أذربيجان وأرمينيا: تراجع الحل التفاوضي وتوالي نذر الحرب

زاد التوتر بين أذربيجان وأرمينيا لأنهما أخفقتا في تسوية الخلافات العالقة بينهما تفاوضيًّا، وقد يندفعان دون رغبة منهما إلى حرب جديدة قد تضطر إيران وتركيا إلى الصدام المسلح.
قضايا شائكة تحول دون تسوية تفاوضية لنزاع قرة باغ (AFP).

في 7 سبتمبر/أيلول 2023، ندَّد رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، في اجتماع حكومي بما وصفه بالحشد العسكري الأذربيجاني المتصاعد على حدود التَّماس مع إقليم ناغورني قرة باغ، ومع أرمينيا. ولم تلبث الحكومة الأرمينية أن نشرت صورًا لهذه الحشود، تُظهر طوابير ممتدة من المركبات والمعدات العسكرية الأذرية، بدون أن تحدد موقعها. خلال ساعات، كذَّبت مصادر أذرية في باكو ادعاءات باشينيان، وقالت: إن تصرفات ومواقف أرمينيا هي ما يدفع إلى تصاعد التوتر في العلاقات بين البلدين.

الواضح، سواء صحت تقارير الحشد العسكري الأذري أم لا، أن الأمور في جنوب القوقاز متوترة، وأن نذر الحرب عادت لتخيم من جديد على خطوط المواجهة بين باكو ويريفان.

توقفت الجولة الأخيرة من الحرب بين الجارتين رسميًّا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إلا أنهما لم توقِّعا معاهدة سلام تضع نهاية للصراع المستمر منذ بداية تسعينات القرن الماضي. وإلى أن تُوقَّع مثل هذه المعاهدة، يبدو أن الخلافات حول وضع إقليم قرة باغ ذي الأغلبية الأرمينية، وممر لاتشين، الذي يصل بين قرة باغ وأرمينيا، إضافة إلى الخلاف الأكثر حدة حول ممر زنغزور، الذي يفترض أن يصل بين أذربيجان وإقليم ناخشيفان، تأخذ البلدين إلى حافة الصدام العسكري.

ما يجعل الأوضاع أكثر تعقيدًا أن الأزمة الأذرية-الأرمينية، بملفات خلافاتها متعددة الأوجه، يتجاذبها عدد من القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك روسيا، وتركيا، وإيران، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية. ولكل من هذه القوى تصورها الخاص لمصالحها في العلاقة مع أذربيجان وأرمينيا، وما يمكن أن يعود عليها من اشتعال الحرب بين الدولتين، أو حل مسائل الخلاف العالقة سلميًّا.

حرب لم تحل كافة المعضلات

يعود التعقيد الناتج عن تداخل الحدود بين أذربيجان وأرمينيا إلى الثلاثينات من الحقبة السوفيتية، وجملة الإجراءات التي اتبعها النظام الستاليني بهدف حل المسألة القومية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي، في قول، أو بهدف إضعاف المناهضين للنظام الشيوعي، في قول آخر. في نهاية الثمانينات، عندما بدأ تفكك الاتحاد السوفيتي، واجهت أذربيجان تمردًا مسلحًا في إقليم قرة باغ ذي الأغلبية الأرمينية، مدعومًا من يريفان. وما أن انتهت الحرب على مصير قرة باغ في 1994، حتى كانت أرمينيا، وبدعم من روسيا، قد أحكمت سيطرتها ليس على قرة باغ وحسب، بل وعلى محيط واسع من أراضي الأغلبية الأذرية، تصل إلى 20 بالمئة من مساحة جمهورية أذربيجان.

ارتكبت القوات الأرمينية جرائم بشعة خلال سنوات المواجهة الأولى، وتسببت في تدمير مدن وأحياء بأكملها، وفي قتل وتهجير مئات الآلاف من الأذريين في المناطق المجاورة لقرة باغ. وبينما حققت الحرب تواصلًا جغرافيًّا مريحًا وآمنًا بين أرمن قرة باغ وأرمينيا، قطعت خط التواصل بين أذربيجان وإقليم ناخشيفان الأذري، الواقع غرب أرمينيا، والذي يفتح على تركيا ببوابة حدودية لا تزيد عن ثمانية كيلومترات.

وضعت حرب بداية التسعينات الدولتين الجارتين على طريق طويل من الصراع والتدافع، الذي لم يهدأ فينة إلا ليشتعل من جديد. في خريف 2020، وبعد سنوات من الاستعداد، اندفعت القوات المسلحة الأذربيجانية لتحرير الأراضي المحتلة من أرمينيا. توفر لأذربيجان، بفعل علاقاتها الودية مع إسرائيل، دعم تسليحي إسرائيلي. ولكن العامل الحاسم في حرب 2020 كان بالتأكيد الدعم التركي، الذي تمثل في أسلحة نوعية، بما في ذلك الطائرات المسيرة، والتدريب، والمستشارون العسكريون.

بعد ستة أسابيع من الحرب، أوقعت أذربيجان هزيمة فادحة بأرمينيا، استعادت معظم أراضيها التي احتُلت في التسعينات، ودفعت القوات الأرمينية إلى الجانب الآخر من الحدود. لم تتدخل روسيا هذه المرة بأي صورة فعلية في مجريات الحرب، بالرغم من وجود قاعدتين روسيتين في أرمينيا واعتماد أرمينيا على السلاح الروسي. التعنت الأرميني طوال سنوات، ورفض يريفان تسوية النزاع بالتفاوض، والرغبة في الحفاظ على علاقاتها مع أذربيجان، وعدم ارتياح القيادة الروسية لسياسات رئيس الحكومة الأرمينية، كانت الدوافع الرئيسة خلف اتباع موسكو سياسة عدم التدخل في الحرب.

ولكن هذا لا يعني أن روسيا لم تتدخل كلية؛ فأرمينيا في النهاية عضو في منظمة الأمن الجماعي (التي تضم روسيا وخمس دول سوفيتية سابقة، ولا تضم أذربيجان)، التي تفرض على روسيا التدخل لحماية الدول الأعضاء الأخرى من المخاطر التي تهدد أمنها.

الحاصل أن امتناع أذربيجان عن مهاجمة أرمينيا، بل اقتصرت عملياتها على أراضيها المحتلة، جعل التدخل الروسي يقتصر على فرض اتفاقية لوقف إطلاق النار على المتحاربين (وُقِّعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020)، وإرسال قوات سلام روسية حافظت على إقليم قرة باغ من الوقوع تحت السيطرة العسكرية الأذرية المباشرة. ينص البند التاسع من اتفاقية وقف إطلاق النار، التي كُتبت بلغة عامة وغير مفصلة، على أن تقوم الدولتان المتحاربتان بفتح المعابر (التي تربط أرمينيا بقرة باغ، أو تربط أذربيجان بناخشيفان).

التزمت أذربيجان بالفعل بفتح ممر لاتشين، الواصل بين قرة باغ وأرمينيا، ولكن يريفان ماطلت طوال الأعوام الثلاثة الماضية في إعطاء موافقتها على مطالب أذربيجان بفتح ممر زنغزور ومد خط سكة حديد يربط باكو بناخشيفان. كما أن الدولتين، بالرغم من إقرار أرمينيا بالهزيمة في الحرب، ومن الرعاية الروسية للمفاوضات، لم تستطيعا بعد الاتفاق على وضع قرة باغ ضمن جمهورية أذربيجان.

الممرات ومصير قرة باغ

تقول يريفان: إن أذربيجان قامت، ومنذ عدة أشهر، بإغلاق ممر لاتشين الذي يربط قرة باغ بأرمينيا، وإن هذا الإغلاق تسبب في نقص حاد في الدواء والمواد الغذائية في الإقليم الذي يعتقد أن عدد سكانه يصل إلى 120 ألف نسمة من الأرمن. وتؤكد مصادر الحكومية الأرمينية أن الحصار الذي تفرضه أذربيجان على الإقليم هو جزء من توجه باكو التصعيدي لإشعال الحرب. في المقابل، تقول باكو أن ليس ثمة إغلاق ولا حصار، كل ما قامت به القوات الأذرية هو وضع نقطتي تفتيش على طرفي ممر لاتشين، بعد أن لاحظت تهريب السلاح والذخائر من أرمينيا إلى المسلحين الانفصاليين في قرة باغ.

المشكلة بالطبع أن إقليم قرة باغ لا يعتبر مجرد منطقة ذات أغلبية أرمينية في وسط أذربيجان، بل إن أرمن قرة باغ قاموا منذ 1991 بإعلان الاستقلال تحت اسم جمهورية أرتساخ (وهو اسم لملك أرميني أسطوري عاش قبل الميلاد). اتخذت الجمهورية الانفصالية من مدينة خانكندي عاصمة لها، أقامت مجلسًا نيابيًّا وانتخبت رئيسًا للجمهورية، وأسَّست جيشًا بلغ تعداده ما يقارب 20 ألف جندي، يعتقد أن أكثر من نصفهم من مواطني جمهورية أرمينيا. في 10 سبتمبر/أيلول 2023، وبعد استقالة الرئيس السابق، انتخب نواب أرتساخ رئيسًا جديدًا للجمهورية. بمعنى، أنه وبعد هزيمة أرمينيا في حرب 2020، لا يزال أرمن قرة باغ يرون أنفسهم كيانًا مستقلًّا، ولا يقرون بسيادة أذربيجان على أراضي الإقليم.

شجبت باكو عملية انتخاب رئيس جديد للإقليم، واعتبرته عملًا استفزازيًّا. والحقيقة، أن ليس ثمة دولة في العالم تعترف بانفصال قرة باغ عن أذربيجان. وحتى الاتحاد الأوروبي، الذي يراعي عادة الموقف الفرنسي المؤيد لأرمينيا، طالب أهالي قرة باغ بالواقعية واختيار قيادة تتفاوض مع باكو وتجد حلًّا سلميًّا لمستقبل الإقليم.

عمومًا، ليس من المستبعد أن تكون أذربيجان قد استخدمت نقاط التفتيش التي وضعتها على جانبي ممر لاتشين في الشهور القليلة الماضية لتقييد حركة الحافلات بين قرة باغ وأرمينيا، بدون تمييز بين حمولات هذه الحافلات. وربما كان الهدف من هذه الإجراءات الضغط على أرمينيا التي لم تستجب حتى الآن لمطالب أذربيجان بفتح ممر زنغزور، الذي يربط أذربيجان الأم بمقاطعة ناخشيفان في الغرب. والمؤكد، على أية حال، أن الخلاف حول ممر زنغزور أكثر تعقيدًا من أيٍّ من مسائل الخلاف الأخرى.

كان ثمة خط سكة حديدية يربط أذربيجان بناخشيفان أثناء الحقبة السوفيتية، ولكن هذا الخط قُطع وتعطل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في مطلع التسعينات. ولكن أرمينيا، التي لا تتنكر لالتزاماتها في اتفاقية 2020 لوقف إطلاق النار، تقول: إن الاتفاقية لم تنص على إنشاء خط من السكة الحديدية بين أذربيجان وناخشفيان، وإنها على استعداد لفتح ممرات للنقل البري عبر الأراضي الأرمينية. والواضح أن يريفان ترى في خط السكة الحديدية الذي تطالب به باكو تهديدًا لسيادتها على أرضها، وتهديدًا محتملًا لاتصالها مع إيران، التي تعتبر حليفًا رئيسًا لأرمينيا. السماح ببناء خط سكة حديدية عبر ممر زنغزور، يعني أن تُمنح أذربيجان طريقًا ثابتًا ودائمًا يوازي خط منطقة الحدود الوحيدة بين أرمينيا وإيران.

في 14 يونيو/حزيران 2023، وجه أردوغان في حديث مع الصحافيين الذين رافقوه في رحلة العودة من زيارة أذربيجان الانتقاد لإيران، وقال: إن معارضة إيران هي العقبة الرئيسة أمام فتح ممر زنغزور. وفي أوائل سبتمبر/أيلول، عندما نُقل عن مسؤولين أذريين توكيدهم على أن خط ممر زنغزور الحديدي سيكون جاهزًا في 2024، في تلويح لا يخفى لاستخدام القوة، نشرت وسائل إعلام إيرانية أخبارًا تفيد بحشد قوات الحرس الثوري على الحدود مع أذربيجان وأرمينيا واستعداد إيران للتدخل لمنع أذربيجان من فتح ممر زنغزور بالقوة. وبعد اللقاء الأول لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، مع نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في طهران، ذكرت وسائل إعلام روسية أن فيدان حذَّر عبد اللهيان من أن أي تدخل عسكري في النزاع الأذري-الأرميني سيستدعي تدخلًا مكافئًا من الجيش التركي.

عمومًا، ومهما كانت الحقيقة خلف هذه التقارير فالواضح أن النزاع حول ممر زنغزور لا يكشف إلا جانبًا واحدًا لحجم التدافع الدولي حول الوضع في جنوب القوقاز.

1

تدافع دولي وإقليمي على السواء

فتح ممر زنغزور في صورة سكة حديدية تصل بين باكو، على بحر قزوين، وناخشيفان، ومن ثم إلى قارص في شمال شرقي تركيا، سيؤدي إلى تفعيل ما يسمى بالممر الأوسط (The Middle Corridor)، الذي طُرح أصلًا باعتباره أحد مشاريع الحزام والطريق الصيني لإقامة طريق بري-بحري يربط بين الشرق الآسيوي وأوروبا الغربية، عبر وسط آسيا والقوقاز وتركيا. كما سيوفر الممر طريقًا مباشرًا بين تركيا وكافة الجهوريات التركية، بداية من أذربيجان إلى قرغيزيا، بدون الاضطرار للعبور من شمالي إيران.

تولي تركيا أهمية بالغة للدور الذي يمكن أن تتعهده في طرق الاتصال بين الشرق والغرب، سواء كانت طرق تبادل تجاري واقتصادي أو طرقًا لنقل الطاقة. وقد امتعضت تركيا في قمة العشرين الأخيرة، التي عُقدت في العاصمة الهندية، دلهي، عندما أعلنت الولايات المتحدة عن اتفاق الهند والسعودية على فتح طريق بحري-بري يبدأ من الساحل الهندي وصولًا إلى البحر المتوسط، مارًّا بالسعودية والأردن وإسرائيل. علَّق الرئيس التركي على مشروع طريق الهند-السعودية بالقول: إنه لن يكون هناك ممر يربط الشرق بالغرب بدون تركيا.

بمعنى أن أردوغان يرى الاتفاق الهندي-السعودي، على الرغم مما يحيطه من شكوك، باعتباره منافسًا لما يمكن أن تتعهده تركيا من دور، سيما أن كافة أطراف الاتفاق، بما في ذلك الراعي الأميركي، تدرك أن المباحثات بين العراق وتركيا حول طريق نقل بري وسكة حديدية يصل البصرة بميناء مرسين التركي على ساحل المتوسط قد قطعت شوطًا متقدمًا. يرى الأتراك أن الطريق الأوسط عبر ممر زنغزور، وطريق البصرة-مرسين، يأتيان في وقت مواتٍ، بعد فشل المشروع الإيراني-الروسي لإقامة ممر بري بين بندر عباس وروسيا الأوروبية بفعل الحرب الأوكرانية وعزلة روسيا عن جوارها الأوروبي، وأن الجغرافيا سرعان ما ستجعل من تركيا عقدة مركزية في طرق الاتصال بين الشرق والغرب، المنافسة لقناة السويس.

إيران، من جهة أخرى، ترى في فتح ممر زنغزور مسعى تركيا-أذربيجانيًّا لإخراجها كلية من طرق الاتصال بين مجالي العالم الأكثر حيوية اقتصاديًّا؛ بل ومنح أذربيجان وتركيا خط اتصال يهدد بفصلها عن أرمينيا والقوقاز، ويعزز الترابط بين تركيا والعالم التركي في القوقاز وآسيا الوسطى. تركيا في النهاية، وعلى الرغم من علاقاتها الودية مع إيران، هي دول عضو في حلف الناتو، ومنافس إقليمي يصعب تجاهله. أما أذربيجان، التي تمثل التعبير الوحيد للهوية الأذربيجانية القومية، فتشكل خطرًا سياسيًّا وأمنيًّا على إيران: سياسيًّا، كون ما لا يقل عن ثلاثين بالمئة من سكان إيران هم من الأذريين الأتراك، ويحمل قطاع واسع منهم تعاطفًا حميمًا وتماهيًا مع أشقائهم في الجانب الآخر من الحدود. أما أمنيًّا، فتعتبر العلاقات التي تزداد وثوقًا بين أذربيجان وإسرائيل مصدر قلق كبيرًا للقيادة الإيرانية.

تمثل روسيا، الجار الكبير في الشمال ومركز الهيمنة الإمبراطورية منذ قرون، بالنسبة لجنوب القوقاز الفيل القابع في غرفة الجلوس. خلال السنوات القليلة الماضية، أخذت روسيا، وبعد أن خسرت معظم نفوذها في جورجيا، تولي اهتمامًا أكبر لأرمينيا وأذربيجان. ولابد أن الأهمية الجيوسياسية لأرمينيا وأذربيجان أصبحت أكثر حيوية بعد الحرب الأوكرانية، وذهاب أوكرانيًا غربًا. وهذا بالتأكيد ما دفع موسكو إلى تبني سياسية أكثر توازنًا في علاقاتها مع باكو ويريفان، وتجنبها تكرار الخطأ الذي ارتكبته الدولة الروسية في مطلع التسعينات عندما انحازت كلية لأرمينيا. 

نظرت الحكومات الأرمينية المتعاقبة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، في 1991، إلى روسيا باعتبارها الحليف الأوثق ومظلة الحماية والملجأ الآمن؛ بل إن انبثاق القومية الأرمينية أصلًا في نهايات القرن التاسع عشر كان وثيق الصلة بروسيا القيصرية. وفرت روسيا دعمًا ملموسًا لأرمينيا في جولة حربها الأولى ضد أذربيجان، وأقامت قاعدتين عسكريتين على الأراضي الأرمينية. وبخلاف أذربيجان، التحقت أرمينيا بمعاهدة الأمن الجماعي، التي ترتكز إلى القوة الروسية.

ولكن الزعيم الأرميني، باشينيان، أظهر منذ توليه رئاسة الحكومة، في 2018، رغبة واضحة في إقامة علاقات أكثر دفئًا مع القوى الغربية، سيما الولايات المتحدة وفرنسا، سعيًا على الأرجح لتعزيز الاقتصاد الأرميني وإيجاد بدائل للهيمنة الروسية. ولابد أن باشينيان، كما أغلب مواطنيه، قد فوجئ بالموقف الحيادي الذي التزمته روسيا في حرب 2020 القصيرة. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبته روسيا في التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار، ومن قيام روسيا بتوفير الحماية لإقليم قرة باغ وتأجيل حسم مستقبله إلى التوافق التفاوضي بين باكو ويريفان، إلا أن أرمينيا لم تستطع إخفاء خيبة الأمل في الحليف الروسي. خلال الشهور السابقة على تصاعد حدة التوتر بين أرمينيا وأذربيجان، وجَّه باشينيان في أكثر من مناسبة الانتقاد لروسيا وموقفها من بلاده، وقال صراحة: إن أرمينيا أخطأت عندما وضعت كل رهاناتها في السلة الروسية.

في 7 من سبتمبر/أيلول 2023، أعلنت حكومة باشينيان، وبصورة مفاجئة، عن عقد مناورة مشتركة بين القوات الأرمينية وقوات أميركية قرب يريفان، تستمر من 11 إلى 20 سبتمبر/أيلول. صحيح أن عدد القوات المشاركة في التدريبات المشتركة هو أقل من مئتي جندي، وأن هدف التدريبات، كما تقول يريفان، هو التنسيق بين قوات البلدين في مهمات حفظ السلام، ولكن المؤكد أن مثل هذه المناورة تعتبر خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الأرمينية-الغربية.

ليس من الواضح ما الذي تحاوله يريفان من هذا الاستدعاء الصريح للولايات المتحدة الأميركية؛ لأن الحقائق الجيوسياسية لا تسمح للأميركيين بالتدخل عسكريًّا في جنوب القوقاز، المغلق بريًّا والبعيد عن خطوط الاتصال البحري. في 2008، لم تستطع الولايات المتحدة مد يد العون لجورجيا عندما تعرضت لهجوم روسي كاسح، بالرغم من أن جورجيا تطل على البحر الأسود. القراءة الأكثر واقعية لخطوة باشينيان، أن رئيس الحكومة الأرمينية يريد من استدعاء الأميركيين مجرد استفزاز موسكو، والإيحاء لروسيا بأنها ما لم تتحرك لتعزيز موقفه ودعم بلاده فإن لديه بدائل غربية.

عمومًا، ومهما كانت حقيقة نوايا باشينيان، لم يجد الإعلان عن المناورة المشتركة مع الأميركيين سوى رد فعل غاضبًا في موسكو. في 8 سبتمبر/أيلول، استدعت وزارة الخارجية الروسية السفير الأرميني في موسكو وأبلغته بأن روسيا تنظر إلى التدريبات المشتركة مع الأميركيين، وعلى الأرض الأرمينية، باعتبارها خطوة غير صديقة.

خطر الحسابات الخاطئة

ليس ثمة ما يوحي بأن أيًّا من أذربيجان وأرمينيا تريد اشتعال الحرب من جديد. حرب جديدة تعني دمارًا وتهجيرًا جديدين، لأن الصراع لا يدور على أرض فسيحة مفتوحة، بل على أرض من القرى والمدن التي يقطنها مئات الآلاف، أو بدأت مئات الآلاف في العودة إليها بعد أن خلقت حرب 2020 انطباعًا بحلول السلام. ولكن الحرب قد تشتعل على الرغم من ذلك، ليس لأن قيادات البلدين تريدانها بالضرورة، بل لحسابات خاطئة من هذا الطرف أو ذاك.

يبدو باشينيان خلال السنوات الثلاث منذ نهاية الجولة الأخيرة من الحرب وكأنه يعاني من الانقسام على الذات. أقرَّ باشينيان بعد نهاية الحرب، بالرغم من الحراك المعارض له في الشارع، بالخسارة، وعكست خطواته السياسية سعيًا إلى إيجاد حلول تفاوضية لما تبقَّى من مسائل عالقة مع أذربيجان. ولأن باشينيان يدرك أن تركيا هي الشريك الفعلي، غير المنصوص عليه، في الصراع على جنوب القوقاز، بادر، في يناير/كانون الثاني 2023، إلى عقد أول لقاء دبلوماسي مع تركيا منذ قطعت العلاقات بين تركيا وأرمينيا في 1993. كما شجعت أوساط باشينيان التوقعات بقرب فتح حدود بلاده تركيا، بكل ما يعنيه ذلك من عوائد على الاقتصاد الأرميني وعلى حركة الشعب في أرمينيا.

ولكن باشينيان في الوقت نفسه لم يبد استعدادًا للتوصل إلى حل لمستقبل قرة باغ، ولا أعطى موافقة صريحة على فتح ممر زنغزور؛ بل والمؤكد أنه لم يتوقف عن إمداد القوات الانفصالية في قرة باغ بالذخيرة والسلاح. وليس ثمة شك في أن محاولات باشينيان إدخال فرنسا (والاتحاد الأوروبي ككل) إلى ساحة التدافع على جنوب القوقاز، وسعيه الحثيث إلى الحصول على إمدادات سلاح جديدة من الهند (عن طريق إيران)، واستدعاءه الأميركيين لأول مرة إلى المنطقة، تحت غطاء مناورات حفظ السلام، تصب جميعًا في جهة التصعيد.

أذربيجان، من جهتها، يمكن أن تصل إلى منعطف، تفقد فيه الصبر والإيمان بجدوى الانتظار للتوصل إلى حلول تفاوضية للخلافات، وإمكانية توقيع اتفاقية سلام تعيد الحياة إلى طبيعتها في جنوب القوقاز. خرجت أذربيجان من حرب 2020 بشعور متعاظم من الثقة بالذات، ولم تتوقف خلال السنوات الثلاث الماضية عن تعزيز مقدراتها العسكرية وتوكيد تفوقها في ميزان القوى. ثمة حاجة ملحَّة في باكو، التي بذلت جهودًا كبيرة لإعادة الإعمار وتأمين عودة اللاجئين إلى المناطق التي كانت تحتلها أرمينيا، للتوصل إلى حل نهائي لوضع قرة باغ، يحفظ سيادة الدولة على أرضها، وإلى إقامة طريق اتصال مستقر وآمن مع إقليم ناخشيفان (الذي تنتمي إليه عائلة الرئيس الأذري). وبدون إحراز تقدم ملموس في اتجاه حل مسائل الخلاف، قد تميل كفة جناح الصقور في باكو لأنه لم يتبق ثمة خيار آخر سوى العودة إلى السلاح.

في لحظة توتر ما، قد تجد إيران أن ليس ثمة حل للتهديد الذي يمثله الصعود الأذري سوى استخدام القوة وتلقين قادة باكو درسًا تاريخيًّا حاسمًا. في حال تدخلت إيران عسكريًّا بصورة مباشرة، فمن الصعب تصور امتناع تركيا عن التدخل. وقد يصبح جنوب القوقاز ساحة مريرة للاستنزاف التركي-الإيراني.

القوى الدولية هي الأخرى مرشحة لارتكاب خطأ في الحسابات، مثل أن تجد روسيا أن ليس ثمة سبيل للتخلص من القيادة الأرمينية الحالية سوى تشجيع أذربيجان على إيقاع هزيمة جديدة بأرمينيا أو أن تجد الولايات المتحدة أن اشتعال الصراع في جنوب القوقاز سيشكِّل عامل ضغط إضافيًّا على روسيا، يضعف موقفها في أوكرانيا.

عمومًا، ومهما كانت الدوافع إلى تفاقم الوضع في جنوب القوقاز، فإن حربًا أخرى ستستنزف الشعبين، الأرميني والأذري.