الرئيس الأميركي باراك أوباما (يسار) يصافح نظيره الروسي فلاديمير بوتين (الأوروبية-أرشيف) |
توافقت أميركا وروسيا على عقد مؤتمر جنيف 2 لأنهما اقتنعتا بأن الحل العسكري ليس ممكنًا لأي من الطرفين، علاوة على أنه لم يعد مرغوبًا في نظر أميركا التي خلصت خلال أكثر من عامين على الثورة السورية إلى أن المعارضة المسلحة غير قادرة بمفردها على إسقاط النظام، بالإضافة إلى أن الجناح الذي تثق فيه ليس هو الجناح القوي بل إن جبهة النصرة القريبة من القاعدة هي القوة العسكرية الرئيسية(1). وأما روسيا فباتت تعتقد أن النظام السوري أثبت منذ اندلاع الثورة أنه لا يتوفر على الموارد الكافية للسيطرة على كامل الإقليم السوري، وأنه يحتاج إلى اتفاق سياسي مع الثوار يمنحهم جزءًا من السلطة مقابل قبولهم بسلطة واحدة على كامل الإقليم، ويضمن بقاء روسيا في قاعدة طرطوس نافذتها الوحيدة على البحر الأبيض المتوسط.
علاوة على فشل الحسم العسكري، فإن القوتين تجدان في الحل السياسي مصلحة مشتركة ومصالح جانبية، فمن جانب يحافظ على تماسك الدولة، فيمنع وقوع الأسلحة الكيماوية في أيدي الجماعات المتشددة التي تعادي أميركا وإسرائيل وروسيا، ومن جانب آخر يمنع انفصالاً يرجوه الأكراد وتخشاه تركيا، ويمنع وقوع انهيار في وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية بين الطوائف، فتحدث موجة نزوح لا تستطيع دول الجوار تحملها.
وتمثل جنيف2، أيضًا، إطارًا ملائمًا يمكنهما من ضبط التصاعد في مستويات الصراع بينهما بحيث تستطيعان منع القوى الأخرى من دفعهما إلى مواجهة مكلفة تضر مصالحهما الاستراتيجية المشتركة في سوريا وباقي المناطق بالعالم. وقد ظهرت في الفترة السابقة دلائل هذا التحكم في مستويات الصراع، فموسكو لم تسلم النظام السوري صواريخ S-300 التي وعدته بها لأنها تحرم إسرائيل من السيطرة الجوية، وفي المقابل تمتنع أميركا عن تقديم أسلحة نوعية للمعارضة قد تخل بموازين القوى العسكرية بشكل كبير.
لكن هل هذا التوافق ظرفيًا أملتْه موازين القوى الراهنة أم هو توافق استراتيجي بين القوتين أملاه تطابق مصالحهما في سوريا على المدى البعيد؟
الهوة الاستراتيجية
الإجابة على هذا السؤال، تكون بتحليل آثار الصفقة التي يتضمنها اتفاق جنيف على المصالح الحيوية للقوتين الكبيرتين:
يتضمن اتفاق مؤتمر جنيف الأول، الذي يستند عليه مؤتمر جنيف2، صفقة تتمثل في وقف جميع الأطراف السورية القتال مع حفاظها على مواقعها مقابل تشكيل حكومة مشتركة بين ممثلين عن النظام السوري والمعارضة، ذات صلاحيات كاملة.
تنشد أميركا من جنيف2 تحقيق مجموعة أهداف على آماد مختلفة دون تدخل عسكري واسع؛ فعلى المدى القريب:
-
تجنب التدخل العسكري الذي بات قليل الشعبية في أميركا(2) بعد الحربين في أفغانستان والعراق، والمكلف لاقتصادها المتعثر، والمعاكس لأولوياتها الاستراتيجية الراهنة وهي إعطاء الأسبقية لاحتواء الصين في الباسيفيكي.
-
الحل السياسي المتدرج ينزع من الأسد السلطة على أهم ورقة بيده وهي التحكم في الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية.
-
الحل السياسي يؤدي إلى انتخابات تحت إشراف دولي، ستكون نتيجتها الأكيدة فوز المعارضة، لأنها تمثل الأغلبية السنية.
أما على المدى المتوسط، فإن فوز قوى المعارضة بالسلطة يقضي على النفوذ الإيراني بسوريا، ويحرم حزب الله من طرق الإمداد التي كانت تربطه بإيران عبر سوريا.
كل هذا، يحقق الهدف الأميركي الرئيسي الأبعد في سوريا، وهو هدف مزدوج: دحر النفوذ الايراني من المنطقة العربية وإخراج روسيا من المتوسط وحشرها في حدودها الإقليمية تطبيقًا لاستراتيجية "الدحر" التي تلت استراتيجية "الاحتواء" بعد نهاية الحرب الباردة.
أما روسيا، فترى في جنيف2 وسيلة لإدخال المعارضة والقوى الغربية في مسار سياسي يوقِع تصدعات داخلها، فتضعف قوتها وتقبل في النهاية بمشاركة في النظام السوري لا تؤثر في بنيته ولا سياساته.
-
القبول بجنيف2 هو قبول بتأجيل التدخل العسكري الغربي، وبالتالي رجحان كفة القوى الغربية الرافضة للتدخل العسكري على حساب القوى الداعية له مثل فرنسا وبريطانيا.
-
القبول بجنيف2 يصيب ائتلاف المعارضة السورية بتصدعات كبيرة، لأنه يجعله يوافق على التفاوض مع النظام السوري الذي تعهد مرارًا بإسقاطه وعدم الاعتراف به.
وبالتالي، تحقق روسيا هدفها الأكبر في سوريا وهو توسيع نفوذها خارج نطاقها الإقليمي، استكمالاً للنجاح الذي حققته في حرب جورجيا 2008.
القوتان تختلفان في الرهان، فأميركا تعتقد أنها تستطيع من خلال جنيف2 تغيير النظام وسياساته، وأما روسيا فتعتقد أنه استراتيجية تشل القوى الغربية وتفتت قوى المعارضة، فيظل النظام السوري على حاله مع بعض التغييرات الطفيفة.
حسابات إقليمية متضاربة
هذا التباعد الاستراتيجي بين القوتين الكبيرتين يغذيه تباعد آخر بين القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع، فإيران يرتكز نفوذها في سوريا على تحالفها مع نظام بشار الأسد، وسترفض أي تغيير جوهري في بنية النظام أو سياساته، لأنه جزء من سياسة ما تسميه محور المقاومة الموجه لإسرائيل. وهي نفس الرؤية التي أعلنها حزب الله بعد مشاركته العلنية في القتال بمعركة القصير بجانب القوات النظامية السورية؛ فكل منهما يعتقد أن سقوط النظام السوري مقدمة للقضاء على نفوذه.
أما من جانب القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، فإنها لن تقبل بأي تغيير في النظام السوري إذا لم يؤدِّ إلى تخليه عن تحالفه مع إيران وحزب الله، لأن إيران في نظرها تستعمل الورقة المذهبية، كما استعملتها في العراق، في تهديد الاستقرار السياسي بمنطقة الخليج والمشرق العربي. علاوة على أن بقاء نظام الأسد سيجعل نفوذ إيران يمتد من العراق إلى لبنان فيطوِّق دول الخليج من الشمال، وتركيا من الجنوب.
أما القوتان الرئيسيتان السوريتان المتصارعتان، وهما النظام والمعارضة، فهما ليستا قادرتين بمفردهما على حسم الصراع عسكريًا ولا التوافق سياسيًا، فيتعلق مصيرهما بالتالي بحسابات القوى الإقليمية والدولية السابقة.
نحو التصعيد العسكري
هذه الاتجاهات تبين أن احتمالات نجاح مؤتمر جنيف2، إذا انعقد قريبًا، ضئيلة لأن عوامل الخلاف بين الفرقاء المتصارعين أقوى من عوامل الاتفاق، وسيسعى كل منهما إلى أن يقوي من مركزه التفاوضي بتصعيد العمل العسكري، وقد ظهرت بوادر هذا السيناريو في الأيام السابقة؛ حيث إن الطرفين المتصارعين يتجهزان للتصعيد، فأميركا قررت الإبقاء على بطاريات صواريخ باتريوت وطائرات ف 16 في الأردن، ولمَّحت إلى مشروعية التدخل العسكري بإعلانها أن النظام السوري تجاوز خطًا أحمر باستعماله الأسلحة الكيمياوية على نطاق محدود، وأعلنت موافقتها على تسليح المعارضة دون تحديد لطبيعة الأسلحة وإن أوضحت بهذا القرار عزمها على التصعيد إذا انتهك النظام السوري قواعد اللعبة من خلال استعماله للأسلحة الكيمياوية والاستعانة بحزب الله لتحقيق مكاسب عسكرية. وبذلك، يبرز من مجمل هذه القرارات أن الولايات المتحدة لن تسمح بهزيمة المعارضة حتى وإن كانت في نفس الوقت لا ترغب حاليًا في سقوط النظام السوري كما سقط النظام الليبي، وأنها مستعدة للتصعيد لأنه سيلحق بخصومها خسائر لن تقل عن خسائرها، فانهيار النظام السوري سيكون نهاية النفوذ الروسي في المشرق العربي، وبداية العد التنازلي للهجوم التالي على حزب الله وإيران.
وأما الاتحاد الأوربي فقد قرر، بضغط من فرنسا وبريطانيا، في نهاية شهر مايو/أيار 2013 السماح لأعضائه بتسليح المعارضة السورية، بعد أن تخلت واشنطن عن اعتراضها الذي كان يمنع الدول الغربية وبعض الدول العربية من تقديم أسلحة للمعارضة السورية المسلحة. ومن الراجح أن هذه الدول ستشارك في التسليح وذلك بالتوافق مع الولايات المتحدة الأميركية.
على الجانب الآخر، فإن حزب الله يؤكد مواصلته، بعد انتهاء معركة القصير في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران 2013، القتال مع النظام السوري حتى إسقاط ما سماه، الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه بيوم الجريح، 14 يونيو/حزيران 2013، "المشروع الأميركي التكفيري" الذي يستهدف حسبه وجود سوريا ودورها الممانع. ولا يمكن أن ينخرط الحزب بقواته في القتال وبهدف حماية النظام من السقوط إلا بموافقة إيرانية ودون معارضة روسية على أقل تقدير.
والحاصل أن كلا من أمريكا وروسيا يريدان الحفاظ على بنية الدولة السورية، ولكن استراتيجياتهما مختلفة، لا تريد أمريكا أن تنهزم المعارضة لكنها لا تريد في نفس الوقت أن تنتصر بالحسم العسكري لأنه يؤدي إلى انهيار الدولية، وتفضل أن تبقى موازين القوى على الأرض متكافئة حتى يضطر النظام إلى قبول الحل السياسي، أما روسيا فلا تمانع أن يحسم النظام، إن استطاع، الصراع عسكريا، ليظل الوضع كما كان قبل اندلاع الثورة لكنها توافق على الحل السياسي إن شعرت بأن المعارضة المسلحة قد تنجح في اسقاط النظام.
الحل السياسي الذي يرتكز عليه مؤتمر جنيف2 يقصد منع انهيار الدولة السورية لكنه لا يردم هوة الخلاف الواسعة بين أميركا وروسيا، فالأولى تريد دحر إيران من المشرق العربي وتطويق روسيا من الجنوب، أما الثانية فتسعى إلى استعمال الحلف الإيراني-السوري كي تكسر الطوق الذي فرضته القوى الأطلسية بقيادة أميركا حولها، وسيرفع طرفا الصراع من مستويات الدعم العسكري بقصد رفع تكلفة الخصم المادية والمعنوية حتى تصير أكبر من العائد فيضطر إلى القبول بصفقة سياسية لا تنحصر في بقاء الدولة وإنما في صيغة بنية النظام وسياساته تجنبه خسارة أكبر إن استمرت المعركة.
________________________________
الهوامش
1- وضعت أميركا في منتصف مايو/أيار 2013 جبهة النصرة على قائمة الإرهاب.
2- حسب استطلاع أجرته صحيفة نيويورك تايمز وسي بي إس نيوز في نهاية شهر إبريل/ نيسان 2013
http://www.nytimes.com/2013/05/01/world/american-public-opposes-action-in-syria-and-north-korea.html?_r=0