نظام الحكم الحالي لا يسمح لرئيس الوزراء التركي طيب أردوغان بالبقاء في الحكم بصلاحيات كافية؛ ولا بإعادة تعريف الأمة التركية كإطار لحل المسألة الكردية (الأوروبية-أرشيف) |
في تعليق له على العملية السياسية الجارية منذ شهور قليلة لحل المسألة الكردية في تركيا، كتب مراد يتكين، أحد معلقي صحيفة حرية البارزين (18 فبراير/شباط 2013)، مشبّهًا رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة التركية، بالرئيس الأميركي إبراهام لنكولن. كان لنكولن هو الذي اتخذ الخطوة الكبرى نحو إلغاء نظام العبودية، بالرغم من أن تلك الخطوة كلّفت الولايات المتحدة حربًا أهلية طاحنة في ستينيات القرن التاسع عشر، بينما يوشك أردوغان على وضع نهاية سلمية لحرب الانفصاليين الأكراد، بقيادة حزب العمال الكردستاني، ضد الدولة التركية. ثمة فروق ملموسة بين الأميركيين الأفارقة وأكراد تركيا، يلحظها يتكين بالتأكيد، ولكن المقارنة تتعلق بحجم القرار وأثره على وحدة الشعب وإعادة بناء مفهوم الهوية.
الحقيقة، أن حل المسألة الكردية في تركيا قد يكون له أصداء أبعد بكثير من حدود الجمهورية التركية؛ فكما أن هناك قضية كردية في تركيا، هناك أخرى في العراق وسورية وإيران؛ وبالرغم من أن تقدمًا حُقّق على صعيد القضية الكردية في العراق، فإن هذا التقدم لم يصل إلى الحل الكامل والدائم.
بيد أن العملية السياسة لحل المسألة الكردية في تركيا لم تزل في بدايتها، وكما أشار رئيس البرلمان التركي، جميل تشيشك في 22 فبراير/شباط 2013؛ فإن قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تعرف تفاصيل ما يجري. والأهم، أن صلة وثيقة تربط بين الملف الكردي وعملية كتابة مشروع الدستور التركي الجديد، التي لا تسير بالسرعة التي يرغب فيها رئيس الحكومة.
فما الذي يجري فعلاً على صعيد المسألة الكردية في تركيا؟ وهل ينجح أردوغان هذه المرة في إيجاد حل حقيقي وقابل للصمود لهذه القضية الشائكة والمؤلمة، بعد سلسلة طويلة من المحاولات المتعثرة؟ ولماذا يرتبط حل المسألة الكردية بمشروع الدستور التركي الجديد؟
تعثر متكرر وطويل
لم تُثقل كاهل تركيا، دولة وشعبًا، منذ تأسيس الجمهورية، قضية مثل القضية الكردية. انطلقت الانتفاضات الكردية الأولى ضد النظام الكمالي في عقد العشرينيات من القرن الماضي؛ ولكن طابع تلك الانتفاضات كان مزيجًا من القومية والإسلامية. خلال العقود التالية، أصبحت قبضة الدولة التركية أكثر قسوة وتحكمًا، وفي عقد السبعينيات من القرن الماضي بدأت مظاهر التململ القومي في الظهور من جديد. في 1978، وطبقًا لرواية الحزب الرسمية، أسست مجموعة من الشبان الأكراد، بقيادة عبد الله أوجلان، حزب العمال الكردستاني (PKK). وقد عقد الحزب مؤتمره الثاني في سورية بعد أربع سنوات، حيث اتخذ قرارًا ببدء العمل المسلح. ثم مرّ عامان آخران، قبل أن يبدأ النشاط العسكري للحزب فعلاً في 1984.
وُلِد حزب العمال الكردستاني في فترة انتعاش اليسار الماركسي في تركيا، ولم يكن غريبًا أن يتبنى الحزب توجهًا اشتراكيًا-ماركسيًا. وبدون مطالبه الأخرى، التي تعكس شعور الأكراد الأتراك بالغبن والتهميش، ما كان للحزب أن يجد تعاطفًا شعبيًا في البيئة الكردية ذات التوجه الإسلامي المحافظ. كما أن الحزب أفاد من العنف البالغ الذي مارسه نظام الحكم العسكري بعد انقلاب 1980. وجاء الدعم الإقليمي للحزب من الحاضنة الكردية في شمال العراق، التي أفلتت من سيطرة بغداد منذ ثمانينيات القرن الماضي، ومن سورية حافظ الأسد، التي اتسمت علاقاتها مع تركيا آنذاك بالتوتر، ومن أوساط منظمات المقاومة الفلسطينية في لبنان.
تعهد الحزب منذ 1984 حربًا شرسة في مناطق الأغلبية الكردية، جنوب وجنوب شرق تركيا، ضد قوات الجيش والأمن التركية وضد الجماعات الإسلامية المعارضة له في الوسط الكردي، وضد عموم السكان في المدن التركية الكبرى، أحيانًا. وتشير تقديرات إلى أن خسائر تركيا، دولة وشعبًا، أتراكًا وأكرادًا، من حرب حزب العمال الكردستاني، المستمرة منذ 29 عامًا، بلغت أكثر من خمسين ألف قتيل. أوقعت الحرب ضررًا اقتصاديًا بالغًا، وتسببت في تعثر كبير لبرامج تنمية المقاطعات الجنوبية والشرقية. وبالرغم من أن الحرب خلال سنوات الحكم العسكري في الثمانينيات اتسمت بقدر متفاقم من البشاعة، سيما على صعيد تدمير القرى الكردية وتهجير سكانها وقيام الوحدات العسكرية التركية الخاصة بقتل المشبوهين من النشطاء الأكراد بلا محاكمة، فإن محاولات الدولة التركية للتوصل إلى حل تفاوضي/سياسي للمسألة الكردية لم تتوقف.
كانت أولى المحاولات تلك التي تعهدها الرئيس تورغوت أوزال في 1991–1993، وبدأت بإلغاء الحظر الكلي على استخدام اللغة الكردية وتحويله إلى حظر جزئي. كما وافق أوزال، الذي ينحدر من أصول كردية، على إطلاق مفاوضات غير مباشرة مع قيادة حزب العمال الكردستاني. وتعتقد بعض الدوائر التركية أن صلة مباشرة تربط بين موت أوزال المفاجئ في 1993 وجهوده لحل المسألة الكردية. في 1997، حاول رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان، من جديد، فتح قنوات تفاوض مع العمال الكردستاني، ولكن سلطة أربكان على الجيش والمؤسسة الأمنية لم تكن بالقوة التي تسمح له بإحراز تقدم سريع في المسار السلمي؛ كما أن حكومته لم تستمر لأكثر من عام.
في فبراير/شباط 1999، استطاعت الاستخبارات التركية، بمساعدة أميركية، القبض على عبد الله أوجلان في نيروبي، ونقله من ثَمّ إلى تركيا؛ حيث حوكم ووضع في سجن انفرادي في جزيرة إمرالي، حيث لم يزل مسجونًا بحكم مؤبد. كان أوجلان فقد ملاذه الآمن في سورية بعد تهديد تركي بالحرب، وتجول لسنوات قليلة في عدد من الدول، متفاديًا الملاحقة التركية القانونية والأمنية. والمدهش أن حكومة بولنت إيجيفيت بدأت مفاوضات مع سجينها الثمين، مباشرة بعد محاكمته.
أخفقت تلك المرحلة من التفاوض في محاولة إيجاد حل لأسباب عديدة، أولها: أن الدولة التركية لم تُمثَّل دائمًا بإرادة سياسية واحدة؛ فإلى جانب معارضة قطاع شعبي لم يزل متأثرًا بالتصور القومي-التركي للجمهورية الكمالية، فقد تواجدت في أوساط الجيش والجندرمة وأجهزة الأمن مجموعات قومية متطرفة بالغة التأثير، لم تكن على استعداد للاعتراف بالهوية الكردية، وعملت على حسم الصراع بالقوة، مهما بلغت التكاليف أو طالت الحرب. من جهة أخرى، وبالرغم من أن أوجلان اعتُبر دائمًا -ولم يزل- أبرز قيادات حزب العمال وأكثرهم تأثيرًا؛ فإن الحزب تطور إلى منظمة متعددة الجماعات، وليس تنظيمًا مركزيًا محكمًا. أتاح هذا التطور لقوى إقليمية ودولية مختلفة المصالح قدرًا متفاوتًا من التأثير على أجنحة مختلفة في الحزب؛ ومن ثَمّ استخدام هذه الأجنحة لخدمة مصالحها. وأصبح الحزب، في منعطفات مختلفة، أداة لتحقيق أهداف سورية وإيران وإسرائيل والتنظيمات الكردية العراقية، وربما حتى قوى غربية، في صراعها مع تركيا. هذا، إضافة إلى وجود قيادات في الحزب لا تقل راديكالية عن القوميين الأتراك المتطرفين، تصورت أن من الممكن تقسيم تركيا بالقوة.
تفكيك خيوط المعضلة الكردية
في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، تولى حزب العدالة والتنمية حكم البلاد. خلال السنوات الأولى، لم تتمتع حكومة العدالة والتنمية بقوة كافية للتعامل مع المسألة الكردية، وكان عليها أن تتعامل مع تحديات أكثر إلحاحًا، من الوضع الاقتصادي المتدهور للبلاد، وسياسة الحرب والغزو الأميركية في الجوار الإقليمي، إلى مناورات القوى العلمانية الكمالية داخل جسم مؤسسة الدولة والقضاء للإطاحة بالحزب وحكومته. في 2007، حقق أردوغان انتصاره الانتخابي الثاني، وأصبح عبد الله غول، الشخصية الثانية في العدالة والتنمية، رئيسًا للبلاد. ولم يعد ثمة شك في أن حكومة أردوغان الثانية أظهرت ثقة أكبر بالنفس.
لم يكن الملف الكردي غائبًا عن ذهن رئيس الحكومة التركية؛ فمن المعروف أن أردوغان، منذ سنوات قيادته لبلدية إسطنبول في منتصف التسعينيات، شكّل مجموعة عمل للبحث في إيجاد حل شامل ودائم للمسألة الكردية. جاء أردوغان من خلفية حزبية إسلامية؛ وقد اكتسبت الأحزاب التي شكّلها الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان دائمًا شعبية ونفوذًا ملموسيْن في مقاطعات الأغلبية الكردية. ويُعتقد أن أردوغان أعطى الضوء الأخضر لبدء مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني في أوسلو منذ 2008، نظمتها مجموعة نرويجية مدنية. استمرت مفاوضات النرويج حتى يوليو/تموز 2011، عندما قطع حزب العمال هدنة مع الدولة، وشنّ هجومًا دمويًا على هدف عسكري تركي، واكب الكشف عن وجود قناة التفاوض النرويجية. وقد اتضح فيما بعد أن د. حقان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية منذ مايو/أيار 2010، كان من قاد المفاوضات من الجانب التركي.
تخرّج د. فيدان في العلوم السياسية من جامعة ميرلاند بالولايات المتحدة، وسبق أن عمل ضابطًا في الجيش، كما تولى مناصب مختلفة في جهاز الدولة التركية، بما في ذلك عضوية الوفد التركي بمقر حلف الناتو وعُيّن مندوبًا دائمًا في المنظمة الدولية للطاقة النووية. ومنذ توليه موقع سكرتير مكتب رئيس الحكومة، اعتُبر فيدان من الشخصيات موضع ثقة أردوغان، بالرغم من أنه قدم إلى مكتب رئاسة الحكومة من صفوف بيروقراطية الدولة وليس من المعينين السياسيين. وكما عدد كبير من العاملين إلى جانب أردوغان وفي الصفوف القيادية للعدالة والتنمية، بما في ذلك وزير الداخلية الحالي، ينحدر فيدان من مقاطعة وان، الكردية الشرقية. لم يتسلم فيدان الملف الكردي قبل توليه رئاسة المخابرات وحسب، بل واستمر في إدارة هذا الملف بعد ذلك.
الشائع في تركيا أن العملية السياسية الجارية الآن بدأت في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي 2012؛ ولكن المؤكد أن هذه العملية أُطلقت، على نحو ما، قبل ذلك بكثير. ثمة مؤشرات عديدة على أن رئيس الحكومة التركية يحتفظ بقناعة عميقة بأن لا حل للمسألة الكردية وللحرب التي يقودها حزب العمال الكردستاني سوى بالتفاوض، وإعادة بناء الدولة وعلاقتها بالشعب، قانونيًا ودستوريًا وسياسيًا. صعّد أردوغان من خطابه المناهض لحزب العمال الكردستاني منذ فوز العدالة والتنمية الثالث في انتخابات 2011، وأطلق عملية عسكرية مستمرة ضد قواعد الحزب في مقاطعة هكاري وجبال قنديل الحدودية مع العراق. بذلك، كسب أردوغان ثقة الشعب في المعركة ضد الانفصاليين. في الوقت نفسه، اعتمد أردوغان سياسة تقارب استراتيجي مع حكومة إقليم كردستان في شمال العراق، التي يُعتبر تعاونها ضروريًا لأي حل أو مواجهة عسكرية مع حزب العمال الكردستاني. وفي الوقت الذي حقق الجيش التركي نجاحات ملموسة في تقويض مقدرات حزب العمال العسكرية، أوكل رئيس الحكومة التركية لرئيس جهاز مخابراته مهمة الحوار مع عبد الله أوجلان.
ويُعتقد أن د. فيدان قام، منذ ربيع 2010، بالعديد من الزيارات لعبد الله أوجلان في سجنه بجزيرة إمرالي، بعضها كان معلنًا والآخر ليس كذلك. والواضح أن فيدان، المعروف بثقافته العالية ومعرفته العميقة بالإسلام وتاريخ تركيا، استطاع كسب ثقة الزعيم الكردي؛ وقد بدأت ظروف سجن أوجلان بالتالي في التحسن، في موازاة تقدم العلاقة بين الطرفين. في يوليو/تموز 2012، هاتف أوجلان للمرة الأولى ليلى زانا، النائبة في البرلمان التركي عن حزب السلام والديمقراطية الكردي، الذي يُنظر إليه باعتباره واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني، وطالبها بالمشاركة في التفاوض مع الحكومة التركية. كانت المكالمة، ربما، أول مؤشر على أن أوجلان ينظر إلى حواره مع د. فيدان باعتباره مسارًا تفاوضيًا.
في 3 يناير/كانون الثاني، 2013، وفي سابقة أخرى، فوجئ الرأي العام التركي بقيام نائبين كرديين آخرين، أيلا كتا عطا، عن حزب السلام والديمقراطية، وأحمد ترك، النائب المستقل وأحد أبرز الشخصيات السياسية الكردية في البلاد، بزيارة أوجلان في سجنه. كل الزيارات لأوجلان تقررها الحكومة، بما في ذلك زيارات محاميه، وكان واضحًا أن ثمة قرارًا سياسيًا خلف زيارة النائبين. وبذلك، ومنذ مطلع يناير/كانون الثاني 2013، بدأ الحوار بين فيدان وأوجلان في التحول إلى إجراءات ملموسة. استمرت عمليات الجيش التركي ضد مسلحي حزب العمال وقواعده، ولكن نشاط الحزب العسكري تراجع إلى حد كبير. وصدرت عن رئيس الحكومة التركية تصريحات تفيد بضرورة مغادرة مسلحي الحزب البلاد أو إلقاء السلاح قبل أن تتوقف عمليات الجيش.
ليس من الممكن التكهن بما تم الاتفاق عليه بين فيدان وأوجلان، ولكن صلاح الدين دمرداش، الرئيس المشارك لحزب السلام والديمقراطية، صرح في 21 فبراير/شباط 2013 بأن عبد الله أوجلان سلّم الحكومة التركية مسودة خارطة طريق لحل المسألة الكردية ككل، وأن حزبه سيتسلم نسخة من مقترح خارطة الطريق في زيارة نواب الحزب الثانية لأوجلان في 23 فبراير/شباط. وقال دمرداش: إن أي اتفاق بين أوجلان وقيادة العمال الكردستاني في جبال قنديل ستكون ملزمة لحزبه، حزب السلام والديمقراطية، مشيرًا إلى أن المفاوضات تجري مع أوجلان وحسب، وأن ليس ثمة مسار تفاوضي آخر بين الحكومة التركية وقيادات العمال الكردستاني في أوروبا أو جبال قنديل. وفي إضافة ذات دلالة، أكد دمرداش على أن الجانب الكردي ليس على استعداد لتقديم تنازلات عن الحقوق اللغة والثقافة، ولكن هذا المطلب لابد أن يُراجَع من جهة التفاصيل.
في الوقت نفسه، بدأ أردوغان في الأسبوع الثالث من فبراير/شباط 2013 جولة في مقاطعات الأغلبية الكردية في جنوب البلاد، قصد بها الترويج لخطة السلام. ألقى أردوغان، كعادته، كلمة مدوية في مدينة ماردين، ذات التركيبة السكانية المختلطة، استدعى فيها التاريخ والقيم الإسلامية، وهاجم العصبيات القومية بحدة بالغة وغير مسبوقة. وربما يكشف خطاب رئيس الحكومة، الذي يُنظر إليه الآن باعتباره أقوى قيادات الجمهورية التركية منذ مصطفى كمال، عن توجهاته لحل المسألة الكردية وإعادة تعريف الجمهورية ومواطنيها. وفي 22 فبراير/شباط، تقدمت حكومة أردوغان بمجموعة التعديلات القضائية الرابعة، التي يُعتقد بأنها تمهد الطريق، عند إقرارها، لتغيير جوهري في إجراءات الاتهام والتقاضي، وتفسح المجال للإفراج عن الآلاف من مساجين منظمة اتحاد أهالي كردستان (KCK)، التابعة لحزب العمال الكردستاني وغير القانونية، التي طالما استهدفتها الأجهزة الأمنية والقضائية التركية.
ولكن، حتى مع افتراض أن أوجلان تقدم للحكومة التركية بما يكفي لإطلاق عملية تسوية سلمية للحرب وللمسألة الكردية في تركيا ككل، وحتى إن وفرت التعديلات القضائية لرئيس الحكومة فرصة اتخاذ إجراءات مصالحة ملموسة بين الدولة والمنظمات الكردية القومية، القانوني منها وغير القانوني، فليس من الممكن لأردوغان الذهاب بعيدًا في طريق الحل بدون تعديلات جوهرية في البنية الدستورية للبلاد. فكيف يمكن مثلاً حل مشكلة وضع اللغة الكردية، أو إعادة تعريف المواطنة بصورة تنزع عنها إيحاءاتها القومية–التركية، بدون دستور جديد؟
الطريق إلى دستور جديد
بدأت لجنة التوافق الدستوري، التي شكّلها البرلمان التركي لوضع مسودة دستور جديد، بعد اتفاق بين الأحزاب البرلمانية الأربعة، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، ولكن اللجنة لم تبدأ عملها فعلاً إلا في مايو/أيار 2012. وكان المفترض أن تنهي اللجنة عملها مع نهاية 2012، ولكنها لم تكن حينذاك قد انتهت إلا من 103 مادة، أجمعت على 31 منها. قبل نهاية العام الماضي 2012، طلب رئيس اللجنة ورئيس البرلمان، جميل تشيشك، تمديد عمل اللجنة، سيما بعد أن هدد أردوغان بقيام حزب العدالة والتنمية منفردًا بوضع مشروعه الخاص للدستور. في النهاية، مُدّد للجنة بالفعل حتى إبريل/نيسان من هذا العام 2013؛ ولكن قلّة فقط تعتقد أن مشروعًا جديدًا للدستور سيكون جاهزًا قبل ذلك الموعد.
يعود البطء في عمل اللجنة لعدة أسباب:
-
أولها: أن أحزاب المعارضة الرئيسة، سيما حزب الشعب الجمهوري (CHP)، لم تكن ترغب أصلاً في وضع دستور جديد للبلاد، وأن ممثليها في اللجنة يجرّون أقدامهم جرًا.
-
الثاني: أن العدالة والتنمية يرغب في تغيير بنية الحكم في البلاد إلى نظام حكم رئاسي، وهو الأمر الذي لا يجد تأييدًا من حزبي الشعب الجمهوري والحزب القومي (MHP)، لاعتقاد كليهما بأن تغيير نظام الحكم يُقصد به التمهيد لصعود أردوغان لسدة الرئاسة في العام المقبل، وقيادة تركيا حتى 2022.
-
الثالث: أن حزب العدالة والتنمية يدفع باتجاه متغيرات كبرى أخرى في مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسة القضائية وموقع الجيش في هرم الحكم، إضافة إلى متغيرات تتصل بحل المسألة الكردية. والأخيرة بالذات تجد معارضة صاخبة من الحزب القومي.
أردوغان، باختصار، يحتاج دستورًا جديدًا قبل الخريف المقبل، ويحتاج بصورة خاصة أن يستجيب الدستور الجديد لتصوره لنظام الحكم، ولما هي تركيا كأمّة. كلتا المسألتين متصلتان، وكلتاهما ستعطيانه فرصة إضافية لقيادة البلاد إلى تركيا التي يريد. هذه هي دورته الأخيرة في رئاسة الحكومة، طبقًا لقوانين الحزب الداخلية؛ وبدون تغيير نظام الحكم لن يمكنه أن يصبح رئيسًا تنفيذيًا، بسلطات كافية، في حال نافس على موقع الرئاسة في العام المقبل؛ وبدون تغيير في بنية الدولة وتعريف الأمة والمواطنة، لن يمكنه التوصل إلى حل شامل ومستديم للمسألة الكردية.
في حال لم تتمكن لجنة التوافق الدستوري من إتمام مهمتها خلال الشهرين المقبلين، فيمكن للعدالة والتنمية الانسحاب منها، ومن ثم التسبب في إيقاف عملها، وتقديم مشروع دستور منفرد للبرلمان. الأرجح عندها أن يعارض حزبا الشعب الجمهوري والقومي المشروع. لإقرار مشروع الدستور نهائيًا في البرلمان، لابد من تأييد 367 نائبًا من مجموع الأعضاء (550 نائبًا)؛ ولإقراره للعرض على الاستفتاء الشعبي لابد من تأييد 330 نائبًا. للعدالة والتنمية 325 نائبًا فقط، وربما ستمتنع قلة بينهم عن تأييد المشروع لهذا السبب أو ذاك. ولكن أردوغان يستطيع الحصول على تأييد النواب الأكراد من حزب السلام والديمقراطية، وعددهم 29 نائبًا (للحزب خمسة نواب آخرون، حُكم عليهم بالسجن)، لتأمين عرض المشروع على الاستفتاء، وربما أيضًا بعض النواب المنشقين عن حزبي الشعب الجمهوري والقومي.
ليس من الواضح الآن ما هو الخيار الذي سيذهب إليه أردوغان؛ بمعنى ما إن كان سينتظر لجنة التوافق الدستوري حتى تنتهي من عملها، مهما طال هذا العمل، أو أنه سيقرر التقدم للبرلمان بمشروع دستور منفرد، ولكن المؤكد أن أمامه أسابيع فقط ليقرر، وليس شهورًا.
فرصة تاريخية
يروي أحد المسؤولين الأتراك الذين أُتيح لهم الاطلاع على بعض محاضر جلسات الحوار مع أوجلان أن الزعيم الكردي دعا في إحدى الجلسات إلى فتح الحدود بين تركيا وجوارها العربي في العراق وسورية. يدرك أوجلان، وربما لم يزل يأمل، أن المسألة الكردية تتجاوز حدود تركيا إلى الأكراد في العراق وإيران وسورية؛ وبات مقتنعًا –ربما- بأن المطامح القومية للأكراد لا تتطلب بالضرورة دولة مستقلة من أجل تحققها، وإنما رفع العوائق وضمان الاتصال بين الجماعات الكردية. هذا، بالطبع، هدف بعيد المدى، ولكن أحدًا في هذه المرحلة لا يمكنه تجاهل البعد الإقليمي للمسألة الكردية.
ينتشر الأكراد في كلٍّ من تركيا وإيران والعراق وسورية، وبالرغم من التفاوت بين ظروف وحجم ووضع الأكراد في كل من هذه الدول، فإن الجماعات الكردية جميعها تشهد حراكًا قوميًا، بهذه الحدة أو تلك. ما يمكن استنتاجه، وهو قليل على أية حال، أن الحل الذي يجري التداول حوله في تركيا يستجيب لبعض مطالب الحركة القومية التركية اللغوية والثقافية، ويضمن وحدة الدولة التركية في الآن نفسه. فإلى أي حد سيصبح هذا الحل نموذجًا يحتذى؟ وإلى أي حد سيحقق لتركيا، وهي الدولة التي تضم أكثر من نصف الأكراد، موقعًا قياديًا ومؤثرًا في مجمل الحركة الكردية؟ تفرع عن حزب العمال الكردستاني، مثلاً، حزب شقيق في إيران وآخر في سورية؛ فهل ستمارس تركيا تأثيرًا ما على كليهما؟
هذا على المدى المتوسط والبعيد، أما على المدى الأقرب فلابد لكلا الطرفين: حكومة العدالة والتنمية وعبد الله أوجلان، من التعامل مع التحديات الآنية للحل المنشود. هناك تحديات قانونية ودستورية لابد من تجاوزها من جانب الدولة التركية، وهناك رأي عام تركي لابد من كسبه وإقناعه بالحل وما سيترتب عليه قانونيًا ودستوريًا. ومن جهة أخرى، وبالرغم من قوة ورمزية قيادة أوجلان، فإن حزب العمال الكردستاني أصبح أقرب إلى إطار منه إلى الحزب المتماسك. وربما تشير حادثة اغتيال الناشطات الكرديات الثلاث في باريس (9 يناير/كانون الثاني) إلى حجم الخلافات داخل الحزب حول التفاوض الجاري مع الحكومة التركية، والمدى الذي يمكن أن تصله هذه الخلافات. بكلمة أخرى، هل سيستطيع أوجلان أن يضمن ولاء الأغلبية في الحزب واصطفافها حول الحل الذي سيتوصل إليه؟ وإلى أي حد يمكنه أن يحيّد نفوذ الدول الإقليمية، التي لا تريد أن ترى حلاً تركيًا للمسألة الكردية، داخل صفوف حزب العمال الكردستاني؟
المؤكد أن تركيا تقف الآن أمام فرصة تاريخية غير مسبوقة، فرصة التوصل إلى حل تفاوضي، وسلمي، ومقبول من الطرفين، للمسألة الكردية، يضع حدًا لسياسات التهميش والإقصاء والإدماج القسري، وللحرب والإرهاب والموت، في الآن نفسه.