرى على تحقيق تقدم على الأرض وتحويلها إلى مناطق محمية من هجمات القوات النظامية، ومن ثم تمكين قوات الجيش الحر من تنظيم نفسها والاستعداد للسيطرة على أقاليم جديدة في مسعاها نحو السيطرة على دمشق وإسقاط النظام.