التدخل الفرنسي في مالي: الأسباب والمآلات

رغم أن فرنسا ودول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) شرعت في دق طبول الحرب في مالي منذ أشهر عديدة، واستصدرت فرنسا قرارا دوليا من مجلس الأمن بمباركة مساعي دعاة الحرب، إلا أن الانطلاقة المبكرة لشرارة العمل العسكري كانت مفاجئة للجميع وسابقة جدا لموعدها المحدد سلفا في سبتمبر أيلول.
201311791514798734_20.jpg
عقبات كثيرة تواجه التدخل العسكري المدفوع بحماية المصالح الفرنسية في أزواد، لكنه تدخل يفتح على المنطقة وعلى الفرنسيين أبواب حرب لا تعرف نهايتها (رويترز)

رغم أن فرنسا ودول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) شرعت في دق طبول الحرب في مالي منذ أشهر عديدة، واستصدرت فرنسا قرارا دوليا من مجلس الأمن بمباركة مساعي دعاة الحرب، إلا أن الانطلاقة المبكرة لشرارة العمل العسكري كانت مفاجئة للجميع وسابقة جدا لموعدها - المحدد سلفا في سبتمبر أيلول - بمسافة زمنية تزيد على سبعة أشهر.

ولقد واكبت دقَّ طبول الحرب دعوات إقليمية ودولية بضرورة البحث عن حل سياسي بديل، واعتبار الحرب خيارا أخيرا، لكن يبدو أن الجماعات الإسلامية المسلحة التي كانت تفاوض عن طريق جماعة أنصار الدين، توصلت - عبر مسار المفاوضات المتعثر - إلى قناعة بأن الحكومة المالية ومن ورائها فرنسا أكثر جدية في الإعداد للحرب من جديتها في البحث عن حل سياسي، فكان أن سارعت هذه الحركات إلى أخذ زمام المبادرة، عبر تحديد موعد الحرب وميدانها، استباقا للخطط الفرنسية الإفريقية التي كانت تحضر لتدخل عسكري وفق خطة يجري إعدادها على نار هادئة، فآثرت تلك الجماعات المسلحة دفع الفرنسيين والأفارقة إلى الدخول في الحرب قبل أوانها، وقبل أن تنضج طبخة خطتها.

استدراج  نحو حرب غير مكتملة الشروط

عمدت جماعة أنصار الدين، التي تمثل الواجهة الحوارية لتلك الجماعات، إلى سحب عرض قدمته في الجزائر يقضي بوقف الأعمال العدائية مع مالي، كما طلبت من الوسيط الإفريقي الرئيس البوركينابي ابليز كومباوري تأجيل موعد جلسات المفاوضات التي كانت مقررة في الرابع عشر من يناير/ كانون ثاني، للتباحث بشأن خريطة طريق قدمتها الحركة لحل الأزمة في أزواد، تقوم على منح الإقليم حكما ذاتيا وفقا لنظام يسمح بتطبيق الشريعة الإسلامية.

ثم أشفعت حركة أنصار الدين، ومن ورائها تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة "الملثمون"، المنشقة عن القاعدة بقيادة مختار بلمختار، خطوة تجميد المفاوضات بإرسال قواتها من مدينة تمبكتو نحو الوسط المالي، لمهاجمة ولاية "موبتي" في محاولة لإيهام الفرنسيين والماليين، أن المسلحين الإسلاميين قرروا الزحف نحو العاصمة باماكو، ليدفع ذلك الفرنسيين إلى قرار متسرع بالدخول في الحرب.

وبذلك، سارع الفرنسيون إلى التحرك على عجل، ونجحت الجماعات الإسلامية في إرباك المخطط الفرنسي، ودفَع التطور الجديد فرنسا إلى التخلي عن أول تعهد لها بأنها ستكتفي بالدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولن تنزل قوات برية للمشاركة في الحرب التي كان يجري الإعداد لها في مكاتب القادة العسكريين، لتجد سلطة هولاند نفسها ملزمة، بدخول الحرب وبحراك عسكري يشمل القوات البرية والدعم الاستخباراتي واللوجستي والإسناد الجوي، وطلب الدعم من دول الجوار والمجتمع الدولي ككل.

ومع وصول قوات الحركات المسلحة إلى مشارف مدينة "موبتي"، وسيطرتهم على بلدة "كونا"، وانهيار دفعات الجيش المالي أمام ضرباتهم، اضطرت فرنسا إلى التراجع عن وعدها السابق وسارعت إلى إرسال قواتها إلى مالي، لمنع سقوط العاصمة باماكو، لتحقق الجماعات المسلحة أول أهدافها، بجر القوات الفرنسية إلى حرب برية في صحراء مفتوحة،  لتسقط في اليوم الأول مروحيتان فرنسيتان، ويقتل اثنان من الجنود الفرنسيين، الأمر الذي حدا بالفرنسيين إلى سحب سلاح المروحيات الفعال من المعركة بعد أن تبينت قدرة الإسلاميين على إسقاطها، والتركيز على الضربات الجوية عن بعد بواسطة طائرات "الجكوار" و"الميراج" و"رافال"، كما تم إرسال مئات الجنود الفرنسيين لحماية العاصمة بامكو والجالية الفرنسية هناك، والمؤلفة من حوالي ستة آلاف فرنسي، وهو انتشار يلبي مطلبا للحركات السلفية الباحثة عن أقرب نقطة لاصطياد الفرنسيين، فضلا عن أن مشاركة القوات الفرنسية في الحرب بشكل مباشر، يعطي دفعا معنويا للمقاتلين الإسلاميين باعتبارهم باتوا في مواجهة مفتوحة مع ما يسمونه "غزوا صليبيا فرنسيا"، الأمر الذي سيضفي مستوى من الشرعية على حربهم، لدى الرأي العام الإسلامي خصوصا، ومن السكان المحليين وأنصار التيارات الجهادية.

الإيكواس: الطريق نحو المستنقع الأزوادي

لم يكن التحرك الذي أقدم عليه الإسلاميون في أزواد نحو الجنوب ليقتصر على استدراج الفرنسيين إلى أرض المعركة، فقد بدأت دول غرب إفريقيا - هي الأخرى-  إرسال قواتها على عجل نحو مالي للمشاركة في الحرب، وهي قوات قد لا تكون مكتملة العدة والعتاد والتجهيز، كما لا تملك خطة واضحة لخوض الحرب، نظرا لأنها جاءت مباغتة ولم يكتمل التحضير لها بعد، وهو ما سيسهل مهمة المقاتلين الإسلاميين في مواجهة تلك القوات.

كما استطاع المسلحون الإسلاميون أيضا بفعل سلاح المبادرة، تحديد ميدان المعركة، وتحويل هدف الحرب ـ مؤقتا ـ من تحرير أزواد وإعادته إلى السيادة المالية، إلى محاولة منع تقدم الإسلاميين جنوباً، وباتت المعارك البرية تدور في وسط مالي(ولاية موبتي، ومدينة ديابالي) خارج أراضي إقليم أزواد.

من جهة أخرى، يمكن القول أن الجماعات الإسلامية استعجلت الحرب، في وقت لم تُغلق فيه أبواب الحوار بعد، وضيعت فرصة لحل سلمي، كان يحظى بتأييد من بعض دول الجوار وفي مقدمتها الجزائر وموريتانيا، فضلاً عن الوسيط الإفريقي بوركينافاسو، وفوق ذلك قد تخسر الجماعات المسلحة - بفرضها الحرب وهجومها على الجنوب المالي - مواقف بعض الدول التي كانت ترفض الحرب، وباتت اليوم مُشاركة فيها بالفعل، أو على وشك المشاركة فيها، خصوصا الجزائر وموريتانيا، إذ بات الكثيرون ينظرون إلى تحرك المسلحين السلفيين جنوبا باعتباره عملا توسعيا عدوانيا مرفوضا ينبغي الوقوف في وجه بحزم وصرامة.

عودة لسياسية " إفريقيا ـ فرنسا"

وقد شرعت فرنسا تدخلها بطلب الحكومة المالية مساعدتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 ديسمبر/ كانون أول، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان "سلفي إرهابي" في المنطقة يشكل تهديدا للمنطقة والعالم بأسره.

غير أن ثمة قراءة منطقية أخرى تعيد الأسباب الحقيقية للتدخل الفرنسي في مالي إلى حماية المصالح الفرنسية في المنطقة، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
وتزداد أهمية المنطقة بالنسبة لفرنسا، بما يحمله باطنها – وفق الخبراء من ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة، تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعا كبيرا للفرنسيين، وعلى مسافة قريبة أيضا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا.

غير أن هذه الحرب تعتبر - في وجه آخر-  أول انتكاسة حقيقية لتعهدات الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا هولاند بانتهاء عصر ما يعرف بسياسية "إفريقيا ـ فرنسا" (France-Afrique)، التي مثلت امتدادا للهيمنة الفرنسية على إفريقيا، وهي السياسة التي جزم هولاند، - خلال زيارته للعاصمة السنغالية داكار في أكتوبر/ تشرين أول الماضي-" بأن عصرها انتهي" ، مؤكداً أن العلاقة الفرنسية - الإفريقية ستقوم على الشركة واستقلال كل طرف عن الآخر.. وبعد كل هذا ذلك يرسل هولاند قواته إلى مالي لشن الحرب ، في ما يعتبر تجسيدا حيا لسياسة "إفريقيا – فرنسا" ذات البعد الاستعماري.

وإذا كان الفرنسيون قد أعلنوا أن تدخلهم جاء حماية العاصمة المالية بامكو ومنعا لتكرار تجربة الصومال في مالي، فإن دفعهم نحو حرب غير مضمونة العواقب، إنما يمهد للخيار الصومالي في المنطقة، ذلك أن إرسال قوات إفريقية غير مكتملة العدة والعتاد وغير مدربة بشكل جيد كان السبب الرئيسي لإطالة أمد الأزمة الصومالية وتعقيدها، حيث فشلت تلك القوات الإفريقية في حسم المعركة مع المسلحين، وأبقت على حالة الحرب قائمة حتى الآن.

ويُخشى اليوم أن تتكرر التجربة الصومالية في مالي عبر إرسال قوات إفريقية غير جاهزة لحسم المعركة مع الجماعات المسلحة، فتعلق - هي الأخرى - في المستنقع الأزوادي، كما علقت نظيرتها في المستنقع الصومالي، وهو احتمال وارد إذا ما أخذنا في الحسبان أن القوات الإفريقية التي درجت على التدرب والقتال في الأدغال والغابات وعلى الشطآن والضفاف، لا خبرة لها بالصحراء وتضاريسها، بخلاف الجماعات المسلحة التي أقامت في تلك الصحراء سنوات طويلة وخبرت وهادها وجبالها.

وحتى لو حاول الفرنسيون مد يد الدعم المباشر لتلك القوات ومشاركتها الحرب أرضا، فإن تجربة القوات الأمريكية والغربية في أفغانستان قابلة لأن تتكرر في أزواد، وعليه فإن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة باتجاه إغراق المنطقة في حرب قد لا تكون نهايتها قريبة.

ومن المرجح أن يغادر المسلحون الإسلاميون المدن الكبرى نحو معاقلهم في سلسلة جبال تغرغارت بشمال أزواد، التي يطلقون عليها تسمية "طورا بورا المغرب الإسلامي" لوعورتها، فضلا عن التحصن في غابات المنطقة، وصحاريها، وخوض حرب عصابات تستهدف استنزاف القوات الإفريقية والفرنسية، وتعتمد على طول النفس، وحنكة المراوغة،والخبرة الميدانية.

المواجهة العرقية

ويضاف إلى ما سبق أن حجم قوات الجماعات الإسلامية المسلحة في أزواد وطبيعة تسليحها يزيد من تعقيد الأمور، فضلاً عن توغلها في المجتمع الأزوادي، إذ من المعلوم أن جماعة أنصار الدين تتألف أساسا من الطوارق، وجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا تتألف في غالبها الأعم من القبائل العربية في منطقة غاوا وشرق أزواد، وجماعة أنصار الشريعة تتألف من قبائل عرب تمبكتو والمناطق الأزوادية الغربية، بينما يسيطر الجزائريون والموريتانيون على تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، مع حضور قوي للمسلحين الأزواديين في التنظيم.

كما أن هذه الحركات قد تستغل معاناة سكان أزواد، خصوصا من الطوارق والعرب، من الظلم والتهميش طيلة العقود الماضية، فضلا عن خوفهم من أن تأخذ الحرب القادمة  صبغة عنصرية وعرقية بطبيعة القوات المشاركة فيها من غرب إفريقيا، وتجهيز فرنسا ودعمها لمليشيات ذات طابع عرقي من قومية السونغاي (مليشيات "الكوندوإيزو") تتلقى حالياً التدريب والتسليح في معسكرات وسط مالي) للمشاركة في الحرب.

ويخشى العارفون بالمنطقة أن تكرر هذه المليشيات تجربتها في التسعينيات، عندما سلحها الجيش المالي وأطلقها على الطوارق والعرب، فارتكبت عمليات إبادة واغتصاب وحرقت القرى واجتاحت المدن، وهو ما يرجح فرضية دفع حركتين غير إسلاميتين تنشطان في المنطقة إلى المشاركة في الحرب إذا دخلت القوات المالية إلى أزواد، وهما الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية الأزوادية، وكلاهما تعادي الجماعات السلفية، لكنهما تتفقان معها في رفض عودة الجيش المالي إلى أزواد.

رفض في بامكو للتدخل الأجنبي

ويضاف إلى كل هذا التعقيد وجود أكثر من رأس للسلطة في باماكو،تتباين مواقفها من التدخل الأجنبي. ففي القوت، الذي يرحب فيه الرئيس الانتقالي اديوكندا اتراوري وحكومته بهذا التدخل، هناك من ينظر إلى القوات الإفريقية والتدخل الأجنبي عموما في مالي، بعين الريبة والتوجس، ويتعلق الموقف الأخير بقائد الانقلابيين، النقيب آمدو سونغو، صاحب النفوذ الأكبر في باماكو، والذي أكد أكثر من مرة رفضه لوجود قوات أجنبية على الأراضي المالية، وينظر زعيم الانقلابيين - وهو الرئيس الحالي للجنة إصلاح وإعادة تأهيل الجيش-  إلى القوات الأجنبية باعتبارها قوة دعم محتملة لشريكه في السلطة وغريمه السياسي، الرئيس المؤقت اديوكوندا اتراوري، الحائز على اعتراف المجتمع الدولي كرئيس شرعي لمالي.

وتتعقد المهمة الفرنسية في مالي أكثر مع تفاقم ضغط معنوي آخر تواجهه سلطة هولاند، ويتعلق الأمر بمصير عدد من مواطنيه مازالوا رهائن محتجزين لدى الجماعات المسلحة، التي قد تقدم في أي وقت على تصفية بعضهم، وتحميل الرئيس الفرنسي مسؤولية ذلك، مستهدفة زيادة مستوى ضغط الشارع الفرنسي على هولاند، لحمله على التوقف عن مواصلة الحرب، وهو ضغط يحسب له حسابه الهام في دوائر القرار الفرنسية.

وباختصار، يمكن القول: إن عقبات كثيرة تواجه التدخل العسكري المدفوع بحماية المصالح الفرنسية في أزواد، لكنه تدخل يفتح على المنطقة وعلى الفرنسيين أبواب حرب لا تعرف نهايتها، ولا يبدو أن أحداً يمكنه تصور المدى الذي قد تؤول إليه.