الجيش السوداني والدعم السريع: سياق الاقتتال واتجاهاته

يخوض الجيش السوداني والدعم السريع قتالًا بمختلف أنواع الأسلحة في عدة مدن، منها العاصمة، الخرطوم. وقد أدى إلى ذلك الاختلاف بينهما على دمج قوات الدعم السريع في الجيش. وتؤشر قدرات الطرفين الكبيرة إلى أن احتمالات حسم هذا النزاع سريعًا ضئيلة.
سلاح الجو يعطي أفضلية للجيش السوداني على قوات الدعم السريع (رويترز- أرشيف).

اندلعت، في 15 أبريل/نيسان، مواجهات مسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة، الخرطوم، ومناطق أخرى، واستعمل الطرفان الأسلحة الثقيلة، وتوعد الجيش بمواصلة القتال حتى حل قوات الدعم السريع، وتوعدت قوات الدعم السريع بمواصلة القتال حتى السيطرة الكاملة على الجيش.

كانت قيادة الطرفين تدعمان بعضهما إلى أن اختلفتا على توقيع الاتفاق الإطاري النهائي مع المجلس المركزي من قوى الحرية والتغيير، وهو الاتفاق الذي توصلتا له مبدئيًّا، في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، برعاية دولية تمثلها الرباعية  التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات والسعودية، والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيغاد. يؤيد قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، التوقيع على الاتفاق النهائي، بينما يؤجل قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، التوقيع إلى أن يقع الاتفاق على دمج قوات الدعم السريع في بنية الجيش.

ما التغييرات التي يُدخلها الاتفاق الإطاري على موازين القوى بين الطرفين؟ وما التحولات التي أوصلت إلى ذلك؟ وما السيناريوهات المتوقعة لهذه المواجهة العسكرية؟

مصيدة الاتفاق الإطاري

ينص الاتفاق الإطاري على أن تخضع القوات المسلحة السودانية لرئيس الدولة المدني خلال المرحلة الانتقالية، ويرأس رئيس الوزراء مجلس الأمن والدفاع، الذي تشارك فيه الهيئات المعنية، ولا يتولى وزارة الدفاع شخصية عسكرية. يتضح أن قائد الجيش البرهان يفقد السلطة التي كان يتمتع بها لما كان رئيسًا لمجلس السيادة ولم يعد حاكمًا على قائد قوات الدعم السريع الذي كان نائبًا له، بل بات الاثنان على قدم المساواة. ليست هذه المساواة بين القيادتين فقط بل أيضًا بين الجيش والدعم السريع، فلم يعد الدعم السريع مهما كانت قيادته تحت سلطة قائد الجيش مهما كان. علاوة على أن الاتفاق الإطاري يمنع الجيش من ممارسة الأنشطة التجارية، ويستثني فقط الأنشطة المتعلقة بالصناعات الدفاعية. في المقابل، لا يتطرق الاتفاق الإطاري إلى الفترات الزمنية التي تُدمج خلالها قوات الدعم السريع في الجيش، ولا يشترط منع أنشطتها في استخراج الذهب والمتاجرة به.

قدَّرت قيادة الجيش أن الاتفاق الإطاري يُفقدها السيطرة على الجناح المدني الذي سيتحكم في الأجهزة البيروقراطية للدولة، وعلى قوات الدعم السريع، وإذا كانت السيطرة على الجناح المدني الذي يمثله المجلس المركزي من قوى الحرية والتغيير ليس صعبًا، كما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2021، لمَّا أزاح البرهان حكومة حمدوك من السلطة، إلا أن فقدان السيطرة على قوات الدعم السريع يمثِّل تهديدًا حقيقيًّا لمكانة الجيش لأنه لم يعد بمفرده وإنما بات في مواجهته جيش آخر هو قوات الدعم السريع. ويزداد هذ الخطر مع تساند المجلس المركزي وقوات الدعم السريع؛ لأن كليهما يجد مصلحته في دعم الآخر، فالدعم السريع يستعمل المجلس المركزي لكسب الوقت وتأخير الدمج في الجيش، أما المجلس المركزي فيستعين بقوات الدعم السريع لتخفيف تحكم قيادة الجيش في العملية السياسية.

وقد برزت عدة مؤشرات على هذا الدعم المتبادل بين المجلس المركزي وقوات الدعم السريع، فلقد اعتذر حميدتي عن المشاركة في انقلاب 2021 على حكومة حمدوك، في المقابل أشاد المجلس المركزي بتصريح حميدتي عن تسليم الحكم للمدنيين.

علاوة على توظيف حميدتي للاتفاق السياسي الإطاري في نزاعه مع الجيش السوداني، يوظف أيضًا دعمه للاتفاق الإطاري لكسب شرعية دولية؛ بإظهار نفسه داعمًا للتحول الديمقراطي في السودان، بخلاف قيادة الجيش التي تؤجل تسليم السلطة الانتقالية للمدنيين. هذه الشرعية الدولية قد تحمي قيادة قوات الدعم السريع من الملاحقات القانونية بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية بدارفور، وباغتيال نحو 130 متظاهرًا سلميًّا، في يونيو/حزيران 2019. وفي نفس الوقت قد تتيح لحميدتي إمكانية الترشح لرئاسة السودان في المواعيد الانتخابية القادمة.

جيش أم جيشان؟

لم يكن الخلاف حول الاتفاق الإطاري بين البرهان وحميدتي إلا تعبيرًا عن التغير في موازين القوى بين الجيش وقوات الدعم السريع. سعى كل منهما إلى تعزيز حظوظه في تحقيق أكبر المكاسب من مرحلة التحول السياسي التي تشهدها البلاد.

رفع حميدتي من عدد قوات الدعم السريع فباتت نحو 100 ألف مقاتل حسب بعض التقديرات، وجهزها بأسلحة خفيفة ومدفعية ومركبات مدرعة. وتمكن أيضًا من استغلال بعض مناجم الذهب وتصدير كميات بلغت مثلًا بين 2010-2014 نحو 4.6 مليارات دولار لدولة في الشرق الأوسط، حسب تقرير خبراء الأمم المتحدة. ونسج شبكة علاقات إقليمية دولية، فشارك في الحرب باليمن لمساندة السعودية والإمارات، ورحب بإنشاء قاعدة بحرية روسية بالسودان، وكان قد زار موسكو والتقى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في فبراير/شباط 2022، واتفقا على ترقية التعاون بينهما في مجال الطاقة والمعادن والزراعة، وذكر تقرير لخبراء الأمم المتحدة أن قوات الدعم السريع تتعاون مع مجموعة فاغنر في دارفور. وفي شهر فبراير/شباط 2023، التقى لافروف بحميدتي في الخرطوم. وقد نقلت السي إن إن أن مسؤولين سودانيين وأميركيين أخبروها عن انخراط حميدتي في نقل كميات كبيرة من الذهب من السودان إلى روسيا لدعم بوتين في تمويل الحرب في أوكرانيا. وفي بداية 2022، زار حميدتي إثيوبيا والتقى رئيس الوزراء، آبي أحمد، رغم أن العلاقات متوترة بين البلدين بشأن الحدود وسد النهضة.

في المقابل، سعى رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، لتوسيع القاعدة الداعمة له داخليًّا؛ بالدعوة إلى توسيع المشاركة السياسية لبقية القوى التي لا توجد في المجلس المركزي، وهي الكتلة الديمقراطية، وقد رعى هذا التقارب وإن كان لم يكلَّل بالنجاح؛ لأن المجلس المركزي يعارضه. وخارجيًّا، سعت قيادة الجيش من خلال القبول بتسليم الحكم لقوى مدنية برعاية دولية إلى الحصول على شرعية دولية ومساعدة مالية واقتصادية تخفف من أسباب التذمر التي جعلت السودانيين يريدون تغيير الأوضاع القائمة. وانخرطت قيادة الجيش كذلك في اتفاقية إبراهام للتطبيع مع إسرائيل، من أجل الاستعانة بإسرائيل في الترويج له بالولايات المتحدة، وكذلك بالحصول على دعم الدول العربية التي روَّجت لاتفاقات إبراهام؛ وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة. وقد زار وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين في الخرطوم، بداية شهر فبراير/شباط 2023، واتفق مع البرهان على المضي قدمًا في إجراءات التطبيع، مع ملاحظة أنه لم يلتق حميدتي. وأشرف البرهان كذلك على القوات العسكرية المشاركة في حرب اليمن بجنب السعودية والإمارات خلال عهد البشير، فحظي بتقدير البلدين. وزار البرهان روسيا، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وصرح بأن النقاشات مستمرة مع موسكو حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان. وتربط البرهان بمصر علاقات وثيقة، فلقد التقى بالرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة، نهاية سبتمبر/أيلول 2022، واتفقا على أن أمن البلدين لا يتجزأ، وقد كشفت المواجهات العسكرية عن وجود قوات مصرية في قاعدة مروي شمال السودان لتدريب القوات السودانية، ونقلت رويترز أن قوات الدعم السريع احتجزت القوات المصرية واستولت على عدة طائرات مصرية مقاتلة. كشفت هذه الحادثة عن متانة العلاقة بين البرهان والسيسي، وفي نفس الوقت دلَّت على أن حميدتي لا يرتبط بعلاقة وثيقة مع القيادة المصرية، بل يخشى من دعمها للبرهان للقضاء عليه.

تنامي قوة الطرفين جعلت قيادة الجيش تخشى من تحول الدعم السريع إلى جيش مواز، غير تابع لها، ورأت أن من الملحِّ السيطرة عليه ما دامت تسيطر على مقاليد الأمور ولم تسلمها للمدنيين. ومن جانب ثان، هناك أيضًا تنافس بين البرهان وحميدتي على تحصيل أكبر المكاسب من عملية التحول السياسي. وقد اتضح أنهما يودان لعب دور رئيس الدولة المقبل، كما برز من خلال توالي زياراتهما الخارجية أو الموضوعات التي يناقشونها مع قادة الدول، وهي أنشطة من المفترض أنها ليست من مهامهما العسكرية وإنما من مهام السياسيين.

الحسم أم التجميد؟

سيناريو الحسم: يواصل الطرفان الاقتتال إلى أن يسيطر أحدهما على الآخر سيطرة تامة، وهو الهدف الذي أعلناه، وتتوافر لهما إمكانات كافية لمواصلة القتال لفترات طويلة. يرجِّح ذلك توازن القوى بين الطرفين، فالقوات السودانية تتفوق في سلاح الدبابات والطائرات، لكن هذه الأسلحة تفقد أفضليتها في قتال الشوارع بالمدن -كمدينة الخرطوم- الذي تبرع فيه قوات الدعم السريع. وتدل السوابق التاريخية على أن الحرب بين الجيش السوداني والفصائل المسلحة تدوم لسنوات، على غرار حرب دارفور التي دامت نحو سبع سنوات بين 2003-2010، ودام الاقتتال الذي اندلع بين فصائل في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان في مواجهة الجيش السوداني من 2011 إلى 2019، ودامت حرب جنوب السودان من 1985 إلى 2005 وانتهت بانفصال جنوب السودان في 2011. ومن العوامل المعزِّزة لطول الحرب، أن الحاضنة الاجتماعية لقوات الدعم السريع موجودة في منطقة دارفور وهي من المناطق النائية عن المركز، وتضع القوات السودانية أمام تحديات ضخمة لمواصلة القتال في هذه الأطراف البعيدة.

قد يُضعف طول الاقتتال السلطة المركزية، وتضيق آفاق التسوية السياسية، فتتزايد محفزات التشظي في أطراف السودان، فتنشط الجماعات المسلحة من جديد؛ لأنها قد تحسب أن فوائد استقلالها بمناطق من السودان أكبر من احتمالات استفادتها من المشاركة في السلطة المركزية، إضافة إلى أن مخاطر هذا المسعى وتكلفته تضاءلت لأن السلطة المركزية لم تعد تملك إمكانيات تكبيد هذه الجماعات المسلحة الانشطارية خسائر كبيرة.

سيناريو تجميد الوضع: تمتلك القوى الخارجية تأثيرًا كبيرًا على التطورات في السودان. فالرباعية الدولية تشرف على الاتفاقات السياسية بين الأطراف السياسية والعسكرية، والسودان يحتاج إلى القوى الغربية لرفع الحصار المضروب على اقتصاده، والحصول أيضًا على الدعم المالي والاقتصادي من المؤسسات المالية الدولية. وتنسق هذه القوى الدولية الغربية مع السعودية والإمارات لتوجيه التطورات داخل السودان. وقد دعت السعودية والإمارات والولايات المتحدة إلى وقف الاقتتال بالسودان. وكان رئيس الإمارات، محمد بن زايد، زار مصر قبل ثلاثة أيام من اندلاع القتال في السودان. وتمتلك هذه القوى مجتمِعة علاقات قوية إما مع الطرفين أو مع أحدهما، وقد تضغط عليهما لوقف التصعيد، وتجميد الوضع لفترة قبل الشروع في محادثات لإعادة بناء الثقة.

تتعزز حظوظ هذا السيناريو كلما طال القتال وتعذر الحسم وارتفعت التكلفة البشرية والمادية، وقد يكون السيناريو مرجحًا في الأمد القريب، وإن كانت نتيجته تهدئة هشة؛ لأن كلا الطرفين سيستغل هذه الهدنة للاستعداد لجولات قادمة من الاقتتال.

سيناريو التوافق: يطول القتال وتتكبد قوات الدعم السريع خسائر فادحة، ويتمكن قادة الجيش من إقناع الوسطاء الخارجيين بالضغط على قيادة الدعم السريع للتوافق على الإلحاق بالجيش أو بالتسريح بشروط مواتية كما حدث في الاتفاق مع بقية الفصائل السودانية المسلحة.

يحول دون تحقق هذا السيناريو رفض حميدتي التخلي عن أهم رصيد أمني وسياسي له، وقدرات الدعم السريع الكبيرة على مواصلة القتال ولو في الأطراف للحصول على مكاسب سياسية لم يتمكن من تحقيقها من خلال الصدام المباشر مع الجيش.

في الختام، ليس الاقتتال الجاري بين الجيش وقوات الدعم السريع في أساسه اقتتالًا بين البرهان وحميدتي على قيادة البلد، وإن كان هذا البعد جزءًا ثانويًّا في النزاع، بل هو رفض من قيادة الجيش لوجود جيش ثان خارج سيطرتها، وينافس الجيش في العدد والعتاد والمعدات، ويمثل خطرًا دائمًا على تفرد الجيش بمهام الأمن والدفاع.

في هذه الأثناء، ستتضرر العملية الانتقالية؛ لأن الأولوية حاليًّا هي وقف الاقتتال وبسط السلم في البلاد، ثم بعد ذلك سيحتاج الاتفاق الإطاري إلى إعادة صياغة تأخذ في الحسبان موقع قوات الدعم السريع في العملية السياسية بين أن تظل شريكًا لأنها قوات شرعية، أم تزاح من الاتفاق بحسبانها قوات متمردة.