جاءت حكومة علي العريض لتعكس التوازن الراهن في الحياة السياسية التونسية بين إرادتين متعارضتين بشكل تام (الأوروبية) |
لم ينقطع الجدل الدائر بشأن حكومة تونس الجديدة وأولوياتها في مواجهة استحقاقات ما بقي من المرحلة الانتقالية بعد نحو شهر من تشكيلها. وكانت التشكيلة التي أعلنها رئيس الحكومة الجديد، وزير الداخلية السابق، علي العريض في الثامن من مارس/آذار 2013 قد رأت النور بعد مشاورات مضنية مع الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية على إثر استقالة رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي. وقد نالت الحكومة الجديدة ثقة المجلس التأسيسي بواقع 139 صوتًا أي بنسبة 70% من عدد الذين أدلوا بأصواتهم (197 نائبًا).
جاءت حكومة الترويكا الثانية بعد ولادة عسيرة وفي مناخ سياسي أكثر تعقيدًا من ذلك الذي تشكلت فيه حكومة الترويكا الأولى التي قادها حمادي الجبالي على إثر انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. فقد سبق تشكيلَها ارتفاعٌ غير مسبوق لمنسوب التوتر السياسي عقب اغتيال المعارض اليساري القيادي في الجبهة الشعبية شكري بلعيد؛ الأمر الذي دفع بالاستقطاب الثنائي بين الحكومة والمعارضة إلى أقصى درجاته واضطر الجبالي وحكومته إلى الاستقالة. في ظل هذا المناخ الموسوم بالتوتر الشديد والتجاذبات الحادة، جاءت حكومة العريض لتعكس التوازن الراهن في الحياة السياسية التونسية بين إرادتين متعارضتين بشكل تام.
إرادة الحكومة من جهة، ومحورها ترويكا النهضة–المؤتمر–التكتل، التي كانت تهدف من وراء تشكيل الحكومة الجديدة، ليس إلى البقاء في السلطة وحسب، وإنما أيضًا إلى توسيع قاعدة الحكم بإدماج أحزاب سياسية أخرى واستقطاب عدد من الكتل النيابية في المجلس التأسيسي إلى جانب شخصيات وطنية غير متحزبة. وقد شارك في مفاوضات تشكيل الحكومة خمسة أحزاب ضمت، إلى جانب ثلاثي الترويكا، كلاً من حركة وفاء وكتلة الحرية والكرامة. وإرادة المعارضة من جهة أخرى، ومحورها الجبهة الشعبية والتحالف من أجل تونس، التي سعت بكل الوسائل إلى إسقاط الحكومة وإعادة تشكيل المشهد السياسي على غير ما أفرزته انتخابات المجلس التأسيسي.
توازنات الترضية المتبادلة
أسفر تشكيل الحكومة الجديدة عن توازن دقيق بين السلطة والمعارضة، فيه قدر من النجاح المتبادل وقدر من الفشل المتبادل؛ فقد تمكنت الترويكا من البقاء والصمود في وجه دعوات إسقاطها والمحاولات المتكررة لتفكيكها، ولكنها في المقابل عجزت عن توسيع قاعدتها الحزبية فأعادت إنتاج نفسها، لكن مع التخلي، تحت ضغوط المعارضة، عن الوزارات السيادية لفائدة كفاءات مستقلة. والمعارضة من جهتها حققت بعض المكاسب من خلال فرض تنازلات حقيقية على الحكومة، ولكنها بالمقابل عجزت عن إسقاط التحالف الحاكم، وأدركت أن إعادة تشكيل المشهد السياسي على قواعد جديدة لم يعد ممكنًا في ما بقي من عمر المرحلة الانتقالية. تلك هي ملامح المعادلة الجديدة التي انتهى إليها المشهد السياسي التونسي في لحظته الراهنة، ويبدو أن حدودها قد تغيرت نسبيًا عما كانت عليه إبّان تشكيل حكومة الترويكا الأولى.
هذه المعادلة عكستها تشكيلة الحكومة الجديدة التي ضمت، بالإضافة إلى رئيسها، 27 وزيرًا وعشرة كتّاب دولة، منهم تسعة وزراء جدد، في حين حافظ البقية على مواقعهم. وبخصوص هذه التشكيلة يمكن أن نشير إلى أن تحييد وزارات السيادة (الداخلية والخارجية والعدل والدفاع) كان مطلبا نادت به المعارضة طويلاً ورفضته الحكومة، وخاصة حزبي النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية، بدعوى أن المرحلة تحتاج إلى حكومة سياسية. تكمن أهمية تحييد وزارات السيادة في هذه المرحلة وتولّيها من قبل شخصيات تحظى بقبول مختلف القوى السياسية، فيما يلي:
-
ما حققته هذه الخطوة من تقارب بين الفرقاء وكسر للاستقطاب الحاد بين طرفي المعادلة: معارضة وسلطة؛ فمن جهة، رأت فيها المعارضة تحقيقًا لمطلب أساسي من مطالبها وتنازلاً موجعًا من قبل الأحزاب الحاكمة، وحركة النهضة تحديدًا نظرًا لتمسكها في السابق بما تعتبره حقًا طبيعيًا لحزب الأغلبية،؛ ومن جهة أخرى نفت النهضة أن يكون في قرارها التخلي عن الوزارات السيادية رضوخ لضغوط المعارضة، وقد فسرت ذلك بتغليب المصلحة الوطنية، والتخفيف من حدة التوتر في البلاد، وتوفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات القادمة ونزع المبررات أمام إمكانية مقاطعتها أو التشكيك في نزاهتها. هذا التفسير أكده لاحقًا كل من الرئيس منصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر؛ ما يعني أن الترويكا خرجت من هذه الأزمة أقل ضررًا وأكثر تماسكًا وانسجامًا في رؤيتها لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة.
-
رغم أن عدد الوزراء العائدين يظل غالبًا على تشكيلتها؛ فإن نسبة التجديد في الحقائب الوزارية بلغت نحو الثلث، وهو ما يُتوقع أن يُحدث حركية داخل الحكومة ويطور من رؤيتها للوضع ومن إدارتها لبعض الملفات، وخاصة تلك التي نالت النصيب الأوفر من الجدل في المرحلة السابقة. كما ارتفعت نسبة الوزراء المستقلين إلى حدود نصف تركيبة الحكومة، بعضهم في وزارات سيادية وبعضهم الآخر في وزارات ذات طبيعة فنية. هذا التوازن بين الاستقلالية والانتماء الحزبي من شأنه أن يخلق دينامية جديدة، ويخرج بالممارسة السياسية من إطار الأجندات الحزبية لأحزاب الترويكا الحاكمة، ويضفي عليها طابعًا وطنيًا.
-
هذا التوازن بين السياسيين والمستقلين في حكومة العريض، غابت عنه توازنات أخرى كان يمكن أن توسع من قاعدتها الاجتماعية؛ فقد تدنّى تمثيل المرأة لينحصر في حقيبة واحدة هي وزارة المرأة. كما تقلص حجم التمثيل الجهوي وخاصة تمثيل الأقاليم الداخلية، برغم أن رئيس الحكومة ذاته ينحدر من الجنوب التونسي. أما الغياب الآخر، فيخص فئة الشباب التي لو حصلت على تمثيل سياسي فإنها تمنح هذه الحكومة سندًا اجتماعيًا إضافيًا. وأيًا كانت تركيبة الحكومة وطبيعة التوازنات التي روعيت في تشكيلها، فإن برنامجها وقدرتها على إنجاز ما تعد به في مواجهة تحديات المرحلة القادمة هو ما سيحدد حكم التونسيين بخصوصها.
تحديات إنهاء المرحلة الانتقالية
أعلن العريض أن مهام حكومته ستنهي مع نهاية العام الجاري (2013)، وحدد توجهاتها في أربع أولويات كبرى:
-
تهيئة الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات القادمة في أسرع الأوقات.
-
بسط الأمن ومقاومة الجريمة.
-
النهوض بالاقتصاد والتشغيل والحد من ارتفاع الأسعار.
-
مقاومة الفساد والمحاسبة وتفعيل العفو العام ومعالجة ملف شهداء الثورة وجرحاها.
ليس هناك خلاف جوهري حول هذه الأولويات بين أغلب القوى السياسية التونسية، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في ترتيب هذه الأولويات وتحقيق إنجازات ملموسة خلال الأشهر التسعة القادمة التي تفصلنا عن نهاية المرحلة الانتقالية.
تكون تونس قد أنهت المرحلة الانتقالية، وفق خارطة الطريق التي رسمتها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، إذا نجحت حكومة العريض في تأمين إجراء الانتخابات في ما بقي من أشهر معدودة، وسلَّمت السلطة إلى مؤسسات الحكم الدائم. غير أن بلوغ هذا الاستحقاق التاريخي تقف دونه تحديات ليست كلها تحت سيطرة الحكومة؛ فأهم المواعيد التي تقود إلى هذا الاستحقاق تتحكم فيها روزنامة عمل المجلس التأسيسي، ويأتي في مقدمتها موعد الانتهاء من صياغة الدستور وقيام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وبصرف النظر عن المواعيد ومن يتحكم فيها، يبقى الوضع الأمني هو مفتاح النجاح أو الفشل لأية حكومة تريد أن تنجز شيئًا على الأرض في مدة زمنية وجيزة. صحيح أن الاستقرار الأمني مطلوب لذاته، لا سيما أثناء المراحل الانتقالية، حيث تنسحب الدولة من أداء بعض وظائفها وتتراجع قبضة الأجهزة الأمنية باعتبارها من ركائز النظام القديم، فيشيع الاضطراب وتكثر الانفلاتات الأمنية وتختلط الفوضى بالحرية، إلا أن الاستقرار الأمني مطلوب أيضًا وبنفس القدر لتحقيق بقية الأهداف.
فالتحكم في منسوب التوتر السياسي الذي بلغ أقصى درجاته بعد اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، ثم تراجع بعد استقالة حكومة الجبالي، يبقى إلى حد كبير رهين قدرة الحكومة الجديدة على ضبط الوضع الأمني، خاصة مع إمكانية تفجر العنف في كل لحظة؛ إذ هو عنف سياسي بامتياز يتصاعد مع تصاعد التوتر السياسي وينخفض بانخفاضه. لقد توالت في الأيام الأخيرة دعوات إسقاط الحكومة والتهديد باستخدام كل الوسائل لتحقيق ذلك، وصدرت تلك الدعوات عن جماعات في أقصى اليسار (زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي) وجماعات في أقصى اليمين (زعيم السلفية الجهادية أبو عياض)، كما حصلت سلسلة من الاشتباكات بين أجهزة الأمن ومجموعات مسلحة في أكثر من موقع.
يزداد الأمر خطورة مع انتشار مخازن السلاح في مناطق مختلفة من البلاد بما في ذلك داخل العاصمة وفي ضواحيها، رغم تشديد الرقابة على مسالك تهريبه من المناطق الحدودية سواء الجنوبية منها أم الغربية. وبصرف النظر عن الوجهة النهائية لذلك السلاح، إذْ تحولت تونس إلى منطقة عبور، فإن وقوعه في أيدي الجماعات التي تتبنى العنف وتعترض من حيث المبدأ على الشرعية السياسية القائمة يمكن أن يربك ما بقي من عمر المرحلة الانتقالية، خاصة مع عودة التحركات الاجتماعية التي بدأت تتسع رقعتها لتشمل قطاعات إضافية.
تستطيع الحكومة الجديدة تهدئة الجبهة الاجتماعية مؤقتًا عبر تفاهمات ظرفية مع اتحاد الشغل ونقاباته الفرعية، لكن ذلك لن يكون كافيًا دون انتهاج سياسة صارمة حيال الارتفاع الكبير لأسعار المواد الاستهلاكية الذي بات يمس شرائح اجتماعية جديدة ويسبب تذمرًا شعبيًا متزايدًا. ليس خافيًا أن سببًا رئيسيًا لارتفاع الأسعار هو نزيف التهريب، الذي لم يعد يقتصر على أنواع معينة من المواد الصناعية وإنما اتسع نطاقه ليشمل عددًا لا حصر له من المواد الاستهلاكية، بما في ذلك المواد المدعومة من ميزانية الدولة. قد تفلح بعض الإجراءات الرقابية في تعديل حركة السوق بين الحين والآخر والحد نسبيًا من ارتفاع بعض المواد، ولكن دور أجهزة الأمن في ضبط مسالك التهريب التي انتشرت وتشعبت بعد الثورة وأصبحت تقوم عليها شبكات متخصصة، يظل تحديًا ملحًا للحكومة.
لقد خطت حكومة العريض الخطوة الأولى لتحقيق أهدافها وذلك بتحييد وزارات السيادة وتحديدًا وزارتي الداخلية والعدل. ومن شأن تلك الخطوة أن توفر أحد أهم الضمانات لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، وتضيّق الخيارات أمام من يسعى للتشكيك فيها أو الطعن عليها، ألا وهو عنصر الحياد وتحقيق مساواة الأحزاب المتنافسة أمام الإدارة. كما أن إنجاز الدستور (صياغة ومناقشة وإجازة) وإقامة الهيئات التعديلية (الانتخابات والإعلام والقضاء) وفق الروزنامة التي أعلنها رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، والتي تحدد الربع الأخير من هذا العام لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، سيغلق قوس المرحلة الانتقالية ويفتح الباب أمام إقامة نظام سياسي دائم ومستقر. وبين الربع الأول من العام (تشكيل الحكومة) والربع الأخير منه (إجراء الانتخابات)، تستمر عقبات المرحلة الانتقالية في ظل تواصل حكم الترويكا التي خرجت من أزمة اغتيال بلعيد أكثر تماسكًا وأوسع سندًا سياسيًا في المجلس التأسيسي. صحيح أن من بين تلك العقبات ما هو سياسي ومنها هو اجتماعي واقتصادي، ولكن تحقيق أي تقدم في أي منها يظل رهينًا بتحسين المناخ الأمني والتحسب لكل المفاجآت على هذا الصعيد.