إفريقيا والدروس المستفادة من جائحة كوفيد19: ماذا بعد الجائحة؟

يجب أن تشكِّل جائحة كورونا بالنسبة لإفريقيا فرصة لإعادة التوازن بين الرهانات في العلاقات الدولية، وظهور قادة سياسيين قادرين على مواجهة التحديات ولديهم الاهتمام بالاستثمار في الناس والتعليم والبحث العلمي.
سهَّلت أزمة كورونا على الأفارقة الوصول إلى منتجات صيدلانية وطبية عالية الجودة وغير مقلدة، وهو سلوك من شأنه أن يسمح للحكومات بمواصلة تطوير ودعم صناعة الأدوية (AP).

تصارع إفريقيا ضمن مسار تاريخي طويل من أجل الإفلات من أزماتها المستفحلة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، حتى ارتبطت إفريقيا بظاهرة الأزمات بمختلف أشكالها. ومع ذلك، يجب أن نكون حريصين على عدم المبالغة؛ فالأزمات والظواهر البيئية والمرضية ليست مظهرًا إفريقيًّا خاصًّا كما يحاول الإعلام الموجَّه تسويقه نمطيًّا، فلطالما أسهمت الهشاشة وضعف البنى التحتية والمؤسسية في جعل القارة عرضة للأوبئة المنتقلة عدواها من بقية القارات الأخرى، بما في ذلك فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز) الذي أودى بحياة مئات الآلاف من الأفارقة، وانتهاء بجائحة كوفيد19 ومتحولاتها المتواصلة وما تسببت فيه من آلام ومعاناة متواصلة.

وبشكل عام، فإن انتشار الوبائيات البشرية والحيوانية والنباتية عالية المستوى بالقارة الإفريقية من شأنه خلق مُهددات مستمرة على الصحة العمومية لدى هذه البلدان(1)؛ حيث باتت ظواهر أساسية من بين تحديات متنامية على الصعيد الإفريقي. وجدير بالذكر أن بطء معالجة هذه الإشكالات أدى إلى وضع شامل من التململ وانعدام اليقين لدى مواطنين ومقيمين يختلط لديهم الفقر بالعوز، كما يفرز الاستبداد مزيدًا من النزاعات الداخلية، دون أن تخفي خارطة الأزمات قدرتها على تقويض حالة الاستقرار النسبي. أضف إلى تلك العوامل تعطل الأنشطة الاقتصادية الاعتيادية والحياة اليومية المألوفة، وهو ما يظهر جليًّا خلال مواجهة جائحة كوفيد19 وما ميزها من تدابير الاحتواء التي زادت من ارتفاع مُعدل البطالة بسبب انخفاض الفرص وتزايد القيود.

قارة متفائلة ضمن حيز مليء بالتحديات

أُعلن في إفريقيا عن أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد (Covid 19)، في 15 فبراير/شباط 2020، بعد شهرين من اكتشاف الفيروس لأول مرة في مدينة ووهان الصينية. وبشكل ملحوظ، تُظهر الحالات المبلَّغ عنها انتشارًا سريعًا ومتزايدًا للجائحة في جميع بلدان إفريقيا البالغ عددها 54 دولة بسبب الكثافة السكانية العالية في المناطق الحضرية حيث ظهر العديد من النقاط الساخنة في إفريقيا الجنوبية وشمال إفريقيا وغربها؛ فسجلت منطقة إفريقيا التابعة للمنظمة، وبها 47 دولة إفريقية، أكثر من 113.100 حالة وفاة في عام 2021. ويقول الخبراء: إنَّ العدد الحقيقي لوفيات كورونا في إفريقيا من المحتمل أن يكون أعلى بكثير من عدد الوفيات التي سجلتها هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها منذ بداية الجائحة وتتجاوز 253.500 حالة وفاة(2).

في البداية، كانت استجابات الدول المختلفة متشابهة إلى حدٍّ ما، فمعظمها فرضت عمليات إغلاق شاملة وحثَّت السكان على غسل الأيادي بشكل متكرر وممارسة التباعد الجسدي، مما ولد حالة من الخوف والضغط على المنشآت الصحية القليلة والتي لم تكن تتوفر على الأسرة الكافية فضلًا عن ضآلة المتاح من أجهزة التنفس. ولكن بعد مرور عدة أشهر وتوالي ظهور متغيرات ومتحولات متعددة، بدأت الدول الإفريقية في التعامل مع الوباء بشكل مختلف؛ فقد أصبح المزيد من المعلومات متاحًا: توسعت مراكز الإيواء وقلَّ الهلع بفضل حملات التحسيس مما سهَّل عملية صنع القرار بعد اتضاح الرؤية إلى جانب قبول غالبية السكان بالتعاون مع السلطات الصحية.

وبطبيعة الحال، فإن الاستثناءات بقيت ملحوظة؛ حيث روَّجت بعض الحكومات المعلومات المضلِّلة كدعوة الرئيس التنزاني الراحل، جون ماغوفولي، إلى اعتماد سياسات روحانية لزوال المرض بدلًا من التقيد بالبروتوكولات الصحية المطبقة عالميًّا قبل أن يعدل عنها خليفته في الحكم. ومع ذلك، فإن معدل الإصابة المعلن قاريًّا لم يتجاوز 6% يوميًّا؛ وهو معدل يشي بحالة من التوازن بالنظر إلى حجم المخاطر التي تعرضت لها قارات أخرى. وربما يعود الفضل في ذلك إلى التركيبة السكانية الخاصة بالقارة الإفريقية التي أسهمت في عدم تأثر القارة بالوباء مثل المناطق الأخرى من العالم؛ حيث تضم إفريقيا وحدها أكثر من ربع سكان الأرض.

وفي الواقع، فإن الفئة العمرية الأكثر عرضة لمضاعفات الجائحة بين السكان العالم نتيجة للوباء هي الفئة العمرية التي تزيد أعمارها عن 65 عامًا بينما يميل الهرم السكاني في إفريقيا إلى التشبيب. بالإضافة إلى ذِكْر الخبراء أنه من بين عوامل الأمل الأخرى وجود مناخ قاري ميَّزته طبيعته الجافة التي يصعب على الفيروس العيش والتمدد فيها، وبدون شك أسهمت هذه العوامل مجتمعة في تجنيب إفريقيا الأسوأ من آثار هذا الوباء الذي عُدَّ مشكلة عالمية، غير مسبوقة.

ويهمنا اليوم، ذكر هذه العوامل بالرغم من التحذيرات التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، في بداية الجائحة، بشأن هشاشة المنظومة الصحية في الدول الإفريقية والتي تضمنت إعلانها الشهير أن "على إفريقيا أن تستعد للأسوأ". ومع ذلك، فلا تزال المنظمة تشكِّك في صحة مؤشر الخسائر البشرية المعلن من قبل الدول الإفريقية حيث تعرض الأخيرة حالات الوفاة في حدود 256 ألفًا في عموم القارة(3)، بينما أصرَّت المنظمة على أن العدد الحقيقي ربما كان أعلى مما تتضمنه التقييمات الرسمية المختلفة.

أما فيما يتعلق بتقييمات التطعيم، فإن النتائج تظل مخيبة للآمال؛ حيث تدلِّل المؤشرات على ضعف التغطية داخل الأوساط السكانية حتى مع توافر المختبرات واللقاحات الضرورية، بعد الرفع المؤقت لبراءات الاختراع عن لقاحات كوفيد19 مما سمح بتداول الاختراعات في هذا المجال ودفع العديد من المعاهد العلمية للاستثمار في الجهود المبذولة داخل القارة؛ وفي هذا السياق افتتح المختبر الألماني، BioNTech، في 23 يونيو/حزيران 2022، بكيغالي، بالتعاون مع الحكومة الرواندية، أول مصنع ينتج لقاحات الحمض النووي الريبي في القارة، ومع أنها خطوة رمزية لكنها مهمة حيث تبرز جهود الأفارقة في وقف مسار الجائحة وعدم الاعتماد على الواردات فيما يتعلق بالأدوية والمعدات الطبية، كما أمكن لمختبرات شبيهة أخرى إدراك طبيعة متحور أوميكرون سريعًا من خلال إحدى الدراسات التي أنجزها معهد الأبحاث الصحية في جنوب إفريقيا والذي كشف قدرة الأشخاص المصابين بمتحور أوميكرون على تطوير أجسام مضادة.

وعلى مستوى التحديات المؤسسية، فالأزمة الصحية التي تمر بها حاليًّا القارة الإفريقية ليست بالأزمة الوحيدة التي أثَّرت على مجتمعاتها في السنوات والعقود الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، تتحمل إفريقيا وحدها عبء الملاريا وبشكل غير متناسب مع بقية أنحاء العالم؛ ففي نفس العام الذي ظهرت فيه الجائحة سجَّلت إفريقيا 96% من الوفيات الناجمة عن المرض على المستوى العالمي(4)، كما تسببت أزمة الإيبولا الصحية في وفاة عشرات الآلاف من المواطنين بغرب إفريقيا ما بين 2013 و2016، وهناك أيضًا أزمات صحية أخرى أفضت إلى تزويد البلدان المتضررة بخبرات مكتسبة في إطار إدارة الأزمات، بينما أضافت الجائحة حالة من تعميم الخبرة والتجربة المؤطرة أمميًّا ودوليًّا، ومع أنه يبقى من الصعب أن نحدد بدقة مدى استيعاب الحكومات الإفريقية للدروس المستخلصة من الجائحة فإن حجم التضامن جنوب/جنوب ضمن الجوانب الصحية والطبية قد زاد بشكل ملحوظ بين الدول الإفريقية كما أعيد تنشيط المركز الإفريقي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بغرض قيادة جهود التشخيص والعلاجات الدوائية واللقاحات، وهناك توسع كبير في العمل مع الشركات المصنِّعة لمعدات الوقاية الشخصية لمعالجة الاضطراب الشديد الذي شهدته سوق الأقنعة والقفازات والألبسة الطبية وغيرها من معدات الوقاية الشخصية في بداية الجائحة وهو عمل أفضى إلى بروز العديد من المبادرات المحلية التي أسهمت من جانبها في تلبية الاحتياجات الوطنية من هذه العناصر المطلوبة بكثرة بغرض الحماية من كوفيد19.

ثمة جهود مثمرة على صعيد محاصرة الجائحة ضمن هذه المقاربة التعاونية وخاصة ما يتعلق منها بمجالات نقل التكنولوجيا والمساهمة في الجهود الإقليمية والعالمية للمراقبة الجينية لكوفيد19، بحيث سمحت منذ البداية في حصر تطور المتغيرات وفقًا للموجات الوبائية التي اجتاحت القارة منذ ظهور متغير ألفا المثير للقلق، ودلتا، وأخيرًا السيطرة على مُتغير أوميكرون Omicron الأكثر قابلية للانتقال والأقل فتكًا؛ وهي جهود صحية لا تتسم بالعشوائية أو التلقائية وانما أتت ثمرة لتعاون وتضامن دولي موسع.

غير أن توجيه الدول لمواردها المالية وجهودها الوقائية صوب الجائحة سمح بانتعاش تحديات موازنة ومناهضة للدول ذاتها على شاكلة ازدهار مجموعات الجريمة المنظمة والتنظيمات الجهادية في شرق إفريقيا (أوغندا) وفي الساحل الإفريقي الذي زادت فيه هذه الحركات من نشاطها وعززت من تموقعها بشكل أفقي كما هي الحال مع بوكو حرام في نيجيريا وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى الذي زادت ضربات ونشاطاته على المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، كما سمحت الجائحة بظهور مزيد من التحديات الهيكلية على صعيد الحكامة والشفافية في تسيير وتوظيف الموارد المالية المرصودة لحالة الطواري الصحية في إفريقيا، غير أنه بدون وضع حدٍّ نهائي لمثل هذه التحديات يبقى من الوهم الحديث عن التعافي أو بناء مستقبل أكثر استقلالية واستدامة.

الدروس المستفادة من مواجهة الجائحة

وفقًا لتقديرات المؤسسات الدولية، فإن حجم إنفاق الأفارقة على السياسات الصحية الطارئة زاد ثلاثة أضعاف عن المألوف وبالتالي فإن مبالغ ضخمة جرى إنفاقها بشكل مجحف على موازنات دول فقيرة ومتخلفة غالبًا ولا تمتلك المرافق الصحية الكافية والكفيلة بوقف مثل هذه الأوبئة أو على الأقل تقليل الخسائر التي تُحدثها.

كما لا يمكننا الحديث عن المقدرات التي جرت إعادة توجيهها إلى منع انتشار الجائحة دون التطرق إلى أرواح العاملين في القطاع الصحي الذين قطف كوفيد19 أرواح مئات الآلاف من بينهم، وخلق قصصًا إنسانية كئيبة فضلًا عن الأضرار التي لحقت الموارد البشرية التي تحتاجها إفريقيا، أكثر من أي وقت مضى.

واليوم، بعد مرور أكثر من عامين من ظهور الجائحة بشكل غير مسبوق، يجب أن تتعلم إفريقيا بالفعل من دروس هذه الأزمة الاستثنائية لمواجهة التحديات الصحية التالية التي سيتعين عليها حتمًا مواجهتها، لذلك تجعلنا هذه الأزمة أمام واقع محزن؛ وهو أنه في حالة حدوث أزمة في مجالات حيوية، سواء كانت صحية أو اقتصادية يجب على البلدان الإفريقية الاعتماد على نفسها فقط.

يمثل الدور الذي لعبته المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها دورًا رائدًا في جلب أجهزة الفحص السريع (PCR)، وتنسيق شراء المعدات الطبية لجميع الدول الإفريقية، كما لعب الاتحاد الإفريقي دورًا مهمًّا من أجل تعبئة الشركاء للحصول على اللقاحات وأجهزة التنفس؛ فبالتوازي مع آلية Covax التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، بادرت المنظمة القارية إلى إطلاق مبادرة Avatt (فريق العمل الإفريقي لاكتساب اللقاحات). ومن المهم التذكير بأن الدول الإفريقية لجأت إلى هذه الآلية مما سمح بإظهار مزيد من تنسيق الجهود إفريقيًّا؛ وبالتالي سمح بإظهار قدرة الأفارقة على العمل المشترك في ظل ظروف طارئة ومخيفة كهذه مما يشي بوجود تجاوب قاري مع النداءات الداعية إلى تأسيس قاعدة تنظيمية حقيقية لمواجهة التحديات التي تواجهها إفريقيا.

في الواقع، سهَّلت هذه الأزمة على الأفارقة الوصول إلى منتجات صيدلانية وطبية عالية الجودة وغير مقلدة، وهو سلوك من شأنه أن يسمح للحكومات بمواصلة تطوير ودعم صناعة الأدوية داخل إفريقيا، والسير على نهج عدد قليل من البلدان الإفريقية التي استثمرت في صناعة المنتجات الصيدلانية (المغرب ومصر وكينيا وجنوب إفريقيا ورواندا) حيث شرع بعض هذه الدول في إنتاج لقاحات ضد كوفيد19(5).

أخيرًا، من المهم أن تستدعي المشاهد الحزينة التي خلَّفتها جائحة كوفيد19 لدى النخب الإفريقية القدرة على استخلاص دروس بنَّاءة من هذا الوباء؛ فليس من المعقول أن لا يستفيد الأفارقة من التاريخ لتقويم حاضرهم وبناء مستقبلهم. فلعل بعض الأزمات تكون الأقدر على إيقاظ الضمائر والهمم بدلًا من البقاء مجرد مستهلكين لمنتجات غربية يمكن منعها عنهم وقت الحاجة، كما حدث مع المعدات الطبية (الأقنعة) الخاصة بالجائحة في بداية ظهورها، وهكذا يجب أن يشكِّل الوباء فرصة لإعادة التوازن بين الرهانات في العلاقات الدولية وظهور قادة سياسيين قادرين على مواجهة التحديات ولديهم الاهتمام بالاستثمار في الناس والتعليم والبحث العلمي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) مسودة إطار عمل الاتحاد الإفريقي العلمي التكنولوجي لكشف وتحديد ومراقبة الأمراض البشرية والحيوانية والنباتية المعدية بإفريقيا (مفوضية الشؤون العلمية الفنية والبحثية لدى الاتحاد الإفريقي).

(2) منظمة الصحة العالمية: وفيات كورونا في إفريقيا تنخفض بشدة في عام، موقع مجلة adf، 22 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 10 أغسطس/آب 2022)، https://bit.ly/3cwgsaI

(3) نفس الإحالة السابقة.

(4)- Paludisme, Site de L'Organisation mondiale de la Santé (OMS), du 6 décembre 2021 (Vu le 15 Aout 2022), https://bit.ly/2rS201P

(5) يمثل الإنتاج العلمي الإفريقي أقل من 1% من الإنتاج العلمي في العالم.