المستشفيات بغزة لم تسلم من العدوان الإسرائيلي (أسوشييتد برس) |
ملخص والواقع، أن الخسائر المادية الفادحة التي أوقعتها صواريخ غزة، وقدرتها على شل الحياة في العديد من المدن والبلدات الإسرائيلية، إضافة إلى توقف عشرات شركات الطيران العالمية عن الذهاب لمطار تل أبيب، أوصلت حرب نتنياهو إلى طريق مسدود. |
مقدمة
في 13 يوليو/تموز، بعد خمسة أيام فقط على بدء الحرب الإسرائيلية الثالثة ضد قطاع غزة، خرجت صحيفة هآرتس، التي تُعرف بتوجهها الصهيوني العقلاني، بافتتاحية تدعو حكومة بنيامين نتنياهو إلى الإعلان عن أن إسرائيل حققت أهدافها وإيقاف الحرب. بصورة ضمنية، أرادت هآرتس أن تخبر نتنياهو وحكومته أن حربه أخفقت، وأن ليس ثمة مبرر لاستمرارها، لأن الاستمرار في حرب فاشلة لن يجر إلا مزيدًا من الفشل. وبالرغم من أن الحرب اندلعت على خلفية من حادثة خطف ومقتل ثلاثة مستوطنين يهود في الضفة الغربية، فلابد أن يثير مقتلهم في الضفة الغربية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية وقوات الإحتلال الإسرائيلي، والسرعة التي ذهبت بها حكومة نتنياهو للحرب أسئلة حول ما إن كانت الحرب على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية منذ شهور على الأقل.
أُعلن عن اختطاف الشبان المستوطنين الثلاثة يوم 13 يونيو/حزيران الماضي، وعُثر على جثثهم قرب مدينة حلحول، التابعة لمحافظة الخليل، في 30 يونيو/حزيران. أججت الحملة الإسرائيلية للبحث عن الشبان مشاعر الكراهية، وأدت إلى اختطاف شاب عربي من مدينة القدس على يد متطرفين يهود وحرقه حيًا. ولكن الأخطر كان توجيه حكومة نتنياهو الاتهام لحماس بالمسؤولية عن اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، بدون تقديم أدلة على هذا الاتهام. خلال أيام من الإعلان عن العثور على جثث الشبان الثلاثة، بدأ الإسرائيليون سلسلة من الغارات على قطاع غزة، ويوم الاثنين، 7 يوليو/تموز، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن إطلاق عملية عسكرية واسعة ضد القطاع. وهنا بدأ رد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى بإطلاق صواريخ على أهداف إسرائيلية متعددة ردًا على الهجمات الإسرائيلية، التي أخذت في إيقاع خسائر متزايدة في صفوف الأهالي المدنيين.
فلماذا ذهبت حكومة نتنياهو للحرب بهذه الصورة المتسرعة؟ ولماذا بدا سريعًا، أيضًا، أن الحرب ستفشل؟ وكيف أصبح فشل حكومة نتنياهو فشلاً مزدوجًا لمصر، التي ظهرت في هذه الحرب، وبصورة استثنائية، وكأنها أقرب لحكومة نتنياهو منها للأشقاء الفلسطينيين؟
قرار الحرب
عُرف رئيس الحكومة الإسرائيلية خلال حياته السياسية، بالرغم من انتمائه اليميني، بمحاولة تجنب الحروب الكبيرة. يدرك نتنياهو، المعروف بحسه السياسي البراغماتي، أن الحروب هي أعمال سياسية غير مضمونة النتائج. ولكن الواضح أن براغماتيته لم تسعفه هذه المرة، وأنه ظن أن حربًا على غزة، حتى إن لم تحقق كل أهدافها، فلن يكون لها من ثمن سياسي كبير.
هناك خمسة أسباب/أهداف رئيسية خلف حرب غزة الثالثة:
-
الأول: يتعلق بطبيعة التحالف الحكومي الذي يقوده نتنياهو، وحرصه على إظهار أن التزامه بأمن الدولة العبرية لا يقل عن التزام هؤلاء الحلفاء.
-
الثاني: يتصل بطبيعة التحالف الإقليمي الذي ربط الدولة العبرية بعدد من الدول العربية، التي تقود منذ شهور حملة واسعة ضد قوى الإسلام السياسي. في محاولته اقتلاع حماس والقوى الإسلامية المسلحة في قطاع غزة، أو إضعافها بصورة فادحة على الأقل، أراد نتنياهو أن يقوم بدوره في موسم الحرب الإقليمية الشاملة على القوة الإسلامية وتعزيز تحالفاته العربية.
-
الثالث: يتعلق بعملية السلام المتعثرة، وغضب نتنياهو من قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذهاب إلى المصالحة مع حماس وتشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية؛ فقد أصبح واضحًا خلال الأسابيع القليلة السابقة على حادثة الاختطاف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من أن يتحمل مسؤوليته في إفشال الجهود الأميركية للتوصل إلى تسوية، يعمل على إحياء تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، والربط بين اتفاق المصالحة الفلسطينية وادعاء عدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام.
-
الرابع: يعود إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية التي ترى في الحرب الدورية النهج الوحيد لتحجيم إمكانات المقاومة الفلسطينية التسليحية.
-
الخامس: يتعلق بتطور سياق الحرب، فبعد أن أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن من الصعب تحقيق أهدافه السابقة بالقوة، بات يحاول بناء تحالف عالمي-عربي لإنهاء الحرب باتفاق يتضمن نزع سلاح قطاع غزة.
مفاجآت الحرب
بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية الحرب ولكنه لم يكن يعرف متى وكيف سينهيها، وعندما فاجأته التطورات، ازداد تخبطًا. بعد أسبوعين كاملين من الحرب، مئات الغارات، ومئات آلاف الأطنان من المتفجرات، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية إيقاف إطلاق الصواريخ ولا فصم العلاقة بين قوى المقاومة والشعب في قطاع غزة. شيئًا فشيئًا، أصبح واضحًا أن الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، وأجهزة الأمن التي ادعت دومًا أنها تقرأ المجتمع الفلسطيني أفضل من قادته، لا تعرف تمامًا الأهداف التي على سلاح الجو الإسرائيلي قصفها. بعد تدمير المواقع التقليدية لأجهزة السلطة في القطاع، ومعسكرات التدريب المعروفة للعامة والخاصة، وقف سلاح الجو الإسرائيلي عاجزًا عن استهداف مواقع إطلاق الصواريخ، التي أُطلقت في أكثر من مناسبة والطائرات الإسرائيلية تحلّق في سماء القطاع. وحتى عندما لجأ الإسرائيليون إلى سياسة القصف العشوائي للأهالي والأسر والمصلّين، أظهر أهالي القطاع صلابة لا تقل عن صلابتهم في حرب 2012.
أحد أهم أسباب العمى الاستراتيجي الذي ظهر جليًا خلال الحرب، كان الجهد الكبير الذي بذلته حكومة حماس، طوال ست سنوات، في تفكيك شبكات التجسس الإسرائيلية في القطاع، التي اعتُبرت دومًا الأداة رخيصة الثمن التي وفرت للإسرائيليين اختراقًا واسعًا للمجتمع والمقاومة الفلسطينية. أما السبب الآخر فيُعزى إلى جهود الخداع التكتيكي التي نجحت قوى المقاومة في تطويرها، وقدرة هذه القوى على التعلم من حرب إلى أخرى.
في المقابل، أطلقت كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، جناحا حماس والجهاد العسكريان، وقوى المقاومة الأخرى، مئات من الصواريخ على المعسكرات والمدن الإسرائيلية. وبنجاح القسام في تطوير صواريخ بعيدة المدى، أمكنها استهداف تل أبيب وحيفا للمرة الأولى. وكانت مفاجأة الحرب الثانية تطوير القسام لطائرات صغيرة بدون طيار، لم تتمكن وسائل الدفاع الإسرائيلية من رصدها إلا بعد أن اخترقت أكثر من 30 كيلومترًا من العمق الإسرائيلي. وفي العموم، لم تستطيع شبكة الدفاع الإسرائيلية المضادة، المعروفة بالقبة الحديدة، اعتراض أكثر من عشرين بالمئة من الصواريخ التي أُطلقت من قطاع غزة، بالرغم من أن المقاومين الفلسطينيين لم يلجأوا لنهج الإطلاق الإشباعي، حيث تُطلق عشرات الصواريخ في وقت واحد.
الخسائر المادية الفادحة التي أوقعتها صواريخ غزة، وقدرتها على شل الحياة في العديد من المدن والبلدات الإسرائيلية، إضافة إلى توقف عشرات شركات الطيران العالمية عن الذهاب لمطار تل أبيب، أوصلت حرب نتنياهو إلى طريق مسدود. في نهاية الأسبوع الأول للحرب، كانت بشاعة الحرب الإسرائيلية قد أصبحت واضحة، بعد أن ازدادت خسائر المدنيين الفلسطينيين، وبدأت الطائرات الإسرائيلية في استهداف المنازل والملاجيء والمستشفيات. وكان على نتنياهو أن يوقف الحرب أو أن يغامر باجتياح بري، واسع أو محدود، بكل ما يعنيه ذلك من عواقب وما يحمله من مخاطر سياسية فادحة. الخيار الآخر، أن يستمر في حرب جوية مفتوحة لا نهاية لها، في مقابل استمرار إطلاق الصواريخ على المواقع الإسرائيلية.
الحقيقة، أن خيار الحرب المستمرة لم يكن أقل خطرًا؛ فبالإضافة إلى الخسائر المادية والبشرية الإسرائيلية المتزايدة، تفقد الحكومة الإسرائيلية ثقة الرأي العام الإسرائيلي بها، وتتصاعد الضغوط الدولية. وبعد أن ساهمت المصالحة الفلسطينية في تعزيز موقع محمود عباس وسلطته، التي سبق أن عرّاها اصطدام مباحثات السلام للمرة المئة بحائط التعنت الإسرائيلي، جاءت الحرب لتعيد التذكير بضعف دور الرئيس الفلسطيني وسلطة الحكم الذاتي. سيعمل استمرار الحرب على المزيد من تهميش السلطة، الشريك الفلسطيني الاستراتيجي للدولة العبرية وإحدى ضمانات أمنها، ويهدد باشتعال انتفاضة فلسطينية جديدة. أما على المستوى الإقليمي، فبدلاً من أن توجه الحرب ضربة قاصمة للإسلام السياسي، عززت من وضع التيار الإسلامي ومصداقيته لدى الشارع العربي، ووُجّهت أصابع الاتهام والإدانة للدول العربية المتحالفة مع نتنياهو وحكومته. إضافة إلى ذلك، فإن استمرار الحرب قد يعزز مصداقية القائلين بأن السلاح هو الحل لأزمات المنطقة السياسية، ويعمل على انتشار العنف في المشرق بأسره.
في مواجهة عدد من الخيارات، التي لا يقل أحدها سوءًا عن الآخر، ذهب نتنياهو في مساء اليوم العاشر للحرب (17 يوليو/تموز) إلى خيار التوغل البري المحدود، معلنًا أن هدفه ليس إسقاط حماس، بل التعامل مع شبكة الأنفاق، التي أصبحت مصدر قلق رئيس للجانب الإسرائيلي، سيما بعد أن استخدمتها قوى المقاومة في هجمات برية ضد القوات الإسرائيلية على الجانب الآخر من حدود قطاع غزة.
بإخفاقه في تحقيق نتائج ملموسة في أرض المعركة، أخذ رئيس الحكومة الإسرائيلية في محاولة تحقيق إنجاز أكبر في اتفاق نهاية الحرب، تمامًا كما فعل سلفه أولمرت في حرب 2006 على لبنان. وبدأ نتنياهو يروِّج لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة بأن نهاية الحرب لابد أن تكون مقدمة لنزع نهائي للسلاح في غزة مقابل مشروع ضخم لتنمية القطاع، تساهم فيه دول عربية نفطية. هذا التصور، كما يبدو، يجد تأييدًا من الدول العربية ذاتها التي شجعت على الحرب.
تعثر الدور المصري
بصورة من الصور، بدا وكأن الأسبوع الأول من الحرب كان الفرصة التي أُعطيت لنتنياهو، عربيًا وغربيًا، لتحقيق ما يستطيع تحقيقه. أدركت الأطراف ذات العلاقة على نحو ما أن ذهاب الحرب لفترة طويلة نسبيًا سيثير ردود فعل شعبية وسياسية غير مرغوب فيها. ولذا، ففي نهاية الأسبوع الأول، وبعد أن تجاهلت القاهرة دعوات التدخل الفلسطينية والعربية، فاجأت الجانب الفلسطيني بمبادرة لوقف إطلاق النار.
بيد أن القاهرة كانت أكثر توافقًا مع حكومة نتنياهو. وقد لعب توني بلير، مبعوث الرباعية في الشرق الأوسط ومستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي، دورًا في إقناع القاهرة بالتحرك، في توافق مع الإسرائيليين، لقطع الطريق على أي تحرك آخر لوقف الحرب. في الرابع عشر من يوليو/تموز 2014، كان المصريون والإسرائيليون قد توصلوا لصيغة ما سيُعرف بالمبادرة المصرية. في اليوم التالي، أخذت وسائل الإعلام في تداول بنود المبادرة، بدون أن تُعرض على حماس أو على أي من قوى المقاومة بصورة رسمية. وفي 16 يوليو/تموز، اجتمعت وزارة الحرب الإسرائيلية المصغرة وأعلنت موافقتها على المبادرة. في مساء اليوم نفسه، أعلنت حركتا حماس والجهاد رفضهما للمبادرة.
صيغت المبادرة المصرية، كما أشارت مصادر صحفية إسرائيلية (هآرتس، 16 يوليو/تموز) بعد تشاور بين مسؤولين مصريين ومستشارين مقربين من رئيس الحكومة الإسرائيلية، وعكست وجهة النظر الإسرائيلية إلى حد كبير. يرتكز منطق المبادرة المصرية إلى فكرة العودة إلى هدنة مقابل هدنة، مع منح الجانب الإسرائيلي ضمنيا حق مواصلة استهداف غير المدنيين وتقرير الزمن المناسب للتوقف عن الهجوم ضد القطاع. ولا تتضمن المبادرة سوى إشارة إلى إمكانية فتح للمعابر مع القطاع، مشروط باستقرار الوضع الأمني. وقد اتسم الموقف المصري بدرجة كبيرة من الاستعلاء، مفترضًا، بدون أدنى درجة من التشاور مع قوى المقاومة، أن هذه القوى ستقبل بالمبادرة بأية حال من الأحوال.
حمل رفض حماس والجهاد وتنظيمات المقاومة الأخرى للمبادرة المصرية إحراجا بالغا لنظام السيسي، وكشف فقدانه القدرة على التأثير في مسار الأحداث. ولم يكن ثمة شك في أن التصعيد الإسرائيلي الشرس في الأيام التالية لرفض المبادرة وجد تأييدًا من القاهرة، التي حمّل وزير خارجيتها (17 يوليو/تموز) رفض حماس التعامل مع المبادرة المصرية مسؤولية أعداد الضحايا المتزايدة بين أهالي القطاع.
كان الفشل في وقف الحرب هو السبب الرئيس خلف زيارة الشيخ تميم بين حمد آل ثاني، أمير قطر، لتركيا في 17 يوليو/تموز، والسعودية في 22 يوليو/تموز، بهدف بلورة جهد قطري-تركي-عربي مشترك لإيجاد حل مرضٍ للطرفين لإيقاف الحرب. وبالرغم من أن الموقف الإسرائيلي كان واضحًا في تأييد المبادرة المصرية، وعلاقات الدولة العبرية المتوترة بكل من تركيا وقطر، فالأرجح أن الدوحة وأنقرة راهنتا على الموقف الأميركي، من جهة، وفشل حكومة نتنياهو في تحقيق أي من أهداف الحرب المفترضة، من جهة أخرى.
وكانت اتصالات مكثفة جرت بين وزراء خارجية تركيا وقطر والولايات المتحدة خلال الأسبوع الثاني من الحرب، بالرغم من أن الولايات المتحدة تبنت في البداية موقفًا مؤيدًا للمبادرة المصرية لكن الرئيس باراك أوباما أشار، في تحول واضح، إلى أن وزير الخارجية جون كيري سيزور المنطقة للتوصل إلى اتفاق على أساس اتفاق 2012 الذي رعاه الرئيس المعزول محمد مرسي. الفرنسيون، من جهة أخرى، الذين تفردوا بين الأوروبيين باتخاذ موقف نشط، أظهروا على لسان وزير خارجيتهم، لورون فابيوس، في زيارته للقاهرة وعمان، دعمًا صريحًا للمبادرة المصرية، بعد ساعات فقط من توقيع القاهرة لعقد ضخم لشراء سفن حربية فرنسية، قيل إنه مُوّل من مصادر عربية حليفة لنظام السيسي.
هذا، في الوقت الذي قدمت حماس لكافة الأطراف المعنية ورقة باسم كافة فصائل المقاومة في القطاع، تتضمن المطالب التي ينبغي للاتفاق تحقيقها، بما في ذلك مسألة إنهاء حصار قطاع غزة، والتوقف عن استهداف المقاومين وكافة الأعمال العدائية، والإفراج عن كافة من اعتُقلوا على خلفية حادثة الاختطاف، ووضع نهاية لإجراءات الاعتقال الإداري للفلسطينيين.
في حمى الحراك الدبلوماسي، كان التساؤل الأكبر حول موقف الرئيس عباس والسلطة الفلسطينية؛ إذ لم يكن خافيًا من البداية أن موقف السلطة، باعتبارها الممثل الرسمي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، التمثيل الذي تعزز بعد المصالحة، سيكون عاملاً حرجًا في عملية التفاوض على نهاية الحرب، سواء بدعم مطالب قوى المقاومة في القطاع وتقديمها على أنها مطالب وطنية فلسطينية جامعة، أو بالمساومة على هذه المطالب أملاً بالحصول على مكاسب فئوية لفتح والسلطة. وبالرغم من التكتم الذي أحاط لقاء مشعل وعباس بالدوحة (22 يوليو/تموز)، فإن تصريحًا واضحًا من قيادة السلطة في رام الله حول مطالب القطاع وما يحاوله نتنياهو من ربط إعادة الإعمار بإخلاء قطاع غزة من السلاح، لم يصدر من رام الله بعد. لكن ورد في كلمة محمود عباس بعد أن عاد إلى الضفة الغربية في 22 (يوليو/تموز)، رفضه أن تكون أرواح الفلسطينيين محل تجاذب بين قوى إقليمية، وأشار إلى أن من حق أهل القطاع القتال للدفاع عن أنفسهم.
تحولات دبلوماسية
لم تكن الحرب، بعد أسبوعين كاملين من اندلاعها، قد توقفت، وليس من المستبعد أن تستمر لأسبوع أو أسبوعين آخرين. ولكن الحراك الدبلوماسي، العربي والدولي، للتوصل إلى اتفاق تسارع بوتيرة عالية، سيما بعد أن ازدادت خسائر الجيش الإسرائيلي، وازداد معها عدد الضحايا المدنيين من أهالي القطاع. وإن تأكد إعلان حماس عن أسر جندي إسرائيلي، وقد بدأت تصريحات من الجيش الإسرائيلي تشير إلى حدوثه،، فلابد أن اتفاق نهاية الحرب سيميل لصالح المقاومة وصالح قطاع غزة وحريته. ولعل قرار الرئيس الأميركي بإرسال وزير خارجيته للمنطقة (21 يوليو/تموز)، مكلفًا بمهمة إنهاء الحرب والعودة لتفاهمات 2012، كان أبرز مؤشر على بدء حراك دبلوماسي جاد لوقف الحرب. وليس ثمة شك في أن قرار أوباما يحمل إهانة مستبطنة لدبلوماسية حكومة السيسي؛ ففوق أن الرئيس الأميركي لم يُشر للمبادرة المصرية، فالجميع يعرف أن اتفاق 2012 كان واحدًا من إنجازات الرئيس محمد مرسي. وفي حين أصبح هناك تعديل ما على المبادرة المصرية محور الحراك الدبلوماسي، فليس من الواضح كيف سيتم تمرير أو تجاهل مطلب نزع سلاح القطاع، الذي يبدو أن حكومة نتنياهو تحاول حشد تأييد أوروبي-أميركي له.
ولعل مساعي كيري في المنطقة، ودخول دول أخرى ليست موافقة على المبادرة المصرية، وتأكيد خالد مشعل، رئيس المكتب التنفيذي لحماس، بأنه لن يقبل إلا بتهدئة مع رفع الحصار، والتنسيق الجاري بين السعودية الراعية للنظام المصري، وقطر التي سلمتها المقاومة شروطها للتهدئة، تعد كلها تحركات تصب في بحث مبادرة جديدة تجمع بين وقف إطلاق النار ورفع الحصار.
أفق جديد
عندما تنتهي هذه الحرب ستكون أشياء كثيرة قد تغيرت، سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي. قد لا تحقق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة كافة مطالب أهالي القطاع، أولاً: لحجم الانقسام العربي حول الحرب؛ وثانيًا: لأن من الصعب على القيادة الإسرائيلية أن تصبح فجأة وفية للاتفاقيات التي توقّعها. المؤكد، أن قدرًا ملموسًا من هذه المطالب سيتحقق. وسيتحقق هذا القدر من المطالب بصورة أساسية لأن الخيار الإسرائيلي العسكري للتعامل مع قطاع غزة فشل للمرة الثالثة. بذلك، ستشهد الساحة الفلسطينية إعادة بناء لموازين القوى بين حماس وسلطة عباس، سيما بعد أن تصورت رام الله أن اتفاق المصالحة جاء نتيجة لتراجع وضع التيار الإسلامي في مصر والمجال العربي. وسيكون من المهم أن تصر حماس على عقد الانتخابات التشريعية في الضفة والقطاع في موعدها الذي أقره اتفاق المصالحة.
في الساحة العربية، يُعتبر صمود القطاع في هذه الحرب أول مؤشر ملموس على تراجع معسكر الثورة العربية المضادة، بعد التقدم الذي حققه الأخير في انقلاب مصر ومحاولة تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا وتونس واليمن. مصر، التي وصل نفوذها الإقليمي أصلاً إلى أدنى حالاته، دفعت ثمنًا باهظًا في هذه الحرب من نفوذها، بعد أن اختارت أن تتخذ موقفًا أقرب إلى الجانب الإسرائيلي. وقد شهد المصريون خلال هذه الحرب، يومًا بعد يوم، كيف أن نظام السيسي لم يخفق في التزام موقف شبيه بموقف مرسي في 2012 وحسب، بل وخسر أي تأثير سياسي تبقى لمصر في الساحة الفلسطينية.
في النهاية، لابد أن يفتح صمود قطاع غزة، بمساحته الصغيرة وحصاره، في مواجهة ثلاث حروب إسرائيلية، الباب للتفكير من جديد في مجمل الصراع على فلسطين، وفي كل مقولة حلّ الدولتين، التي تعقد عليها أطراف عربية وفلسطينية ودولية أملها في التوصل لحل للصراع.