السياسات العربية تجاه النظام السوري: الدوافع والمآلات

عودة الدول العربية لتفعيل دورها في سوريا قد يقود إلى إبطال مفعول قرارات الجامعة العربية عام 2011، وسيرتب تداعيات على طرفي الأزمة. إذا لم تستطع هذه العودة دفع دمشق نحو تسوية سياسية مع المعارضة لاسيما الشعبية منها، فإن المشهد سيزداد تعقيدًا بدل حله.
9 يونيو 2023
استعادت دمشق مقعدها في الجامعة العربية لكن تحيط شكوك حول تلبيتها شروط العرب ليعودوا إلى دمشق (رويترز).

اتخذت جامعة الدول العربية، في 7 مايو/أيار 2023، قرارًا بإعادة مقعد سوريا للنظام السوري -بعد تجميد دام 12 عامًا- وهي التي منحت هذا المقعد للمعارضة السورية، عام 2013، قبل أن تتوقف عن تقديم الدعوة إليها في الدورات اللاحقة بسبب الانقسام العربي حولها، والذي بدا واضحًا في قمة نواكشوط، عام 2016. ولأول مرة منذ قمة سرت التي عُقدت، عام 2010، في ليبيا شارك الرئيس، بشار الأسد، نظراءه العرب في القمة العربية بدورتها 32، التي استضافتها المملكة العربية السعودية في جدة.

وقرار فك العزلة العربية عن النظام جاء نتيجة جهود خليجية متفاوتة؛ مثلما قادت دول الخليج تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية، عام 2011، قادت أيضًا إعادتها عام 2023؛ فقد عقد مجلس التعاون الخليجي اجتماعًا تشاوريًّا في جدة بطلب من الرياض وبحضور مصر والأردن والعراق، لكن الاجتماع تعثر في التوصل لصيغة مشتركة حول التطبيع مع النظام؛ ما دعا إلى عقد اجتماع تشاوري آخر في عمَّان، في 1 مايو/أيار، حضره إلى جانب الأردن، مصر والعراق والسعودية ووزير خارجية النظام السوري. خلص الاجتماع إلى مجموعة من الالتزامات والتوافقات مع النظام تشمل اعتماد آلية لتفعيل الدور العربي في سوريا؛ وهو ما نصَّ عليه بوضوح قرار الجامعة العربية على المستوى الوزاري بشأن سوريا(1)، إضافة إلى قرار تشكيل لجنة اتصال وزارية عربية لمتابعة التنفيذ.

المحاولات الجدية والحثيثة لرفع التجميد عن مشاركة النظام في دورات القمة العربية بدأت منذ قمة "لم الشمل" في الجزائر عام 2022، لكن تلك الجهود لم تنجح إلا بعد تطبيع العلاقات رسميًّا بين دمشق والرياض، في 23 مارس/آذار 2023. كان هذا التغير في سياسة المملكة بمنزلة إعلان لإنهاء العزلة العربية المفروضة على النظام منذ نهاية عام 2011؛ نتيجة رفضه آنذاك الالتزام بالمبادرة العربية لحل الأزمة في سوريا(2).

رغم شغل النظام مقعد سوريا مجددًا في الجامعة العربية لا تزال المواقف العربية مختلفة تجاه العلاقة معه؛ باستثناء الدول التي أعادت أو حافظت على التواصل الدبلوماسي معه مثل الإمارات وسلطنة عمان، هناك دول ترفض التطبيع الثنائي، مثل قطر والمغرب والكويت، في حين تتحفظ دول أخرى على آلية ووتيرة إنهاء العزلة عنه، مثل الأردن ومصر.

تهدف هذه الورقة إلى دراسة التغير في السياسات العربية تجاه النظام السوري ودوافعه والظروف التي أدت إلى ذلك، إضافة إلى مناقشة مصير الأزمة السورية بعد التطبيع العربي، وكذلك مستقبل الدور العربي في سوريا.

أولًا: دوافع تغير السياسات العربية تجاه النظام السوري

بدأت السياسات العربية تجاه سوريا بالتغير نهاية عام 2018، عندما أعادت الإمارات -وهي أول دولة تفعل ذلك- العلاقات الدبلوماسية مع النظام بعد انقطاع دام ست سنوات، مع العلم أن الدولتين حافظتا على قنوات التواصل الخلفية بينهما طيلة الوقت. كانت هذه الخطوة إيذانًا لإعلان دول أخرى إعادة التنسيق الدبلوماسي والاقتصادي مع النظام، مثلما فعلت الأردن، أو لكشف استمرار العلاقات كما فعلت البحرين.

تباعًا، عملت بعض الدول العربية على تبادل البعثات الدبلوماسية والبرقيات الرسمية والزيارات رفيعة المستوى مع النظام ورئيسه، وبقي مسار التطبيع بطيئًا نسبيًّا، إلى أن وقعت كارثة الزلزال في تركيا وسوريا، مطلع فبراير/شباط 2023، فقد فتحت نافذة إنسانية أسهمت في تسريع وتيرة فك العزلة العربية عن النظام السوري، ولم يبقَ سوى عدد محدود من الدول العربية لم يستأنف العلاقات القنصلية والدبلوماسية مع النظام، مثل قطر وليبيا والكويت والمغرب واليمن.

يأتي التطبيع مع النظام السوري في سياق محاولة عربية جديدة للانخراط في الأزمة السورية بعد انكفاء كبير بدأت ملامحه عقب فشل الخطة العربية للحل عام 2012؛ فقد تراجعت الجامعة العربية تدريجيًّا عن دورها المستقل في رعاية العملية السياسية لصالح الأمم المتحدة، ثم تحول الدور العربي بعد محادثات فيينا للسلام في سوريا، أواخر عام 2015، إلى رعاية المعارضة السورية سياسيًّا قبل أن تُشاركها تركيا هذه المهمة بعد تشكيل مسار أستانا، عام 2017(3).

عكست الجهود العربية الجديدة في سوريا تباينًا واختلافًا في دوافع وسياسات كل دولة، رغم اتفاقها جميعًا على ضرورة إعادة الاستقرار والتوصل لحل ينهي النزاع المستمر منذ عام 2011. على سبيل المثال، شكلت القضايا الأمنية ثم الاقتصادية دافعًا رئيسيًّا للأردن من أجل التطبيع مع النظام، بعدما باتت عمان تواجه تهديدًا متزايدًا من أنشطة "الميليشيات الإيرانية" على الحدود المشتركة مع سوريا، ومن عمليات تهريب المخدرات بشكل شبَّهته بالحرب ضدها. هناك أيضًا الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها الأردن؛ حيث كان لإغلاق معبر نصيب وتوقف حركة التجارة والنقل مع سوريا خلال العقد الماضي سببًا في مفاقمتها، إضافة لأزمة اللاجئين التي لم تستطع عمَّان التأقلم معها أو تحملها في ظل ضعف موارد الدولة، وعدم كفاية الدعم المقدم من المانحين.

عملت عمَّان على التنسيق مع النظام السوري في ملفات عدة، بما يساعدها على معالجة الشواغل الأمنية والمشاكل الاقتصادية وبما "يقود لتعديل سلوكه". ويبدو أنها عولت على دعم أميركي؛ حيث قدم الملك عبد الله الثاني عام 2021، مبادرة للحل إلى الرئيس جو بايدن. كما أنها عولت على دعم عربي عام 2023 بتقديم ذات المبادرة إلى الدول العربية في اجتماع عمان التشاوري مطلع مايو/أيار، من أجل تبنيها رسميًّا من قبل الجامعة العربية، لكن ذلك لم يحدث. تقوم المقاربة الأردنية على دفع النظام لتقديم تنازلات لابد منها والاستجابة للشروط العربية؛ بسبب حاجته للدعم الاقتصادي في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يواجهه وعجز حلفائه على تقديم المساعدة له؛ فإيران تعاني من حصار وعقوبات نتيجة أزمة برنامجها النووي وروسيا تمر بأوضاع اقتصادية متأزمة بعد حرب أوكرانيا والعقوبات الناشئة عنها.

أما تطبيع الإمارات لعلاقاتها مع النظام، فلم يكن نتيجة تحديات أمنية واقتصادية تواجهها في سوريا إنما بدافع تحقيق مصالح عدة؛ حيث تتطلع أبو ظبي على المدى القريب والمتوسط -بالتنسيق مع موسكو- لتنفيذ مشاريع إقليمية في مجال الطاقة والنقل البحري عبر الوصول إلى الموانئ السورية والاستثمار فيها، إضافة إلى الانخراط في القطاع المصرفي السوري وعمليات التمويل. وعلى المدى البعيد قد ترغب الإمارات بالحصول على عقود تنفيذ البنية التحتية وإعادة إعمار المدن السورية المدمرة، إلا أن أي استثمار حالي فيها يحمل مخاطر عالية وتكاليف مالية كبيرة لا تستطيع استردادها إلا بعد فترة زمنية بعيدة جدًّا. ولا يبدو أن الإمارات تسعى للاستفادة من عمليات التجارة والتوريد في سوريا لأن الاشتغال فيها مشروط حصرًا برفع العقوبات الغربية عن النظام(4).

بلا شك تدفع الإمارات نحو تسوية الوضع في سوريا "لصالح" النظام، الذي خلصت إلى أنه سيكون الفاعل الرئيسي في مستقبل البلاد، وبالتالي تعزيز حضورها في دمشق، وتصدير جهودها في التسوية بوصفها نجاحًا لسياستها الخارجية ولدورها المؤثر في تسوية الأزمات الدولية والإقليمية. هذا الدور لطالما شجَّعت عليه روسيا منذ مطلع عام 2017؛ من خلال إقناع أبو ظبي وبقية العواصم العربية بضرورة المساهمة في الحل عبر التطبيع مع دمشق. من جانب آخر، ربما تأمل الإمارات أن يُسهم حضورها في سوريا وبدعم من روسيا في تعزيز تأثيرها كوسيط دولي موثوق، فهي مثلًا قد توفر مساحة اتصال بين النظام وإسرائيل لاستئناف المفاوضات بين الطرفين، لاسيما أنها تمتلك علاقة متقدمة مع كليهما(5).

استأنفت السعودية أيضًا علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، وتجاوزت الشروط السابقة التي كانت وضعتها لقبول التطبيع معه، مثل تطبيق القرار 2254 (2015) وتحديد موعد لرحيل بشار الأسد ومحاسبة مجرمي الحرب. في الواقع، إن إعادة المملكة لصياغة سياستها الخارجية في سوريا كان نتيجة تبني سياسة أكثر واقعية في علاقاتها الإقليمية تقوم على تصفير المشاكل لاسيما مع إيران؛ أي بإدارة حالة التنافس معها في الإقليم بأقل الخسائر بما يشمل قضايا عديدة في مقدمتها الأزمتان، اليمنية والسورية(6)، وهو ما تجلى بالاتفاق الذي عقدته الرياض مع طهران في أبريل/نيسان 2023 برعاية بكين وموسكو أكبر منافسي واشنطن. بالتالي، عكس الاتفاق تفاقم أزمة الثقة في العلاقات الأميركية-السعودية؛ حيث بدا للأخيرة أن هناك تخليًا من الولايات المتحدة عن التزاماتها في حماية حلفائها في المنطقة، بدأ مع إدارة أوباما واستمر مع إدارة ترامب وبلغ ذروته مع إدارة بايدن(7). يخضع التطبيع السعودي مع النظام غالبًا لاعتبارات أمنية، أبرزها ضمان النأي بنفسها عن أي خطر محتمل؛ بتحول المواجهة المستمرة بين إسرائيل وإيران من شكلها غير المباشر إلى المباشر نتيجة سوء حسابات أو ردود عسكرية غير مدروسة أو مفرطة، لاسيما مع زيادة حجم ونوعية الضربات العسكرية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا منذ مطلع عام 2023(8).

إن عدم وضع الرياض شروطًا على دمشق تضمن تبديد أو تقليص نشاط وخطر "الميليشيات الإيرانية" في سوريا وتدفق المخدرات من الأخيرة إلى أراضيها، لا يعكس بالضرورة عدم أهمية تلك القضايا الأمنية بالنسبة للمملكة؛ كون تركيزها انصب على إظهار ثقلها السياسي عربيًّا بوصفها دولة قادرة على قيادة المبادرات وحل الأزمات، إضافة إلى أنها تبحث عن استقرار إقليمي يُساعدها على النمو الاقتصادي عبر عدم إبداء أي خطوة تؤثر على نجاح الاتفاق مع إيران(9).

خليجيًّا، سلطنة عُمان هي ثاني دولة عربية بعد الإمارات تعلن إعادة علاقتها مع سوريا، وتُعتبر السلطنة أيضًا الدولة الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، واكتفت بالتقليل من التواصل الثنائي غير المعلن عنه. استؤنفت العلاقة، نهاية عام 2015، بزيارة وزير الخارجية، يوسف بن علوي، إلى دمشق، وصولًا إلى اتخاذ مسقط خطوة متقدمة بعد كارثة الزلزال باستقبال بشار الأسد على أراضيها. ويبدو أن الزيارة مهدت لتطبيع العلاقات بين السعودية والنظام، بما يُفسر طبيعة سياسات السلطنة تجاه الأخير؛ أي بالحفاظ على دورها وسيطًا بين النظام ودول مجلس التعاون. وتتطلع عمان غالبًا لتعزيز هذا الدور على المستوى الإقليمي والدولي؛ عبر توفير مساحة اتصال جديدة بين الولايات المتحدة والنظام السوري لحل قضية المعتقلين الأجانب لدى الأخير، وهي مساعٍ قائمة منذ نهاية عام 2022(10).

أما سياسة مصر تجاه النظام عمومًا فلم تتغير كثيرًا، رغم أنها بدت بعد كارثة الزلزال أقل حذرًا إزاء خطوات التطبيع(11)، فهي لا تزال تصر على تطبيق القرار 2254 (2015) كآلية للحل(12)، باعتبار أن إشراك المعارضة في الحكم سيُعزز فرص الاستقرار والأمن. بمعنى أن علاقة القاهرة مع دمشق مدفوعة بحسابات أمنية أكثر منها سياسية؛ فهي تحرص على الحفاظ على مؤسسات الدولة في سوريا وتحديدًا الجيش والقوات المسلحة، لتكون مسؤولة عن تشكيل أو حماية النظام السياسي في البلاد، والوقوف في مواجهة "التدخل الخارجي" لاسيما التركي والإيراني(13).

في الواقع، لم يكن للدول العربية التي انخرطت مجددًا في سوريا بمقاربة جديدة قائمة على التطبيع مع النظام أن تتخذ هذا القرار لولا الدعم المستمر والكبير لدمشق من قبل روسيا منذ عام 2017، إضافة إلى أن موقف الولايات المتحدة تجاه التطبيع يبدو كأنه مناورة؛ فهي رفضت التطبيع من جهة، لكنها لم تتخذ خطوات دبلوماسية وقانونية تعيق تقدمه أو الانخراط العربي فيه من جهة أخرى. بل كان هناك تراخ من قبلها في تطبيق قانون قيصر بما أحدث في النهاية فجوة فيه، بعد إصدار رخصة المساعدة في جهود الإغاثة من كارثة الزلزال(14).

لم يُؤد الاختلاف أو التباين في سياسات الدول العربية بشأن العلاقة مع النظام السوري إلى تعطيل مسار التطبيع معه، ولم تتغير أيضًا مواقف كل من قطر والكويت والمغرب، وهي الدول التي لا تزال تقاطع أي توجه ثنائي لاستئناف التواصل الرسمي معه لأسباب مختلفة؛ فالدوحة مثلًا لا تزال ترفض التطبيع مع النظام السوري، وتربط تغير موقفها "بالتقدم في الحل السياسي الذي يحقق تطلعات الشعب السوري"(15).

ثانيًا: تداعيات الدور العربي المستجد على أطراف النزاع

إن عودة الدول العربية للانخراط في سوريا ترتب تداعيات على طرفي النزاع والأزمة؛ فالدور العربي المستجد قد يقود إلى إبطال مفعول قرارات الجامعة العربية، عام 2011، وبالفعل بدأ ذلك بإعادة مقعد سوريا للنظام، وسيكون لذلك تداعيات عدة وعلى أكثر من صعيد.

دبلوماسيًّا، كسر التطبيع العربي مع النظام العزلة العربية التي كانت مفروضة عليه؛ فحظر الطيران على المسؤولين لم يعد قائمًا والاتصالات والبرقيات والزيارات المتبادلة معه عادت من جديد، وربما يُسهم الدور العربي في مزيد من فك العزلة الدولية عليه، وهو ما يطمح النظام إليه، كإعادة العضوية له في منظمة التعاون الإسلامي، وحضوره في المؤتمرات الدولية، مثل دعوة الإمارات "الرئيس بشار الأسد" لحضور مؤتمر المناخ الذي تستضيفه نهاية عام 2023.

اقتصاديًّا، قد يؤدي التطبيع العربي مع النظام إلى مزيد من عدم التزام بعض الدول العربية بالعقوبات المفروضة عليه، بمعنى السماح له بإجراء الأنشطة التجارية على الأراضي العربية بما في ذلك للأشخاص المدرجين على القوائم الغربية، مثلما فعلت الإمارات مع رامي مخلوف ونزار الأسعد وغيرهم. لكن، في حال أقرت الولايات المتحدة قانونًا لمواجهة التطبيع أو عادت للتشديد في تطبيق قانون قيصر فإن ذلك سيحد من الآثار الاقتصادية المتوقعة للدور العربي المستجد في سوريا، إلا إن تم ربط العقوبات بتحقيق تقدم بالعملية السياسية سواءً كان عبر نهج الخطوة مقابل خطوة أو غيره، لأن ذلك يمنح الجهود العربية فرصة لاحتواء النظام وتعديل سلوكه.

عسكريًّا، رغم تأكيد البيانات العربية التشاورية والرسمية على ضرورة "مكافحة الإرهاب" وإنهاء وجود الميليشيات وخروج القوات الأجنبية غير الشرعية من سوريا، إلا أن معظم الدول العربية غير قادرة على تحقيق ذلك لأنه سيضعها في مواجهة عدة قوى إقليمية ودولية، وهي غير مستعدة لأي تصعيد إقليمي، خاصة في هذا الوقت الذي تتجه فيه نحو التهدئة. وعدم قدرة الدور العربي على معالجة القضايا الأمنية في سوريا لا يمنع أن بعض الدول وتحديدًا الأردن، قد تتخذ خطوات عسكرية منفردة في سوريا لمواجهة تهديد المخدرات و"الميليشيات" التي ترعى عمليات التهريب عبر الحدود، لاسيما أن المملكة قامت في مايو/أيار 2023، ولأول مرة منذ عام 2011 باستخدام الطيران الحربي لقصف أهداف داخل سوريا في سياق مكافحة المخدرات.

من جانب آخر، إن بطء أو تعثر الدور العربي في ضبط الدور الأمني للنظام السوري سيشجع هذا الأخير على تعزيز سلطته تحت غطاء عمليات التسوية المحلية؛ مستفيدًا من الشرعية التي اكتسبها من التطبيع، و"بدعوى السيادة" ستتم ملاحقة المطلوبين والفارين عن الخدمة العسكرية ومصادرة الأسلحة التي لا تزال بحوزة المجتمع المحلي. وتُعتبر أرياف حماة وحمص ودرعا وجهة رئيسية بالنسبة للنظام لإجراء مثل هذه العمليات فيها، والتي من شأن تنفيذها أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والاضطراب(16).

سياسيًّا، إن أي دعم عربي للجهود المبذولة في "استئناف أعمال اللجنة الدستورية في سياق المصالحة الوطنية الشاملة في سوريا"، مثلما جاء في بيان قمة جدة، يثير أسئلة وربما شكوكًا لدى المعارضة، وقد ترى في ذلك "اختزالًا للعملية السياسية". لأن القرارات الأممية تتعلق بتسوية لها شروط وثيقة الصلة "بحقوق أساسية" للشعب السوري، تطالب بها المعارضة. أما "المصالحة الوطنية" فلها سياق ومضمون لطالما دعا وعمل النظام وحلفاؤه لتحقيقه منذ عام 2011، ويعني العودة إلى كنف النظام مع بقاء الحكم على ما هو عليه ومنح النظام فرصة لتحقيق النصر. لذا فأي دعم عربي سياسي للمصالحة في سوريا وفق هذا المعنى ولا يأخذ مطالب المعارضة السورية بالاعتبار، سيزيد من تعقيد المشهد السياسي السوري بدل حله. بالمقابل، إن استناد الدور العربي إلى قرار مجلس الأمن 2254 في تطبيق الحل السياسي سيحول دون اختزال العملية السياسية بـ"مصالحة وطنية"؛ لأنه يجعل من استئناف أعمال اللجنة الدستورية موافقًا للولاية المنصوص عليها في الأمم المتحدة، والغاية التي من أجلها أنشئت اللجنة، أي إجراء تعديل دستوري أو صياغة دستور جديد(17).

ثالثًا: مستقبل الدور العربي المستجد في سوريا

بموجب ما انتهت إليه اجتماعات عمَّان وجدة التشاورية، وما نصت عليه قرارات الجامعة العربية، يُفترض أن يشمل الدور العربي الجديد في سوريا عبر الانخراط مع النظام معالجة القضايا الأمنية مثل "مكافحة الإرهاب" وتهريب المخدرات، والقضايا الإنسانية كتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وعودة اللاجئين، والقضايا السياسية مثل مباحثات اللجنة الدستورية.

ولمعالجة تلك القضايا، يواجه الدور العربي في سوريا العديد من الصعوبات والتحديات، بعضها مرتبط بالاختلاف العربي-العربي حول آلية الانخراط مع النظام، وبعضها الآخر مرتبط بالموقف الغربي، إضافة إلى مدى تأثير موقف واستجابة النظام لهذا الدور الجديد.

عربيًّا، هناك تفاوت في الأولويات بين كل من السعودية والإمارات ودول أخرى من طرف، والأردن ومصر وغيرهما من طرف آخر؛ حيث يعتبر الطرف الثاني أن نهج الخطوة مقابل خطوة والقرار 2254 (2015) هما الآلية التي تضمن تحقيق جدوى وقيادة للجهود العربية في الحل، مثلما يُشير إلى ذلك بيان عمان ونص المبادرة الأردنية. في حين يبدو أن الطرف الأول يتعامل مع تلك الآلية باهتمام أقل في الفترة الحالية على الأقل؛ مع العلم أنه قد خلا منها بيان جدة.

إن تطبيق الأردن لمبادرته في سوريا؛ يساعد الرياض على الحد من مخاطر المخدرات والإرهاب هناك، والاستمرار في تعزيز العلاقة مع عمان وواشنطن، فضلًا عن تحقيق السعودية لأهدافها الرئيسية من التطبيع. أما استمرار المبادرة العربية تجاه سوريا دون تفعيل مبادرة عمان، فمن شأنه توسعة شُقَّة الخلاف في المواقف العربية وبالتالي سيحد من فاعلية الدور العربي الجديد في سوريا. إن استمرار الخلافات العربية بشأن سوريا حتمًا سينعكس سلبًا على إمكانية تنسيق الجهود العربية ضمن مبادرة واحدة بخطة عمل واضحة، فضلًا عن احتمال تعطيل أو تأجيل قرار تشكيل لجنة الاتصال الوزارية التي أوصى قرار الجامعة العربية، في 7 مايو/أيار 2023 بها، والمنوط بها التواصل مع النظام وتطبيق نهج الخطوة مقابل خطوة بما ينسجم مع القرار 2254.

غربيًّا، لا يوجد أي تغيير في شروط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول قضايا التطبيع والعقوبات وإعادة الإعمار؛ حيث ترفض تلك الدول الانخراط فيها ما لم يُشارك النظام بشكل حقيقي في الحل السياسي. بالمقابل، هناك دعم لنهج الخطوة مقابل خطوة، وقد يُساعد ذلك دولًا مثل الأردن ومصر على تنسيق الجهود العربية ثم تسويقها لدى الغرب الذي قد يوافق على هذا الدور، لاسيما إذا ما وُضعت خريطة طريق واضحة تقود إلى إحراز تقدم في عملية بناء الثقة -التي لطالما دعت إليها الأمم المتحدة- واستئناف العملية السياسية على أن تتضمن موافقة حقيقية من النظام على المشاركة في البحث عن تسوية.

وسوريًّا، يبقى أمام الجهود العربية عائق كبير متعلق بجدية أو قدرة النظام على الاستجابة لأي خطة أو مبادرة أو دور محتمل. فهو مقيد بنفوذ وسياسات حلفائه -روسيا وإيران- بما يجعله غير قادر أو مستعد لتطبيق القرار 2254، بل يرى -أي النظام- أنه أساسًا التزم بالقرار إياه منذ إجراء الانتخابات السورية عام 2021(18). وبما يخص نهج الخطوة مقابل خطوة يحاول النظام غالبًا الالتفاف عليه بإجراءات شكلية لا تقود إلى معالجة القضايا الإنسانية، مثل إصدار مراسيم عفو جديدة لا يكون لها أثر قانوني ولا تُسهم في خلق بيئة ملائمة لعودة اللاجئين(19)، ولا تسهم في إطلاق سراح المعتقلين أو الكشف عن مصير المفقودين(20).

إن أمام الدور العربي في سوريا تحديات وصعوبات بالغة، والتعويل على إحراز أي تقدم مرهون بتحقيق اختراقات سواء في علاقة النظام مع العرب عمومًا، أو في علاقاته الثنائية (دولة مع دولة) وعلى المدى المتوسط والبعيد. وقد تقتصر الجهود العربية في المرحلة الأولى على محاولة تنسيق مبادرة موحدة أو خطة عمل مشتركة إضافة لإقناع الغرب بها وحث روسيا على الضغط على النظام من أجل الامتثال لها. وأي موافقة لدمشق على أي مبادرة ليس بالضرورة أن تعني إحراز تقدم حقيقي، بل قد تعني المزيد من السعي لكسب الوقت بهدف تحقيق المزيد من المكاسب السياسية.

عمومًا، إن أي تراجع محتمل للدور العربي في سوريا؛ بفعل أي عوائق يواجهها، لن يؤثر سلبًا على استمرار وتعزيز مسار العلاقات الثنائية العربية والمبادرات متعددة الأطراف مع النظام، وهو ما قد يُعول عليه الأخير من ناحية الجدوى أكثر من مسار التقارب الجماعي الذي يفرض عليه قيودًا وضغوطًا قد لا يكون قادرًا أو مستعدًا للخضوع لها؛ حيث سيلجأ النظام لاستعمال النجاحات المحققة على مستوى العلاقات الثنائية والمبادرات متعددة الأطراف، لاسيما مع دول الخليج، لتعزيز وضعه في مسارات أخرى، مثل مسار أستانا وغيره، والذي يتم التعامل معه فيها كطرف مثل بقية أطراف الأزمة ويشترط للاعتراف به أن يقبل بتقاسم السلطة مع المعارضة وتقديم تنازلات داخلية وخارجية(21).

خلاصة

لا شك أن التراجع التدريجي للدور العربي في سوريا بعد عام 2011 كان لصالح تقدم أدوار فاعلين آخرين مثل روسيا وإيران وتركيا. ومثلما كان ذلك التراجع نتيجة الظروف الدولية والإقليمية أكثر من الذاتية فإن عودة الانخراط العربي في سوريا بعد عام 2018 هو أيضًا لذات الأسباب، ويهدف لاستدراك مصالح وتبديد مخاوف الدول العربية الأمنية والاقتصادية. وبخلاف الدور السابق يبدو الدور المستجد مفتقدًا إلى خطة عمل ومبادرة مشتركة بسبب التفاوت في السياسات والأهداف، ومن شأن ذلك أن يُضعف فرص وجود قيادة عربية مساهمة في الحل السياسي، إلا في حال تبلور الدور العربي تباعًا وانسجامه مع دور الأمم المتحدة في سوريا.

بالنتيجة، لن تؤدي السياسات العربية تجاه النظام إلى تغيير حالة الجمود في سورية سياسيًّا أو عسكريًّا على المدى القريب، ومن غير الواضح إن كانت هناك فرصة لتحول الجهود العربية إلى سياسة احتواء للنظام منسقة مع الولايات المتحدة بما يقود إلى تعديل سلوكه. وانشغال روسيا في حرب أوكرانيا قد لا يدفعها للحرص على تحقيق الجدوى من التطبيع التي تهدف إليها دول عربية، إنما قد تترك المجال مفتوحًا أمام الفاعلين في هذا المسار لإدارة الخلافات والتناقضات دون الوصول إلى تسوية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

 

  1. القرار رقم 8914 الصادر عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري بشأن تطورات الوضع في سوريا، القاهرة، 7 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/oJTR2
  2. "المبادرة العربية لحل الأزمة السورية"، الجزيرة نت، 6 سبتمبر/أيلول 2011، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/gn4P4
  3. مقابلة خاصة عبر الهاتف مع رياض الحسن. باحث في مركز جسور للدراسات محلل في الشؤون السياسية، (20 مايو/أيار 2023).
  4. مقابلة خاصة مع خالد تركاوي، باحث في مركز جسور للدراسات مختص في الشؤون الاقتصادية، (12 أبريل/نيسان 2023).
  5. مقابلة عبر الهاتف مع طه عبد الواحد، صحفي سوري مختص في الشؤون العربية-الروسية، (18 مايو/أيار 2023).
  6. فاطمة الصمادي، "بين طهران والرياض: حلحلة وحلول أم إدارة للتنافس والصراع؟"، مركز الجزيرة للدراسات، 14 مارس/آذار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/UH7jP
  7. "خلفيات عودة سوريا إلى الجامعة العربية وانعكاساتها الإقليمية"، مركز الجزيرة للدراسات، 25 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/vTBd2
  8. محمود البازي، "سوريا: ساحة صراع ومساحة ردع متقدم بين إيران وإسرائيل"، مركز الجزيرة للدراسات، 3 مايو/ أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/v99a0
  9. مقابلة عبر الهاتف مع بسام بربندي، دبلوماسي سوري سابق وأحد المعارضين البارزين للنظام السوري، (20 مايو/أيار 2023).
  10. Washington turns to Oman to mediate in US hostage talks in Syria, Intelligence Online, 25 Nov 2022: https://cutt.us/OflGk
  11. "خبراء يعلقون لـRT على اتصال السيسي ببشار الأسد لأول مرة منذ توليه رئاسة مصر"، روسيا اليوم، 7 فبراير/شباط 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/eL3fi
  12. "شكري يؤكد للمبعوث الأممي لدى سوريا ضرورة حل الأزمة السورية وفق القرار 2254"، اليوم السابع، 14 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/7h2Nz
  13. عبـد الحليـم قنديـل، "دور مصـر في سـورية". القـدس العربي، 22 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/S7e3s
  14.  “12 Years of Terror: Assad’s War Crimes and U.S. Policy for Seeking Accountability in Syria”, foreign affairs committee, 18 April 2023: https://cutt.us/OOC9B
  15. المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية: موقف دولة قطر من التطبيع مع النظام السوري لم يتغير، الشرق القطرية، 7 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/AJRZ5
  16. حايد حايد، "النظام السوري يستغل مطالب الإصلاح الإقليمي لتوسيع سلطته"، المجلة، 25 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/e3pfe
  17. مقابلة خاصة عبر الهاتف مع رياض الحسن، (26 مايو/أيار 2023).
  18. "المقداد: الوضع العربي واعد على صعيد تعميق العلاقات العربية، ولقاءات جدة كانت على مستوى الطموحات"، سانا، 21 مايو/أيار، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/4EW3n
  19. "النظام السوري يُصدر مرسوم عفو ثالثًا عن الجرائم عام 2022.. لماذا؟"، مركز جسور للدراسات، 21 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/exhuO
  20. فراس فحام، "نهج وسلوك النظام السوري إزاء قضية المعتقلين"، مركز جسور للدراسات، 18 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/pJHz8
  21. شفيق شقير والحواس تقية، "البوابة الخليجية: مدخل الأسد لفك العزلة الخارجية"، مركز الجزيرة للدراسات، 2 مارس/آذار 2023، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2023): https://cutt.us/tBdd9