مراجعات الشركاء: موقع دول الخليج في توجهات بايدن الخارجية

تراجعت أهمية دول الخليج في سياسة بايدن الخارجية لكن حاجة الشريكين المتبادلة تدفعهما للحفاظ على علاقتهما الاستراتيجية مع إعادة تعريفها لتتلاءم مع أولويات كل منهما.
بايدن يعدل دفة العلاقة بدول الخليج (وكالة أسوشيتد بريس)

أثارت السياسات الأميركية التي بدأت في عصر الرئيس أوباما من توجهات لخفض الوجود العسكري في منطقة الشرق الأوسط ودعم حقوق الإنسان والديمقراطية فيه ومن ثم العودة للاتفاق النووي مع إيران، الكثيرَ من المخاوف في بعض عواصم دول الخليج العربية. فهذه الدول تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة؛ ولذلك كان هناك ارتياح وترحيب كبيران من قبل بعض هذه العواصم بفوز الرئيس ترامب في الانتخابات الأميركية، العام 2016، الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران وضاعف العقوبات الاقتصادية عليها وجعل من زيارة المملكة العربية السعودية محطته الخارجية الأولى.

فوز المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، في انتخابات الرئاسة الأميركية، العام 2020، أعاد المخاوف لهذه العواصم بسبب الاعتقاد السائد بأن الرئيس بايدن سيتبنى نفس سياسات الرئيس أوباما، فلقد كان نائبًا له لمدة ثماني سنوات وأسهم معه في صياغة سياساته الخارجية.

هذا التحليل يحاول استشراف توجهات وسياسات الرئيس بايدن، تجاه منطقة الخليج  وهو يبني استنتاجاته على فرضيتين: الأولى: أن مكانة الشرق الأوسط في السياسات الأميركية عمومًا قد ضعفت منذ ولاية الرئيس أوباما وأن التوجه العام الذي سيحكم علاقة إدارة بايدن بالخليج هو الامتناع عن التورط العسكري أكثر في المنطقة. والثانية: أن الاتجاه التقدمي في الحزب الديمقراطي قد عزَّز من مواقعه فيه وأن هذا يفرض على الرئيس بايدن الاستماع والأخذ بتوجهات هذا الاتجاه الذي يدعو إلى تخفيض الوجود العسكري في المنطقة، وإلى العودة للاتفاق النووي مع إيران وإلى إعادة ضبط علاقات الولايات المتحدة مع دول الخليج بما يخدم مصالحها وقيمها.

البقاء أم الرحيل؟

مما لا شك فيه أن العناصر الحاكمة للسياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لعقود طويلة قد تغيرت في العقد الأخير. الولايات المتحدة لم تعد بحاجة مثل السابق لنفط دول الخليج العربية، وإنتاجها منه -العام 2019 مثلًا- زاد عن حاجتها له لأول مرة منذ العام 1957(1). وإسرائيل لم تعد في وضع يُهدد وجودها؛ فهي القوة العسكرية الأكبر في المنطقة والعديد من الدول العربية يقيم معها معاهدات سلام. كما أن الهيمنة الأميركية في المنطقة قد ترسخت بعد انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفيتي، وإقامتها للعديد من القواعد العسكرية فيه بعد تحريرها للكويت من الاحتلال العراقي، العام 1990.

مقابل هذه المتغيرات، كانت هناك قوى شدٍّ جديدة تدفع الولايات المتحدة لترسيخ وزيادة وجودها العسكري في المنطقة: انتصار الثورة الإسلامية في إيران، العام 1979، والمخاوف من تصديرها لدول الجوار أو قيامها باحتلال منابع الطاقة في الخليج العربي، واكتشاف امتلاكها لبرنامج نووي سري، العام 2002، وتعاظم نفوذها الإقليمي في العراق ولبنان وسوريا واليمن، دفع أميركا لتكريس وجودها العسكري في المنطقة. تشير دراسة لـ"ميغان إيكستين" إلى أن حاملات الطائرات الأميركية قد أمضت في الخليج العربي والبحر الأحمر في الأعوام الممتدة من 2016 وحتى 2020، 1261 يومًا في حين أن حاملاتها في البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي مجتمعة لم تمض أكثر من 642 يومًا بينما أمضت في المحيط الهادي 1857 يومًا(2).

لكن الهيمنة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لم تكن بلا تكاليف مادية ومعنوية. يقدِّر الخبراء الأميركيون أن التدخل العسكري المباشر في العراق لوحده قد كلَّف الخزينة الأميركية ما يقارب 2 تريليون دولار بنهاية العام 2020(3). كما أن خسائرها البشرية فيه قد وصلت إلى 8358 قتيلًا بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2018 ما بين عسكري ومتعاقد ومدني(4). يضاف لذلك خسارة أميركا لقوتها الناعمة في المنطقة بسبب تبنيها لسياسة ازدواج المعايير: تأييدها للديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم مع استمرار دعمها للأنظمة المستبدة في العالم العربي وإسرائيل رغم استمرار الأخيرة في احتلال الأراضي الفلسطينية. إذا أضفنا لذلك حاجة أميركا الملحَّة لتوجيه مصادرها المادية والدبلوماسية لمواجهة الصعود المتعاظم للصين في شرق آسيا، فإن العديد من صنَّاع القرار ومراكز الأبحاث فيها أصبحوا يدعون لمقاربات جديدة تمنع أميركا من التورط العسكري أكثر في المنطقة(5).

هذا لا يعني أن منطقة الشرق قد فقدت أهميتها لأن الجغرافيا السياسية للمنطقة أكبر من أن تدير أميركا ظهرها لها: النفط في منطقة الخليج لا يزال عصب الحياة للنمو الاقتصادي للعديد من حلفاء أميركا وخصومها على حدٍّ سواء. اليابان مثلًا استوردت أكثر من 80% من حاجتها من النفط من الخليج العربي، العام 2019(6)، ومثلها فعلت الصين لكن بنسبة 40%(7). الممرات المائية أيضًا في المنطقة حيوية للتجارة العالمية إذ يقدر حجم ما يمر منها من باب المندب وحده سنويًّا ما بين 12 و10%(8). يضاف لذلك أن المنطقة كبيرة بسكانها ومساحتها وتحول عدد من دولها إلى فاشلة بسبب الحروب الأهلية فيها يشكِّل هاجسًا دائمًا لأميركا وحلفائها الأوروبيين لارتباط ذلك بمسألتي مكافحة الإرهاب والهجرة الجماعية. إذا أضفنا لذلك أن الانسحاب الأميركي من المنطقة يشجع خصميها، روسيا والصين، على تعزيز مكانتهما فيها، فإن أميركا لا تجد مصلحة لها بحزم حقائبها والرحيل.

دول الخليج العربية بين إدارتي أوباما وترامب

الرغبة بتخفيض الوجود العسكري في منطقة الشرق الأوسط وتوجيه إمكانيات الولايات المتحدة للمنافسة مع القوى العظمى عبَّر عنها الرئيس أوباما في استراتيجيته للأمن القومي، العام 2010(9). أوباما في نفس الوقت قام بتبني مقاربتين سياسيتين هدفهما مساعدة واشنطن على تخفيض وجودها العسكري ومنع تورطها أكثر في المنطقة، ولقد كانت دول الخليج العربية من أكبر المتأثرين بهما:

المقاربة الأولى كانت بعد بداية الربيع العربي، العام 2011، وهي دعمه "لحقِّ الأفراد في الشرق الأوسط في تقرير مصيرهم... وفي دعم الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي"(10). والمقاربة الثانية هي في عقده للاتفاق النووي مع إيران، العام 2015، ومطالبة دول الخليج العربية "بإيجاد السبل للتعايش ولتقاسم المنطقة مع إيران"(11).

المقاربة الأولى أحدثت شرخًا بين دول الخليج العربية لانسجامها مع سياسات دولة قطر في تلك المرحلة ولتعارضها مع سياسات دولة الإمارات العربية المتحدة. يَذكر أوباما في كتابة "الأرض الموعودة" أن الشيخ محمد بن زايد، الحاكم الفعلي لدولة الامارات، قد تحدث معه بعد دعوته للرئيس مبارك للتخلي عن السلطة، متسائلًا "ما إذا كان سيفعل نفس الأمر في البحرين لو جرت مطالبات برحيل الشيخ حمد"، مضيفًا في الوقت ذاته "بأن (التخلي عن مبارك) يوحي بأن الإدارة الأميركية لم تعد شريكًا لدول الخليج يمكنها الاعتماد عليه"(12). هذا الشرخ تطور لاحقًا في العام 2017 إلى انقسام بين دول الخليج العربية عندما جرى فرض حصار سياسي واقتصادي على قطر من قبل العربية السعودية والإمارات والبحرين ومعهما مصر. المقاربة هذه أيضًا دفعت الإمارات العربية لتبني سياسات تهدف إلى إعادة العالم العربي إلى ما كانت عليه الحال قبل الحراك الشعبي، العام 2011، في تعارض واضح مع سياسات واشنطن في حينه.

المقاربة الثانية أحدثت شرخًا عميقًا بين بعض دول الخليج وواشنطن. من جهة، رحَّبت قطر وعُمان والكويت بالاتفاق النووي مع إيران، بينما وجدت العربية السعودية والبحرين أن الاتفاق يتعارض مع مصالحهما لأنه لا يتضمن بنودًا لها علاقة بالسياسات التوسعية الإيرانية في المنطقة أو فيما يتعلق ببرنامجها الصاروخي المتقدم، بينما احتجت الإمارات عليه لأن الاتفاق جرى بدون استشارتها(13). في محاولة منها لتقليل الخلافات مع العربية السعودية بسبب هذا الاتفاق، قامت إدارة أوباما في البداية بدعم مطالب العربية السعودية وحربها في اليمن بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، العام 2014، لكنها منعت تزويدها بالصواريخ الدقيقة لاحقًا بسبب ارتفاع الخسائر في صفوف المدنيين(14).

إدارة الرئيس ترامب قامت بإلغاء المقاربتين السياسيتين لكنها أبقت على التوجه الأميركي العام بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط حيث عبَّر الرئيس ترامب صراحة عن رغبته بذلك وقام فعلًا بسحب جزء من القوات الأميركية من سوريا والعراق(15). ترامب قام أيضًا بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض عليها عقوبات اقتصادية قصوى، لكنه لم يسهم فعليًّا في حمايتها عندما تعرضت منشآت النفط في العربية السعودية مثلًا لهجوم صاروخي، في سبتمبر/أيلول 2019، تعتقد الإدارة الأميركية أن إيران تقف خلفه، لكنها لم تقم بأي رد عسكري(16). كما مارست إدارة ترامب الضغوط على دول الخليج العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل بذريعة مقاومة الخطر الإيراني ونجحت في ذلك مع الإمارات العربية والبحرين.

عوامل ضاغطة على بايدن

هناك فروقات بين الرئيسين، بايدن وأوباما. الأخير مثلًا عارض الحرب على العراق، العام 2003، بينما أيدها بايدن عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ. وبايدن كان قد اقترح في العام 2007 خلال حملته للترشح للرئاسة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي على أساس مذهبي بينما عارض ذلك أوباما(17). بايدن أيضًا أكثر قربًا من إسرائيل من أوباما وتربطه برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، علاقات شخصية في الوقت الذي كانت فيه علاقات نتنياهو مع أوباما سيئة. وبايدن كان من محبِّذي الاستمرار في دعم سياسة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بينما كان أوباما من الداعين إلى دعم الإصلاح السياسي فيه. هذه الصفات قد تدفع البعض للاعتقاد بأن مقاربات الرئيس بايدن السياسية لمنطقة الشرق الأوسط عمومًا ولمنطقة الخليج خصوصًا ستكون مختلفة عن تلك التي قام بها أوباما، لكن هناك عاملان مهمان يدفعان بايدن لتبني سياسات يُعتقد بأنها ستكون أكثر ميلًا لليسار من تلك التي قام بها أوباما.

الأول: أن بايدن يأتي في ظل تراجع كبير للاقتصاد الأميركي بسبب جائحة كوفيد-19؛ حيث فقدت أميركا في الربع الأول وحده من العام 2020 أكثر من 5% من ناتجها القومي(18)، بينما زادت نسبة البطالة فيها من 3.7% في العام 2019 إلى 8.9%، العام 2020(19). إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الصين هي الدولة الوحيدة التي حققت نموًّا اقتصاديًّا في العام 2020 يُقدَّر بـ2.3%(20) فإن إدارة بايدن مضطرة لتوجيه مصادرها المالية لسياسات الإنعاش والنمو الاقتصادي والمنافسة مع الصين، وهي لذلك ستتبنى على الأرجح سياسات تساعدها على تقليل الكلفة العسكرية لوجودها في المنطقة.

الثاني: أن الحزب الديمقراطي اليوم يتكون من ائتلاف عريض تحتل فيه الأقليات الإثنية والأميركيون الأفارقة، والاتجاه التقدمي بقيادة بيرني ساندرز موقعًا متقدمًا. هذا الاتجاه تمكن، في العام 2016، من الفوز في 22 ولاية أميركية في الانتخابات الأولية لمرشح الرئاسة للحزب الديمقراطي(21). وفي العام 2020، حصل هذا الاتجاه على ثلث أصوات الهيئة الناخبة في الحزب الديمقراطي (1136 من أصل 3912 عضوًا)(22). في الكونغرس اليوم، يوجد مئة نائب ينتمون لهذا الاتجاه(23)، وهو ما يفرض على الرئيس بايدن تبني سياسات لا تتعارض مع توجهاتهم خصوصًا أن فوزه في الانتخابات اعتمد إلى حدٍّ بعيد على دعم هذا الاتجاه له.

هذا النفوذ المتعاظم للاتجاه التقدمي كانت له انعكاسات واضحة في برنامج الحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالتدخل العسكري في المنطقة، في العلاقة مع إيران وفي العلاقة مع دول الخليج العربية. فيما يتعلق بالتدخل العسكري في المنطقة يقول البرنامج بأن الولايات المتحدة "ستنهي عقدين من تدخلها العسكري الكبير في المنطقة ومن حروبها المفتوحة فيها" ورغم أنها أن لن تتخلى عن مصالحها فيها إلا أنها ستعتمد "الوسائل الدبلوماسية البراغماتية لإرساء الأساس لمنطقة أكثر سلامًا واستقرارًا وحرية". بخصوص إيران، فإن البرنامج يؤكد أن هدف الولايات المتحدة "يجب ألا يكون تغيير النظام الإيراني" ولكن "العودة إلى الامتثال المتبادل" للاتفاق النووي، واستخدامه كأساس لبدء مفاوضات جديدة مع إيران تستهدف "برنامجها الصاروخي، ونشاطها المزعزع للاستقرار الإقليمي وقمعها لمعارضيها السياسيين".

أما ما يتعلق بشكل مباشر بدول الخليج فإن البرنامج يحدد مبدأين للتعامل معها:

الأول: أن هذه العلاقات يجب "إعادة ضبطها لتنسجم مع مصالح الولايات المتحدة وقيمها"؛ وهذا يعني مساعدة دول الخليج العربية على مواجهة "التحديات الأمنية المشروعة" ومبادراتها "لتحديث نظمها السياسية والاقتصادية" و"التعاون معها في إعادة ربط العراق بجيرانه وحماية استقراره وأمنه".

والثاني: أن الولايات المتحدة لا مصلحة لها في دعم "الصراعات الداخلية بين هذه الدول" و"حروب الوكالة الكارثية" التي تخوضها أو في الجهود التي تبذلها بعض دول الخليج العربية "لدحر الانفتاح السياسي في منطقة الشرق الأوسط" أو في "دعم الاتجاهات الاستبدادية فيها"(24).

بين الأقوال والأفعال

رغم أنه من المبكر القول بأن بايدن سيلتزم ببرنامج حزبه في سياساته الخارجية كونها تميل إلى حدٍّ ما للاتجاه التقدمي فيه، إلا أن هناك عددًا من المؤشرات على ذلك أهمها: تصريحات بايدن نفسه خلال حملته الانتخابية، والسياسات التي أعلن عنها بعد فوزه، والتعيينات التي قام بها في مواقع مهمة في إدارته.

خلال حملته الانتخابية، تعهد الرئيس بايدن بالعودة للاتفاق النووي مع إيران قائلًا بأن الولايات المتحدة ستلتزم ببنود الاتفاق إذا ما التزمت إيران به(25). الرئيس بايدن أيضًا قال كلامًا قاسيًا عن العربية السعودية متعهدًا بأنه سيعيد تقييم علاقات بلاده معها بما ينسجم مع قيم أميركا، وبأنه سيوقف دعم بلاده للحرب في اليمن(26)

بعد فوزه في الانتخابات، بدأ الرئيس بايدن بالعمل مع الأوروبيين على إعادة بلاده للاتفاق النووي مع إيران. ورغم أن الطريق لا يزال في بدايته إلا أن العقبات تبدو إجرائية وليست جوهرية وتتعلق بالسؤال ما إذا على أميركا رفع العقوبات الاقتصادية أولًا حتى تلتزم إيران بتعهداتها، أم أن على إيران أن تلتزم أولًا بالاتفاق حتى تُرفع العقوبات عنها(27). كما قامت إدارة بايدن فعلًا بالإعلان عن وقف توريد الأسلحة الهجومية للعربية السعودية والتوقف عن تزويد طائراتها الحربية المتجهة إلى اليمن بالوقود(28). وقامت أيضًا بتعليق المصادقة على توريد صفقة طائرات إف 35 للإمارات العربية والتي تُقدَّر قيمتها بـ23 مليار دولار(29)

وفي مؤشر واضح على تراجع مكانة الشرق الأوسط في سياساته، لم يقم الرئيس بايدن بالاتصال بأي من زعماء الشرق الأوسط بمن فيهم رئيس وزراء إسرائيل إلا بعد أربعة أسابيع من توليه للرئاسة. ولم يقم بالاتصال بملك العربية السعودية إلا قبل يومين من نشر إدارته للتقييم الأمني الخاص بمقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي(30). كشْفُ هذا التقرير ترافق أيضًا مع فرض عقوبات على 76 شخصًا من العربية السعودية، وتزامن أيضًا مع إعلان "عقوبة خاشقجي" من قبل وزارة الخارجية والتي في حالة تطبيقها ستعرِّض كل من يطارد الصحفيين للعقوبات الأميركية(31).

تعيينات الرئيس بايدن لأركان إدارته تشير أيضًا إلى أولوياته: روبرت مالي، مهندس الاتفاق النووي سابقًا مع إيران، تم تعيينه كمبعوث خاص لها. مالي، أحد أركان مجلس الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس أوباما، متهم من قبل الجمهوريين بتعاطفه مع إيران(32). أيضًا تعيين مبعوث خاص لليمن لأول مرة، تيموثي ليندركينغ، يشير إلى أهمية وقف الحرب في اليمن في سياسة بايدن الخارجية(33). مات دس، مستشار ساندرز السياسي، مرشح حاليًّا لاستلام موقع متقدم في وزارة الخارجية وإذا ما تم اعتماده فسيكون مؤشرًا مهمًّا على تأثير الاتجاه التقدمي في الحزب الديمقراطي على سياسة بايدن الخارجية. مات دس يدعو لدعم أجندتي حقوق الإنسان والديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وهو من أبرز الداعين للعودة للاتفاق النووي مع إيران وإلى "انسحاب" أميركا العسكري من المنطقة(34). التعيينات المهمة على أية حال كانت لوزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ولمستشار الأمن القومي، جاك سوليفان. كلا الرجلين عملا في إدارة الرئيس أوباما سابقًا مما يشير إلى رغبة الرئيس بايدن في الاستمرار بتبني نفس مقاربات أوباما السياسية.

هناك مؤشرات أخرى على تراجع مكانة الشرق الأوسط عمومًا في سياسات بايدن الخارجية، منها ما نقله الصحفيان، ناتشا بيرترنارد ولارا سيلغرمان، على لسان مستشار سياسي قريب من إدارة بايدن من أن الشرق الأوسط لا يندرج ضمن أولويات بايدن الجغرافية الثلاثة، وهي: منطقة آسيا والمحيط الهادي، وأوروبا، وأميركا اللاتينية (ومعها كندا والمكسيك)(35). الصحفيان أيضًا أشارا إلى أن وزير الدفاع الأميركي المعيَّن، لويد أوستين، يدرس تخفيض عدد القوات الأميركية في الشرق الأوسط وأن التعيينات الجديدة في وزارة الدفاع لم تشتمل على مستشارين للشرق الأوسط. بالمثل، قلَّص جاك سوليفان عدد المستشارين لهذه المنطقة في مجلس الأمن القومي بينما زاد من عددهم لمنطقة شرق آسيا.

شركاء متباينون

رغم رغبتها في التعامل مع دول الخليج العربية ككتلة واحدة، والتي ظهرت من خلال انتقاد إدارة بايدن لسياسات ترامب التي شجعت الانقسام بين دول الخليج العربية، إلا أن هذه الإدارة لا تتعامل مع دول الخليج العربية ككتلة واحدة؛ فهي ترى نفسها كما إدارة أوباما، أقرب في سياساتها لكل من الكويت وعُمان وقطر، في الملفين، الإيراني واليمني. هذه الدول رحَّبت بالاتفاق النووي سابقًا مع إيران. كما أن الكويت وعُمان يتوسطان لإنهاء الحرب في اليمن، فيما تتوسط قطر لإنهائها في أفغانستان. قطر على وجه التحديد يُنظر إليها كحليف لا يمكن الاستغناء عنه بسبب وجود قاعدة العديد العسكرية فيها، وهي القاعدة الأكبر والأهم لأميركا في منطقة الشرق الأوسط، كما أن قطر أيضًا، كانت منسجمه مع الرغبة الأميركية في ظل إدارة أوباما بدعم مسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي.

في المقابل، تتعرض العربية السعودية لاستهداف من قِبل المشرِّعين الأميركيين والإعلام الأميركي منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول العام 2001. هذا الاستهداف اشتد عليها في السنوات الأخيرة بسبب قربها من إدارة الرئيس ترامب متخذين من تدخلها العسكري في اليمن ومن ملف حقوق الإنسان ركيزتين للمطالبة بوقف توريد السلاح لها، أو على الأقل ربطه بملف حقوق الإنسان فيها، وهو ما دفع الرئيس بايدن لاتخاذ مواقف أكثر تشددًا من المملكة. ورغم أن الكثير من صنَّاع القرار في أميركا يرون أن الإمارات العربية لا تختلف كثيرًا عن العربية السعودية فيما يتعلق باليمن وبملف حقوق الإنسان، إلا أنهم أقل تشددًا تجاهها بسبب علاقتها بإسرائيل، وهو ما يوحي بأن الضغوط على العربية السعودية تستهدف أيضًا إجبارها على تغير مواقفها المعلنة من إسرائيل.

الشدُّ والجذب بين الشركاء

كما أوضحنا في المقدمة، أهمية منطقة الشرق الأوسط والخليج تحديدًا أكبر من أن تنسحب منها أميركا، لكن إدارة بايدن ستعمل على تغيير سياساتها فيها بما يساعدها على عدم التورط العسكري في المنطقة. الأسباب التي قد تؤدي لزيادة أهمية الخليج في سياسة بايدن الخارجية هي ازدياد حدة الخلاف بين إيران وبعض دول الخليج العربية، والصراعات الأهلية والإقليمية في المنطقة، وانسداد أفق الإصلاح الاقتصادي والسياسي في العديد من الدول العربية.

إدارة الرئيس بايدن لا يمكنها خفض التوتر في منطقة الخليج بعودتها للاتفاق النووي مع إيران. هذه المنطقة تحتاج إلى ترتيبات أمنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الدول فيها. كما أن إنهاء الصراعات الأهلية في اليمن والعراق وليبيا وسوريا يتطلب أيضًا من إدارة بايدن التعاون الوثيق مع دول الخليج العربية. في اليمن، الحرب لا يمكن إنهاؤها بدون تعاون العربية السعودية والإمارات لأن كلا البلدين متورطان في ذلك الصراع. في ليبيا، أميركا ستحتاج لقطر والإمارات العربية لدعم أي اتفاق سلام فيها حيث تدعم قطر الحكومة الشرعية فيها بينما تساند الإمارات قوات خليفة حفتر وحكومة بنغازي غير المعترف بها دوليًّا. وفي العراق وسوريا، هناك ضرورة للتنسيق مع دول الخليج العربية إذا ما أرادت أميركا تخفيض النفوذ الإيراني فيهما.

أما في مسألتي الإصلاح الاقتصادي والسياسي في العالم العربي، فإن إدارة بايدن ستجد نفسها منخرطة في حوار مع دول الخليج العربية لحاجتها لمساهمة هذه الدول المالية لدعم برامج التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، ولحاجتها أيضًا لأن تكف بعض دول الخليج عن عرقلة الإصلاح السياسي فيه.

 أخيرًا، هناك عامل آخر يدفع إدارة بايدن لتوطيد علاقتها بدول الخليج العربية وهو رغبتها -وكما جاء على لسان مسؤوليها وفي برنامج الحزب الديمقراطي- في دعم دوله لتنويع مصادر اقتصاداتها وفي تطوير نظمها السياسية باتجاه مشاركة أكبر للمرأة والشباب فيهما؛ فكلتا المسألتين تسهمان في استقرار دول الخليج مستقبلًا.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. U.S. Energy Information Administration. U.S. Energy Facts Explained. webpage, n.d. (accessed February 27, 2021): http://bit.ly/3qfQ5X8
  2.  Megan Eckstein. No Margin Left: Overworked Carrier Force Struggles to Maintain Deployments After Decades of Overuse.USNI NEWS, November 12, 2020 (accessed February 25, 2021): http://bit.ly/3uOOAml
  3. Neta C. Crawford. The Iraq War has cost the US nearly $2 trillion. Militarytimes, February 6, 2020 (accessed March 1, 2021):http://bit.ly/3sOMJwe
  4. Neta C. Crawford. Human Cost of the Post-9/11 Wars: Lethality and the Need for Transparency. Waston Institute for International and Public Affairs, November 2018 (accessed February 28, 2021): https://bit.ly/3rjmIVi
  5. Martin Indyk. The Middle East Isn’t Worth It Anymore. Wall Street Journal, January 17, 2020 (accessed March 1, 2021): http://on.wsj.com/3qbRdLC; Mara Karlin and Tamara Cofman Wittes. Getting America out of Middle East purgatory. Brookings, December 11, 2018 (accessed February 27, 2021): http://brook.gs/3rh9Sqx
  6. Statista. Import volume of crude oil imports to Japan in fiscal year 2019, by country. Statista webpage, May 2020 (accessed February 27): http://bit.ly/3e7M7h2
  7. British Petrolium. Statistical Review of World Energy, 69th ed., London, 2020 (accessed February 27, 2021): https://on.bp.com/3sHIcLG
  8. Karim Zaouaq. Bab El-Mandeb Strait: a Threatened Strategic Passage. Morocco World News, 2018 (accessed February 27, 2021): https://bit.ly/3bfBhnf
  9. The White House. National Security Strategy. The White House website, May 2010 (accessed February 2021):https://bit.ly/30aAWvJ
  10. NPR. Transcript: Obama’s Speech About The Arab World. NPR website, May 19, 2011 (accessed February 28, 2021): http://n.pr/3e8YI3s
  11. Jeffrey Goldberg. The Obama Doctrine. The Atlantic, April 2016 (accessed February 28, 2021): http://bit.ly/3bYPhRw
  12. Barak Obama. The Promise Land (Crown: New York: 2020), p. 647
  13. مرجع سابق13) Jeffrey Goldberg. The Obama Doctrine. The Atlantic, April 2016
  14. 14) Helene Cooper. U.S. Blocks Arms Sale to Saudi Arabia Amid Concerns Over Yemen War. New York Times, December 13, 2016 (accessed February 28, 2021):http://nyti.ms/3kPSqHh
  15. 15) Julian E. Barnes and Eric Schmitt. Trump Orders Withdrawal of U.S. Troops From Northern Syria. New York Times, October 13, 2019 (accessed February 28, 2021): http://nyti.ms/388ECm7
  16. 16) Humeyra Pamuk. Exclusive: U.S. probe of Saudi oil attack shows it came from north. Reuters, December 19, 2019 (accessed March 1, 2021): http://reut.rs/3c3u094
  17. 17) NATASHA BERTRAND and LARA SELIGMAN. Biden deprioritizes the Middle East. Politico, February 22, 2021 (accessed March 1, 2021):http://politi.co/3sNOlGp
  18. 18) KIMBERLY AMADEO.How COVID-19 Has Affected the U.S. Economy. The Balance, February 24, 2021 (accessed March 1, 2021): http://bit.ly/3bh5YZc
  19. 19) Lora Jones, Daniele Palumbo & David Brown. Coronavirus: How the pandemic has changed the world economy. BBC News, January 2021 (accessed March 1, 2021): http://bbc.in/3qg8umI
  20. مرجع سابق (20 Lora Jones, Daniele Palumbo & David Brown. Coronavirus: How the pandemic has changed the world economy
  21. 21) Bernie Sanders. Our Revolution (MacMillan, 2016), p.1
  22. 22) Lauren Leatherby and Sarah Almukhtar. Democratic Delegate Count and Primary Election Results 2020. New York Times, September 14, 2020 (accessed March 2, 2021):http://nyti.ms/2MJK9bc
  23. 23) Congressional Progressive Caucus. Caucus members. (accessed March 2, 2021): http://bit.ly/3qgrPEj
  24. 24) 2020 Democratic Party Platform, July 27, 2020 (accessed March 2, 2021):https://bit.ly/3rfSwKE, p. 91
  25. 25) Joe Biden. There's a smarter way to be tough on Iran. CNN, September 23, 2020 (accessed March 2, 2021): http://cnn.it/3c3herg
  26. 26) Alex Emmons, Aída Chávez, Akela Lacy. JOE BIDEN, IN DEPARTURE FROM OBAMA POLICY, SAYS HE WOULD MAKE SAUDI ARABIA A “PARIAH”. The Intercept, November 21, 2019 (accessed March 2, 2021):http://bit.ly/3uQTWgW
  27. 27) Mahsa Rouhi. Reviving the Iran Nuclear Deal Gives Biden More Leverage, Not Less. Foreign Policy, Feb 15, 2021 (accessed March 2, 2021): http://bit.ly/3kK2CB6
  28. 28) Julian Borger in Washington and Patrick Wintour. Biden announces end to US support for Saudi-led offensive in Yemen. The Guardian, February 4, 2021 (accessed February 27, 2021):http://bit.ly/3beyE52
  29. 29) Anthony Capaccio. U.S. Slows Arms Sales to Saudi Arabia, U.A.E. for Review. Bloomberg, January 27, 2021 (accessed February 26, 2021):http://bloom.bg/3kI0CcH
  30. 30) Julian Borger and Stephanie Kirchgaessner in Washington. Joe Biden speaks to Saudi Arabia's King Salman before release of Khashoggi murder report. The Guardian, Feb 25, 2021 (accessed March 1, 2021): http://bit.ly/3sSuupk
  31. 31) State Department. Accountability for the Murder of Jamal Khashoggi. State Department website, February 26, 2021 (accessed March 1, 2021): http://bit.ly/30eC8hy
  32. 32) Murtaza Hussain. THE SMEAR CAMPAIGN AGAINST ROBERT MALLEY — AND BIDEN’S IRAN POLICY. The Intercept, January 28, 2021 (accessed March 1, 2021): http://bit.ly/3ed71ez
  33. 33) US envoy Tim Lenderking heads back in push to end Yemen war. The Arab News, Feb 23, 2021 (accessed March 1, 2021):http://bit.ly/3bZuTzz
  34. 34) Harry Cheadle. Matt Duss's State Department Appointment Is Biden's First Test on Israel. Blue Tent, February 16, 2021 (accessed March 2, 2021): http://bit.ly/3e9xo5e
  35. 35) NATASHA BERTRAND and LARA SELIGMAN. Biden deprioritizes the Middle East. Politico, February 22, 2021 (accessed March 2, 2021): https://politi.co/3sNOlGp