حزب العدالة والتنمية المغربي: تحديات ترميم الأغلبية الحكومية

وضعت استقالةُ وزراء حزب الاستقلال من الحكومة حزبَ العدالة والتنمية أمام خيارات للخروج من أزمة تصدع الأغلبية الحكومية. فإما ترميم الأغلبية من خلال التحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار، أو الذهاب إلى خيار انتخابات برلمانية مبكرة ذات تكلفة عالية للدولة، في حال فشل مساعي إعادة بناء الأغلبية.
201372364231314734_20.jpg
وضعت استقالة وزراء حزب الاستقلال من الحكومة حزب العدالة والتنمية أمام خيارين إما ترميم الأغلبية الحكومية أو انتخابات مبكرة في حال فشل مساعي بناء أغلبية جديدة (الأوروبية)

قدّم خمسةُ وزراء من حزب الاستقلال من أصل ستة(1) استقالاتهم إلى رئيس الحكومة المغربية السيد عبد الإله بنكيران يوم الأربعاء 10 يوليو /تموز 2013، منفذين بذلك قرار المجلس الوطني للحزب الصادر في 13 مايو/ أيار 2013، والقاضي بالانسحاب الجماعي لوزراء الحزب من الائتلاف الحكومي، المشَكَّل في أعقاب الإعلان عن نتائج انتخابات مجلس النواب يوم 25 نوفمبر /تشرين الثاني 2011.

انتظر حزب الاستقلال أكثر من شهر ونصف ليستقبل الملك محمد السادس أمينه العام حميد شباط، الذي قدم مذكرة توضيحية، بينت دواعي اللجوء إلى قرار الانسحاب. وبعد مرور أقل من أسبوعين على الاستقبال الملكي، تمّ تقديم استقالات مكتوبة إلى رئيس الحكومة، وفق ما يقضي به الفصل السابع والأربعين من دستور عام 2011.(2) حيث يتوجب على رئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء الوزراء المستقيلين، لكنهم يستمرون في أداء مهامهم إلى حين بت الملك في طلبات إعفائهم.

لماذا انسحب حزب الاستقلال من الحكومة؟

يمكن تفسير قرار حزب الاستقلال خروجَه من الائتلاف الحكومي من خلال أمرين. يتعلق أولهما بما عبرت عنه وثائق الحزب وتصريحات قادته، منذ انتخاب أمينه العام الجديد حميد شباط عقب المؤتمر السادس عشر عام 2012. حيث رصد الحزب جملة من الاختلالات، من وجهة نظره، جعلت أداء الحكومة، دون المستوى الذي من أجله قَبِل الحزب، وهو القوة الثانية بعد العدالة والتنمية، أن يكون طرفاً في الائتلاف.

ورغم بعض الإيجابيات التي سجلها الحزب لصالح الحكومة، فقد تمحورت انتقاداته حول عجز الحكومة عن تحقيق نتائج ملموسة في المجال الاجتماعي الأكثر انتظاراً من قبل المواطنين، كما أن التوازنات المالية والاقتصادية ما انفكت تتزايد اختلالاتها، علاوة على الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة وكانت كلفتها مُضرّة بالقدرة الشرائية لشرائح المجتمع المغربي، من قبيل الزيادة في أسعار المحروقات، أو التفكير الجاري لإصلاح صندوق المقاصة (الدعم الاجتماعي).

ويرجع ضعف الأداء الحكومي حسب حزب الاستقلال، إلى الطريقة التي يعتمدها حزب العدالة والتنمية وأمينه العام في قيادة الائتلاف الحكومي. فالحوار بين أطراف الائتلاف ضعيف، رغم وجود ميثاق للأغلبية يُفترض تفعيله. كما تفتقر الحكومة لرؤية منسجمة، في صناعة السياسات العمومية. علما أن هنالك برنامجا حكوميا تمّ الاتفاق عليه وحظي بقبول الأغلبية في مجلس النواب، وعلى أساسه تم تنصيب الحكومة.

أما الأمر الثاني المفسِّر لقرار حزب الاستقلال، فيخص الحياة السياسية، وما يطبعها من تعقيدات، قد لا تكفي المواقف المعبّر عنها صراحة في تفسيرها. فقد أصبح واضحا أن القيادة الجديدة لحزب الاستقلال لم تعد راضية عن مكانة الحزب داخل الائتلاف الحكومي، سواء على صعيد المناصب الوزارية المسندة إليه، أو على مستوى الموقع الاعتباري للحزب داخل الحكومة، أو حتى بالنسبة للخطاب الحكومي عموماً. ويرجح أن تقديرات الحزب كانت جازمة بأن الاستمرار ضمن هذه الشروط سيكون خسارة للحزب مع نهاية الولاية التشريعية الحالية (2011 ـ 2016)، وأن وضعه في أفق الانتخابات المقبلة لن يكون واعدا. وقد عززت هذه التقديرات، وشجعتها مصادر أخرى من داخل النسق السياسي المغربي غير مرتاحة لاستمرار" الإسلاميين" في قيادة الحكومة.

الخروج من الأزمة الحكومية

هنالك مخارج دستورية وأخرى سياسية للتعامل مع انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة. ويُفترض حين يُفعّل رئيس الحكومة الفصل السابع والأربعين من الدستور، أن يبت الملك في طلبه إعفاء الوزراء المستقيلين، وعندها تصبح الحكومة مفتقِدة إلى الأغلبية، أي تغدو حكومة أقلية غير مدعومة بأي غطاء برلماني. فما الحلول التي يسمح بها الدستور، ضمن المشهد السياسي المغربي في هذه الحالة؟
 
من الناحية الدستورية هنالك مخارج للتعامل مع استقالة وزراء حزب الاستقلال، ويمكن التركيز على صيغتين اثنتين، هما المتداولتان في النقاش الجاري في الأوساط السياسية المغربية. تتعلق الصيغة الأولى بإعادة تشكيل أغلبية جديدة، أي ترميم الحكومة الحالية التي أصبحت أقلية، بشريك جديد ينضم إلى الائتلاف القائم منذ تشكيل الحكومة وتنصيبها في يناير /كانون الثاني 2012. وفي هذه الحالة يُفترض أن يبدأ رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران مشاورات ومفاوضات مع من يُقدر توفره على مواصفات الشريك المحتمل في الائتلاف. ومن ضمن المواصفات نتيجته في انتخابات مجلس النواب (25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011)، ومدى اقترابه الإيديولوجي من الخيارات المعتمدة في البرنامج الحكومي. أما الصيغة الثانية، فيمكن أن تُفضي، إن تعذر المخرج الأول، إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها، كما يسمح بذلك الفصلان السادس والتسعون والرابع بعد المائة من الدستور.(3)
 
سياسيا شرع حزب العدالة والتنمية في التفكير في الحلول الممكنة لاستعادة الأغلبية المفقودة نتيجة استقالة وزراء الاستقلال. فعلى الرغم من عدم إفصاحه صراحة عن الحزب الذي ينوي التفاوض معه ليكون بديلاً للاستقلال، فقد راهن على عامل الوقت، إما لإنضاج فكرة التفاوض من أجل شراكة جديدة لترميم الأغلبية المفقودة، أو للدفع في اتجاه حلّ سياسي يسمح بثني حزب الاستقلال عن تنفيذ قراره. خصوصاً بعد سعي هذا الأخير إلى استثمار الوظيفة التحكيمية للملك، التي لا تجد أي سند دستوري لها في الفصل 42 الذي تم اللجوء إليه. لكن بعد أن قدم الوزراء الخمسة استقالاتهم إلى رئيس الحكومة، بدأت تتكون رؤية حزب العدالة والتنمية لحل قضية إعادة بناء الأغلبية. و يلاحظ في هذا الصدد، تأرجح مواقف قادة حزب العدالة والتنمية (أعضاء الحكومة ونواب ومستشارو البرلمان) بين الدعوة إلى البحث عن شريك جديد في الائتلاف، والتلويح بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات سابقة لأوانها.
 
وفي السياق نفسه كشفت وسائل الإعلام، المقروءة على وجه الخصوص، اللقاءات الأولية التي جمعت بعض قادة كل من حزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار، الحائز على 52 مقعدا في انتخابات مجلس النواب، والمرتب في الدرجة الثالثة بعد حزب الاستقلال، ما يعني أن خيار التفاوض من أجل إعادة تشكيل الأغلبية الحكومية سيكون محوره حزب "التجمع الوطني للأحرار". لذلك يرجح، بعد أن يوافق الملك على طلب إعفاء الوزراء المستقيلين، وانتقال حزب الاستقلال إلى صفِّ المعارضة، أن يتم التفاوض بدرجة أساسية مع التجمع الوطني للأحرار، لاعتبارات موضوعية، تتعلق أولا بعدد مقاعده في مجلس النواب (52)، وثانيا لأن الحزبين المواليين في الترتيب، أي حزب الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سبق أن عبرا في بيان عن استحالة دخولهما أي تحالف محتمل مع حزب العدالة والتنمية.

ولا يتصور أن يكون التحاق التجمع الوطني للأحرار بالائتلاف الحكومي القائم سهلاً، أو دون كُلفة بالنسبة للحكومة الحالية، خصوصاً إذا استحضرنا، أن حزب التجمع صوت ضد البرنامج الحكومي، أي لم يوافق على خيارات الحكومة، وأن العديد من قادة الحزب، بما فيهم أمينه العام صلاح الدين مزوار، في تناقض واضح مع مقاربة الإسلاميين لإدارة الشأن العام.

وفي سياق هذا المشهد، قد يتم اللجوء إلى خيار حل مجلس النواب وإجراء انتخابات سابقة لأوانها، كما لوح بذلك بعضُ نواب وقيادات حزب العدالة والتنمية وفريق حزب الأصالة والمعاصرة في مجلس المستشارين. وإذا كان الدستور يسمح للملك، ولرئيس الحكومة على حد سواء باللجوء إلى الحل، فإن المعطيات لا تشجِّع على اعتماد هذا الخيار، لأسباب موضوعية ذات صلة بكُلفة توقيف العملية الإصلاحية التي أسسها دستور 30 يوليو /تموز 2011، بما في ذلك القوانين التنظيمية (الإجرائية) المكَمِّلة للدستور، والمؤسسات المنتظَر إقامتها تنفيذا لأحكام الدستور، والتي وضع المخطط التشريعي للحكومة تواريخ واضحةً لإنجازها. بل إن الدستور ألزم الحكومة والبرلمان بإنجازها في الولاية التشريعية الأولى التي تلي دخول الدستور حيز التنفيذ (2011 – 2016).(4) لذلك، سيكون من المجازفة اللجوء إلى صيغة حلِّ مجلس النواب لمعالجة الوضعية السياسية التي تعيشها الحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية.

ومع أن المخارج الدستورية والسياسية واضحة، فقد تتبلور صيغة مغايرة للصيغتين المشار إليهما في هذا السياق، يكون الملك صانعَها، من قبيل عدم البت في طلب إعفاء الوزراء المستقيلين من مهامهم، طالما أن الدستور ترك له صلاحية القبول أو الرفض. والاكتفاء بتعديل حكومي جزئي تشترك أحزاب الائتلاف في اقتراحه، يُثني حزب الاستقلال عن مغادرة الحكومة، ويمدّه بما يجعله مقتنعاً بالاستمرار ضمن طاقمها. إنها صيغة سياسية ممكنة، مبنية على التراضي والتوافق، وقد يكون للسلطة المعنوية للملك، ودوره الدستوري كراعٍ لاستمرار الدولة والمؤسسات، كلمة الفصل في إعادة العملية السياسية إلى وضعها الطبيعي.

العدالة والتنمية وإدارة الأزمة

تفيد تصريحات حزب العدالة والتنمية وما تنشره جريدة "التجديد" المقربة منه في افتتاحياتها، بوجود توجه بعدم تضخيم ما قد ينجم عن قرار الاستقالة من نتائج على مستقبل الحكومة التي يتولى "الإسلاميون" قيادتها. فمنذ الإعلان عن قرار الانسحاب وحتى تقديم وزراء الاستقلال استقالاتهم، لم يتردد حزب العدالة والتنمية في التعبير عن استمرار الحكومة في أداء مهامها، وأنها تحظى بدعم الملك وتأييده. بل إن بعض مواقف أعضاء الحزب وقادته أوحت في أكثر من سياق بأن العدالة والتنمية لا يكترث بقرار الاستقالة وما قد ينجم عنه من انعكاسات سياسية. ومع ذلك، وبغض النظر عن عدم اكتراث "الإسلاميين" بانسحاب الاستقلاليين من الحكومة، أو على الأقل استسهالهم له، فإنهم مطالبون بالنظر إلى ما حصل بوصفه مؤشرا لوجود خلل في التركيبة الحكومية التي أفرزتها انتخابات 25 نوفمبر /تشرين الثاني 2011، ضمن سياق دستور 30 يوليو /تموز 2011.

ومن حيث السياق العام فإن التغيرات الحاصلة في المحيط الإقليمي العربي (مصر تحديدا)، تدفع حزب العدالة والتنمية، إلى ضرورة التفكير والحوار الجماعيين لردم اختلالات العمل الحكومي والتغلب عليها. وسيكون من اللاَّعقلانية السياسية التقليل من حجم المتغيرات الإقليمية الجارية.

فلو تحقق سيناريو التفاوض مع حزب التجمع الوطني للأحرار، فإنه يُنتظَر من حزب العدالة والتنمية أن يُعيد النظر في طريقة تعامله مع أطراف الائتلاف، وربما سيُجبره الشريك الجديد على تغيير منهجية تعامله مع مكونات التحالف القائم، بدءاً من توزيع الحقائب الوزارية ونوعيتها، وانتهاءً بمراجعة البرنامج الحكومي وإعادة صياغته، ناهيك عن رؤيته لتدبير العمل الحكومي، التي وصفها حزب الاستقلال المنسحب بالارتباك وضعف الفعالية. ويرد هذا في ضوء الشروط التي أصبح يعلن عنها بعض أعضاء التجمع الوطني للأحرار لانطلاق التفاوض وضمان نجاحه. ثم إن التفاوض إن تمَّ وفق هذه المتطلبات، فإنه لن يبق حبيس حزب العدالة والتنمية والشريك المفترض، أي التجمع الوطني للأحرار، بل سيشمل المكونات الأخرى للائتلاف، أي تحديدا حزب الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، وسيمس بدرجة أساسية موقعهما في القسمة الحكومية المقبلة. لذلك، سيشمل التفاوض الهندسة الحكومية والبرنامج، ومنهجية تدبير الائتلاف، ومن هنا تبرز الصعوبات القادمة أمام الحكومة بقيادة العدالة والتنمية.

إن النجاح في عملية التفاوض، والاقتدار في ممارسة حسِّ الإصغاء، والبحث عن المشترك، سيمكنان الحكومة من تطوير العملية السياسية وتجنيب أطرافها احتمالات الفشل. أما إذا تعثر خيار ترميم الأغلبية الحكومية عبر التفاوض مع شريك جديد، وتم اللجوء اضطراراً إلى خيار حلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة، وهو ما يستبعد حصوله إلا على سبيل الاستثناء، فإن تطور رصيد قوة حزب العدالة والتنمية مفتوح على أكثر من احتمال. فقد يتضاءل رصيده الشعبي، لا سيما بعد الإجراءات التي أقدم عليها برفع أسعار المحروقات وحركة غلاء المعيشة التي أعقبتها، لكنه قد يحافظ على قاعدته الشعبية، وينميها، إن هو تمكن من إقناع المواطنين بصدق إرادته في الإصلاح، وحاجته إلى مزيد من الوقت ليلمس الناس نتائج سياساته العمومية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والمالية.
_________________________________
المراجع
1- تعلق الأمر بالوزارات التالية: الاقتصاد والمالية، والطاقة والمعادن، والصناعة التقليدية، وشؤون الجالية المغربية في الخارج، والخارجية. (وحده وزير التعليم لم ينضبط لقرار حزب الاستقلال، فأمسك عن تقديم استقالته لرئيس الحكومة).
2- تنصّ الفقرة الخامسة من الفصل السابع والأربعين على ما يلي: "ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية". للاطلاع على نص الدستور الجديد (2011)، انظر: الجريدة الرسمية، عدد 5964، بتاريخ 30 تموز / يوليو 2011، ص 3600 وما بعد.
3- سمح الفصل السادس والتسعون للملك بحل مجلسي البرلمان أو احدهما، مع مراعاة الشروط الواردة فيه. كما منح الفصل الرابع بعد المائة هذه الإمكانية لرئيس الحكومة.، وإن قصرها على مجلس النواب فقط.
4- نصّ الفصل السادس والثمانون من دستور المغرب لعام 2011 على ما يلي: " تعرض القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور".