اتجاهات الحرب الدولية على تنظيم الدولة الإسلامية

تعاني إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية من عدة فجوات، قد تتسع إذا طالت الحرب، وأوقعت الضربات الجوية الأمريكية عددا متزايد من الضحايا المدنيين، وتأججت عمليات الاقتتال بين فصائل المعارضة السورية المسلحة.
2014929101227674734_20.jpg
شركاء في الحرب بقدرات متباينة (رويترز)

ملخص
تكاتفت عدة عوامل للدفع بالإدارة الأمريكية إلى الشروع في شن علميات عسكرية على تنظيم الدولة الإسلامية،  لعل أهمها: الخطر الداهم على أربيل وبغداد، والوضع الإنساني المتفاقم، والدور الذي أخذت إيران في لعبه لتعزيز وضع حكومتي بغداد وأربيل العسكري، والضغط على إدارة أوباما من مجتمع واشنطن السياسي. وقد عزز خيار الرد العسكري لجوء تنظيم الدولة الإسلامية للرد على التدخل الأميركي الأولي بقطع رؤوس رهائن أميركيين.

بيد أن أكثر الشكوك السياسية يتعلق بمجمل هدف الحرب، وانعكاساتها على الرأي العام الإسلامي في سوريا والعراق ودول الجوار، بما في ذلك السعودية. فمن ناحية، يصعب تعهد عملية قصف جوي واسعة النطاق، مثل تلك التي تشهدها سوريا والعراق اليوم، بدون أن تُرتَكب أخطاء مميتة بحق المدنيين، أو حتى عسكريين أصدقاء، ومن جهة أخرى فتتعلق بحقيقة بنك الأهداف، وهل هي ضد تنظيم الدولة وحسب، أم أنها تشمل أيضًا تنظيمات تراها واشنطن راديكالية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام. كما أن عدم وضوح أهداف الحرب فيما يتعلق بالموقف من النظام السوري، يجعل هذه المشاركة أكثر صعوبة، بالرغم من وعود التدريب ومساعدة ما يصفه الأميركيون بمعتدلي الجيش الحر.

مقدمة

عقد الرئيس أوباما، طبقًا للنيويورك تايمز (النسخة الدولية، 21 سبتمبر/أيلول 2014 )، عددًا من اللقاءات مع شخصيات من خارج إدارته، لبحث خطوات إدارته تجاه التوسع الكبير والمفاجئ لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. كان آخر هذه اللقاءات في 10 سبتمبر/ أيلول، قبل ساعات فقط من إعلانه الحرب على التنظيم. قال أوباما لزواره من كتّاب الأعمدة في الصحف الأميركية الرئيسية، إنه أخبر أعضاء إدارته بأن عليهم تجاهل الضغوط الخارجية التي ولَّدتها حادثتا الإعدام البشع للصحفيين الأميركيين على يد تنظيم الدولة الإسلامية. ما أراده أوباما، الذي كان يستشعر الضغوط الهائلة على إدارته في واشنطن، أن يكون رده على التطورات في العراق وسوريا هادئًا، مفَكَّرًا فيه بعناية، وأن يتجنب التورط الذي وقعت فيه إدارة بوش الابن في سياسة "الحرب على الإرهاب"، التي انتهت بفشل ذريع في العراق وأفغانستان.

قبل اللقاء مع الكتَّاب الصحفيين بيومين، دعا أوباما عشر شخصيات من خبراء السياسة الخارجية ورجال الحكم السابقين لعشاء طويل، التحق به أيضًا نائب الرئيس جوزيف بايدن، ووزير الخارجية جون كيري، وسكرتيرة مجلس الأمن القومي سوزان رايس. اعترف أوباما في هذا اللقاء بالانتقادات التي وجهتها له وزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون، وآخرون من كبار السياسيين الأميركيين، لإحجامه عن تقديم العون المبكر للثورة السورية، ولكنه أبدى شكوكًا حول ما إن كان مثل هذا العون سيوقف صعود تنظيم الدولة الإسلامية. وفي رده على من يتهمونه بالتردد، أشار أوباما إلى قرار الرئيس الأسبق رونالد ريغان المتسرع بإرسال قوات أميركية للبنان في 1982، ومن ثم سحبهم بصورة مهينة بعد تعرضهم لهجوم انتحاري من أنصار إيران وسوريا.

ما يتركه تقرير نيويورك تايمز التفصيلي من انطباع حول الطريقة التي طوَّر بها أوباما استراتيجيته، أن الرئيس الأميركي لم يكن يرغب بالفعل في التدخل المباشر في العراق وسوريا؛ وأنه بدا مضطرًا لاتخاذ قرار التدخل بعد أن أدرك حجم المخاطر التي يمثلها التوسع الهائل لتنظيم الدلة الإسلامية؛ وأن الاستراتيجية التي سيتبعها تختلف كلية عن تلك التي اتبعتها إدارة بوش الابن بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001.

فلماذا، إذن، قرَّر أوباما الذهاب لحرب جديدة في الشرق الأوسط؟ وما هي استراتيجيته؟ وأية مخاطر تحملها هذه الاستراتيجية؟

من الانسحاب من الشرق الأوسط إلى الحرب

بدأت التطورات التي صنعت مناخ التدخل الأجنبي يوم العاشر من يونيو/حزيران 2014، عندما تعرض الجيش العراقي في محافظتي نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت) لحالة انهيار مفاجئ، سمحت بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ومجموعات متحالفة معها على مدينتي الموصل وتكريت. ولأن فرقًا عسكرية عراقية فرَّت بأكملها من معسكراتها ومواقعها، لم ينجح تنظيم الدولة الإسلامية في توسيع نطاق سيطرتها بصورة كبيرة وحسب، ولكنها أيضًا حصلت على سلاح ومعدات عسكرية ثقيلة بكميات هائلة. في البداية، كان التقدير أن جنود الطريقة النقشبندية، الموالين لنائب الرئيس العراقي السابق، عزة الدوري، وثوارًا عشائريين سنّة، وضباطًا من الجيش العراقي السابق، ومجموعات من تنظيمات المقاومة العراقية، لعبت دورًا رئيسًا في الهجوم على الموصل وتكريت، وأنها ستكون شريكة في السيطرة على المدينتين. في الأيام القليلة التالية، اتضح أن تنظيم الدولة الإسلامية، على أية حال، كانت القوة المنظمة الرئيسة، وأنها في طريقها للتفرد بإدارة المدينتين، وأن أعدادًا متزايدة من أبناء العشائر تلتحق بقوات التنظيم الذي يعتبر أكثر تطرفًا من القاعدة ذاتها.

وسرعان ما بسطت المجموعات المسلحة بقيادة تنظيم الدولة الإسلامية سيطرتها على بلدات أخرى في محافظتي صلاح الدين والتأميم (كركوك)، وبدأت محاولة السيطرة على القطاع الشمالي من محافظة ديالى والمدخل الشمالي للعاصمة بغداد، إضافة إلى سيطرتها على مساحات متسعة من محافظة الأنبار. وقد أدى الفراغ العسكري والأمني إلى انتشار لقوات البشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان خلف حدود الإقليم، سواء في مدينة كركوك المتنازع عليها، أو في مناطق من محافظتي نينوى وديالى؛ وهذا ما دفع تنظيم الدولة الإسلامية في النهاية إلى الاشتباك مع البشمركة. ولعدة أيام، ونظرًا للتراجع السريع لقوات البشمركة، بدا أن أربيل، عاصمة الإقليم الكردي، باتت مهددة.

مع نهاية يوليو/تموز، وبعد أن أعلن تنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام تحوله إلى الدولة الإسلامية، وأعلن زعيمه أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، ونظرًا للنهج الذي اختطه في التعامل بالقوة مع السكان المسيحيين واليزيديين والشيعة والأكراد في المناطق التي سيطر عليها، أخذ شمال العراق يشهد موجة هجرة ولجوء واسعة النطاق. ليس من السهل التحقق مما أُشيع حول اختطاف تنظيم الدولة الإسلامية لنساء يزيديات، ولكن سجل التنظيم الصادم في التعامل مع مخالفيه كان كافيًا لأن يأخذ العالم روايات الخطف والانتهاك مأخذ الجد. وقد صنع هذا المناخ، ومن ثم الحصار الذي فرضته قوات تنظيم الدولة الإسلامية لجبل سنجار، إضافة إلى التهديد الاستراتيجي الذي مثَّله توسع تنظيم الدولة في إقليم الكردي وبغداد، الدافع الأول لبدء قصف أميركي غير منتظم لمواقع تنظيم الدولة، سيما في جبل سنجار وعلى حدود إقليم كردستان.

لم تعلن إدارة أوباما الحرب على تنظيم الدولة، ولم يكن واضحًا في نهاية الأسبوع الأول من أغسطس/آب، عندما قامت الطائرات الأميركية بأول طلعاتها في شمال العراق، ما إن كان أوباما على استعداد لالتزام عسكري طويل المدى بالدفاع عن حكومتي بغداد وأربيل. ما بدا واضحًا، أن الخطر الداهم على أربيل وبغداد، والوضع الإنساني المتفاقم، والدور الذي أخذت إيران في لعبه لتعزيز وضع حكومتي بغداد وأربيل العسكري، والضغط على إدارة أوباما من مجتمع واشنطن السياسي، كانت الدوافع الرئيسة للتدخل الأميركي المحدود. ولكن تنظيم الدولة الإسلامية لم يلجأ لتطمين الأطراف المتعددة حول نفوذه المتسع، ولجأ بدلاً من ذلك للرد على التدخل الأميركي الأولي بقطع رؤوس رهائن أميركيين. وهنا، وجد أوباما نفسه أمام ضغوط مضاعفة للتقدم باستراتيجية مقنعة للتعامل مع تنظيم الدولة؛ وهو الأمر الذي أدى لبيان الرئيس الأميركي في 10 سبتمبر/أيلول، الذي تضمَّن ما يشبه إعلان حرب على تنظيم الدولة في العراق وسوريا على السواء.

استراتيجية أوباما: الانتصار عن بعد

ترتكز استراتيجية إدارة الرئيس باراك أوباما للتدخل في مواجهة داعش إلى عدد من المحاور:

  1. استخدام الحاجة العراقية الملحة للدعم الأميركي للضغط من أجل تغيير توازنات الحكم في بغداد، وقد نجحت الضغوط الأميركية بالفعل في الإطاحة برئيس الحكومة السابق نوري المالكي، وبناء توافق واسع حول بديله حيدر العبادي، على أساس من تفاهمات بين العبادي والكتلة العربية السُّنِّية، وتفاهمات أخرى مع الكتلة الكردية. والواضح أن هدف واشنطن الرئيس كان منع الأكراد من الذهاب إلى استفتاء لتقرير المصير، وإقناع العرب السنة بأنهم باتوا جزءًا من مؤسسة الحكم والسلطة في العراق. ويعتقد الأميركيون أن بالإمكان في النهاية دفع حكومة بغداد نحو تشكيل قوات حرس وطني محلية في المحافظات ذات الأغلبية السنية، تأتمر بأمر الإدارات المحلية، بهدف حماية هذه المحافظات والمشاركة في الحرب ضد تنظيم الدولة. ولكن التفاهمات بين بغداد والأكراد ظلت ناقصة، سيما بخصوص المناطق المتنازع عليها؛ ولا يبدو حتى الآن، وبالرغم من عدد من الإجراءات المتواضعة، أن ثقة السنة العرب في حكومة العبادي تنمو بصورة كافية. ولابد من الانتظار قليلاً لرؤية ما إن كان لدى العبادي قوة وشرعية تؤهله لاتخاذ خطوات تستجيب لمظالم ومطالب السنة العرب، أو إن كان لديه أصلاً النية للقيام بذلك.
  2. تشكيل تحالف واسع النطاق من الدول الغربية وغير الغربية، سيما الدول العربية التي تُسمَّى أحيانًا بالدول السنية، مثل السعودية ودول الخليج الأخرى، وتركيا. لإقامة مثل هذا التحالف، دعت السعودية لاجتماع دولي في جدة في 11 سبتمبر/أيلول، ونظَّمت فرنسا اجتماعًا شبيهًا في باريس في 14 سبتمبر/أيلول. وبالرغم من أن هذه الجهود انتهت إلى تقدم عدد ملموس من الدول بالمشاركة في الحرب ضد تنظيم الدولة، وإنْ بوسائل مختلفة بين دولة وأخرى، لكن يُستَشفّ من الاجتماعين، أن السعودية، التي تعوِّل واشنطن كثيرًا على دورها ومساهمتها، اشترطت لمشاركتها استبعاد إيران. وهذا ما جعل المسؤولين الإيرانيين، بمن في ذلك المرشد الأعلى علي خامنئي ووزير الخارجية جواد ظريف، ينددون بالاجتماعين وبالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة وحقيقة أهدافه. ولكن هذا لا يعني أن واشنطن وحلفاءها الغربيين لا يريدون مشاركة إيران.
  3. ما يستهدفه هذا التحالف ليس حربًا بالمعنى الذي خاض به بوش الأب وبوش الابن حربي الخليج الأولى والثانية؛ فما عدا إيفاد خبراء عسكريين أميركيين لبغداد وأربيل للمساعدة في إعادة بناء الجيش العراق وقوات البشمركة، وربما أيضًا المشاركة في التوجيه العملياتي، استبعد الرئيس الأميركي إرسال قوات أميركية إلى أرض المعركة خلال ما تبقى من ولايته. ما خططت له إدارة أوباما هو حملة قصف جوي، قد تستمر شهورًا أو سنوات، بمشاركة ظاهرة من الدول العربية الخليجية، ومن لديه استعداد للمشاركة في الجهد العسكري من الدول الغربية، بهدف استنزاف تنظيم الدولة، وتدمير مراكز التحكم والقيادة لديها، ونقاط تمركز معداتها وقواتها، وتدمير مصادرها المالية، مثل آبار النفط ومصافيه؛ إضافة لتوفير المساندة الجوية للقوات الكردية والعراقية في عملياتها ضد قوات تنظيم الدولة، وفي جهدها لاسترداد المناطق الي سيطرت عليها. وبينما يرى عدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة أن طلب الحكومة العراقية للمساعدة الدولية يوفر أرضية قانونية للتدخل في العراق، وليس في سوريا، فإن واشنطن تنظر إلى أن عمليات القصف لمواقع تنظيم الدولة في سوريا قانونية أيضًا، نظرًا لضعف الحكومة السورية البالغ وفقدانها السيادة على قطاعات واسعة من بلادها، والتهديد الذي يمثله وجود تنظيم الدولة في سوريا للعراق.
  4. عداد معسكرات في جوار سوريا لتدريب وإعداد عدة آلاف من الثوار السوريين، للمساهمة في الحرب ضد تنظيم الدولة داخل الأراضي السورية؛ إلى جانب تقديم مساعدات عسكرية إضافية لمجموعات الثوار السوريين التي توصف بالاعتدال، والتي تواجه تنظيم الدولة بالفعل.
  5. في موازاة الجهد العسكري الجوي وجهود إعادة بناء وتأهيل القوات العراقية وقوات البشمركة، يفترض أن تبذل دول العالم الراغبة جهدًا كافيًا لمنع ذهاب المزيد من المتطوعين لمساندة تنظيم الدولة، وقطع حركة الأموال عنها، والمساهمة في الحرب الإعلامية والفكرية ضدها.
  6. وتعتقد إدارة أوباما أن تضافر هذه الجهود معًا يمكن أن ينتج عنه في النهاية إضعاف ملموس لتنظيم الدولة وتقويض لمقدراته العسكرية والمالية؛ مما سيوقف اندفاعه في سوريا والعراق، ويسمح للقوات العراقية والكردية، ومجموعات الثوار السوريين المعارضين لها، باسترداد المناطق التي تسيطر عليها.

معضلات استراتيجية

يكتنف الاستراتيجية الأميركية الكثير من الشكوك، سواء في بعدها السياسي أو العسكري:

على المستوى السياسي، تتحدث إدارة أوباما عن أن التحالف ضد تنظيم الدولة يضم أكثر من مائة دولة حتى الآن، ولكن اعتبارات السياسة والجغرافية معًا تستدعي دورًا تركيًا مهمًا في هذا التحالف. لتبلور هذا الدور، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (26 سبتمبر/أيلول) أن بلاده تريد توافق دول التحالف على إقامة منطقة عازلة في سوريا، ومنع الطيران السوري من التحليق، وتدريب وتسليح الجيش الحر. تتعلق هذه المطالب بقناعة أنقرة بأن أصل المشكلة هو سوريا وليس العراق، وأن تركيا لا تستطيع منفردة تحمل أعباء مليون ونصف المليون لاجيء من السوريين والأكراد واليزيديين.

وبالرغم من أن الدول الغربية الرئيسة استجابت لرغبة السعودية بعدم دعوة إيران لاجتماعي جدة وباريس، إلا أن الولايات المتحدة، وأغلب الدول الأوروبية، ترغب في مشاركة إيرانية ما في الحرب ضد تنظيم الدولة. يصطدم مثل هذا الدور بموقف إيران الداعم للنظام السوري، الذي يتناقض مع دعوة تركيا والسعودية لتطوير الحرب نحو الإطاحة بالنظام السوري، كما يصطدم بإخفاق جولة التفاوض الأخيرة حول الملف النووي الإيراني في الوصول إلى اتفاق بين إيران ومجموعة خمسة+واحد. بل إن وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، صرَّح في نهاية هذه الجولة (26 سبتمبر/أيلول) بأن المباحثات لم تحرز أي تقدم يُذكر.

أما المشكلة السياسية الأخرى، فتتعلق بحقيقة أهداف الحرب، وهل هي ضد تنظيم الدولة وحسب، أم أنها تشمل أيضًا تنظيمات تراها واشنطن راديكالية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام. وقد يجعل بروز شواهد في أسابيع القصف الأولى على اتساع نطاق التنظيمات السورية المستهدفة، مثل قصف تنظيم أسماه الأميركيون: "جماعة خراسان"، وهو في الحقيقة موقع يتبع جبهة النصرة في ريف حلب، من الصعب على كتائب الثوار السوريين القبول بالمشاركة في الحرب ضد تنظيم الدولة. كما أن عدم وضوح أهداف الحرب فيما يتعلق بالموقف من النظام السوري، يجعل هذه المشاركة أكثر صعوبة، بالرغم من وعود التدريب ومساعدة ما يصفه الأميركيون بمعتدلي الجيش الحر.

ولا يقل الوضع السياسي العراقي تعقيدًا؛ فالإنجاز الذي تحقق باستبعاد المالكي وتشكيل حكومة تحالف وطني قد لا يتقدم كثيرًا أبعد من ذلك، سيما في ظل المصالح المتضاربة لأطراف الحكم. وإذ يعترف الجميع بضرورة تشجيع تحرك عربي-سني ضد تنظيم الدولة، فليس ثمة بوادر على أن سكان الأنبار والموصل وتكريت قد تخلوا بالفعل عن تنظيم الدولة. ليس ثمة شك في أن القبول بوجود تنظيم الدولة في هذه المناطق يعكس كرهًا وفقدان ثقة بقوات الحكومة المركزية، أكثر منه ولاءً لتنظيم الدولة أو قبولاً بحكمه. والمؤكد أن الهوة بين سكان محافظات الأغلبية السنية وحكومة بغداد، المسيطر عليها من القوى الشيعية، لم تزل واسعة؛ كما أن انتهاكات الميليشيات الشيعية الطائفية، المستمرة بلا هوادة، ضد السكان السنة، لا تساعد كثيرًا في بناء هذ الثقة.

بيد أن أكثر الشكوك السياسية يتعلق بمجمل هدف الحرب، وانعكاساتها على الرأي العام الإسلامي في سوريا والعراق ودول الجوار، بما في ذلك السعودية. فمن ناحية، يصعب تعهد عملية قصف جوي واسعة النطاق، مثل تلك التي تشهدها سوريا والعراق اليوم، بدون أن تُرتَكب أخطاء مميتة بحق المدنيين، أو حتى عسكريين أصدقاء؛ وهذا ما وقع بالفعل في ريفي إدلب وحلب، عندما أودت غارات طائرات التحالف بحياة عشرات المدنيين، وما حدث جنوب تكريت، عندما قتلت غارات أخرى العشرات من الجنود العراقيين. خلال أسابيع، قد تتصاعد مظاهرات السوريين ضد الحرب، التي انطلقت في عدة مدن يوم 26 سبتمبر/أيلول، لتشمل قطاعات واسعة من العرب المسلمين، الذين سيأخذون بالتساؤل حول حقيقة أهداف هذه الحرب، سيما وهم يرون صمتًا عربيًا وغربيًا يصم الآذان عن أفعال الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق واليمن ولبنان. وبالرغم من أن إدارة أوباما حرصت على مشاركة طائرات دول عربية وإسلامية-سنية في الحرب، مثل السعودية والإمارات، لتفنيد الاتهامات بأنها تشنّ حربًا جديدة على الإسلام والمسلمين، فقد تنتهي هذه السياسة بضرر كبير على الدول المشاركة نفسها.

أخيرًا، فسواء استطاعت تركيا والسعودية إقناع واشنطن ببذل جهود أكثر جدية لمساعدة الثورة السورية ضد النظام، أم لا، فإن قانونية قصف طائرات التحالف لأهداف في سوريا لن تظل بلا جدل في المحافل الدولية. وستبرز هذه المسألة بلا شك إن شعرت دول مثل روسيا بأن الحرب ضد تنظيم الدولة توشك أن تطول النظام السوري، أو أنها تساهم بصورة غير مباشرة في إضعافه.

عسكريًا، يكرر الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون أن الحرب الجوية وحدها لن تؤدي إلى هزيمة تنظيم الدولة واستئصالها، وأن الحرب، على أية حال، قد تستمر سنوات. ولكن حربًا لسنوات في منطقة بالغة القلق وفقدان اليقين ليست مضمونة النتائج. ثمة تضخيم واضح لقوة تنظيم الدولة من قبل السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام الغربية، يبدو أنه صُمِّم كجزء من الحرب نفسها ومن عملية حشد الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا. والواضح، أن الرئيس الأميركي لا يرغب في تورط قوات بلاده على الأرض، ولكن تحقيق نتائج ملموسة في الحرب قبل أن تنتهي ولايته يتطلب مشاركة قوات غربية أو غير غربية في الحرب. وحتى بمعزل عن المبالغات الغربية في تقدير قوة تنظيم الدولة ومقدراته، لا يبدو، بعد أسابيع من القصف، أن نفوذ تنظيم الدولة في العراق قد تراجع إلا بصورة محدودة، بينما تحرز قوات التنظيم تقدمًا مستمرًا في شمالي شرق سوريا. وليس ثمة دليل على أن قوات البشمركة وقوات حكومة بغداد قادرة في المدى المنظور على استعادة مدن مثل تكريت والموصل بدون وجود دعم عسكري أرضي، أما دحر تنظيم الدولة في سوريا عن مدن مثل الرقة ودير الزور فيبدو أكثر صعوبة.

بكلمة أخرى، ستجد واشنطن وحلفاؤها، آجلاً أو عاجلاً، أن لا مناص من التورط في القتال على الأرض وتعهد دور عسكري بري؛ وعندها، لابد من إجراء حسابات جديدة للشكوك والمخاطر السياسية والعسكرية التي تحف بهذه الحرب.

حسابات المستقبل

جاء أوباما إلى الحكم محمولاً على وعود وضع نهاية لحروب أميركا في المشرق، والانسحاب من العراق وأفغانستان؛ وحاول طوال السنوات الست الماضية من ولايته الابتعاد عن التورط في أزمات دول المشرق المتعددة والمتلاحقة. الآن، يجد الرئيس الأميركي أن ليس بإمكان إدارته الاستمرار في سياسة تجنب هذه الأزمات، بينما تسكنه هواجس مغامرة بوش الابن باهظة التكاليف في العراق وأفغانستان. أراد أوباما أن تأخذ إدارته وقتًا كافيًا لإعداد استراتيجية تقضي على تنظيم الدولة، ولكن الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس، والتي يجري تطبيقها الآن، تبدو مليئة بالفجوات، وتحيط بها علامات استفهام لا حد لها.

لا أحد في واشنطن يعرف متى ستنتهي هذه الحرب، وما هي معايير الحكم عليها بالنجاح أو الفشل، وأي مدى يمكن أن تذهب إليه. ولا أحد يعرف ماذا سيؤول إليه مصير العراق وسوريا، أرض العمليات الرئيسية، بعد الحرب، أو كيف ستتم الاستجابة لمطالب وهموم الأطراف المختلفة في كلا البلدين وفي الإقليم. وبالرغم من أن إدارة أوباما تعتقد أنها نجحت، بانخراط عدد من الدول العربية "السنية" في التحالف، في توفير غطاء إسلامي سني للحرب، فليس من الواضح إن كانت هذه الدول قد أقنعت شعوبها بأن تنظيم الدولة يمثل خطرًا ملموسًا عليها، يستدعي المشاركة في الحرب، أو بطبيعة الدور الذي ستتعهده هذه الدول في حال انتقال التحالف إلى الحرب البرية.

في نهاية الأمر، يعبِّر صعود تنظيم الدولة وتوسعها، في أحد أهم وجوهه، عن تدهور فادح في مقدرات الدولة الوطنية المشرقية ووصول النظام الإقليمي المشرقي إلى نهاية الطريق، بعد مرور زهاء المائة عام على تشكله على أيدي القوى الإمبريالية الغربية. فكيف يمكن أن تسيطر قوة عابرة للحدود، على مناطق واسعة في دولتين اعتُبرتا دائمًا قاعدتي النظام الإقليمي، تعانيان من حرب أهلية متفاوتة الحدة منذ سنوات، بدون أن يعاد التفكير في النظام الإقليمي كله؟