أثار بلاغ (1) للديوان الملكي ضد حزب العدالة والتنمية في المغرب، على خلفية انتقادات (2) وجَّهها الأخير لوزير الخارجية والتعاون بسبب التطبيع مع إسرائيل، جدلًا قويًّا حول حدود مستوى التنسيق بين البلدين، خصوصًا في ظل تسريع وتيرة التعاون. تزامن ذلك مع تطورات داخلية وأخرى إقليمية؛ فعلى الصعيد الداخلي، يلاحظ تسريع في وتيرة العلاقات المغربية-الإسرائيلية، منذ السنة الماضية، خصوصًا على الصعيدين الأمني والعسكري؛ أما التطورات الإقليمية، فمن أبرزها الاتفاق السعودي-الإيراني، برعاية صينية، والذي يُتوقع أن تكون له تداعيات محتملة على مسار "اتفاقات أبراهام"، خصوصًا في ظل وجود حكومة إسرائيلية تعد الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وتطور المقاومة الشعبية للاحتلال في فلسطين من السلمية إلى المقاومة المسلحة، كما في نموذجي عرين الأسود في نابلس وكتيبة جنين في الضفة الغربية.
تكشف تلك التطورات مجتمعة عن مفارقة أساسية؛ ففي الوقت الذي تتعمق فيه العلاقات المغربية-الإسرائيلية وتتعزز أكثر، بحيث اتسعت نحو مستويات إستراتيجية، عسكرية وأمنية واستخباراتية، تنبئ التطورات الإقليمية الأخيرة عن دينامية جديدة، قد تبدو غير ملائمة بالنسبة لمسار التطبيع و"اتفاقات أبراهام"، التي سعت، من خلالها أميركا وإسرائيل، إلى بناء تحالف إقليمي ضد إيران.
وعليه، تسعى هذه الورقة إلى فهم الدوافع وراء تسريع وتعميق العلاقات المغربية-الإسرائيلية، التي لم تعد تقتصر على البنود الواردة في الاتفاق الثلاثي(3) بين أميركا والمغرب وإسرائيل، وبالتحديد التعاون في المجالات التالية: السياحة، وتطوير علاقات اقتصادية وتكنولوجية من خلال إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، واستئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في أقرب الآجال، بل اتسعت لتشمل مستويات ومجالات أخرى تنبئ عن رغبة متبادلة في بناء تعاون متين بين الطرفين؛ كما تحاول الورقة تحليل آفاق تلك العلاقات في ضوء التطورات الإقليمية الجديدة، وخصوصًا التأثيرات المحتملة للاتفاق الإيراني-السعودي على العلاقات المغربية-الإسرائيلية.
أولًا: دوافع تسريع العلاقات المغربية-الإسرائيلية
من المعلوم أن المغرب استأنف علاقاته مع إسرائيل، في سياق إقليمي عربي، تميز بـ"اتفاقات أبراهام" التي أُبرمت، برعاية أميركية، بين إسرائيل ودول عربية أخرى، من أبرزها الإمارات والبحرين. إلا أن الخطوة المغربية تمت في صيغة اتفاق ثلاثي بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أُعلن عنه في بيانات منفصلة من قبل الدول الثلاث، وهو الاتفاق الذي أكد عليه "إعلان مشترك"(4) بين الدول الثلاث، تضمَّن التزامات كل طرف بمزيد من التفصيل، بما في ذلك التزام الأطراف الثلاثة بالتصرف وفق الإعلان على المستويات الثنائية والإقليمية ومتعددة الأطراف.
ويلاحظ أنه منذ زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي إلى المغرب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تطورت العلاقات بين البلدين بوتيرة متسارعة، يؤكد ذلك عدد الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الإسرائيليين والمغاربة، وعدد الاتفاقيات ومذكرات التعاون المبرمة بين البلدين، والتي تكاد تشمل كل القطاعات حتى الآن، بما في ذلك المجال العسكري والأمني. فخلال 2022، مثلًا، زار المغرب كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين في أعلى مستويات السلطة في إسرائيل، منهم قائد هيئة الأركان في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقائد القوات الجوية، ورئيس هيئة الإستراتيجية والدائرة الثالثة في جيش الاحتلال الإسرائيلي وقائد لواء العلاقات الخارجية وقائد لواء التفعيل في هيئة الاستخبارات، وهي زيارات ترتب عليها توقيع اتفاقيات ومذكرات للتعاون العسكري والأمني، كما جرى الحديث عن صفقات تسلح، وعن مشاريع استثمارية في مجال الصناعات العسكرية(5). كما زار المغرب وزراء ومسؤولون في الحكومة الإسرائيلية السابقة، منهم: وزيرة الداخلية، والعدل، والتعاون الإقليمي، والعلوم والتكنولوجيا، ورئيس الصناعة الجوية، وقائد قوات الشرطة، ممن أبرموا مع نظرائهم المغاربة اتفاقيات تعاون بين البلدين. وقد تم عرض بعض تلك الاتفاقيات على البرلمان المغربي للمصادقة، منها اتفاقية النقل الجوي واتفاقية التعاون الاقتصادي والتجاري(6).
بالمقابل، يلاحظ إحجام المغرب، حتى الآن، عن إرسال مسؤوليه السياسيين إلى إسرائيل، باستثناء وزير الخارجية الذي حضر قمة النقب في مارس/آذار 2022، وقادة عسكريين على رأسهم المفتش العام للقوات المسلحة الملكية، وقائد قوات المدرعات. لكن يبدو الباب مفتوحًا أمام القطاع الخاص المغربي، الذين شارك بعض رجال الأعمال منه في منتديات اقتصادية في إسرائيل، لاستكشاف مجالات الاستثمار الممكنة.
ولعل تكثيف الزيارات والاتفاقيات المبرمة، يؤكد أن العلاقات الثنائية بين المغرب وإسرائيل تمضي، منذ استئناف العلاقات بينهما، في ديسمبر/كانون الأول 2020، بوتيرة متسارعة، ما يؤكد وجود رغبة متبادلة في تعزيز التعاون، تنم عن حسابات للمصالح من الطرفين، فما تلك الحسابات؟
1- حسابات إسرائيل
ترغب إسرائيل، من وراء اتفاقات التطبيع بما في ذلك مع المغرب، إلى تحقيق عدة أهداف ومصالح:
أ- الاندماج في المحيط العربي، لأجل كسب رهان التحول إلى دولة شرعية في المنطقة، تربطها علاقات تعاون ثنائي ومتعددة الأطراف مع الدول العربية والإسلامية. ولا شك أن التحول إلى دولة طبيعية يشكِّل تطلعًا إستراتيجيًّا للأمن القومي الإسرائيلي، يكسر حالة العداء الشعبي ضدها، ويجعل منها دولة عادية بين الأنظمة العربية، بل ويمنحها الشرعية الدولية في المنطقة وخارجها. وتسعى إلى ذلك بمختلف الطرق، إحداها الادعاء بأنها تتقاسم مع الدول العربية، وخصوصًا الخليجية، تهديدات وجودية مشتركة، منبعها إيران وأذرعها المسلحة في المنطقة، ومن ثم العمل على بناء ما تسميه "جدارًا دفاعيًّا" ضد إيران، تلعب فيه إسرائيل دور القيادة.
وتلاحق إسرائيل ما تزعم أنه تهديد إيراني في المغرب العربي كذلك، وهو أحد مبررات تطبيع علاقاتها مع المغرب، كما عبَّر عن ذلك وزير الخارجية الإسرائيلي، خلال أول زيارة له إلى المغرب في أغسطس/آب 2021، بحيث هاجم إيران والجزائر معًا، معبِّرًا بصراحة "عن قلق إسرائيل من التقارب الإيراني الجزائري"(7). وهو موقف تتقاسمه مع المغرب، الذي سبق له أن قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران في مايو/أيار 2018، بعد أن اتهمها، أكثر من مرة، بتسليح جبهة البوليساريو، من خلال الجزائر، رغم النفي الإيراني المتكرر(8).
ب- تعزيز التعاون الأمني والعسكري من خلال إبرام اتفاقيات تعاون ثنائية، تسمح بتسويق ما تنتجه من أسلحة وأنظمة أمنية واستخباراتية للدول العربية، التي تعتبر الأكثر طلبًا على السلاح في العالم في حين تُعتبر إسرائيل من الدول المنتجة للسلاح والتكنولوجيات الأمنية، بما تتوفر عليه من بنيات تحتية وشركات رائدة يفوق عددها الألف شركة. وتكشف الاتفاقات المبرمة بين إسرائيل والدول المنخرطة في اتفاقات "أبراهام" عن هذه الأولوية في الحسابات الإسرائيلية. ما هو لافت للنظر في هذا السياق، أن تحولًا قد حصل في موقف إسرائيل التي طالما كانت ترفض نقل التكنولوجيا العسكرية والأمنية للدول العربية بهدف الحفاظ على تفوقها النوعي في المنطقة، لكن يبدو أنها غيَّرت موقفها، ربما في اتجاه أن تجعل من التعاون العسكري والأمني مَعْبرًا للتطبيع، وبهدف اختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية العربية على الأغلب، التي تشكل القاعدة الصلبة للأنظمة السياسية، وهو الاختراق الذي بات ممكنًا من خلال التركيز في الاتفاقيات المبرمة على الجوانب العملياتية والتكتيكية، وتسويق أنظمة الذكاء والاتصال، ومعدات الأمن السيبراني، ما يسمح لها بجمع المعلومات وكسر الحواجز النفسية وترسيخ النفوذ.
وفي علاقتها مع المغرب، يلاحظ التركيز على البعدين العسكري والأمني في العلاقات بين البلدين، مع سلاسة في التعامل تنم عن ثقة متبادلة على خلاف المتوقع، وهو ما يمكننا رصده من خلال صفقات السلاح المعلن عنها، حيث زوَّدت إسرائيل المغرب بأسلحة متطورة، وبأنظمة للدفاع الجوي، منذ العام الأول لاستئناف العلاقات بينهما(9). كما أن الاتفاقيات المبرمة تطورت بسرعة من التعاون في مجال الصناعة الدفاعية ونقل التكنولوجيا، إلى توسيعها لتشمل التعاون الاستخباراتي والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، علاوة على القيام بالتدريب والمناورات المشتركة بين القوات العسكرية للبلدين(10).
ت- التعاون الاقتصادي والطاقي، تأمل إسرائيل في كسر الطوق حولها من خلال السعي للولوج إلى الأسواق العربية، خصوصًا خزائن المال في الخليج. وفي علاقتها بالمغرب، يلاحظ أنه منذ إبرام اتفاقية للتعاون الاقتصادي والتجاري في فبراير/شباط 2022، شهدت المبادلات التجارية نموًّا سريعًا تضاعف أربع مرات خلال عام واحد، وبلغت قيمته 500 مليون دولار، في حين وصلت القيمة المالية للاتفاقيات التجارية المبرمة في مايو/أيار 2022 نحو 3.1 ملايين دولار، بزيادة قدرها 94 في المئة، ويسعى البلدان بالتعاون مع الإمارات إلى رفع قيمة التبادل التجاري إلى 7 مليارات دولار خلال عشر سنوات(11). وضمن مجالات التعاون الاقتصادية، يبدو أن إسرائيل تركز أكثر على قطاع الغاز والطاقات المتجددة، ففي ديسمبر/كانون الأول 2022 جرى الكشف عن توقيع اتفاقية بين شركتين إسرائيليتين "نيوميد إنرجي" و"أداركو إنرجي" مع وزارة الانتقال الطاقي المغربية تسمح للشركتين بالتنقيب وإنتاج الغاز الطبيعي في إقليم بوجدور في الصحراء المغربية، وهي ثاني اتفاقية بعد أولى أُبرمت، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بين "راسيو بتروليوم" الإسرائيلية والمكتب الوطني للهيدروكربورات حصلت بموجبها الشركة الإسرائيلية على حق التنقيب في إقليم الداخلة في الصحراء المغربية(12).
2- حسابات المغرب
بالمقابل، يتطلع المغرب من وراء التطبيع مع إسرائيل إلى تحقيق عدة مصالح إستراتيجية، لعل من أبرزها:
أ- تعزيز تفوقه العسكري والأمني في المنطقة، وهو ما تعبِّر عنه طبيعة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية المبرمة مع إسرائيل، وكذا نوعية الصفقات العسكرية والأمنية المعلن عنها، خصوصًا من لدن الجانب الإسرائيلي، من قبيل منظومة "باراك 8" للدفاع الجوي والصاروخي، وأسطول من الطائرات المسيرة، والاستعانة بالخبرة الإسرائيلية في إنشاء قطاع محلي للصناعة العسكرية(13)، إلى جانب الدعم الأميركي. ويلاحظ أن الدعم العسكري والأمني الإسرائيلي للمغرب يحصل في ظل تفاقم حالة التوتر بين المغرب والجزائر، أبرز تجلياتها إعلان الجزائر القطيعة الدبلوماسية الكاملة مع المغرب في أغسطس/آب 2021، وقبل ذلك انسحاب جبهة البوليساريو من اتفاق وقف إطلاق النار في الصحراء في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وحديث قياداتها، منذ ذلك الإعلان، عن مواجهات عسكرية مع الجيش المغربي في مناطق بالصحراء، وذلك في الوقت الذي تصاعدت فيه اتهامات المغرب لإيران بالتدخل في المنطقة وتسليح جبهة البوليساريو.
ولعل تسريع وتيرة العلاقات المغربية-الإسرائيلية، خصوصًا في الجانب العسكري والأمني، تجد تفسيرها في ارتفاع حدة التوتر بين المغرب والجزائر، والتي كادت أن تصل إلى حافة الحرب. وكان الرئيس الجزائري صريحًا حين علَّل قرار بلاده قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، بما في ذلك منع الطيران المدني والعسكري المغربي من التحليق فوق الأجواء الجزائرية، بأنه كان "بديلًا لقرار الحرب"(14)، بين الدولتين الجارتين. وعمومًا، يبدو أن المغرب قد وجد في إسرائيل الدعم العسكري والأمني الذي كان ينتظره من دول أخرى، خصوصًا فرنسا، التي ساءت علاقتها بالمغرب خلال نفس الفترة ولا تزال. ولا تقتصر الأهداف الإستراتيجية للمغرب من وراء تعزيز التعاون مع إسرائيل على منطقة شمال افريقيا، بل تمتد تلك الأهداف نحو الاتحاد الأوروبي ومنطقة غرب إفريقيا، حيث إسرائيل تمارس نفوذًا سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا، ويتصور المغرب إمكانية الاستفادة منه.
ب- يراهن المغرب في علاقاته مع إسرائيل على تعزيز فرص النمو الاقتصادي، وجلب استثمارات اليهود المغاربة حول العالم، وخصوصًا في قطاعات الماء والأمن الغذائي والبحث العلمي، حيث يواجه صعوبات نتيجة الجفاف والتغيرات المناخية، تهدد السلم الاجتماعي. في مارس/آذار 2022، عُقد أول منتدى اقتصادي بين البلدين في تل أبيب، جرى خلاله إبرام اتفاقية بين الاتحاد العام لمقاولات المغرب من جهة، واتحاد الصناعيين الإسرائيلي واتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية من جهة ثانية، تسمح بإنشاء شركات إسرائيلية في المغرب، كما جرى تأسيس مجلس للأعمال المغربي الإسرائيلي. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022، جرى عقد منتدى ثان في الدار البيضاء لبحث مجالات الاستثمار خصوصًا في جلب تقنية نظام الري والتكنولوجيا الزراعية المتطورة، والمعدات الطبية، والطاقات المتجددة، والصناعة، والأمن السيبراني، والتعليم والسياحة، والكيماويات وغيرها، في مسعى لتحقيق "شراكة متينة" و"حاملة للنمو المشترك"(15).
ت- انتزاع موقف إسرائيلي مؤيد لمغربية الصحراء، وفق حسابات ترى أن الاعتراف الإسرائيلي قد ينعكس على موقف دول أخرى، خصوصًا في أوروبا وآسيا، تمامًا مثلما حصل مع الموقف الأميركي بالاعتراف بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء، وكان له تداعيات إيجابية على مواقف عشرات الدول التي باتت تؤيد تسوية النزاع حول الصحراء تحت السيادة المغربية، وأقدمت على فتح قنصليات لها في مدينتي الداخلة والعيون، بل إن تغيير إسبانيا لموقفها بدعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية لتكون أرضية للحل السياسي المتوافق عليه، لم يكن ممكنًا لولا الموقف الأميركي المتقدم. ويبدو أن المغرب يسعى إلى انتزاع موقف إسرائيلي صريح حول مغربية الصحراء، وهو التطور الذي لم يحصل بعد، لكن إسرائيل لم تمنع شركاتها من الاستثمار في أقاليم الصحراء، كما تفعل بعض الدول الأوروبية مثلًا، ويشير ذلك إلى أن الاعتراف الإسرائيلي مسألة وقت فقط، وربما ترهنه إسرائيل بعلاقات دبلوماسية كاملة مع المغرب، أي فتح سفارتين في البلدين، بدل مكتب اتصال فقط.
وعمومًا، يواجه المغرب ضغوطًا محرجة في علاقاته بإسرائيل، لسببين: الأول: وجود رفض شعبي مغربي واسع للتطبيع، أما السبب الثاني فيتعلق بممارسات إسرائيل العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، إثر وصول حكومة يمينية إلى السلطة تعد الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل. ورغم التأكيد الرسمي المغربي على أن علاقاته بإسرائيل لن تكون على حساب التزاماته تجاه القضية الفلسطينية، إلا أن التطورات الأخيرة تكشف عن صعوبات في التوفيق وتحقيق التوازن بين المضي في شراكته مع إسرائيل والوفاء بالتزاماته مع الفلسطينيين، خصوصًا أنه لم يستطع لحد الآن توظيف علاقاته مع الطرف الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أو على الأقل وقف الاستيطان، والعدوان المتكرر على القدس.
بخلاصة، تبدو دوافع العلاقات المغربية-الإسرائيلية متكافئة، كلاهما يرغب في تعميقها سعيًا وراء مصالح إستراتيجية راجحة. لكن التطورات الإقليمية الأخيرة، وخصوصًا الاتفاق السعودي-الإيراني، ألقت بنوع من الغموض على مستقبل تلك العلاقات، والتساؤل حول ما إذا كنت ستصمد أم تنكفئ وتسقط؟
ثانيًا: تداعيات الاتفاق السعودي-الإيراني على العلاقات المغربية-الإسرائيلية
مما لا شك فيه أن الاتفاق السعودي-الإيراني، برعاية صينية، قد شكَّل صدمة في الأوساط الإسرائيلية، إلى حدِّ أن رئيس الحكومة السابق، يائير لبيد، اعتبر أن الجدار الدفاعي الذي سعت اتفاقات "أبراهام" إلى بنائه ضد إيران قد انهار، وأن المساعي الدبلوماسية التي كانت تبذلها إسرائيل من أجل انتزاع قرار بالتطبيع مع السعودية قد باتت أكثر تعقيدًا، لأن الاتفاق معناه أن السعودية قد أعطت الأولوية للتقارب مع إيران على التطبيع مع إسرائيل، وهو "أمر سيء للغاية لإسرائيل"(16) على حدِّ قول رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي.
بيد أن القلق الإسرائيلي من الاتفاق السعودي-الإيراني، لا يعني أن الخلافات السياسية والأيديولوجية العميقة بين الطرفين قد طويت، إلا أن الاتفاق قد يهذب من الصراعات العنيفة بينهما في أكثر من جبهة، خصوصًا في اليمن ولبنان. ويظهر أن الحسابات البرغماتية لدى الطرفين، كانت وراء الوصول إلى الاتفاق المذكور؛ فإيران سعت، من جهتها، إلى تخفيف الضغط الأميركي والإسرائيلي عليها، وكسر الجدار الدفاعي الذي أقامته إسرائيل من خلال اتفاقات "أبراهام"، وفي الوقت نفسه تهدئة جبهات التوتر في المنطقة خصوصًا مع السعودية في اليمن ولبنان، ومن أجل أن تلتقط إيران أنفاسها على المستوى الداخلي كذلك، بسبب تدهور الوضع الاقتصادي وتنامي الاحتجاجات الضاغطة على النظام السياسي. أما السعودية فقد وجدت في الاتفاق أسلوبًا للتخفيف من الضغط الأميركي المتواصل على ولي العهد، محمد بن سلمان، منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة في البيت الأبيض على خلفية حقوق الإنسان؛ ما دفع بن سلمان إلى المناورة باستعمال أوراق ضغط كذلك، من أبرزها تعزيز السعودية للشراكة الإستراتيجية مع الصين، أو التنسيق مع روسيا حول أسعار النفط في منظمة "أوبك+"، والامتناع عن إدانة الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية. في هذا السياق، يظهر الاتفاق السعودي-الإيراني وكأنه ورقة ضغط إضافية لجأت إليها السعودية لمقاومة الضغط الأميركي، والذي كانت تستغله إسرائيل بدورها من أجل دفع السعودية إلى الانخراط في اتفاقات "أبراهام".
وعليه، لا يبدو الاتفاق السعودي-الإيراني إستراتيجيًّا، لذلك يُستبعد أن يؤسس لأي علاقات طبيعية ودائمة وتعاونية بين السعودية وإيران، لكنه كخطوة تكتيكية قد يحقق أمرين: تخفيف الضغط الأميركي على النظامين، السعودي والإيراني، خلال الفترة المتبقية من حكم الرئيس بايدن، أي حتى نهاية 2024؛ وتهدئة العلاقات المتوترة بين السعودية وإيران في اليمن ولبنان وغيرهما. وفي ضوء تلك الاعتبارات، يبدو مستبعدًا، كذلك، أن يؤثر الاتفاق السعودي-الإيراني سلبًا على العلاقات المغربية-الإسرائيلية، أخذًا بعين الاعتبار الحجج التالية:
- أولًا: لأن القطيعة الدبلوماسية بين المغرب وإيران تقررت في مايو/أيار 2018، وفي ضوء اعتبارات سياسية تتعلق بالوحدة الترابية للمغرب، وعلى خلفية اتهامات مغربية صريحة لإيران بالتورط في تدريب وتسليح إيراني لجبهة البوليساريو الانفصالية، أي إن محددات القطيعة كانت ثنائية بين البلدين، وبشكل مستقل عن القطيعة بين إيران ودول الخليج منذ 2016 حتى إبرام الاتفاق الأخير، لذلك يرجح أن تستمر القطيعة المغربية-الإيرانية في الأمد المنظور، إلا إذا وقعت تطورات جديدة ومستقلة عن تطورات الاتفاق الإيراني-السعودي، وتتعلق مباشرة بالعلاقات بين إيران والمغرب والجزائر، وهو ما لا يدل عليه أي مؤشر حتى الآن.
- ثانيًا: أن تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل جرى وفق حسابات تراعي مصالحه، كما سبقت الإشارة، وعلى رأسها الحفاظ على المكتسبات التي حققها على مستوى وحدته الترابية والتسليح النوعي، وتكشف الاتفاقيات التي أُبرمت بين الطرفين خلال أقل من سنتين، والتي تشمل قطاعات إستراتيجية عديدة، عن رغبة متبادلة لتعزيز العلاقات بينهما، وتعميقها أكثر في المستقبل. ولعل ما يعزز هذا التوجه، التوافق في الرؤى والمواقف تجاه الدور الإيراني في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا، وخصوصًا القلق المغربي من التسليح الإيراني لجبهة البوليساريو الانفصالية.
- ثالثًا: أن تطبيع المغرب مع إسرائيل حصل في ظل اتفاق ثلاثي مع أميركا، بمقتضاه انتزع المغرب موقفًا أميركيًّا داعمًا للسيادة المغربية على الصحراء، وهو موقف كانت له تداعيات إيجابية على مواقف عشرات الدول الأخرى، ممن انخرطت في دعم السيادة المغربية على الصحراء أو على الأقل تأييد مبادرة الحكم الذاتي المغربية لتكون الأرضية الوحيدة للحل. وهو مسار منح المغرب القدرة على محاصرة خصوم وحدته الترابية، سواء من الناحية الدبلوماسية أو من الناحية العسكرية في الميدان، ولا شك أنه معني بالمحافظة على هذه المكتسبات وتثمينها، ويستبعد لهذا السبب أن يتراجع عن مسار التطبيع إلا إذا تراجعت إسرائيل أو أميركا عن التزاماتها على هذا الصعيد، وهو ما لم يحصل حتى الآن.
خلاصة القول: إن هناك حسابات وراء الاتفاقات المبرمة بين إسرائيل والمغرب، برعاية ودعم أميركيين، وهذه الحسابات قائمة على مصالح راجحة لدى الجانبين، كلاهما يستفيد منها حتى الآن، وهذا مبرر استمرارها وتسارع وتيرتها بل وتعزيزها أكثر، كما رصدنا ذلك خلال السنتين الماضيتين فقط. لكن، مثل كل الحسابات، يمكن أن تتأثر سلبًا، إذا أصبحت كلفة التطبيع والخسائر المترتبة عليه أكبر من المصالح المحصلة منه، وهو الاحتمال الذي قد تؤكده التطورات المقبلة أو تنفيه.
وكلما حصل تعزيز للمكاسب المتبادلة في العلاقات المغربية-الإسرائيلية، يحتمل أن يكون ذلك على حساب أي تطور جديد في العلاقات المغربية-الإيرانية، رغم الاتفاق السعودي-الإيراني كما سبقت الإشارة، بحيث يستبعد أن يضحي المغرب بعلاقاته مع إسرائيل لحساب إيران، إلا إذا اقتنعت إيران بضرورة الحوار مع المغرب وتبديد الاتهامات الموجهة إليها بخصوص تسليح جبهة البوليساريو. وفي حالة وقع هذا السيناريو، أي الحوار واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران، سيكون المغرب مطالبًا بنهج سياسة توازن بين مصالحه من وراء العلاقة مع إيران وإسرائيل، وهو وضع يبدو صعبًا ومعقدًا، ويبدو أن المغرب في غنى عنه خلال الفترة الراهنة على الأقل، لأن مصالحه مع إسرائيل تبدو أكبر بكثير من أي مصالح أخرى قد يحصل عليها من إيران.
1- بلاغ الديوان الملكي، 13 مارس/آذار2023، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3L1tg7n
2- بلاغ حزب العدالة والتنمية، 4 مارس/آذار 2023، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2023): https://bit.ly/41lWhQu
3- بلاغ الديوان الملكي، 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3nIOKwC
4- إعلان مشترك، في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/433bK9A
5- المغرب وإسرائيل.. التعاون العسكري ثمرة عامين من التطبيع، وكالة الأناضول، 30 سبتمبر/أيلول 2022، (تاريخ الدخول: 2 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3nAtQ2w
6- النواب المغربي يصادق على اتفاقيتين مع إسرائيل، الشرق الأوسط، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3UD38D7
7- لابيد من المغرب: تقارب الجزائر وإيران مقلق، روسيا اليوم، 13 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3KovhJk
8- المغرب يقطع العلاقات مع إيران وحزب الله ينفي تورطه، الجزيرة نت، 1 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/41dxeij
9- محمد اشتاتو، المغرب وإسرائيل ومستقبل منتدى النقب، معهد الشرق الأوسط في واشنطن، 23 فبراير/شباط 2023، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/43pHAgU
10- المغرب وإسرائيل.. التعاون العسكري ثمرة عامين من التطبيع، وكالة الأناضول، 30 سبتمبر/أيلول 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3UvhmWw
12- "نيوميد إنرجي" الإسرائيلية تعلن عن توقيع اتفاق مع المغرب للتنقيب عن الغاز وإنتاجه في الصحراء، i24News، 15 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/40XUph3
13- الصناعة العسكرية الإسرائيلية تزود المغرب بأنظمة دفاعية متطورة، هسبريس، 12 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3KPuWk4
14- الرئيس الجزائري: قطع العلاقات مع المغرب كان "بديلًا للحرب"، العربي الجديد، 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3Mxs6l6
15- المغرب-إسرائيل..كافة الشروط قد اجتمعت لبناء شراكة متينة، CGEM، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 7 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3KNJktk
16- صفعة لنتنياهو وفشل لبايدن..الاتفاق بين السعودية وإيران بعيون الصحافة الإسرائيلية، الجزيرة نت، 13 مارس/آذار 2023، (تاريخ الدخول: 7 أبريل/نيسان 2023): https://bit.ly/3o1l4Lf