فقدت الليرة التركية ما يزيد عن 60 بالمئة من قيمتها التبادلية خلال الفترة من بداية يناير/كانون الثاني والأسبوع الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2021، وقد وقعت معظم هذه الخسارة خلال الأشهر الثلاث الأخيرة من العام. وبينما قُدِّر مستوى التضخم في البلاد بـ21 في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أشارت توقعات، بعد الهبوط المتسارع في قيمة الليرة، إلى احتمال ارتفاع معدل التضخم إلى 26 بالمئة مع نهاية العام.
وسائل الإعلام الغربية الليبرالية، التي لم تُخْفِ يومًا موقفها السلبي من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وسياساته، تقول: إن التضخم بات عبئًا ثقيلًا على القطاع الأوسع من الشعب التركي، وإن عددًا متزايدًا من العائلات التركية، سيما بين سكان المدن، بات يجد صعوبة في تأمين الحد الأدنى من المعاش. في تركيا نفسها، وجدت المعارضة التركية نافذة أخرى لتوجيه سهامها إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، والرئيس التركي. ما يقوله خصوم أردوغان، باختصار، أن الرئيس فقد السيطرة على الاقتصاد، وأنه يدفع البلاد إلى الكارثة.
مساء الاثنين، 20 ديسمبر/كانون الأول، أغلقت بورصة إسطنبول على سعر تبادلي للِّيرة بلغ 18.5 مقابل الدولار الأميركي. كان هذا أدنى مستوى لقيمة الليرة منذ تولَّى العدالة والتنمية مقاليد الحكم قبل زهاء العقدين. بعدها بساعتين، خرج الرئيس إلى مؤتمر صحفي في نهاية اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي، أعلن في بدايته سلسلة إجراءات، تعلقت بتعهد الحكومة بتعويض أية ودائع بالليرة تقل فوائدها عن تلك التي تحققها ودائع مقابلة بالدولار، وزيادة نسبة الدعم الحكومي لمعاشات المتقاعدين، وخفض الرسوم الحكومية على البضائع المصدَّرة.
خلال ساعات، شهدت السوق التركية تحويل ما يقارب مليار دولار إلى الليرة، وأخذت قيمة الليرة التبادلية في سوقي لندن ونيويورك بالارتفاع الحثيث. في صباح اليوم التالي، الثلاثاء، 21 ديسمبر/كانون الأول، حوَّل المواطنون الأتراك ما يقارب مليار دولار أخرى إلى الليرة. في مساء اليوم نفسه، أقفلت بورصة إسطنبول على سعر 13 ليرة مقابل الدولار الواحد.
ما الذي يجري على جبهة تركيا الاقتصادية؟ كيف أوصل العدالة والتنمية، الذي صنع المعجزة الاقتصادية في السنوات العشرة الأولى من حكمه، الاقتصاد التركي إلى هذه الأزمة؟ وكيف يدافع أردوغان عن سياسته الاقتصادية؟ وما الذي يستهدفه حقًّا من هذه السياسة؟
جذور الأزمة
أخذت بوادر الضغوط على الاقتصاد التركي في الظهور منذ 2013–2014. السبب الأول لتلك الضغوط يرجع إلى نمط التنمية السريع الذي اتبعته تركيا خلال السنوات العشرة الأولى من حكم العدالة والتنمية، والذي شمل بناء جسور هائلة على البوسفور ومرمرة، ونفق يربط جانبي إسطنبول، الأوروبي والآسيوي، وشبكة من خطوط جديدة للسكك الحديدية، وعشرات المطارات المدنية، وآلاف الكيلومترات من الطرق السريعة، ومطار دولي جديد ضخم لإسطنبول، ومجمعات مستشفيات لا تقل ضخامة في عدة مدن رئيسية.
نُفِّذت هذه المشاريع في أغلبها من قبل القطاع الخاص، على أساس البناء والإدارة لعشرين سنة، ثم التسليم للحكومة؛ وهو ما دفع القطاع الخاص إلى الاستدانة من مصادر خارجية لتمويل تلك المشاريع. مع بدء سداد قروض السنوات العشرة السابقة، أخذت الضغوط على الليرة في الازدياد، ومن ثم هبوط قيمتها التبادلية.
بيد أن هذا لم يكن السبب الوحيد. ففي المرحلة بعد الثورات العربية في 2011، تعرضت السياسة التركية الخارجية، التي رأى فيها البعض نزعة توسع إقليمي، لانتقادات غربية متزايدة؛ وهو ما انعكس سلبًا على الاستثمارات الأجنبية في تركيا. في نهاية 2013، عندما اندلعت مظاهرات غازي بارك المناهضة للحكومة؛ وفي 2015، عندما أسقط سلاح الجو التركي الطائرة الروسية التي اخترقت مجال تركيا الجوي في منطقة الحدود مع سوريا، وتوقفت من ثَمَّ حركة السياح الروس إلى تركيا؛ وفي منتصف 2016، وبالرغم من فشل المحاولة الانقلابية؛ وفي نهاية 2016، عندما بدأ التدخل التركي العسكري في شمال سوريا، تعرضت الليرة التركية لضغوط متواصلة، أفضت إلى المزيد من هبوط قيمتها التبادلية.
عمل براءة البيرق، الذي تولى في 2018 وزارتي الخزانة والمالية المندمجتين في النظام الرئاسي الجديد، ومحافظ البنك المركزي المقرب منه، طوال العامين التاليين على الدفاع عن الليرة باستخدام رصيد البلاد من العملات الأجنبية. ولكن هذه السياسة وإن أظهرت بعض المردود في المدى القصير، لم تُجْدِ كثيرًا في المديين المتوسط والبعيد. ولذا، فقد جرى اللجوء إلى رفع سعر الفائدة على الليرة التركية بصورة مطردة، سيما بعد أن ضاعف وباء كورونا الضغوط على الليرة في أشهر 2020 الأولى. في بداية 2021، كان سعر الفائدة وصل إلى 21 بالمئة، وهو مستوى أعلى من سعر الفائدة في أي من دول العشرين، وبفارق كبير.
لم يخف الرئيس التركي مطلقًا موقفه من سعر الفائدة المرتفع، سواء لأسباب دينية، باعتباره أساس اقتصاد الرِّبا المحرَّم في الإسلام، أو لأسباب اقتصادية، للأعباء التي يفرضها على شركات الصناعة والإنتاج، سيما الصغيرة والمتوسطة منها، وعلى كاهل ملايين المواطنين الذين يضطرون للاقتراض لسبب أو آخر. ولكنْ هناك سبب آخر لقلق أردوغان ومستشاريه من الارتفاع غير المسبوق في سعر الفائدة، وهو الصعود الموازي في معدلات التضخم، الذي أخذت تركيا تعانيه منذ 2020.
كما معظم دول العشرين، يعود الاتجاه التصاعدي للتضخم إلى الاضطراب الناجم عن وباء كورونا في جانبي الإنتاج والإمداد على مستوى العالم. ولكن أردوغان ومجموعة مستشاريه المقربين يعتقدون أن الارتفاع المطرد في معدل التضخم في تركيا، الذي يفوق معدلات التضخم في نظراء تركيا من الاقتصادات الصاعدة، يعود أيضًا، وبصورة أساسية إلى مستوى الفائدة بالغ الارتفاع.
في مقاربة جذرية كلية للمسالة الاقتصادية، قدَّم جميل إرتم، مستشار أردوغان الاقتصادي المقرب، والذي يوافق الرئيس موقفه من سعر الفائدة، ورقة بعنوان: "نموذج اقتصادي جديد: الأسباب والمردودات"، قبل عدة شهور.
تعزيز الاستقلال الاقتصادي
ما يقوله الرئيس ومعسكره، سيما مستشاره الاقتصادي، ووزير ماليته الجديد، ومحافظ البنك المركزي، أن الاقتصاد التركي، ومنذ تحولت تركيا إلى الاقتصاد الحر، يعمل تحت رحمة المتغيرات الخارجية، مثل أزمات المحيط الإقليمي، ومعدلات السياحة، والضغوط السياسية، ومستويات الاستشمار الخارجي المباشر. كل الاقتصادات المتوسطة في العالم تتأثر بالمتغيرات السياسية والاقتصادية، سواء في محيطها أو السوق العالمية، ولكن الاقتصاد التركي أظهر حساسية فائقة لهذه المتغيرات، بحيث يمكن القول: إن مستقبل تركيا الاقتصادي سيظل أسير القرار الخارجي أكثر منه تجليًا لمقدَّرات البلاد الاقتصادية والصناعية.
لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، يقول هؤلاء: لابد من اتباع نموذج جديد، نموذج يعتمد على إمكانيات تركيا الإنتاجية وحيوية سوقها، أكثر من نوايا الآخرين الحسنة. بكلمة أخرى، على تركيا أن تسلك نهجًا أقرب إلى النموذج الصيني، يستند إلى سعر فائدة منخفض، وقيمة تبادلية لليرة جاذبة، وأدنى نسبيًّا مما كانت عليه في بداية 2021، ومعدلات تصدير أعلى. مثل هذا النهج، سيعزز قدرات تركيا الإنتاجية، ويجذب عددًا متزايدًا من الشركات الغربية التي تبحث عن عمالة رخيصة ومهنية ومراكز إنتاج قريبة من الأسواق، ويحقق دخلًا أعلى بكثير من قطاعي الخدمات والسياحة.
وهذا ما دفع البنك المركزي التركي، بتأييد من الرئيس، إلى خفض سعر الفائدة من 19 إلى 14 بالمئة خلال الفترة من سبتمبر/أيلول إلى منتصف ديسمبر/كانون الأول. ولكن المشكلة في هذه السياسة، أنها أدت إلى انخفاض سريع وفادح في قيمة الليرة التبادلية، انخفاض فاق توقعات الحكومة والبنك المركزي، على السواء. ولأن معدل التضخم كان مرتفعًا أصلًا، فإن هذا الانخفاض في قيمة الليرة سيفضي إلى تفاقم تلقائي في مستوى التضخم، ويترك تأثيرًا بالغًا على حياة أغلب المواطنين الأتراك.
يرد معسكر الرئيس على المنتقدين بأن الانخفاض السريع والمقلق لقيمة الليرة التبادلية يعود، في الحقيقة، إلى تلاعب المضاربين والساعين للحفاظ على سعر الفائدة المرتفع، ولا يعكس حقيقة الوضع الاقتصادي التركي ومؤشراته الرئيسية الإيجابية في الأشهر الأخيرة من 2021.
فالمتوقع أن هذا العام سيشهد تجاوز قيمة الصادرات التركية 200 مليار دولار، الأعلى في تاريخ الجمهورية كله. كما يُتوقع أن يفوق النمو في الدخل القومي 9 بالمئة، الأعلى بين كافة دول العشرين الأخرى، بما في ذلك الصين. ما بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، انخفض العجز في الميزان التجاري من 2600 مليون دولار إلى 1400 مليون دولار؛ بينما حقق الحساب الجاري فائضًا لثلاثة أشهر على التوالي، للمرة الأولى منذ سنوات، ليصل إلى 3160 مليون دولار في أكتوبر/تشرين الأول. إلى جانب ذلك كله، انخفض معدل البطالة في الشهر نفسه من 13 إلى 11 بالمئة، على أساس سنوي. كما أن النظام البنكي التركي، بإقرار كافة المؤسسات المالية العالمية، يقف على أرض صلبة، وليس ثمة ما يهدده من تذبذبات السوق.
ما جرى خلال نوفمبر/تشرين الثاني والأسابيع الثلاثة الأولى من ديسمبر/كانون الأول من تدهور متسارع في قيمة الليرة كان مجرد فقاعة، كما يقول الرئيس وأنصاره، أُريد بها كسر إرادة الدولة التركية وإجبارها على التخلي عن نموذجها الاقتصادي الجديد. وكانت -حسب هؤلاء- عودة الليرة إلى الارتفاع السريع، أيضًا، خلال الأربع وعشرين ساعة من مساء 20 إلى مساء 21 ديسمبر/كانون الأول، دليلًا قاطعًا على أن ضعف أداء الليرة كان مصطنعًا وغير واقعي.
والمؤكد، طبقًا لأنصار الرئيس، أن البلاد، مع استقرار الوضع الاقتصادي والمالي، وتسارع عجلة الإنتاج والاستثمار، ستشهد انخفاضًا ملموسًا في معدل التضخم؛ وأن هذا الانخفاض سيبدأ في التحقق مع الأشهر الأولى من 2022.
مراهنة خطرة
كل سياسات الدولة الحديثة الاقتصادية-المالية تحمل قدرًا من المغامرة. الاقتصاد، في النهاية، ليس مجرد حسابات باردة؛ ومهما بلغت كفاءة التقدير والتوقع، يظل هناك متغير، أو أكثر، لم يوضع في الحسبان. ولكن الواضح، بالرغم من أن سياسة الخفض المتسارع لسعر الفائدة، والسعي لتطبيق نهج اقتصادي أكثر اعتمادًا على الإنتاج، التي يتبعها أردوغان وحكومته، لا تنبع من عقيدة دينية فقط، كما هو شائع، أو من هرطقة اقتصادية، كما يقول المنتقدون. ثمة رؤية اقتصادية لا تقل مصداقية عن السياسات الاقتصادية والنقدية التقليدية خلف ما يجري في تركيا.
بيد أن مشكلة أردوغان لا تتعلق بعنصر المغامرة في سياسته الاقتصادية، وحسب، ولكن أيضًا في أن الفسحة الزمنية المتاحة للرئيس وحزبه لا تزيد عن 18 شهرًا، قبل أن تُعقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، في يونيو/حزيران 2023، التي يُرجَّح أن أردوغان سيخوضها مرة أخرى. صحيح أن القرارت الحكومية المتعلقة بزيادة الحد الأدنى من الأجور، وزيادة دعم المعاشات، وخفض الرسوم على البضائع المصدَّرة، ستساعد عموم الأتراك على مواجهة صعوبات الحياة التي يفرضها معدل التضخم المرتفع. ولكن ما ينتظره السوق والشارع التركي، على السواء، هو أكثر من ذلك.
إن تعثرت السياسة الاقتصادية الجديدة، أو فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، يشعر بها المواطن العادي في حياته وحياة عائلته اليومية، خلال العام المقبل، فستتراجع حظوظ أردوغان وحزبه الانتخابية بالتأكيد، ولن يكون من العسير على مرشح منافس، ببعض المهارة السياسية والمقبولية الشعبية، الفوز. أما إن صدقت توقعات الرئيس ومعسكره، وشهدت الأشهر المقبلة استقرارًا ماليًّا ومزيدًا من مستويات الإنتاج والتصدير، وبدأ التضخم في التراجع، فستتضاءل حظوظ المراهنة على هزيمة انتخابية لأردوغان وحزبه.