خلال عشرة أيام فقط، بداية من 5 أغسطس/آب 2021، أخذت الولايات الأفغانية في التساقط تباعًا في أيدي قوات طالبان، لتصل عملية الانهيار ذروتها في منتصف الشهر بقرار الرئيس أشرف غني مغادرة البلاد، وسيطرة طالبان الرمزية على القصر الرئاسي ومؤسسات الدولة الأخرى في العاصمة، كابل.
عشرون عامًا مرَّت على سقوط نظام طالبان الأول، في أكتوبر/تشرين الأول-نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وقد حدث بقوة النيران الأميركية الهائلة، التي فتحت الطريق لمعارضي طالبان من تحالف الشمال للسيطرة على البلاد. في أكتوبر/تشرين الأول 2001، متوقعًا نتيجة الحرب على أفغانستان، تحدث توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية وحليف أميركا الرئيس في أولى حروبها الطويلة على الإرهاب، أمام مؤتمر حزبه السنوي، حزب العمال، قائلًا: "هذه لحظة لابد من الإمساك بها. لقد تغير المشهد برمته. كل أجزاء هذا المشهد باتت عرضة للتغيير؛ ولكنها ستستقر سريعًا. دعونا نُعِدْ بناء نظام العالم من حولنا... إن قوة العالم الأخلاقية وحدها، التي تعمل كجماعة واحدة، تستطيع (أن تقوم بهذه المهمة)".
هذا، في الحقيقة، كان هدف الحرب، الحرب على أفغانستان، وكل ما تلاها من الحروب على الإرهاب: إعادة بناء نظام العالم. في لحظة بالغة التأزم والغموض في مطلع القرن الجديد، وسيادة شعور أميركي طاغ بالانتصار والتفرد في القبض على مصير البشرية، وجد المحافظون الجدد في إدارة بوش الابن حلفاء لهم في اليسار الأوروبي النيوليبرالي، توحِّدهم معًا رغبة جائحة في السيطرة وإعادة بناء العالم على صورتهم. وعلى خطى إمبرياليي القرن التاسع عشر، افترض هؤلاء أنهم، وهم فقط، من يمثل القوة الأخلاقية للعالم الحديث.
ولذا، فإن حرب العشرين عامًا على أفغانستان لم تقتصر على إطلاق النار، ومقتل عشرات الآلاف من الجيش الأميركي، وممن يسمون بالمتعاونين من مرتزقة القطاع الخاص، من قوات الدول الحليفة، من طالبان، من جيش دولة ما بعد الاحتلال الأفغانية، ومن المدنيين الأفغان. شملت تكاليف الحرب كذلك مئات المليارات من الدولارات، ربما ما يزيد عن تريليوني دولار، أُنفقت لبناء دولة جديدة، دولة بكادر مدني وعسكري، بحكام يتحدثون الإنجليزية، بمدارس وجامعات تعتمد في العموم مناهج غربية، بمنظمات حقوقية لا جذور اجتماعية حقيقة لها، وكلاء للثقافة والبضائع الغربية، ومراكز إعلامية وفنية ورياضية. هذا، إلى جانب ميزانيات الإنفاق العسكري الأجنبي الباهظة.
بيد أن ذلك كله ما لبث أن انهار حتى قبل أن تكتمل عملية الانسحاب العسكري الأميركي، التي كان الرئيس بايدن قرر نهاية أغسطس/آب موعدًا لها؛ وانهار بدويٍّ لم يسمع العالم أو يشهد مثيلًا له منذ عقود طويلة. ولأن هذه كانت أطول حروب أميركا على الإطلاق، والحرب التي شارك فيها معظم حلفاء أميركا الغربيين؛ الحرب التي كانت فاتحة حروب مشروع إعادة بناء نظام العالم، أول مشروع بهذا الطموح منذ الحرب العالمية الثانية، كان لابد أن تتردد أصداء الانسحاب الأميركي المهين، وانهيار النظام الذي صنعته الولايات المتحدة على عينها في أفغانستان، عبر العالم برمته، وليس في أفغانستان وحسب.
فإلى أي حدٍّ يصدُقُ القول بأن الخروج الأميركي من أفغانستان، وانهيار النظام الذي صنعته في كابل، وعودة طالبان، تشير إلى نهاية الهيمنة الأميركية؟ ما الذي تعنيه أفغانستان في نظر الكتلة الأوروبية، حليف أميركا الرئيس، وموقع هذه الكتلة في الساحة الدولية؟ كيف يمكن تصور علاقات القوى في الجوار الأفغاني بأفغانستان الجديدة؟ وهل يمكن التنبؤ فعلًا بما ستكون عليه أفغانستان طالبان؟
حرب غير ضرورية أصلًا!
هاجمت إدارة بوش الابن أفغانستان بتفويض تشريعي لتدمير وجود القاعدة وقيادتها، التي حُمِّلت المسؤولية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول2001. ولابد أن العالم تفَهَّم، بصورة من الصور، شرعية قيام الولايات المتحدة بالرد ومعاقبة من هاجموها في عقر دارها. ولكن إدارة بوش الابن، التي سيطر المحافظون الجدد على قرارها، أخذت الحرب إلى ما هو أبعد من التفويض بأشواط، عندما أطاحت نظام طالبان وأخضعت أفغانستان لاحتلال عسكري، شاركت فيه قوات العديد من حلفاء الولايات المتحدة، داخل الناتو وخارجه، استمر طوال عشرين عامًا.
لم تكن مطاردة القاعدة ومعاقبة قادتها تتطلب حربًا مماثلة، ولا احتلالًا لبلد لم يعرف عنه الأميركيون وشركاؤهم الآخرون الكثير. وربما كشفت عملية قتل ابن لادن بعد عشر سنوات من الحرب، التي جرت بأساليب استخباراتية بحتة وعملية عسكرية محدودة، عن درجة الاستهتار التي أسَّست للحرب على أفغانستان في 2001، وعدم ضرورة تلك الحرب أصلًا.
سوَّغت واشنطن حربها على أفغانستان، وسوَّغت الإدارات التالية لإدارة بوش الابن استمرار الحرب والاحتلال، بمبالغة هائلة في الحديث عن أهمية أفغانستان الاستراتيجية وحجم الخطر الذي تمثله على أمن الولايات المتحدة واستراتيجيتها العالمية. الحقيقة، أن أفغانستان ليست سوى دولة صغيرة نسبيًّا، فقيرة، محاطة بعدد من القوى الإقليمية ثقيلة الوزن، وبعيدة آلاف الأميال عن الولايات المتحدة.
ومنذ تشكلت الخارطة الإقليمية لوسط آسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يكن باستطاعة أي نظام حكم أفغاني ممارسة سياسة توسعية، أو نشاط خارج الحدود. ظل الشأن الأفغاني، في العموم وبالضرورة، شأنًا محدودًا بأفغانستان ذاتها؛ وبدون حادثة سبتمبر/أيلول 2001، ووجود القاعدة الاستثنائي، في ظل نظام طالبان الأول، ما كان لأفغانستان أن تشكِّل خطرًا على أميركا أو أية دولة غربية أخرى، بأية صورة من الصور.
ولم تكن الحرب غير ضرورية وحسب، ولكن المؤكد أيضًا أن إعادة صناعة أفغانستان وشعبها كان مشروعًا مفروضًا من الخارج، لا استدعته بنية الاجتماع الأفغاني، ولا تاريخ العلاقة بين الأفغان والقوى الأجنبية. احتاجت أفغانستان بالتأكيد عونًا ومساعدات خارجية، ولكن تطور الحياة، واتجاه الاجتماع السياسي، والقيم الحاكمة، كان لابد أن تُترك لوتيرتها الداخلية. هذا شعب عُرف بنزعته الاستقلالية الفائقة، ورفض السيطرة الأجنبية والاستعداد لتقديم كل التضحيات من أجل الحفاظ على استقلاله ونمط حياته؛ وهو ما عرفة البريطانيون طوال عقود وجودهم في شبه القارة الهندية، وما أدركه السوفيت عندما حاولوا فرض إرادتهم على الأفغان، في 1979.
وكان مشروع الاحتلال وصناعة أفغانستان الجديدة مثيرًا للسخرية وموحيًا بالفشل منذ سنواته الأولى. طالبان، التي ظنَّ البعض في الأشهر الأولى من الاحتلال أنها اختفت كلية أو اضمحلت، سرعان ما بدأت في إعادة تنظيم صفوفها، مستظلة بحامية شعبية في كافة أنحاء البلاد. والمدهش، أنه بينما مضى المحتلون قدمًا في مشروع صناعة أفغانستان التي أرادوها، كانت طالبان تزداد قوة وتأثيرًا وقدرة على الفعل.
انتشر العاملون الغربيون في منظمات الإغاثة وإعادة البناء الاجتماعي والثقافي في كابل وفي أنحاء أفغانستان الأخرى. ولأن الإمكانيات المادية والمالية التي ارتكز إليها عمل هؤلاء كانت هائلة، لم يكن من الغريب أن تشهد كابل اكتظاظًا غير مسبوق في عدد سيارات الدفع الرباعي، التي يفوق ثمن الواحدة منها راتب الوزير الأفغاني السنوي. ولم يكن من الغريب، شيئًا فشيئًا، أن يلجأ الوزراء وإداريو المؤسسات الحكومية وكبار ضباط الأمن والجيش إلى قنوات الفساد المختلفة ليرتقوا بحياتهم إلى المستوى الذي استدعته قيم الحياة الجديدة.
لم يقتصر فساد الطبقة الحاكمة الجديدة على الرشوة والاختلاس والتعدي على مقدرات الدولة، بل سرعان ما طال زراعة المخدرات وتهريبها، القطاع الذي أصبح حكرًا على كبار النافذين في نظام الحكم والجيش. وبعد عشرين عامًا من إطاحة طالبان، التي كانت قد أوشكت على القضاء على زراعة المخدرات كلية، يُعتقد أن أكثر من تسعين بالمئة من الأفيون المتوافر في شوارع المدن الأوروبية مصدره أفغانستان.
المهم في ذلك كله أن تقديرات مؤسسات الدولة الأميركية الرئيسة اتفقت منذ نهاية إدارة بوش الابن، وقبل تولي أوباما مقاليد البيت الأبيض، على أن المشروع الأفغاني فشل، ولم يعد ثمة أمل في إنقاذه. عندما أعلن أوباما عزمه الانسحاب من أفغانستان، لم يكن يعبِّر عن ميول أيديولوجية لإدارته، بل عن إدراك لحقيقة تقديرات الخسائر والأرباح خلف المشروع الأفغاني. ولكن أوباما سرعان ما خضع لضغوط المجمع الصناعي العسكري وحلفائه في الكونغرس ووزارة الدفاع وتخلَّى عن هدف الانسحاب. بمعنى، أن قرار إدارة ترامب بالخروج من أفغانستان لم يكن إحدى طفرات ترامب الغريبة، بل مجرد إحياء لسياسة أوباما الأصلية؛ وهو ما أكدت عليه إدارة بايدن، الذي كان نائب الرئيس في إدارة أوباما طوال ثماني سنوات، وعُرف بأنه من أنصار الخروج منذ 2009.
الحرب هي مهمة الدولة الحديثة الأولى والأهم، والمفترض أن تأخذ الدولة الحرب بأعلى درجات الجدية. المشكلة، أن الولايات المتحدة دولة وُلدت من أتون الحرب، بل ومن سلسلة من الحروب التوسعية. ومنذ الحرب الأهلية الأميركية استقرت الحرب أداة تقليدية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولكن الولايات المتحدة دولة عقلانية كذلك؛ وما إن تدرك مؤسسة الدولة الأميركية أن حربها انتهت إلى الفشل، حتى تسارع إلى الخروج مهما كانت الإهانة المصاحبة للاعتراف بالهزيمة.
السرعة والكيفية التي تخلى بها الأميركيون عن حلفائهم في نظام أشرف غني، تعيدان تجارب التدخلات الخارجية الأميركية السابقة، التي لم تتردد فيها واشنطن عن إدارة ظهرها لحلفائها لحظة تبيُّن خسارة المعركة وفقدان الأمل بتغيير مسار الحرب. هكذا تخلى الأميركيون عن المعارضين الكوبيين في غزو خليج الخنازير، في ربيع 1961، وعن الفيتناميين الجنوبيين والأكراد العراقيين في منتصف السبعينات، وعن شاه إيران في نهاية العقد نفسه، وعن الحلفاء اللبنانيين، في 1984.
بيد أن الهزيمة في أفغانستان والخروج منها يجب ألا يفضيا إلى استنتاجات متسرعة حول موقع الولايات المتحدة ودورها في الساحة الدولية. القول بأن أفغانستان تؤشر إلى نهاية منظومة الهيمنة الأميركية، على افتراض أن الفشل في أفغانستان كان في جوهره فشل إعادة بناء الدولة والمجتمع على الصورة الأميركية، هو قول متسرع إلى حدٍّ كبير.
لم تنجح الولايات المتحدة، ومنذ أصبحت طرفًا فاعلًا في الساحة الدولية في نهاية الحرب الثانية، في إعادة بناء الدول إلا في حالتين فقط: اليابان وألمانيا. وكلتا الحالتين أُنجزت في ظروف عالمية استثنائية، ولوجود استعداد أصيل لقبول التصور الأميركي للدولة والاجتماع لدى قطاع واسع من نخب البلدين. كل محاولات إعادة البناء الأميركية بعد ذلك انتهت إلى الفشل. ولكن هذا الفشل لم يمنع استمرار الولايات المتحدة قوة هائلة في الساحة الدولية، قوة خير وشر في الوقت نفسه حسب منظور المنتفعين والمتضررين منها، ولا وقفت حائلًا أمام تجليات القوة الأميركية، عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وخلاف ذلك.
الصدى الأوروبي الغربي
قدمت إدارة بايدن تفسيرًا واقعيًّا وعقلانيًّا للخروج من أفغانستان. وبالرغم من الاعتراف الضمني بالفشل والهزيمة، استقبل الرأي العام الأميركي قرار الخروج بصورة مختلطة. ثمة قطاع من الرأي العام الأميركي وفي الطبقة السياسية لم يستطع إخفاء خيبة الأمل والإهانة؛ ولكن أميركيين آخرين، ربما مثَّلوا الأغلبية، تفهموا قرار الخروج وأيدوه. وحتى في الأوساط التي عارضت الخروج، أو كيفية الخروج، لم تبرز حالة من الشعور بالكارثة. في أوروبا الغربية، سيما في الدول التي شاركت بصورة فعَّالة في حرب أفغانستان واحتلالها، مثل بريطانيا وفرنسا، كانت ردود الفعل مختلفة. وسواء في وسائل الإعلام، أو في ساحات الجدل السياسي، كما شهد مجلس العموم البريطاني، يوم الأربعاء 18 أغسطس/آب2021، تجلَّت حالة من الحداد الوطني، والانفعال الغاضب، والإخفاق الفادح.
من الصعب تفسير هذا التباين بين ردود الفعل الأميركية والأوروبية، سيما أن أفغانستان اعتُبرت من البداية مشروعًا أميركيًّا أكثر منه أوروبيًّا، وأن قوات دول أوروبا الغربية التي شاركت في الاحتلال بعد 2001 كانت قد سُحبت من أفغانستان قبل سنوات من قرار الخروج الأميركي. يعود أحد أسباب هذا التباين، ربما، إلى النزعة الإمبريالية المتأصلة والكامنة في الوعي الأوروبي الغربي؛ أو، بصورة مختلفة كلية، إلى الخوف من موجة لاجئين أفغان جديدة، تُغرق أوروبا التي لم تستطع بعدُ احتواء تيارات اللجوء السورية والإفريقية المستمرة منذ سنوات.
مهما كان الأمر، لم يكن خافيًا أن أوروبا توجه اللوم على "الكارثة الأفغانية"، بصورة رئيسة، إلى الحليف الأميركي، وقرار الخروج السريع وغير المتأني لإدارة بايدن؛ وكأن الأوروبيين توقعوا أن تستمر الولايات المتحدة في القتال إلى أن تضمن خروجًا آمنًا ومنظمًا وغير مهين، بدون أن يتضح كيف يمكن أن يتجلى مثل هذا الخروج. ولكن هذا اللوم وتحميل الأميركيين المسؤولية لم يكن كافيًا لإخفاء حقيقة العجز الأوروبي، عجز الكتلة الأوروبية مجتمعة، وعجز كل من القوى الأوروبية الغربية الرئيسة على حدة. الحقيقة التي كشفتها أفغانستان بوضوح أن الأوروبيين لا يستطيعون العمل بفعالية في مواجهة أي من أزمات العالم خارج حدودهم بمعزل عن الأميركيين. كل التوقعات، منذ تسعينات القرن الماضي، حول بروز أوروبا قوة عالمية منافسة لم تكن سوى وهم.
ما كشفته أفغانستان إلى جانب ذلك أن إدارة بايدن لم تُحدث تغييرًا كبيرًا في سياسة "أميركا أولًا" التي اتبعتها إدارة ترامب، بالرغم من أن بايدن كان قد أكد منذ تسلمه البيت الأبيض على عودة الدبلوماسية، وعلى إعادة الاعتبار لعلاقات أميركا التحالفية، وللحلفاء الأوروبيين على وجه الخصوص. كما عاد بايدن إلى التوكيد على هذا التوجه خلال اجتماعات قمة السبع الكبار في بريطانيا قبل شهرين فقط من تفاقم الوضع الأفغاني.
الحقيقة، أن إدارة بايدن لم تستمع إلى المعارضة الأوروبية للخروج من أفغانستان، ولا إلى المطالب الأوروبية بمراجعة جدول الانسحاب، حتى بعد أن أصبح واضحًا أن طالبان تتقدم بصورة حثيثة في السيطرة على الولايات الأفغانية وأن اتفاقًا بين طالبان وحكومة أشرف غني لم يعد ممكنًا. وما إن أخذ نظام غني في الانهيار، وبدأت أفواج اللاجئين الأفغان في التدفق على مطار كابل، حتى بات على أوروبا المشاركة في تحمل عواقب الفشل والانهيار.
إلى أين تمضي أفغانستان؟
تتلخص توقعات الدوائر الغربية السياسية والإعلامية لمستقبل أفغانستان في اتجاهين رئيسيين: داخليًّا، أن طالبان ستعمل على إقامة نظام الإمارة الإسلامية من جديد، وأن هذا النظام سيعود إلى تبني سياسات اضطهاد النساء والأقليات والمعارضين، التي تبنَّاها في سنوات سيطرة طالبان السابقة على أفغانستان، بين 1996 و2001. خارجيًّا، تقول التوقعات الغربية: إن أفغانستان ستصبح منطقة نفوذ صيني وروسي، سواء لأن كلًّا من الصين وروسيا نجحتا في فتح قنوات اتصال مع طالبان منذ عدة سنوات، أو لحاجة طالبان الملحَّة للعون الخارجي، الذي لن تجده لدى، أو لن تطلبه من، الدول الغربية التي حاربتها طوال عشرين عامًا.
في الواقع الملموس، ثمة إشارات مطمئنة، على المستوى الداخلي، أرسلتها طالبان طوال الأسبوع الأول من سيطرتها على كابل، ولكن هذه الإشارات لا تبدو أنها وصلت بعد مستوى التأثير الإيجابي على التصور الغربي للحركة ونظامها المتوقع للحكم في أفغانستان. المؤكد، على أية حال، أن هذه الرسائل تعبِّر عن حقائق لا يمكن تجاهلها في مقاربة طالبان للواقع الأفغاني، وبات من الضروري لأية قراءة عقلانية لمستقبل أفغانستان أن تأخذ هذه الرسائل بعين الاعتبار.
أظهرت طالبان تسامحًا وكرمًا في التعامل مع كبار رجال النظام السابق، بمن في ذلك أولئك الذين خاضوا ضدها الحرب في 2001 وما قبلها. أعلنت طالبان، سيما في مؤتمر ناطقها الشهير، ذبيح الله مجاهد، 17 أغسطس/آب2021، العفو العام عن كافة من عملوا مع أجهزة النظام السابق وجيشه، ومن عملوا مع دول الاحتلال وسفاراتها. أرسلت طالبان رسائل تطمين لوسائل الإعلام الأفغانية، بل وشارك قادتها في برامج تلفزة تديرها نساء؛ كما أرسلت رسائل تطمين للأقلية الشيعية، مؤكدة التعهد بضمان وحماية ممارسة الشيعة لشعائرهم. أما فيما يتعلق بالتعامل مع النساء الأفغان، فقد كرَّر قادة طالبان تعهد الحركة بحماية حقوق النساء في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة السياسية. وإلى جانب تعاون طالبان في حماية وتسهيل حركة أولئك الذين يرغبون في السفر، بموافقة من الأميركيين ودول الاحتلال السابقة الأخرى، بدأت طالبان حوارًا جادًّا مع قادة النظام السابق، مثل حامد كرزاي وعبد الله عبد الله، الذين لم يغادروا البلاد، من أجل تشكيل حكومة متعددة الأطراف.
وحتى قبل بدء المفاوضات بين طالبان وإدارة ترامب حول الانسحاب الأميركي، كان قادة طالبان يُعربون في لقاءاتهم الخاصة خارج أفغانستان عن توجه نحو مراجعة تجربة حكم التسعينات، بكل ما شابها من مبالغات، وعن وعي جديد بما تعنيه شروط ومتطلبات إدارة دولة في عالم القرن الحادي والعشرين. ولكن هذا كله يجب ألا يخفي الصعوبات التي ستواجه طالبان في ميدان الحكم وإدارة الدولة.
كلما سُئلوا حول تصورهم للدولة والمواطنة وأسس العلاقة التي سيقرها النظام الجديد لعلاقة الدولة بمواطنيها، يقول مسؤولو طالبان (كما حدث في مؤتمر ذبيح الله مجاهد الصحفي): إن حقوق الجميع ستكون محفوظة في إطار من الشريعة الإسلامية. والمشكلة، أن الشريعة الإسلامية لا تُفهم إلا في سياق فقهي، وأن الفقه لدى المسلمين السنَّة متعدد، وأن من غير الواضح ما إن كانت قيادة طالبان قد اتفقت بعدُ على تبني مقاربة فقهية ما. وهذا، على الأقل، ما يضفي قدرًا من الغموض حول توجهات نظام طالبان المقبل، حتى إن لم يكن النظام طالبانيًّا خالصًا كما كان عليه الأمر في التسعينات. والأرجح، أن قيادة طالبان تحمل نوايا إيجابية نحو التغيير والاعتدال والمواءمة، وأنها ستسعى إلى بناء نظام سياسي وتبنِّي سياسات توافقية، ولكن وضع هذه النوايا محل التنفيذ لن يكون شأنًا سهلًا. ما قد يساعد طالبان على التغيير والاعتدال هو بالتأكيد درجة انفتاح دول العالم، سيما الدول الإسلامية القريبة من أفغانستان، على النظام الجديد.
على المستوى الخارجي، ثمة مؤشرات متزايدة على أن الصين وروسيا تتبنيان موقفًا إيجابيًّا من طالبان، وتبدوان أقل قلقًا من نظائرهما الغربيات في النظر إلى نظام الحكم المقبل. كانت طالبان، بالطبع، بدأت مدَّ خطوط التواصل مع إيران، وروسيا، والصين، منذ 2015 على الأقل. وثمة مؤشرات على أن الصين، التي تعتبر دولة جوار مباشر، وعدت طالبان بمساعدات واستثمارات بمجرد تشكيل حكومة مستقرة في كابل. كما أن روسيا لعبت دورًا فعالًا في الحوار الأفغاني-الأفغاني طوال العامين الماضيين.
كما الولايات المتحدة، أدركت دول جوار أفغانستان منذ سنوات أن النظام البديل لطالبان غير قابل للحياة، وأن طالبان في طريقها إلى العودة للحكم. ولذا، عملت دول مثل الصين وروسيا وإيران على تشجيع طالبان على الاعتدال والتخلي عن نهجها السابق، وتجنب تحويل البلاد إلى مقر للقوى الإسلامية المعارضة للصين ودول آسيا الوسطى السوفيتية السابقة، أو إلى تبني سياسات معادية للشيعة الأفغان وإيران. ولأن أفغانستان ستحتاج مساعدات خارجية مباشرة، واستثمارات سريعة في قطاعات إعادة البناء والتعدين، تأمل طالبان أن تصبح الصين، على وجه الخصوص، شريكًا اقتصاديًّا رئيسًا في تنمية البلاد.
هذا، على أية حال، لا يبرر المخاوف الغربية من النفوذ الصيني والروسي المحتمل في أفغانستان الجديدة. من جهة، من الطبيعي أن تشهد توازنات القوة في وسط آسيا شيئًا من التغيير بعد اكتمال الانسحاب الأميركي في أفغانستان. ومن جهة أخرى، أظهرت طالبان على الدوام نزعة استقلالية بالغة الصلابة؛ وهي بالتأكيد لن تقبل تحرير أفغانستان من السيطرة الأميركية لتقع أسيرة محور دولي آخر، أو أن تصبح أداة لنفوذ قوة من القوى.
بصورة أوسع نطاقًا، المعروف أن طالبان تثق ثقة كبيرة في قطر، التي استضافت مكتب الحركة السياسي منذ سنوات، ولعبت دورًا رئيسًا في تسهيل مفاوضات الحركة مع الولايات المتحدة ومع القوى السياسية في نظام أشرف غني. وتأمل طالبان أن تمد قطر يد العون إلى الحكومة الجديدة في كابل. كما أن طالبان، ومنذ التسعينات، تحتفظ بعلاقات وثيقة وتقليدية مع أجهزة الدولة الباكستانية، ومع حكومات باكستانية مختلفة. وثمة تقارير تفيد بأن تركيا استضافت قيادات من طالبان خلال العام الماضي. وبالنظر إلى العلاقات الاستراتيجية التي تربط باكستان وتركيا، وقطر وتركيا، فالمتوقع أن تقوم الدول الثلاثة بتنسيق عملها في الساحة الأفغانية. ولم يكن غريبًا أن يقول سهيل شاهين، الناطق باسم وفد مكتب طالبان السياسي المفاوض: إن الحركة تأمل أن تلعب كل من الصين وتركيا دورًا حيويًّا في جهود تنمية أفغانستان في الفترة المقبلة.
وبالنظر إلى الجهود التي تبذلها طالبان لتطمين مسؤولي الحكومة السابقة، وتشجيع من غادر البلاد منهم على العودة، سيما أولئك الذين تربطهم علاقات وثيقة مع الغرب، وحرص الحركة على التنسيق مع الأميركيين قبل وبعد انهيار نظام أشرف غني، فالواضح أنها تسعى إلى تأمين اعتراف دولي واسع النطاق بحكومتها المقبلة، وضمان استمرار الدعم الأميركي والأوروبي لجهود التنمية والبناء الأفغانية. الرهان على مستقبل علاقات أفغانستان الجديدة مع الغرب يقع على عاتق القوى الغربية ذاتها، وقدرتها على التجاوز السريع لخيبة الأمل والشعور بالهزيمة، والنظر بقدر أكبر من العقلانية والإنسانية إلى مسؤولياتها تجاه أفغانستان الجديدة وشعبها.