الانقلابات والتحولات الإفريقية: استقلال جديد أم استبدال هيمنة بأخرى؟

تعالج هذه الورقة أسباب الانقلابات وما يعبِّر عنه البعض بيقظة جديدة للنخب والشعوب، لتتطرق للفرص والتحديات في سياق التنافس الكبير بين الدول الكبرى في العالم، ومن ثم معرفة مآلات الحراك الإفريقي الحالي وأين هو من تحقيق الاستقلال في سياق استقطاب بين القوى العظمى.
النخب الإفريقية مدعوة إلى تحويل الحراك "انقلابات إفريقيا الغربية" الراهن إلى تحول نوعي يحقق ما تبقى من مقومات الاستقلال (الأناضول).

تحولات كثيرة عرفتها عشرات الأقطار الإفريقية وخصوصًا في غرب إفريقيا منذ ستة عقود مع فجر الاستقلال وإلى الآن، ولكن القارة ونخبها ظلت تدور في نفس الحلقة المفرغة وخصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة. فإذا كان الجيل الأول قد حقق الاستقلال وأنجز في ذلك منجزات تتفاوت أهميتها، إلا أنه لم ينصرم العقدان الأولان بعد الاستقلال حتى بدأت إشكالات كثيرة تظهر في هذه البلدان، وغطت حالة الصراع بين الشرق والغرب وما نتج عنها من حرب باردة وتنافس أيديولوجي حاد على مشكلات القارة ردحًا من الزمن، ومع خفوت الحرب الباردة ظهرت الأزمات الإفريقية في شكل صراعات إثنية وحروب أهلية في أكثر من مكان.

ومع مطلع الألفية الجديدة بدأت حالة من الاستقرار وتجاوز صراعات حقبة التسعينات غير أن هذا الاستقرار الهش لم يصمد، وشكَّلت أحداث الربيع العربي، التي أطاحت بالرئيس الليبي، معمر القذافي، فرصة للقوميات المختلفة التي كان القذافي يلعب بورقتها في المنطقة فبدأ عدم الاستقرار يظهر بشكل قوي في مالي وفي تشاد والنيجر وتسللت جماعات التطرف العنيف إلى كامل المنطقة محققة انتشارًا غير مسبوق مع التدخل الفرنسي 2013. وبعد سنوات من التدخل الدولي والفرنسي في المنطقة، ومع تكرار الخسائر في الجيش المالي، ومع شيوع الفساد في نظام الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، بدأت صحوة إفريقية في مالي مطالبة بوضع حد للوجود الفرنسي. ولأول مرة منذ عقود يأتي هذا التحول بقيادة النخب، فجاء انقلاب عاصمي غويتا الذي أخذ على عاتقه وضع حد للوجود الفرنسي في بلاده مدعومًا بقوة من الشعب المالي ونخبه المدنية والعسكرية، وبعد انقلاب مالي تتابعت الانقلابات في غرب إفريقيا ووسطها.

تعالج هذه الورقة أسباب الانقلابات وما يعبِّر عنه البعض بيقظة جديدة للنخب والشعوب، لتتطرق للفرص والتحديات في سياق التنافس الكبير بين الدول الكبرى في العالم، ومن ثم معرفة مآلات الحراك الإفريقي الحالي وأين هو من تحقيق الاستقلال في سياق استقطاب بين القوى العظمى.

أولًا: التحولات والانقلابات الإفريقية وأسبابها

لم تأت التحولات الإفريقية الراهنة نتيجة لجملة من الأسباب مباشرة وإنما نتيجة تراكمات كثيرة وأسباب متعددة يمكن إجمالها فيما يلي:

  1. فقدان الأمل: ظل الأمل في الأنظمة السياسية الحاكمة ونخبها يتلاشى خصوصًا مع صعود قيادات جديدة من الشباب المدنيين والعسكريين الراغبين في لعب أدوار جديدة في الحياة السياسية. وقد ساعد ذلك الصعود تفشي الفساد في الطبقة الحاكمة، وعدم قدرة الحكومات على حل الإشكالات القائمة، وتراكم مشكلات عديدة حالت دون نفاذ المواطنين إلى أبسط الخدمات الضرورية، ومع الوقت أصابت هذه الأنظمةَ حالة من الشلل والتقادم والعجز عن الاستجابة لركام التحديات القائمة والقادمة.
  2. التأجيل وإعادة التاجيل: بات التأجيل المستمر للإصلاحات الجدية سمة الأنظمة الحاكمة في إفريقيا، تلك الإصلاحات التي قد تمكن من استجابة فاعلة وحقيقية لابتكار وإنجاز حلول ميدانية للإشكالات القائمة، هذا مع فقدان الشباب -سواء كانوا في مراكز القيادة أو في نشاطات المجتمع المدني والأحزاب السياسية- الأملَ في الأنظمة القائمة، وتذمرهم المستمر من سلوكها ونهجها القائم على تجاهل المشكلات الكبيرة المستعصية، وفي نفس الوقت انخراط النخب الحاكمة في الثراء الفاحش.
  3. جمود الفضاء السياسي: مع الوقت تكلست النخب الإفريقية الفرنكفونية وتآكل خطابها، وهو ما عراها أمام الملايين من السكان الذين فقدوا الثقة فيها، وأدركوا مع الوقت حيلها وبؤسها المتوارث منذ عقود. ومن الطبيعي أن تولِّد هذه الحالة من الجمود تذمر الناس من الأنظمة الرئاسية التسلطية التي احتكرت السلطة والثروة وفشلت في تقديم الحد الأدنى من التنمية وبالتالي الأمل للناس في المستقبل.
  4. انقسام المشهد السياسي: أصيبت النخب الإفريقية المدنية والعسكرية على السواء بالانقسام، وقد عزَّز ذلك الانقسامَ انهيارُ النظام الدولي وتصاعد تنافس القوى الكبرى على القارة الفتية الشابة ذات السوق الاستهلاكية والثروات الكبيرة المستقرة في باطن الأرض التي كانت من عوامل التيقظ والوعي بحتمية التحرك للإمساك بزمام المستقبل(1).

إلى غير ذلك من العوامل التي شكلت أهم الروافع وأبرز الدوافع والأسباب المباشرة للانقلابات في غرب إفريقيا. وإذا ما قمنا بمراجعة واقع الأقطار الإفريقية فإن هذه المنطقة من العالم عرفت باستمرار المراوحة بين عقود من الاستقرار وسنوات من الاضطراب؛ نتيجة حيوية النخب التي كانت موجودة وخصوصًا الأحزاب ذات التوجه الليبرالي، التي حكمت بالتعاون والإسناد الفرنسي ردحًا من الزمن. ثم جاءت تحولات دولية جعلت فرنسا تفتقر للقادة الحكماء ذوي الرؤية الإستراتيجية الحاذقة، فكان ما كان من تداعيات الربيع العربي على منطقة الساحل الإفريقي. وما إن تفككت ليبيا حتى انفتحت ثغرات وتوسعت فجوات كبيرة في استقرار المنطقة. وبموت الرئيس التشادي، إدريس ديبي إتنو، وفشل التدخل الفرنسي في مالي دخلت المنطقة في أزمات متلاحقة فتحت المجال للتدخل الروسي. ومع هذا التنافس الدولي المحموم يمكن أن نلاحظ كيف أن أميركا غضَّت الطرف عن دخول لاعبين كثر إلى الساحة الإفريقية، بل إن إنها تركت المجال لروسيا لتزاحم بل وتخرج الفرنسيين من مجال كان إلى حد قريب مجال باريس الإستراتيجي، وهو ما جعل بلدان القارة تسقط بيد فاغنر واحدًا تلو الآخر إلى أن وصلت التداعيات للقلاع الحصينة في النيجر وغيرها، ومن يدري فربما يتواصل تساقط أحجار الدومينو الإفريقية ذات الولاء الفرنسي وقد تصل هذه التغييرات حتى للبلدان التي كانت بعيدة المنال من هذه التغييرات.

ثانيًا: التحولات ودور النخب في استثمارها لاستقلال جديد

طرحت التحولات الجارية في غرب إفريقيا أسئلة كثيرة حول دور النخب في هذه التحولات وإمكانية استثمارها في تحقيق مزيد من الاستقلالية الثقافية والحضارية عن المنظومة الفرنكفونية الموروثة عن الاستعمار الفرنسي، والتي لوثت الدولة الوطنية الحديثة ومشروع استقلالها عبر فرض نمط ثقافي ولغوي مباين للتاريخ والحضارة الإفريقية، فحال دون تحقق الذات الوطنية فلم يسمح بتطور اللغات الوطنية الإفريقية وأخذها مكانة مقبولة في نسيج الثقافة الوطنية. كما تمت محاربة اللغات الكبرى التي كانت سائدة في القارة والتي دُوِّن بها تراثها لأكثر من ألف سنة كاللغة العربية على سبيل المثال، ونفس الشيء ينطبق على لغات الفلاني والصونغاي والبنمبرة... إلخ.

يتفاءل كثيرون من النشطاء في إفريقيا بإمكانية تحويل الانقلابات الحالية في القارة -والتي فضَّل قادتها الاعتماد على المعسكر الشرقي ممثلًا في الصين وروسيا- إلى تحولات حقيقية تعيد صياغة سياسات البلاد وتؤسس لمراجعة المرتكزات الثقافية المستقرة منذ عقود لصالح التبعية لفرنسا، غير أن هذا الحلم الكبير تقف في وجهه عوائق كثيرة، فقد عملت السياسات الاستعمارية على ترسيخ الانقسام الإثني بين مكونات الشعب الواحد في هذه الدول بشكل غير مسبوق، مما جعل الثقة تكاد تكون معدومة بين الفصائل والنشطاء في هذه المكونات.

كما أن هذه النخب لا تزال رهينة الثقافة الفرنسية ومرتكزات تفكيرها، وبالتالي فإن ما يحصل حاليًّا من غضب إفريقي يمتزج فيه الخطاب الشعبوي بالتمنيات والأشواق والطموحات، أكثر من إمساك مكونات حراكه برأس الخيط الرفيع القائد نحو التخلص من التبعية والارتهان للمستعمر السابق الذي لغم أرضية التعايش الوطني، وزرع فيها بذور الفرقة والخلاف المستديم.

وإذا كانت ضغط الصوت الاحتجاجي محملًا فرنسا تبعات كل السلبيات الإفريقية، إلا أن العديد من الدارسين الأفارقة المعايشين لتحولاتها يرون أن النخب الإفريقية بحاجة لنقد ذاتي يؤصل التشخيص الدقيق للمشكلات الإفريقية، والتي يعتبر جزء أساسي منها ذاتيًّا، وللأفارقة كنخب وأحزاب دور في ما وصلت إليه الأمور. كما أن الشعوب والقوى الحية فيها تتحمل جانبًا آخر مما يتطلب من الذات الإفريقية الاعتراف بالإخفاق والقصور(2) طبقًا لمنهج: "قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ".

ويقترح العديد من قادة النخب الإفريقية من أبناء الهامش اهتبال هذه الفرصة لإحداث تغيير عميق فيما يخص البنية الثقافية والفكرية، والتحرر من أطروحات الفرنكفونية والتخلص من كل ما له علاقة بالمستعمر السابق.

وقد خطت مالي، وهي أسبق الأقطار الإفريقية للثورة على فرنسا، خطوات مهمة في هذا السبيل من خلال تخلصها من اللغة الفرنسية. ولكن الخطوة المرتبكة جاءت عندما تبنَّت الحكومة ترسيم عشر لغات محلية، وإعطائها صفة لغة رسمية، وهذا سيكون مرْضيًا للكثير من أبناء الإثنيات التي تتحدث هذه اللغات ولكنه إجراء غير عملي؛ لأنه من الضروري للشعب المالي أن تكون له لغة قومية واحدة يتوحد عليها، حتى وإن كانت أجنبية ولكن لها مؤهلات تؤهلها ككونها لغة علم وتواصل عالمي حقيقي؛ وهذا لا يتأتى إلا للغة الإنجليزية وحدها فإحلالها محل الفرنسية وتسريع وتيرة الانتقال إليها كان سيشكِّل حلًّا عمليًّا وخادمًا للتنمية على المدى البعيد، أما اعتماد عشر لغات رسمية في وقت واحد فإنه قد يشكل خطوة ستسهِّل حتمًا رجوع الفرنسية للهيمنة في الزمن المستقبلي على المدى المتوسط(3).

نعم، جرى نقاش بين النخب حول خيار اللغة العربية كلغة حية وتراثية، ولكن أعداء العربية كثر في مالي وليس العرب في الوقت الراهن في مستوى القيادة العالمية ولا حتى الإقليمية حتى تبرز دولة تكون داعمًا لهذا التحول؛ لأن الأقطار المؤهلة لهذا في شغل عنه بأزماتها وصراعاتها، المحلية والإقليمية والدولية(4).

من دون شك فإن فرص المستعمرات الفرنسية كبيرة في التحرر من هيمنة فرنسا وثقافتها؛ إذا وجدت نخبًا حية وقادة ذوي مبادئ للتخلص من المسار الذي أوصل هذه البلدان لمسار تخلفها الراهن(5).

ثالثًا: فرص وتحديات الاستقلال في سياق التنافسية الدولية

السؤال الأبرز: ما الفرص التي يحاول الانقلابيون الأفارقة اقتناصها من خلال العمل على تغيير تحالفاتهم الدولية من الغرب للشرق، ومن فرنسا نحو روسيا والصين؟ وهل يرقبون فرصًا بالإغراء التنموي والنهوض أم هي لعبة قوى دولية كانت فرنسا لعقود تستفرد بها وحانت لحظة التقاط خيوطها من قبل روسيا والصين اللتين دخلتا القارة منذ عقود، وكانتا تنتظران فرصتيهما في الدخول على خط هندسة السلطة في هذه البلدان لمزيد من خدمة مصالحهما؟ فيما لا يدرك العسكريون الأفارقة أنهم كانوا عالقين في المصيدة الفرنسية الأوروبية، والآن بدأت المصائد الأخرى تشتغل، فخطف بريقها أبصارهم وهرعوا إليها دون أن يتبينوا معالم الانتقال، ولم يدرسوا فرصه وتحدياته. الواضح أن المهم أن ثمة لاعبين جددًا، يغرونهم بالتمرد والتخلي النهائي عن الحليف السابق الذي يصر على استمرار سياساته السابقة المستمرة دون تغيير منذ الاستقلال(6).

إذا تضافرت الجهود بين النخب والحكام العسكريين الجدد في بلدان هذه التحولات فإن عليها أن تبلور مصفوفة مشاريع لطرحها والعمل على تحقيقها مع القوة الجديدة الراغبة في الشراكة أو مراجعة الاتفاقيات السابقة مع القوى القديمة، بما يضمن تحقق جملة المطالب الوطنية الكبرى والمتعلقة أساسًا بجوانب اقتصادية وتنموية ذات أهمية إستراتيجية لبلدان المنطقة.

ويمكن أن نأخذ مثالًا على هذه المطالب الكبرى، فالثروات الطبيعية كالغاز واليورانيوم أو الصناعات التعدينية تشكِّل في هذه البلدان مصدرًا أساسيًّا لهذه المواد الأولية، والحاجة إليها قائمة لأن تكون الأجندة واضحة، وهي تركز على مزيد من الدمقرطة وتحسين شروط الحكامة واستمرار الإنتاج، ولكن بشرط الشروع الفعلي في توطين التكنولوجيا، والحد من استمرار استنزاف المواد الخام وترك النفايات فقط لسكان القارة بينما يربح المستنزفون من غربيين وغيرهم، وتغرق الشعوب والبلدان المستنزفة في أزمات الفقر والأمية. إن هذه الصيغة المجحفة في الشراكة هي التي أدت بنا لنفس الوضعية(7)، وبالتالي لابد من تغيير قواعد اللعبة نحو صيغة شراكة: "نحن نربح وأنت تربح".

على الأنظمة الجديدة في إفريقيا الانتباه من الآن لوضع قواعد الشراكة الكبرى مع القوى الدولية، فالثروات الإفريقية سلعة غالية تبحث عنها كل القوى الكبرى، وهذا يتطلب من النخب الإفريقية الانتباه لهذه اللحظة بوصفها لحظة تحولات متعددة الأبعاد تتطلب استيعاب تجارب الماضي وإخفاقاتها، وبناء مسارات وسياسات للمستقبل؛ تأخذ العبرة من الماضي وتتفادى أخطاءه وتضع قواعد واضحة للعلاقات الدولية والشراكات التنموية الهادفة لاستقلال اقتصادي حقيقي يحصل بالتراكم عبر مدى زمني قصير إلى متوسط، بعيدًا عن استمرار حالة نهب المواد الخام على قواعد الشراكة التي كانت قائمة مع الشركات الفرنسية. ومن دون شك فإن قيادة هذا التحول في السياسات الوطنية للدول الإفريقية يتطلب قدرات كبيرة خصوصًا في القطاع الاستثماري لبلورة خيارات وطنية كبرى في مجال إدارة الاقتصاد والتنمية والشراكة الدولية بعقل وإرادة جديدة(8).

إن أمام الأنظمة الإفريقية الجديدة فرصة مراجعة سياسات العلاقات الدولية لهذه الدول، وتتمثل هذه المراجعة في تحويل التنافس الدولي إلى فرص وتنوع في الخيارات، بدل أن تتعامل معه بوصفه عبئًا تجره على ظهرها المثقل بالتركات والأعباء الموروثة عن الاحتلال.

إن إفريقيا قد كفيت الآن مؤونة تسويق موادها الخام؛ لأن اللاعبين الكبار يعرفون هذه الثروات وقيمتها الإستراتيجية للصناعات، وقد تعاملت إفريقيا وأنظمتها بحسن نية أو جهل بطبيعة ما لديها، ولكنها الآن وصلت لمستوى يمكِّنها من التعرف على السعر الفعلي في السوق العالمية لما لديها، وتعلمت كيف تقيم دراسات الكلفة الإنتاجية وتقدير الموقف بشأنها، كما تعرفت على البروتوكولات الحاكمة لعمل الشركات الدولية. وهذا الوعي الكبير يتوجب على الأنظمة الإفريقية استثماره لصالح بلدانها، فمثلًا تشتري فرنسا كيلوغرام اليورانيوم بحوالي 65 دولارًا، بينما يصل متوسط سعرة في السوق الدولية 140 دولارًا للكيلوغرام. فهذا حقًّا مجحف في حق النيجر التي لا يتوافر لنسبة كبيرة من شعبها، حوالي 80%، الكهرباء، كما أن الشركات الفرنسية العاملة في المجال لم تُقم بنى تحتية صحية لمعالجة آثار تدمير استغلال اليورانيوم الباقية في النيجر لآلاف السنين القادمة(9).

رابعًا: الاستقلال الثاني: رهانات لمستقبل واعد

لقد عرفت بلدان غرب إفريقيا موجات تحرر في أوقات سابقة، لكن أهمها هو ما يجري الآن وبشكل متزامن، والكثيرون ينشغلون بالقضية العنوان لهذا التحول وهي مسألة "الانقلابات العسكرية". لكن ما هو أهم من ذلك هو تحول النخب وسعيها للاستقلال عن فرنسا وثقافتها، والتحرر من رهاناتها وشراكاتها الاقتصادية والتنموية، غير أن هذا التحول يتطلب لنجاحه وتشكيله عملًا واعيًا من النخب الإفريقية وخصوصًا في مجالات كبرى، لعل أبرزها:

  1. بناء الخيار الإفريقي في الديمقراطية والحكامة الرشيدة: مهما انشغلت النخب الإفريقية الآن بالأحداث المباشرة للانقلابات ومواقف المجتمع الدولي إقليميًّا وعالميًّا من هذه الأحداث، فإن على العقلاء في إفريقيا ألا يكونوا أسرى اللحظة وضغطها، كما أن عليهم أخذ العبرة من تجربتهم مع الاستعمار الفرنسي؛ لتتكرر نفس الأخطاء السابقة لكن في القرن الحادي والعشرين، وبعد ستين عامًا من الاستقلال، والضامن الأساسي لذلك هو الانتباه لضرورة بناء الخيار الديمقراطي الحقيقي عبر مؤسسات وأدوات تمكِّن من التخلص من الأنظمة التسلطية، وإقامة أنظمة قابلة للمحاسبة وذات مرونة كبيرة تمكِّن من تعديل انحراف السياسات العامة الداخلية. هذا فضلًا عن مراقبة الأداء فيها بشكل دقيق يسمح بضمان وجود نظام سياسي قوي يحتمي بالشعبية ويستند على الإنجاز الوطني وما يترتب على ذلك من مصداقية حقيقية يبقى من الضمانات الأساسية للاستقلال الجديد. أما إذا مالت الأنظمة العسكرية لبناء مراحل انتقالية طويلة، وسمحوا باستمرار أدوات البيروقراطية الحكومية السابقة، واعتمدوا فقط فلسفة الحلفاء الجدد غير الديمقراطيين كالصين وروسيا، فإن إفريقيا سترزح من جديد تحت وطأة أنظمة حكم تسلطية بائسة، واستغلال قوى أقل رحمة من المستعمر السابق بكثير. عند ذلك لن يكون ثمة بناء في أي من المجالات الخادمة لاستقلال حقيقي جديد، ولو أفضل بشكل نسبي مما كان حاصلًا سابقًا. وهنا لا شك أن هذه الأقطار ستكتشف مع الوقت طريقًا خاطئًا جديدًا ربما لا تتوافر حركة التحام شعبي لتعديله؛ مما يعني ضياع مزيد من وقت الشعوب الإفريقية ونخبها في بناء عهد جديد من الديمقراطية والحكامة الرشيدة يبقى شرطًا ضروريًّا لأي تحسن في أي من المجالات الأخرى في الدولة الحديثة.
  2. ولابد إذن من الانخراط الفوري في إصلاح السياسات العامة كالصحة والتعليم ومكافحة الفساد بشكل جدي وفعلي، وإجراء مصالحات وطنية حقيقية لبناء بيئة حاضنة لهذا التحول وحمايته كتحول إصلاحي حقيقي يراجع منظومة الدولة التي كانت قائمة وإصلاح اختلالها المزمن منذ الاستقلال، والبحث عن نماذج أفضل في الحكم والإدارة لصناعة تحول حقيقي يضمن أن تكون التحولات الجديدة بداية لنهضة حقيقية.
  3. بناء اقتصاد صناعي وإنتاجي حقيقي وتوطين الخبرات الصناعية والتكنولوجية: اعتمدت الحكومات الإفريقية في السابق على فكرة كانت في وقتها المبكر مع فجر الاستقلال مفهومة، وهي تصدير المواد الخام للأسواق العالمية دون تدقيق كبير في سعرها العالمي ودون تفكير في انعكاسات هذا العمل على البيئة الوطنية، ومستقبل توطين الصناعة، وامتلاك القدرات ومراكمتها، ثم تبين لاحقًا أن خسائر هذه البلدان كبيرة، وأن الأنظمة المتعاقبة مقصرة في الكثير من الجوانب المرتبطة بعملية إنتاج وتسويق المواد الأولية للكثير من المعادن النفيسة كاليورانيوم والذهب والزنك والحديد. لقد باتت الفرص الآن مواتية أكثر من أي وقت مضى لمراجعة هذه الوضعية وبناء اقتصاد قوي من الضروري أن يتجه لناء قدرات تصنيعية، وأن تشمل الاتفاقيات مع الشركات الدولية شروطًا لتحقيق نقلة نوعية في هذا الجانب.
  4. كل هذا مع تنويع الاقتصاد الوطني وتحويله لاقتصاد متعدد الروافد بدل الاعتماد على مجالات محدودة، والارتهان للاقتصاد الريعي المرتبط بالمساعدات وقروض المؤسسات الدولية المانحة وتطوير القطاعات الزراعية والتعدينية والعمل على تطوير قطاع الخدمات في هذه البلدان، خصوصًا أنها بلدان توجد ببعضها كثافة سكانية قادرة على تمكينها من فرص كبيرة في هذا السياق(10).
  5. إعادة بناء الجيش والأمن على أسس قوية ومتماسكة: تحتاج الأقطار الإفريقية التي اجتاحتها تحولات الانقلابات العسكرية إلى استيعاب ضرورة بناء مؤسسة عسكرية قوية قادرة على التصدي لتحلل الدولة ومعالجة إشكالات البنية الهيكلية للمؤسسة العسكرية، عبر آليات جديدة تضمن بناء مؤسسة قوية عابرة للقوميات والانتماءات الضيقة للعرقيات من أجل السيطرة على البلاد وانتشالها من وضع الدولة الفاشلة الغائبة عن السيطرة والتحكم في ترابها؛ لوقف اختراقات جماعات الإرهاب والتهريب والهجرة غير القانونية.
  6. بناء دبلوماسية مدربة ومستوعبة ومؤهلة لتفادي مغالطات الماضي: تحتاج الدول الإفريقية إلى رفع كفاءة جهازها الدبلوماسي وخصوصًا على مستوى الفرق التفاوضية، وإدارة الملفات التفاوضية التخصصية كالجوانب التجارية والتسويقية والاستفادة في هذا الجانب، فعنوان الأولويات الدبلوماسية الإفريقية في الحاضر والمستقبل يجب أن يكون الاقتصاد والنهوض بالتنمية المحلية ومعالجة اختلالات البنية التحتية في هذه البلدان، ومحاولة توظيف التحالفات الراهنة لخدمة هذا الهدف.

خلاصة

مما سبق يمكن أن نستخلص أن النخب الإفريقية مدعوة إلى تحويل الحراك الراهن الذي يأخذ عنوان: "انقلابات إفريقيا الغربية" إلى تحول نوعي يحقق ما تبقى من مقومات الاستقلال ويؤسس لنقلة كبيرة في سبيب استقلال هذه الأقطار عن المستعمر السابق.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - هل تتسع ظاهرة الانقلابات في إفريقيا جنوب الصحراء، مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام، منشور بتاريخ 13 سبتمبر 2023، (تاريخ التصفح: 19 سبتمبر 2023):

https://rcssegypt.com/15085

2 - يحي عالم: حقيقة الشعور المعادي لفرنسا، الجزيرة نت منشور بتاريخ 28 أغسطس 2023، (تاريخ التصفح: 19 سبتمبر  2023):

https://shorturl.at/akDU1

3 - يمكن الرجوع لبرنامج بود كاست بعد أمس / دستور مالي الجديد.. هل يمحو إرث فرنسا، الجزيرة بودكاست منشور بتاريخ 7 يونيو 2023، (تاريخ التصفح/ 22 سبتمبر  2023):

https://shorturl.at/dkPSZ

4 - نفس المصدر السابق.

5 - العلاقات الفرنسية الإفريقية منذ عام 2012 "مالي نموذجاً" موقع ديموكراتيكاك، نشر بتاريخ 26 أبريل 2023، (تاريخ التصفح/ 22 سبتمبر 2023):

https://democraticac.de/?p=89461

6 - على حسين باكير: التنافس الدولي في إفريقيا، مركز الجزيرة للدراسات نشر بتاريخ 3 أغسطس 2009، (تاريخ التصفح 22 سبتمبر  2023):

https://shorturl.at/dfAC8

7 - فرنسا-وإفريقيا-استعمار-متواصل-ونهب-مستمر-للثروات // على موقع TRT عربي نشر بتاريخ 1 ديسمبر 2020، (تاريخ التصفح 22 سبتمبر  2023):

https://shorturl.at/yI289

8 - أميرة محمد عبد الحليم: التنافس الدولي على إفريقيا بعد عام من الحرب الروسية الأوكرانية، الأهرام نشر بتاريخ 27 فبراير 2023 (تاريخ التصفح: 22 سبتمبر  2023).

 https://acpss.ahram.org.eg/News/17822.aspx

9 - هشام روزاق فرنسا في إفريقيا: الثروة والفقر في القارة والأثرياء في باريس، سلسلة مقالات على موقع مرايانا آخرها نشر 4 أغسطس 2023 بتاريخ: (تاريخ التصفح 22 سبتمبر  2023):

https://marayana.com/laune/2023/08/04/33383

10 - غادة أنيس البياع: التصنيع مسار إفريقيا البديل نحو التنمية، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة، أكتوبر 2020 (تاريخ التصفح / 26 سبتمبر  2023):

https://shorturl.at/imvFK