تونس: حوار وطني في سياق تحديات أمنية وسياسية

زادت التحديات الاقتصادية والأمنية الأزمة السياسية حدة في تونس؛ حيث استغلت المعارضة الملف الأمني، للتشكيك بالمسار السياسي. وبينما تسعى الترويكا لوضع تاريخ ملزم للانتخابات وإنجاز الدستور تهدف المعارضة لتنصيب حكومة موالية لها رغم أنف التوازنات داخل المجلس التأسيسي. وبالنهاية يبدو الجميع مضطرًا للتنازل.
20131151439396734_20.jpg
المصدر [الجزيرة]

 

ملخص
تبدو تونس حاليًا أقل وثوقًا بمستقبل انتقالها الديمقراطي من ذي قبل؛ فبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتصاعدة، زادت المشاكل الأمنية الأزمة السياسية حدة. وقد استغلت المعارضة صعوبات الحكومة في الملف الأمني، للتشكيك بالمسار السياسي، والمؤسسات خاصة المجلس الوطني التأسيسي، الذي يفترض أن ينتج دستور التونسيين الجديد. أما على المستوى الأمني فقد نجحت العمليات المسلحة فيما فشلت فيه المعارضة بقواها المدنية، وهو تعطيل المسار الانتقالي. وفي سياق الحوار الوطني لا يبدو أن التوافق على رئيس للحكومة يمثل الصعوبة الكبرى الوحيدة، بل العلاقة بين الحكومة المقبلة والمجلس الوطني التأسيسي. وفي حين تسعى الترويكا لوضع تاريخ ملزم للانتخابات والمصادقة على الدستور، وهو الثمن الذي سيقنعها بالخروج من الحكومة. فإن غاية المعارضة رغم اختلاف أهداف فصائلها المشتركة من المسار الحالي هو تنصيب حكومة موالية لها رغم أنف التوازنات داخل المجلس التأسيسي. وهي غير مستعجلة على تاريخ الانتخابات أو المصادقة على الدستور لكنها مستعدة لدفع الثمن مقابل فوزها بالحكومة المقبلة. ونتيجة للضغوط لأجل التسريع بإيجاد حل سياسي للأزمة الراهنة عبر الحوار، يبدو الجميع مضطرًا للتنازل، والبحث في ثنايا الحوار عن صفقات جانبية ممكنة.
تبدو تونس منذ بضعة أشهر أقل وثوقًا في مستقبل انتقالها الديمقراطي مما كان عليه الأمر قبل سنة؛ فبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتصاعدة التي أدت لانخفاض غير مسبوق في قيمة العملة المحلية، زادت المشاكل الأمنية الأزمة السياسية حدة، وأتقنت المعارضة استغلال صعوبات الحكومة في مواجهة الجماعات المسلحة للتشكيك بكل المسار السياسي، بل وتنظيم تحركات بهدف حل المؤسسات المنتخبة الوحيدة في البلاد، خاصة المجلس الوطني التأسيسي الذي يفترض أن يهب التونسيين دستورهم الجديد.
 
 تطورات الوضع السياسي والأمني
يلاحظ في الوضع التونسي منذ اغتيال الزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد، أن العمليات المسلحة تأتي وفق إيقاع منضبط مع العملية السياسية، وقد نجحت العمليات فيما فشلت فيه المعارضة بقواها المدنية، وهو تعطيل المسار الانتقالي؛ وحصل ذلك عبر اغتيال الزعيم العروبي محمد البراهمي يوم ذكرى إعلان الجمهورية في 25 يوليو/تموز، وقبل يوم واحد من اكتمال عملية انتخاب الهيئة العليا المستقلة التي ستشرف على الانتخابات القادمة. أما عمليات التفجير الأخيرة التي عجزت التحقيقات عن الجزم فيما إذا كانت انتحارية أم لا، والتي حاولت استهداف بعض الوحدات السياحية في مدينتي سوسة والمنستير، فقد فاقمت المخاوف من تطور الأزمة الأمنية التي تعيشها تونس منذ أعلنت الحكومة تنظيم "أنصار الشريعة" تنظيمًا إرهابيًا.

ومن ناحية أمنية فقد أُحبط كثير من العمليات المسلحة قبل وقوعها، وتمّ -رغم خسائر لم يعهدها الرأي العام في صفوف رجال الجيش والحرس الوطني- تفكيك العديد من الخلايا المسلحة، في حين تحاصَر مجموعات أخرى تحصنت بالمناطق الوعرة غربي البلاد. غير أن تقارير استخبارية تؤكد أن تنظيم أنصار الشريعة، الذي لم يتبنّ حتى الآن أيًا من العمليات التي وقعت، يشهد حالة من التفكك واستقلال بعض الخلايا وانخراطها في عمليات انتقامية مفتقدة للقدرة على التخطيط المركزي الناجع. ورغم ما يمكن أن يعبّر عنه ذلك من نجاح للأجهزة الأمنية، فمن شأنه أن يضعف القدرة على توقع ما قد تقوم به الخلايا النائمة من أعمال قد تكون أكثر قوة مستقبلاً. ومن منطلق أمني سياسي، فإن عدم تبني تنظيم أنصار الشريعة أيًا من العمليات المذكورة يثير تساؤلات عديدة. ويُعرف تنظيم أنصار الشريعة، حديث النشأة بتونس، والتنظيمات السلفية الجهادية عمومًا، بسهولة اختراقها، وهو ما أثبتته التحقيقات.

تبدو الخلايا التي كُشف أمرها كأنها تكونت على عجل، وأن غالب عناصرها حديث الانتماء للتيار الجهادي، بل تضم في معظمها عددًا ممن تعلقت بهم قضايا الحق العام، وفي حالات أخرى رجال أمن سابقين معزولين. ويثير ذلك تساؤلات عن اختراق التنظيم من جهات استخبارية مرتبطة بمصالح سياسية؛ وهو ما يعطي معنى لعدد من العمليات التي نُسبت للتنظيم. وتشير تقارير استخبارية حول بعض قادة التنظيم الميدانيين إلى الهدف بعيد المدى من العمليات المسلحة، وهو المساعدة على إزاحة حركة النهضة من الحكم وتسهيل وصول المعارضة للسلطة، بما يزيل الشكوك في شرعية مواجهة السلطة الحالية، ويجعل الطرف السلفي في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع من يعتبرهم أعداء الإسلام الأصليين، وهي الأحزاب المنحدرة من النظام السابق وأحزاب اليسار.

وفي الوقت ذاته، فإن وزارة الداخلية، التي لا تزال تعرف اختراقات كبيرة من رجال النظام السابق، تواجه العمليات المسلحة بأقل من قدراتها الحقيقية، ذلك أن حلقات داخلها تمنع وصول المعلومة، وتعطّل التعاطي الملائم معها، حتى تبدو الحكومة عاجزة عن التصدي للمشاكل الأمنية، وهو أمر اتضح خاصة في 14 سبتمبر/أيلول من السنة الماضية بمناسبة أحداث السفارة الأميركية بتونس، وكذلك بمناسبة اغتيال الزعيم القومي محمد البراهمي. وتواجه السلطة رغبات واضحة لجهات أمنية منظمة لإطلاق يدها في البلاد، لإعادة فرض النظام الأمني القديم بدعوى مواجهة العمليات المسلحة؛ مما يعني عودة النظام القديم ليس في شكله السياسي فقط، بل الأمني كذلك، وإحباط طموح الانتقال للديمقراطية.

 

مستقبل الحوار الوطني والتحديات المطروحة
نجحت المنظمات المدنية الأربع بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل في جمع عدة أطراف سياسية حول مائدة الحوار الوطني، واضعة رزنامة للمحطات المتبقية من الانتقال الديمقراطي، وأجبرت الأحزاب على التوقيع عليها. وبحسب التحديات التي وقفت عليها خارطة طريق المنظمات، تشكّلت ثلاث لجان هي على التوالي: لجنة المسار الحكومي (التي تفترض التوافق على رئيس حكومة جديدة تكمل باقي المرحلة وتشرف على الانتخابات)، ولجنة المسار الانتخابي (للاتفاق على رزنامة العملية الانتخابية بما في ذلك التوافق على تاريخ للانتخابات)، ولجنة المسار التأسيسي (للتوافق على تذليل آخر الصعوبات لمناقشة الدستور والمصادقة عليه وبقية عمل المجلس). ورغم تأكيد المبادرة على التزامن والتلازم بين المسارات الثلاثة، فإن كل طرف دخل الحوار بنية واضحة؛ فإذا كانت المصادقة على الدستور وتحديد تاريخ تُجرى فيه الانتخابات هو ما يهم الترويكا، فإن المعارضة دخلته بالأساس بغرض تغيير الحكومة.

ورغم بعض التأخير الزمني الذي سيجعل من الاحترام الدقيق لخارطة الطريق أمرًا مستحيلاً؛، فإن لجنة المسار التأسيسي قد حققت تقدمًا ملحوظًا بالتوازي مع العمل الذي تقوم به لجنة التوافقات الدستورية داخل المجلس الوطني التأسيسي، وتم الانتهاء تقريبًا من كل الإشكالات التي عرقلت لحد الأمس القريب تمرير الدستور للمناقشة والتصويت عليه. ويتوجب على الشريكين في الترويكا، وهما: حركة النهضة وحزب المؤتمر القيام بتنازلات متبادلة في موضوع النظام السياسي والسلطة التنفيذية؛ مما يوحي بأن الدستور القادم سيوفر بالاضافة إلى أوسع مدى ممكن من الحريات، نظامًا أكثر توازنًا بين رأسي السلطة التنفيذية، وهما: رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية.

وبالمقابل، فإن لجنة المسار الحكومي داخل الحوار الوطني تشهد تعثرًا واضحًا؛ حيث لم يتوافق المشاركون على اسم يقع ترشيحه لرئاسة الحكومة الجديدة. وبالنسبة لمعظم المشاركين في الحوار وهم من المعارضة، فإن الأمر يتعلق بإجبار حركة النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسي، على المرشح الذي تختاره المعارضة. بل إن بعض زعماء المعارضة اقترح التصويت على المرشح داخل الحوار الوطني، ورفض تقديم أكثر من مرشح واحد للمجلس التأسيسي. وقد تحول الحوار الوطني إلى محاولة لتحييد المجلس التأسيسي قلب التوازنات بين الأغلبية والأقلية الذين أفرزتهما الانتخابات، وهو ما يعني بالنسبة للكثيرين، أن الحوار كان يهدف إلى فسخ المنظومة التي أنتجتها الانتخابات.

ورغم أن حركة النهضة لم تقدم مرشحًا لرئاسة الحكومة المنشودة؛ فإنها ساندت ترشيح حليفها حزب التكتل للسيد أحمد المستيري، الذي يُطلَق عليه في تونس اسم "أبو الديمقراطية التونسية"، لتولي منصب رئيس الحكومة، والذي يحظى باحترام واسع لدى التونسيين. في مواجهة ذلك قدمت المعارضة، بيمينها ويسارها، مساندتها لشخصيات ليبرالية كان لعدد منها دور في النظام السابق، واشتغل عدد آخر منها مع الباجي قايد السبسي زعيم حركة نداء تونس حاليًا ورئيس الحكومة التي سبقت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011.

وبعد أسبوع من النقاش المحتدم والتسريبات والإشاعات والحرب النفسية المتبادلة، لم يبق في السباق إلى حد هذه الساعة سوى مرشحين اثنين، وهما: السيد أحمد المستيري، والسيد محمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة الباجي قايد السبسي سالفة الذكر، والذي استقال من منصبه الحكومي في ديسمبر/كانون الأول 1977 قبيل أحداث 26 يناير/كانون الثاني 1978 الدامية بين السلطة واتحاد الشغل. وكما كانت التوقعات،لم يتمكن الفرقاء من التوافق على أي من المرشحين، ما يفتح الباب أمام ترشيح شخصيات مستقلة أخرى سواء من داخل الحكومة الحالية أو من خارجها، لا سيما بعد إعلان حسين العباسي، الأمين العام لاتحاد الشغل مساء الثلاثاء 4 نوفمبر/تشرين الثاني، عن تعليق الحوار الوطني لفشله على صعيد المسار الحكومي.

إن التوافق على رئيس للحكومة ليس الصعوبة الكبرى الوحيدة التي تواجه الحوار الوطني، بل العلاقة بين الحكومة المقبلة والمجلس الوطني التأسيسي. لقد أدى الحوار الوطني إلى حالة من الاحتقان لدى أوساط نيابية عديدة بسبب شعورها بتهميش دور المجلس الفضاء الوحيد لحوار مماثل، خاصة مع سعي المعارضة لتغيير التنظيم المؤقت للسلطات العمومية لمنع محاسبة وإسقاط الحكومة القادمة. وفي هذا السياق بدأت في التشكل جبهة واسعة يقودها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي رفض المشاركة في الحوار الوطني بالصيغة التي قدمه بها رعاته، وتضم أحزابًا أخرى ومجموعات من النواب المستقلين هدفها التمسك بكل صلاحيات المجلس والتصدي لأية محاولات لتغيير التنظيم المؤقت للسلطات.

وتبدو هذه العناصر متشابكة ومتفاعلة، ومتأثرة بما يحدث -أو قد يحدث- خارج قاعات الحوار والمجلس التأسيسي. فإذا أضفنا إلى ذلك انعكاسات أية أحداث أمنية محتملة، سيصعب توقع ما سيسفر عنه المسار الراهن. وتبقى أوراق مهمة بيد رئيس الجمهورية، الذي قد لا يقبل بأي مرشح يقدم إليه؛ مما قد يسقط خيار المعارضة حتى إن أجبرت حركة النهضة على القبول به. وذلك ما يفسر الهجمات التي بدأت تشنها وجوه معارضة بارزة على المرزوقي، واعتباره العقبة الرئيسية في المسار الحالي، والذي قد يمنع المعارضة من قطف الثمار بالنهاية.

 

خيارات الترويكا وخيارات المعارضة
يبدو المشهد شديد التعقيد، غير أن الأقل تعقيدًا هو معرفة ما تريده كل من الترويكا والمعارضة بالنسبة للمرحلة القادمة؛ فمن ناحية، تسعى الترويكا لوضع تاريخ ملزم للانتخابات والمصادقة على الدستور، وهو الثمن الوحيد الذي سيقنعها بالخروج من الحكومة. أما المعارضة، وبرغم أن ما تريده بعض فصائلها يختلف عما ترغب فيه فصائل أخرى، فإن غايتها المشتركة من المسار الحالي هو تنصيب حكومة موالية لها رغم أنف التوازنات داخل المجلس التأسيسي، في حين لا تبدو متعجلة على تاريخ الانتخابات ولا على المصادقة على الدستور، لكنها مستعدة لدفع الثمن مقابل فوزها بالحكومة المقبلة. 
لا أحد يتوقع أن ينال أحد الطرفين كل ما يريده، بل إن عددًا من الفاعلين انتقل من الحديث عن حكومة كفاءات مستقلة إلى حكومة محاصصة حزبية جديدة أو حكومة وحدة وطنية. ومن هذا المنطلق، إذا لم تحصل مفاجآت أمنية تقلب كل عناصر المشهد الحالية، فإن الحكومة القادمة ستكون خاضعة للمجلس كسابقاتها، وستقودها شخصية مستقلة من غير الشخصيتين المتداولتين الآن، وستكون قائمة على المحاصصة المباشرة أو غير المباشرة. سيجعل ذلك منها بالضرورة حكومة هشة، وسيدفعها إلى التعجيل بالانتخابات والفراغ من كل مراحل العملية الانتقالية الحالية.

في ثنايا ما يُتداول في الساحة السياسية التونسية، فإن أهم فصيل في المعارضة وهو حركة نداء تونس بزعامة السبسي يبدي رغبته في تقاسم السلطة مع حركة النهضة خارج قاعة الحوار الوطني، وهو أمر تعارضه قيادة حركة النهضة بشدة. ومع ذلك لا يبدو أن صفقة من هذا النوع قد فات وقتها تمامًا، وإن كانت ستؤدي -لو تمت- إلى تفكيك التحالفات القائمة حاليًا في صف الترويكا والمعارضة على حد سواء. غير أن أهم عائق أمام إتمام هذه الصفقة يبقى رئيس الجمهورية الحالي الذي صرّح أنه لن يسلم الرئاسة سوى إلى رئيس منتخب.

إن الساحة التونسية مرتبطة بالوضع الإقليمي والدولي؛ مما يضيء أبعادًا أخرى من الأزمة السياسية الراهنة؛ فعلى المستوى الإقليمي، تعيش تونس تبعات الانكماش الاقتصادي جنوب القارة الأوروبية؛ ما يصعّب فوزها باستثمارات جديدة، ويعقّد الوضع الاقتصادي للبلاد. إن انفتاح الحدود التونسية على ليبيا يعد بتصاعد التهديدات الأمنية ضد المسار الانتقالي الراهن؛ حيث إن الأسلحة المستخدمة في العمليات المسلحة تأتي من هناك، وكل المشاركين في تلك العمليات ذهبوا إلى هناك للتدرب على القتال. أما الجزائر، الجارة الكبرى، فتعتقد أن التأخر في إيجاد حل سياسي سيسهّل انتشار العمليات المسلحة وتزايد تهديداتها للجزائر.

إن الزخم الذي اكتسبته المعارضة قد بدأ بصورة فعلية مع الانقلاب الذي قاده الجيش المصري ضد الرئيس محمد مرسي؛ مما أنعش النظام القديم في تونس، ومكّن اليسار من اكتساب جرأة أكبر، وكلاهما غطى على ما حصل في مصر من مجازر وقدم له التبريرات. أما الأميركيون والأوروبيون، فقد أوضحوا أنهم يريدون النجاح للتجربة الديمقراطية، وعكس القيمة الإقليمية لمصر حين غض الطرف عن الانقلاب، لا تمثل تونس قوة إقليمية، وليست منخرطة في صراع يتجاوز حدودها؛ ما يعني أن نجاحها في اجتياز المرحلة الراهنة عملية رمزية لا غير.
تُضخ اليوم في تونس أموال كثيرة في سياق تصعب معه السيطرة على التدفقات المشبوهة والمتجهة لبعض الأحزاب السياسية والمنظمات، وهي أموال تستعمل لتحريك الشارع أو تمويل العمليات المسلحة. ورغم أن بعض الدول قد صرحت على لسان مسؤولين أمنيين أنها تنظر بعين السخط للتجربة التونسية؛ فإن الأمر لم يتوقف عند حدود إبداء الرأي فيما يحدث في ساحة ليست بالبعد الذي يُعتقد.

بعد انقلاب الجيش في مصر أصبح التخوف من عمل انقلابي تموله بعض الدول الأجنبية في تصاعد، وكان ذلك نقطة الانطلاق لإجراء تعيينات جديدة في الجيش والداخلية؛ مما منع المعارضة من الحصول على ما طلبته منذ أحداث مصر، وهو تحقيق انقلاب عسكري أو أمني على الترويكا ثم تسليم السلطة بعد ذلك إلى المعارضة. وبالرغم من سذاجة هذا التصور، إلا أن تعامل الترويكا معه كان جديًا، لكن التخوفات من سيناريوهات شبيهة بالسيناريو المصري دفعت النهضة لتقديم التنازل تلو التنازل، وإلى قبول قيادتها بمبادرة الرباعي رغم الرفض الشديد لقواعدها، ولم يعد السؤال حول أداء حركة النهضة: "هل ستتنازل النهضة؟" بل "إلى أي حد ستتنازل النهضة؟".

 

خاتمة
نتيجة للضغوط لأجل التسريع بإيجاد حل سياسي للأزمة الراهنة عبر الحوار، يبدو الجميع مضطرًا للتنازل، والبحث في ثنايا الحوار عن صفقات جانبية ممكنة؛ مما يوحي بأن الأزمة لن تلبث أن تجد حلاً سياسيًا، ولو تأخر قليلاً عما هو مخطط له في ورقة الرباعي. لكن لا أحد في المحصلة سيحقق كل أهدافه ويمنع الآخر من تحقيق كل أهدافه. ويعتقد المتفائلون أن الأزمة ستُحل بمجرد التوافق على رئيس للحكومة المقبلة، متناسين صعوبات تشكيل الحكومة نفسها ثم نيلها ثقة المجلس، ثم الهزات الأمنية التي قد تحدث قبل وأثناء وبعد ذلك. أما الآخرون فإنهم يرون أن المشكل أكثر تعقيدًا من تشكيل حكومة، لارتباط الترويكا والمعارضة على حد سواء بالصراع بين نظام قديم لا يريد أن يموت ونظام جديد يسعى أن يولد.
ويبدو تفكيك الصلات بين العمليات المسلحة والأجندات السياسية أمرًا أكثر أهمية لاستقرار الديمقراطية من تشكيل أية حكومة جديدة، في حين تراقب بقية المؤسسات سعي الفرقاء إلى تجاوز صلاحياتها، محتفظة بين يديها بكل الورقات التي تجعل من أية حكومة جديدة فاعلة أو غير فاعلة.