رئيسي والسياسة الخارجية الإيرانية.. بين الاستمرار والتغيير

تلخص هذه الورقة التغييرات المحتملة للسياسة الخارجية الإيرانية أثناء رئاسة رئيسي، انطلاقاً من السؤال العام المتداول اليوم حول طهران والمترکّز حول مستوى تأثير الرئيس علی السياسة الخارجية للبلاد، وبشكل أخص، ما يعنيه انتخاب رئيسٍ معروف بقربه من الرؤى الأصولية والثورية، کما يُعرّف رئيسي نفسه.
 إبراهيم رئيسي يوصف بأنه واقعي لكنه ضد التفاوض لأجل التفاوض ( رويترز نقلا عن وانا)

بانتخاب السيد إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية في إيران، وهو المختلف بشخصه وأولوياته ورؤاه عن سلفه الرئيس حسن روحاني، تتزاحم التحليلات حول ما يعنيه ذلك علی مستوى السياسة الخارجية، فضلاً عن السياسة الداخلية للبلاد. ولأن السياسة الخارجية تُعتبر امتداداً خارجياً للسياسة المتبعة داخلياً، يترابط التغيير الداخلي بالتغيير المُنتظر في السياسة الخارجية لطهران. ولارتباط إيران بملفات عدة علی المستوى الدولي والإقليمي، يهتم المجتمع الدولي وحتى الدول المجاورة بما يعنيه انتخاب رئيسي لأربعة أعوام -قد تمتد لثمانية- علی مستوى السياسة الخارجية. 

تحاول الورقة في هذا الموجز تلخيص التغييرات المحتملة للسياسة الخارجية الإيرانية أثناء رئاسة رئيسي، انطلاقاً من السؤال العام المتداول اليوم حول إيران والمترکّز حول مستوى تأثير الرئيس علی السياسة الخارجية للجمهورية، وبشكل أخص، ما يعنيه انتخاب رئيسٍ معروف بقربه من الرؤى  الأصولية والثورية، كما يُعرّف رئيسي نفسه. 

الرئيس والتغيير

لرئيس الجمهورية في إيران أثر كبير في تحديد أجندة السياسة الخارجية وأولوياتها. ورغم التشكيك في مستوى تأثيره، تُظهر مواکبة الإدارات السابقة تغييرات جمة طرأت علی السياسة والعلاقات الخارجية بانتخاب کل من الرؤساء السابقين. فالقول بأن الرجل الأول في الجمهورية هو المرشد الأعلی ويأتي الرئيس ثانياً، لا يعني بأي حال من الأحوال غياب دور الرئيس. فللمرشد الأعلی، حسب الدستور الإيراني، صلاحية رسم السياسات العليا للبلاد، إلا أن رسم معالم تلك السياسات يمرّ عبر مؤسسات الدولة وعلی رأسها الحكومة والمجلس الأعلی للأمن القومي، وتؤثر فيه مؤسسات عدة کمجمع تشخيص مصلحة النظام والبرلمان-المجلس. 

ويُعتبر المجلس الأعلی للأمن القومي أکبر سلطة في السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية. وبموازاة رئاسته للحكومة، يرأس رئيس الجمهورية المجلس الأعلى، وينوب عنه السكرتير العام الذي يرشحه لإدارة المجلس. وإلی جانب الرئيس، يصبح کل من وزير الداخلية والخارجية والاطلاعات أعضاء في المجلس بمجرّد تسلمهم مهامهم، فضلاً عن نائب الرئيس. بذلك وبتغيير الحكومة، يتغيّر ستة من أعضاء المجلس المكوّن من 13 عضواً،هم: رؤساء القوات المسلحة والسلطات الثلاث والوزراء المشار إليهم سلفاً، فضلاً عن نائب عن المرشد الأعلی. 

ويمكن الإشارة إلى تجارب الإدارات السابقة لمعرفة مدى تأثير تغيير الحكومة علی السياسة الخارجية والسياسات العليا للبلاد. فرؤية الرئيس محمد خاتمي (1997-2005) مثلاً، أتت بخطاب وسياسة يدعوان إلى إعلاء الحوار (حوار الحضارات) في السياسة الخارجية، وإزالة أسباب التوتّر في العلاقات الخارجية، مما انعكس إيجابياً علی علاقات إيران الأوروبية والإقليمية، وصلت فيما يخص المملكة العربية السعودية مثلاً إلی إبرام اتفاق أمني بين البلدين عام 2001. أما رؤية الرئيس أحمدي نجاد (2005-2013) فقد أتت بسياسة ترتكز علی البناء الداخلي لأسباب القوة في التعاطي مع الدول الغربية، وکان لخطابه أثر معاکس لحكومة سلفه فيما يخص العلاقات مع الدول الأوروبية. أما حكومة الرئيس روحاني التي وُلدت مخالفة لسياسة سلفه أحمدي نجاد وخطابها، فقد أسست للمفاوضات التي أفضت إلی إبرام الاتفاق النووي عام 2015. 

يصعب علی المشكك بدور الإدارة ورئيسها في السياسة الخارجية، إيضاح أسباب هذه التغييرات التي أتت في ظل المرشد الأعلی ذاته علي خامنئي. وبشكل عام، يمكن القول بأن المرشد الأعلی ورغم صلاحياته الواسعة، يترك للحكومة المنتخبة إدارة السياستين الداخلية والخارجية، ما لم تتعارض مع الدستور والأسس العامة الموضوعة للسياسة الخارجية والأصول المحددة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية (العزة والحكمة والمصلحة)، وهي أسس وأصول أعيد التذکير بها في بيان الخطوة الثانية للثورة من قبل المرشد الأعلی(1). فالتعاطي الخارجي يجب أن يحفظ عزة البلاد، ولذلك مثلاً نأت حكومة الرئيس روحاني بنفسها عن قبول الالتقاء بترامب من موقع الضعيف الذي أراده لها بعد فرضه العقوبات القصوى. وهي أيضاً يجب أن ترکّز علی مصلحة البلاد باعتبارها أساساً إن فُقد تنعدم ضرورة التعاطي، ولذلك ترکّز إيران اليوم علی عدم التفاوض من أجل التفاوض، وأن مفاوضات فيينا لن تستمر إن ثبت عدم جدواها(2)

وعلى الرغم من أن تلك الأسس والأصول تحتمل تفسيرات مختلفة، فإن الدارج من مفهومها يقلّ الخلاف عليه. وغني عن القول إن سقف هذه الأصول الضاربة في تاريخ ثقافة إيران السياسية والاستراتيجية؛ عالٍ إلى مستوى يمكّن الحكومة المنتخبة من اتباع أولويات وأهداف ورؤى مختلفة، وهي علی الأغلب تتلقی الدعم من المرشد الأعلی في الوقت نفسه. 

رؤى وأولويات مختلفة

أخذاً بالأدبيات النظرية للعلاقات الدولية، يمكن اعتبار الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، رئيساً واقعياً يرى القوة بأبعادها المختلفة محوراً للعلاقات الخارجية. فهو يرکّز علی بناء القدرات الذاتية کأولوية قصوى أعاد التذکير بها قبل وأثناء حملته الانتخابية، باعتبارها الباب الأمثل للحد من الأعباء الخارجية من جهة، واتباع علاقات أکثر اتزاناً من موقع قوي مع الخارج من جهة أخرى.

وإذ تُمثّل القدرات الذاتية محوراً في رؤية رئيسي للعالم، فإنه لا يمكن اعتباره معارضاً لنهج التفاوض الذي انتهجته حكومة سلفه، وهو الذي يرى في القوة وسيلة للتغلّب علی المفروض دبلوماسيا، إذ ذکّر أثناء حملته الانتخابية بأنه لا يعارض الاتفاق النووي، لكنه يرى أن حكومة أقوى يمكن أن تضمن مصالح إيران في المفاوضات النووية(3). والقوة من هذا المنظور تعني استمرار بناء مصادرها، وعلی رأسها القوة الدفاعية للبلاد التي ذکر مرارا أنها غير قابلة للتفاوض. 

وعلی مستوى أولويات السياسة الخارجية، ينطبق اختلاف الرئيس المنتخب عن سلفه علی الاختلاف بين مدرستي السياسة الخارجية الإيرانية اللتين حددتا فحوى دوائر ترکيز کل الحكومات السابقة، وهما المدرسة الدولية والمدرسة الإقليمية. ولم يتحدث الرئيس المنتخب عن تفاصيل سياسته الخارجية، إلا أن الإطار العام لأطروحاته يرتكز علی أطروحات المدرسة الإقليمية. 

ويرى المنتمون إلى المدرسة الدولية -ومنهم فريق الرئيس روحاني للسياسة الخارجية- أن المستوى الأمثل لمعالجة القضايا الخارجية هو المستوى الدولي، إذ يرى هؤلاء أن حل خلافات إيران مع القوى الدولية يفتح أبواباً أوسع لحل الخلافات علی المستويات الأخرى، ومنها الإقليمية. فالتدرّج من هذا المنطلق يبدأ بالدولي وينتقل إلى الإقليمي. 

روحاني ورئيسي .. توجهات مختلفة بشأن العلاقة مع الغرب (المصدر:الأناضول)
روحاني ورئيسي .. توجهات مختلفة بشأن العلاقة مع الغرب (المصدر:الأناضول)

ولتلك الرؤية موقع في المخيال الجمعي للإيرانيين، وهذه الرؤية تقلّص من مستوى الاستقلال الاستراتيجي لدول الإقليم، ويرى في دفع الدول الكبرى لهؤلاء جدوى أکبر لحل خلافات إيران معهم.وتُدخل النقاشات الأحدث لتلك المدرسة الحيّزَ الاقتصادي للبلاد في ضرورات الترکيز علی المستوى الدولي، إذ ترى أنه لا يمكن حل المشاکل الاقتصادية للبلاد دون اتصال اقتصادها بسلسلة القيمة العالمية (Value Chain)، ومن ثمَّ ترابطه بالاقتصاد العالمي. ومن الخطابات الشهيرة للرئيس المنتهية ولايته، أنّ حل قضايا الاقتصاد يمرّ عبر طاولة المفاوضات النووية. 

أما المنتمون إلى المدرسة الإقليمية ومنهم الرئيس المنتخب رئيسي، فيرون في المستوى الإقليمي نقطة انطلاق لمعالجة قضايا السياسة الخارجية، وينتقدون ترکيز منافسيه الدوليين علی القوى الكبرى باعتباره مستوى يُضعف موقف إيران أمامها نظراً لمشاکلها الإقليمية. فحل القضايا الإقليمية مع الجيران والمنافسين الإقليميين يرفع کفة البلاد في التعاطي مع الدول الغربية، ويحدّ من استثمار الأخيرة للخلافات الإسلامية لصالحها وضدّ إيران. وفي النقاشات الأحدث، ورغم عدم رفضهم التوسّع في التجارة الخارجية، يرى هؤلاء أن الترابط الاقتصادي مع القوی الكبرى لا يؤازر بالضرورة استقلال البلاد الاستراتيجي. لذلك يرون في البوابة الإقليمية النافذةَ الأمثل لمعالجة الخلافات الخارجية، بالتزامن مع زيادة مصادر القوة للجمهورية أمام القوى الكبرى. 

وإذ يتفق الإقليميون مع نظرائهم الدوليين علی افتقار دول الجوار للاستقلال الاستراتيجي، فإنهم يرون في تطمين الجيران والدبلوماسية الإقليمية نافذة للحد من مخاوف تلك الدول تجاه طهران، وتقليصاً لمساحة استثمار أعداء البلاد لتلك المخاوف. 

ولا يعني التوجه الإقليمي أن أصحابه يعارضون التزامن بينه وبين المفاوضات علی المستوى  الدولي، إلا أن محور الترکيز لديهم هو الإقليم و"العالم الإسلامي"، کما ذکر الرئيس المنتخب أثناء المناظرات الانتخابية(4). ولذلك تتخذ المدرسة الإقليمية من الموازنة أداة لتوسيع حيّز المناورة في السياسة الخارجية، ويرى أصحابها في توسيع العلاقة مع القوى الصاعدة -وعلی رأسها الصين- ضرورة لموازنة التفاوض مع القوى الغربية.

وإذ يفتح التوجه الإقليمي باباً جديداً في علاقات إيران مع محيطها الإقليمي، يبقی السؤال مطروحاً حول مدى تلقّف دول الجوار المختلفة معها في عدة ملفات -کالسعودية مثلا- لخطاب وأولويات الرئيس المنتخب. 

المتفق والمختلف عليه

أخذا بأطروحات الرئيس المنتخب والنقاشات الدائرة في إيران حول سياسته الخارجية، يمكن تلخيص نقاط الاتفاق والاختلاف بينه وبين سلفه. فرئيسي لا يختلف عن روحاني في أهمية وضرورة إحياء الاتفاق النووي، ولذلك أسبابه: 

الإجماع الداخلي؛ إذ علی مستوی النظام ثمة إجماع حول ضرورة إحياء الاتفاق النووي نظرا لأن استمرار تعثره يؤثر سلبا علی الاقتصاد والعلاقات الخارجية، كما أن نجاحه يفتح أبوابا جديدة لعلاقات البلاد تأتي بفرص اقتصادية وتجارية أکبر، خاصة أن إيران تئن تحت وطأة العقوبات الأميركية القصوى. 

إلغاء العقوبات؛ فعلى الرغم من أن العقوبات المفروضة اليوم علی إيران تختلف عن عقوبات ما قبل الاتفاق النووي لعام 2015 من منظور أحادية العقوبات الجديدة، فإن سنوات العقوبات القصوى أظهرت لطهران أنها لا تختلف کثيراً عن مفعول سابقتها من حيث تأثيرها ووقعها علی الاقتصاد، وبذلك يأتي إحياء الاتفاق النووي کضرورة لإلغاء العقوبات وإنعاش الاقتصاد. 

الحد من التصعيد؛ فقد حاولت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إعادة الملف الإيراني من أروقة اللجنة المشترکة للاتفاق النووي إلی مجلس الأمن، بهدف إعادة وضع طهران تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛ باعتبارها تهديداً للأمن والسلم الدوليين. ولهذا الأمر مضاعفات لا تخطئها العين علی أمن البلاد القومي، وهو ما دفع إيران إلى البقاء في الاتفاق النووي رغم خروج الولايات المتحدة منه وتجريد طهران من منافعه الاقتصادية. لذلك يُعتبر إحياء الاتفاق مساراً طبيعياً لإزالة أسباب التوتّر وتغيير صورة البلاد الأمنية التي رسمتها الدول الغربية.

ورغم اعتبار ما سبق من النقاط المجمع عليها، فإن المستوى  التكتيكي يترك حيّزاً واسعاً لتمرير رؤية الرئيس المنتخب. فإن کانت حكومة الرئيس روحاني متخوفة من مخاطر التصعيد علی مستقبل الاتفاق النووي، فإن منتقديه -وهم الأقرب إلى رؤية رئيسي- يرون في التصعيد ضرورة لإحياء الاتفاق، بل وحلا للقضايا العالقة مع الدول الغربية. وكثيرا ما انتقد هؤلاء تريّث الحكومة الحالية في اتخاذ خطوات نووية وإقليمية أکثر وطأة علی أولويات واشنطن، لحملها علی مراجعة ضغطها الأقصی على طهران. 

ولذلك، فمن المرجّح أن تضاعف الحكومة الجديدة خطوات إيران في تقليص التزاماتها النووية من جهة، ومناکفة الولايات المتحدة إقليمياً من جهة أخرى، لتسريع إحياء الاتفاق النووي، إن لم يتم إحياؤه في الفترة المتبقية من ولاية روحاني. وکان معبّراً قول رئيسي في أول مؤتمر صحفي له، إن سياسته الخارجية لن تبدأ من الاتفاق النووي ولن تُحدَّد به. وبعبارة أخرى، فإن الرجل يولي إحياء الاتفاق أهمية باعتباره أولوية، لكن إلی جانب باقي أولويات السياسة الخارجية. 

ويشكل محيط إيران محور اهتمام الحكومة المنتخبة في سياستها الخارجية. وبينما ترى بعض دول الجوار تناقضا في ترکيز طهران المزدوج علی دعم الحلفاء من جهة ومد اليد لمنافسيها من جهة أخرى، ينسجم البُعدان لدى استراتيجيي إيران ورؤيتهم لأمنها القومي. فردع إسرائيل والولايات المتحدة إقليمياً -وهو عصب اهتمام محور المقاومة- لا يستهدف الدول الجارة مثل السعودية والإمارات. ولذلك، تحاول طهران منع التقارب بين جاراتها وأعدائها عبر تلك الدعوات والأدوات الدبلوماسية. کما تتزامن دعوات إيران إلى الحوار مع إيلائها دعم الحلفاء أهمية في سياستها الإقليمية.

وإذ يدرك الإيرانيون مخاطر اقتراب الأعداء -وعلی رأسهم إسرائيل- من منافسيها العرب في اتفاقيات التطبيع وفي معاداتهم لحلفاء طهران في محور المقاومة، يری الكثيرون من ذوي الرؤية الإقليمية أن الدبلوماسية المكوکية حَريّة بإيصال واقع السياسة الإيرانية إلى جيرانها وإبعادهم عن العدو الأول -إسرائيل- وبالتالي وضع حدٍ لعدائهم لمحور المقاومة. وکان هؤلاء قد انتقدوا ترکيز اهتمامات روحاني الخارجية علی الدول الغربية وضعف دبلوماسيته الإقليمية، بينما أبرز الرئيس المنتخب اهتمامه الإقليمي أثناء الحملة الانتخابية، کما غرّد بعد انتقاده مؤکداً أن الجيران علی سلّم أولوياته في السياسة الخارجية.

التوجّه الدولي لدى الإدارة الجديدة لا يقل أهمية عن التوجّه الإقليمي، فعلى عكس الحكومة الحالية، لا يرى  الأصوليون بشكل عام إمكانية للتفاهم طويل الأمد مع الدول الغربية، نظرا لعدائهم مع واقع استقلال إيران الاستراتيجي. ولذلك يبني هؤلاء توجهاتهم علی ضرورة الموازنة الدولية عبر تكثيف الدبلوماسية الدولية والحد من الرکون إلى مفاوضات مع الدول الغربية والبناء عليها. ومن شأن إحداث هذه الموازنة -حسب تلك الرؤية- توسيع حيّز المناورة الإيرانية أمام الولايات المتحدة والأوروبيين وضغوطهم. وغنيٌّ عن القول إن تلك الحسابات ليست جديدة، إذ إن الاتفاق طويل الأمد مع الصين والتعاون الإقليمي مع روسيا قد بُنيا عليها، إلا أن ذلك لا يمنع زيادة الترکيز علی التعاون مع القوى البديلة في نظام عالمي هو في طور الانتقال ويشهد صعود قوی عالمية جديدة. 

وفي النقاشات الحالية حول السياسة الإقليمية، تبرز أطروحة تقول بزيادة انسجام السياسة الإقليمية مؤسساتيا في الداخل خلال الحقبة المقبلة، أي أن ثنائية "الدولي" و"الإقليمي" التي طبعت المرحلة الحالية لن تستمر بمجيء الإدارة الجديدة. ورغم تضخيم أثر تعدد الأولويات علی السياسة الخارجية من قبل بعض المتابعين، وهو ما لا ينسجم مع واقع القرارات الاستراتيجية الإجماعية، فإن تعدد الأولويات طالما طبع النقاشات الاستراتيجية الإيرانية. 

وفي واقع الأمر، فإن الحقيقة تكمن بين ذلك التضخيم للانقسام من جهة، وبين القول بعدم تأثير الأولويات المختلفة علی المستوى العملي للسياسة الخارجية الإيرانية من جهة أخرى، إذ إن الأفكار والأولويات لها تأثير عملي علی الأرض. 

ومع تغيير ترکيبة المجلس الأعلی للأمن القومي بحكومة تنسجم بشكل أکبر مع أصحاب التوجهات الإقليمية، فمن المرجّح أن يُترجم ذلك انسجاماً أکبر علی مستوی السياسة الإقليمية، وهو ما أشار إليه البعض بشيء من الدعابة مرکّزين علی وحدة موقف ورؤية الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري إسماعيل قآني(5)، بينما عبّر عنه آخرون بالقول إن سياسة رئيسي الخارجية ستنسجم بشكل کبير مع مواقف المرشد الأعلی، سواء علی مستوى الإقليم أو في التعاطي مع الدول الغربية(6).

أما بالنسبة لأولويات الدول الغربية تجاه إيران، فلا يختلف خطاب وسياسة رئيسي عن سلفه في القول إن القدرات الدفاعية (برنامج الصواريخ البالستية) والسياسة الإقليمية للبلاد لا تقبلان التفاوض، وکرر الأطروحة الإيرانية المعروفة حين صرح في مؤتمره الصحفي بأن تلك الدول "لم تحترم ما اتُفق عليه، فكيف لنا الوثوق بها في مفاوضات حول مواضيع أخرى". 

کما أعاد رئيسي التذکير بأن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي ليست کافية، بل علی إيران التأكد من حقيقة هذه العودة وإلغاء العقوبات، وهو موقف مبني علی عدم الثقة بواشنطن، سبق أن کرره المرشد الأعلی کشرط لعودة طهران إلى الالتزام بالاتفاق(7).

وبذلك، يُبدي رئيسي تشدّداً أکبر من روحاني، وهو ما درج عليه الأصوليون من شراسة في التفاوض مع الدول الغربية، عبّرت عنها سابقا رئيسة الوفد الأميركي في المفاوضات النووية ويندي شرمن، بالقول إن سعيد جليلي کبير المفاوضين أثناء فترة حكم الرئيس أحمدي نجاد، کان "يعذّبنا" علی طاولة المفاوضات!(8)

الخلاصة

استراتيجيا، لا يمكن توقّع حدوث طفرة أو نقلة جذرية إزاء القضايا الرئيسية في سياسة إيران الخارجية. والفرق الرئيسي بين الإدارتين الحالية والمقبلة يكمن في أولويات هذه السياسة، سواء أکانت إقليمية أو دولية، وشروط وحيثيات التفاوض مع الأطراف الغربية. ففي المتفق عليه، يرکز الرئيس المنتخب کسلفه علی ضرورة إحياء الاتفاق النووي واستمرار التفاوض، إلى جانب تطوير العلاقات الدولية بشكل عام. أما علی مستوى المختلف عليه، فإن أولوية رئيسي في السياسة الخارجية ترکّز علی الإقليمي بدل الدولي، وذکَرَ غير مرة أن المنطقة والعالم الإسلامي هما محور سياسته الخارجية، وهو ما يجعله في النقاشات الداخلية ضمن المدرسة الإقليمية التي ترى في تطوير العلاقات الإقليمية وحل الخلافات مع الجيران؛ باباً لتوسيع العلاقات الدولية. 

أما بالنسبة للمستوى الدولي، فيعتبر رئيسي أن المفاوضات النووية ضرورية لإلغاء العقوبات، لكنه لا يعطيها الأولوية القصوى مثل روحاني، فهو يراها أولوية إلی جانب باقي الأولويات، وصرح مرارا بأن سياسته الخارجية لن تبدأ من الاتفاق النووي ولن تُحدد به. کما أنه يتجه في خطابه نحو زيادة التوازن في العلاقات مع القوى الكبرى لتوسيع حيّز المناورة، وعليه فلن يفاوض الدول الغربية حول قدرات إيران الدفاعية وسياستها الإقليمية، بل علی العكس، سيفاوض دول الجوار حول الخلافات البينية في الإقليم. فهل سيعتبره الجيران فرصة جديدة، أم أن دعواته ستمر کدعوات سلفه دون تغيير يُذکر؟ 

ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، ترجمه د. كريم الماجري إلى اللغة العربية.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1.  بيانیۀ گام دوم انقلاب خطاب به ملت ايران (بيان الخطوة الثانية للثورة موجه للشعب الإيراني)، موقع خامنئي.آی آر، 22 بهمن 1397. (تاريخ الدخول: 24 يونيو/حزيران 2021. https://farsi.khamenei.ir/message-content?id=41673
  2. أشار کبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا لإحياء الاتفاق النووي مثلاً أنه إن لم نصل إلى النتائج المرجوة فسنوقف التفاوض، وهو موقف سبق أن ذکره المرشد الأعلی وکرره الرئيس المنتخب أيضا. انظر: عراقچي: به دنبال مذاکرات فرسايشی نیستیم (عراقجي: لا نبحث عن مفاوضات استنزافية)، 26 أرديبهشت 1400. (تاريخ الدخول: 24 يونيو/حزيران 2021). https://bit.ly/3xS3o4r
  3. رئيسي: برجام را يک دولت مقتدر ميتواند اجرا کند (رئيسي: تستطيع حكومة مقتدرة أن تنفذ الاتفاق النووي)، دنياي اقتصاد، 22 خرداد 1400. (تاريخ الدخول: 25 يونيو/حزيران 2021). https://bit.ly/3zV69Ut
  4. تقویت روابط با همسایگان اولویت نخست سیاست خارجی دولت سیزدهم (تعزيز العلاقة مع الجيران يشكل الأولوية الأولی للسياسة الخارجية للحکومة الثالث عشرة)، جوان آنلاين، 2 تير 1400. (تاريخ الدخول: 25 يونيو/حزيران 2021). https://bit.ly/3dhh1SP
  5. في إشارة إلی الآية 125 من سورة البقرة: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))
  6. سياست خارجی رئيسی: از وصول چک برجام تا تعامل سازنده با جهان (السياسة الخارجية لرئيسي: من إيصال شيك الاتفاق النووي، إلی التعامل البناء مع العالم)، وکالة أنباء دانشجو، 30 أرديبهشت 1400. (تاريخ الدخول: 25 يونيو/حزيران 2021). https://bit.ly/3qte5YG
  7. حرف قطعی: لغو همه تحریم ها و راستی آزمایی (کلام قاطع: إلغاء کل العقوبات والتحقق)، موقع خامنئي.آي آر، 19 فروردين 1400. (تاریخ الدخول: 25 يونيو/حزيران 2021). https://farsi.khamenei.ir/audio-content?id=47662
  8. See Wendy R. Sherman, 2018, Not for the faint of heart: Lessons in courage, power and persistence, New York: Public Affairs.