دور الشركات العسكرية في الصراعات الإفريقية: قوات فاغنر نموذجًا

من الصعب القول بانتهاء دور فاغنر في إفريقيا في ظل رغبة بعض الأنظمة العسكرية الإفريقية في وجودها، مع استمرار المصالح الروسية بالقارة، لكن قد يتراجع دورها بسبب حرب أوكرانيا، لارتباط فاغنر بالمصالح الروسية التي تسعى للتمدد وليس الانكماش في إفريقيا عمومًا.
سعت روسيا من خلال شركة فاغنر لإيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا على حساب الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا (الأناضول).

اكتسبت ظاهرة الشركات العسكرية الخاصة أهمية خاصة في مجال العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة أوائل تسعينات القرن الماضي؛ حيث اعتمدت عليها الدول الكبرى "بشكل أساسي" إحدى الأدوات الفاعلة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية. ولعل ما حدث في العراق، عام 2003، من فوضى ودمار هو أحد التداعيات الخطيرة لتدخل شركة بلاك ووتر، وربما نفس الأمر -ولكن بصورة أكثر تعقيدًا- بالنسبة للقارة الإفريقية التي شهدت هي الأخرى تنامي دور هذه الشركات في الصراعات بشقيها، الداخلي والإقليمي، خاصة مع تراجع الاهتمام الدولي والأممي بهذه الصراعات، وعدم الرغبة في التدخل المباشر بها، فضلًا عن رغبة بعض الدول الكبرى، مثل روسيا، في إيجاد موطئ قدم في القارة من خلال دعم بعض النظم التي تشهد تراجعًا في شرعيتها، أو تمردًا مسلحًا، عبر بعض الشركات العسكرية التابعة لها مثل مجموعة شركة فاغنر الروسية(1) التي ذاع صيتها في العديد من الدول والصراعات الإفريقية، مثل: مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى وتشاد والسودان، وأخيرًا وليس آخرًا ليبيا.

وبالتالي، باتت لدينا ثلاثة تساؤلات أساسية تحاول هذه الورقة الإجابة عليها، هي:

أولًا: هل هناك فارق بين المرتزقة وكل من الشركات الأمنية والشركات العسكرية؟ وفي أي منهما يمكن تصنيف فاغنر؟

ثانيًا: لماذا يتم اللجوء إلى هذه الشركات العسكرية " فاغنر وغيرها"؟

ثالثًا: ما دور فاغنر في ليبيا؟ وكيف نقيم هذا الدور؟ وما مستقبلها في البلاد؟

أولًا: الفرق بين المرتزقة وكل من شركات الأمن الخاصة والشركات العسكرية الخاصة

قبل البدء في هذه الدراسة، قد يكون من المهم تحديد ثلاثة مفاهيم أساسية يتعين التمييز بينها رغم صعوبة الفصل العملي بينها لاعتبارات وظيفية من ناحية، ولأخرى قانونية من ناحية ثانية، فضلًا عن الاعتبارات الأخلاقية لاسيما ما يرتبط بهؤلاء المرتزقة أو هذه الشركات من سمعة سيئة قد تجعلها في مرمى الاستهداف في الدول محل الصراع، أو على مستوى المساءلة الجنائية وفق القانون الدولي.

هذه المفاهيم هي المرتزقة ومنها المصدر: الارتزاق Mercenarism، ومناطها المرتزق Mercenary، ومفهوما شركات الأمن الخاصة Private Security Company، "PSCs"، والشركات العسكرية الخاصة Private Military Company، "PMCs" ". وبالرغم من وجود تداخل في الوظائف أحيانًا خاصة في الجوانب العملية، إلا أنه قد يكون من المهام التمييز بينها.

وفقًا للتعريف اللغوي، فإن المرتزق Mercenary هو "جندي يعمل لحساب دولة أجنبية"، أما وفق التعريف السياسي والقانوني فهو "من يرتكب جريمة الارتزاق، سواء أكان فردًا، أو مجموعة، أو جمعية "هيئة" أو "ممثل دولة"، والذي يعمل من أجل مواجهة عمليات تقرير المصير بالعنف المسلح، وأن ينخرط في القوات المذكورة"(2).

ويرى فريق من الباحثين وفق هذا التعريف عدم وجود تمايزات حقيقية بين كل من المرتزقة وشركات الأمن والتسليح الخاصة، على اعتبار أن العاملين في كل منهما يحمل نفس المهنة "العسكرية " حيث يمكن توصيفهم بأنهم رجال أمن security workers، كما أنهم يقدمون نفس الخدمات ويسعون لتحقيق نفس الأهداف "الربح"(3). ومن ثم فإن هذه الشركات بمنزلة النسخة المعدلة new version من المرتزقة.

إلا أنه يمكن التمييز بين المرتزقة من جهة وهذه الشركات من جهة أخرى استنادًا لعدة معايير أبرزها المعيار القانوني حيث إن هذه الشركات أو الكيانات تكون رسمية بصفة عامة وأعمالها مطابقة ظاهريًّا للقوانين الداخلية في بلد المقر، كما أنها ذات هياكل معتبرة وفق قواعد الدول الموجودة بها، ويفترض أن تعمل وفق قوانين العمل الدولية المتعارف عليها، ومن ثم فهي تخشى من تعرضها للعقوبة القانونية من قبل حكوماتها الوطنية حال قيامها بمهام غير مشروعة أو غير أخلاقية، أما المرتزقة فهم لا يراعون في الأغلب الأعم الجوانب القانونية، بل على العكس يعملون في كثير من الأحيان مع المنظمات أو الأشخاص المدانين دوليًّا مثل الجبهة الثورية المتحدة في سيراليون والاتحاد الوطني لتحرير أنغولا "يونيتا"، والرئيس الليبيري السابق، تشارلز تايلور(4)، فضلًا عن كونهم أفرادًا، أو حتى مجموعات صغيرة غير مسجلة تحت أي مظلة قانونية، وإن كانت هذه الشركات يمكن أن تقوم أيضًا بنفس ممارسات المرتزقة في الواقع العملي خاصة ما يتعلق بالشركات العسكرية(5).

وهناك أيضًا المعيار الوظيفي وهو يتعلق بالوظائف الخاصة بهما، فبالرغم من أن هناك تداخلًا بين هذه الوظائف وعدم اقتصار وظائف المرتزقة على الجوانب القتالية فقط، كما يتضح من تعريف تقرير جنيف للتحكم الديمقراطي في القوات المسلحة لعام 2003 الذي أشار إلى أنهم يقومون بتقديم خدمات كبيرة تتراوح بين المهام القتالية والدعم العملياتي والنصائح والتدريب العسكري وجمع المعلومات الاستخباراتية وإنقاذ الرهائن..إلخ(6). إلا أنه يظل هناك فارق بين الجانبين في الوظائف من الناحية العملية حيث يقتصر دور المرتزقة بسبب الإمكانيات على الجوانب القتالية فقط، في حين يتراوح دور الشركات العسكرية بين المهام غير القتالية "الاستشارات العسكرية، والدعم اللوجيستي"، وصولًا إلى القيام بالمهام القتالية، أما الشركات الأمنية فيقتصر دورها على المهام الأمنية غير القتالية بالأساس.

أما بالنسبة لتعريف شركات الأمن والشركات العسكرية الخاصة؛ فبالرغم من وجود تداخل بين وظائف كلا النوعين من الشركات خاصة فيما يتعلق بتوفير الحماية لعملائها في دول تشهد حالة من عدم الاستقرار، إلا أنه تظل هناك تمايزات بينهما، لعل أبرزها يتعلق بنوع العملاء في كل منهما من ناحية: هل هم أفراد وشركات وأحيانًا حكومات "النوع الأول" أم دول وجماعات مسلحة "النوع الثاني"، وطبيعة المهام المنوطة بها؟ من ناحية ثانية: "هل هي مهام أمنية فقط لا تتضمن المشاركة في عمليات قتالية "النوع الأول"، أم القيام بتقديم دعم عسكري واستشارات حربية قد تصل للمشاركة المباشرة في القتال "النوع الثاني"؟.

 إن شركات الأمن الخاصة هي تلك الشركات التي تعمل على توفير الأمن السلبي Security passive، لعملائها من الأشخاص والشركات الخاصة تحديدًا(7). ويلاحظ أن هذا النوع من الشركات موجود منذ فترة طويلة وفي كل مكان، وأعداده آخذة في التزايد خاصة في الأماكن التي تشهد حالة من عدم الاستقرار الداخلي؛ حيث إن رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال يجدون صعوبة في الاعتماد على قوات الأمن "الشرطة" الرسمية في الدولة لتوفير الحماية لهم(8). ومن مثل هذا النوع شركة فالكون في مصر وشركات الأمن المنتشرة في العديد من الدول العربية، خاصة دول الخليج.

أما الشركات العسكرية الخاصة فهي التي تقوم بتقديم خدمات عسكرية متنوعة مثل التدريب العسكري، والقيام بمهام عسكرية هجومية للدول أو للمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، مثل بلاك ووتر في العراق وغيرها. وبصفة عامة، فإن هذا الفارق التقليدي بين هذين النوعين من الشركات هو الموجود في معظم الكتابات والوثائق، والذي يعكس حقيقة الوضع في سوق العمل، لكن هذا التمييز -الواقعي- غير واضح بهذه الصورة في القانون الدولي الإنساني، الذي تدخل في إطاره فقط هذه الشركات التي تقوم بأنشطة إيجابية في مجال الصراع(9). ومن هنا يحرص العديد من الشركات العسكرية على عدم نعتها بهذه الصفة من أجل تجنب سخط الرأي العام عليها، وتحرص في المقابل على وصف نفسها -حتى من الناحية القانونية- بأنها شركات أمن خاصة لتجنب الصحافة والرأي العام والمساءلة القانونية أيضًا. وفي الولايات المتحدة قامت هذه الشركات بتشكيل مجموعة تجارية عُرفت باسم اتحاد عمليات السلام الدولي، ومعظمهم يزعم بأنه يقوم بتقديم خدماته في إطار القواعد القانونية التي تسمح بها النظم العسكرية وأعراف الحرب(10).

بل نجد أن بعض الدول مثل روسيا تحظر وجود شركات عسكرية خاصة، إلا أن هناك تحايلًا على القانون خدمة لمصالح الدولة سواء في الداخل أو الخارج. لذا نشأت فاغنر "على الورق" في الأرجنتين. ومع ذلك، فإن جانبًا كبيرًا من تمويلها يتم من خلال الدولة الروسية، كما صرح بذلك الرئيس بوتين نفسه خلال الأزمة الأخيرة بين فاغنر ووزارة الدفاع، يونيو/حزيران 2023؛ حيث أشار إلى أن الدولة الروسية كانت تمول فاغنر بشكل كامل؛ حيث حصلت على 86.262 مليار روبل (أكثر من مليار دولار) في الفترة من مايو/أيار 2022 وحتى مايو/أيار 2023"(11).

وتعد فاغنر، استنادًا للتعريفات السابقة، وبحسب العملاء والمهام الموكولة لها في ليبيا وغيرها، شركة عسكرية خاصة كما سيتضح بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الدراسة.

ثانيًا: أسباب اللجوء للشركات العسكرية الخاصة

1- الأسباب الداخلية

لقد أدى غياب الديمقراطية "الحقيقية" في معظم دول العالم الثالث، وما رافق ذلك من سعي بعض النظم الحاكمة لاستخدام القمع، وغلق قنوات التعبير السلمي للمعارضة، أدى كل هذا إلى سعي هذه النظم للاستقواء بهذه الشركات العسكرية، لمواجهة المعارضة لاسيما المسلحة. وفي المقابل، قد تسعى هذه الجماعات المسلحة للاستعانة بهذه الشركات للإطاحة ببعض النظم أو الحكومات المعترف بها دوليًّا كحالة فاغنر في ليبيا واستعانة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، بها للإطاحة برئاسة المجلس الرئاسي، وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا بقيادة فائز السراج "2019-2020".

وبصفة عامة، يمكن القول بوجود مجموعة من الأسباب تفسر بروز مثل هذه الشركات، أبرزها ما يلي(12):

  • تراجع وظائف الدولة الأمنية بمعنى عدم القدرة على القيام بالمهام الأمنية على الوجه المطلوب بسبب ضعف الجيوش القتالية التي يعتريها الإنهاك في حالة استخدام العنف في مواجهة المعارضة، أو حدوث حالة من الانشقاق داخل الجيش، أو وجود جيش مواز مدعوم خارجيًّا كحالة ليبيا... كما أدى انتشار فكرة العولمة منذ منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي، والاتجاه نحو تراجع دور الدولة في كافة المجالات بما فيها الاقتصادية والسياسية والأمنية، إلى تنامي الاعتماد على هذه الشركات في المجال الدفاعي والأمني(13).

  • استمرار ولاء كبار رجال الجيش والشرطة للدولة بعد خروجهم للتقاعد؛ إذ غالبًا ما يقوم هؤلاء بتأسيس هذه الشركات خاصة الأمنية منها إما بصورة منفردة، أو بمشاركة كبار رجال الأعمال وبالتالي يتم الاستعانة بهذه الشركات للقيام بهذه المهام مقابل عائد مادي كبير يفوق بكثير ذلك العائد الذي يحصل عليه الضابط النظامي مثل شركة فالكون في مصر.. وربما هذا ما يسهم في حدوث إشكالية بين العاملين في هذه الشركات وبين نظرائهم النظاميين الذين ربما يطالبون في بعض الأحيان بمساواتهم بأقرانهم في هذه الشركات. ولعل الخلاف الأخير "يونيو/حزيران 2023" بين وزارة الدفاع الروسية ومالك شركة فاغنر في حرب أوكرانيا خير دليل على ذلك.

فقدان ثقة بعض النظم في قوات الأمن والجيش الوطنية، وبالتالي غالبًا ما تجري الاستعانة بهذه الشركات لتأمين رؤساء وزعماء هذه الدول بدلًا من الحرس الجمهوري النظامي.

2- الأسباب الإقليمية للاستعانة بهذه الشركات

هناك مجموعة من الأسباب الإقليمية بعضها أسباب سياسية وأخرى أمنية كرغبة بعض الدول الإقليمية ليس فقط في الحفاظ على أمنها القومي العابر للحدود، وإنما في الهيمنة الإقليمية على دول الإقليم وفي التجربة الإفريقية هناك أمثلة عديدة على ذلك لعل منها موقف كل من الجابون وساحل العاج "كوت ديفوار" من دعم متمردي إقليم بيافرا النيجيري في ستينات القرن الماضي بزعامة الكولونيل أوجوكو في حربه ضد نظام الرئيس يعقوب جون رغم عدم وجود حدود مباشرة لكلتا الدولتين مع نيجيريا. ولعل سبب هذا الدعم يرجع إلى الضغوط الفرنسية على الرئيس الجابوني في حينها، عمر بونجو، لتنطلق مئات الأطنان من الأسلحة والمرتزقة عبر مطارات الجابون إلى بيافرا(14).

ونفس الأمر بالنسبة لفاغنر، وحديث العديد من التقارير الأممية والدولية عن رغبة كل من الإمارات والسعودية في تحقيق توسع وهيمنة إقليمية، أو مصر للحفاظ على مصالحها وأمنها القومي في ليبيا، عبر دعم وتمويل فاغنر(15).

3- الأسباب الدولية

ترتبط هذه المحددات بانتهاء الحرب الباردة وسقوط نظام القطبية الثنائية الذي كان يوفر الدعم للعديد من النظم الديكتاتورية؛ مما أدى إلى تعرض هذه النظم للانهيار، وبالتالي إمكانية حدوث حالة من عدم الاستقرار بسبب وجود فراغ سياسي في هذه الدول؛ ومن ثم يزداد الطلب على هذه الشركات. كما برز اتجاه داخل هذه الدول الكبرى بشأن تقليص حجم قواتها النظامية وتوجيه هذه الأموال لمزيد من تحسين الأداء ورفع الكفاءة، وهو ما ترتب عليه تسريح عشرات الآلاف من الجنود الذين قاموا بالانضمام إلى، بل وتأسيس الشركات العسكرية الخاصة على اعتبار أن الوظيفة العسكرية هي وظيفتهم الأساسية، ومن ثم يصعب عليهم الاندماج في الوظائف المدنية. هذا التراجع في حجم القوات النظامية، تزامن مع انتشار الصراعات المسلحة خاصة الداخلية منها لاسيما في إفريقيا؛ مما أسهم في زيادة الاعتماد على هذه القوات، لدرجة أن بعض المحللين اعتبر أن دول إفريقيا من أكثر الدول إنفاقًا على أنشطة الارتزاق(16).

لقد تمثلت الإستراتيجية العسكرية الأميركية في عهد الإدارة الجمهورية بقيادة جورج بوش الابن 2000-2008، ونائبه آنذاك، ديك تشيني، "الرئيس السابق لشركة هالبيرتون العسكرية الخاصة، تمثلت في تقليص حجم القوات البرية والاعتماد على القوات الجوية بالأساس، في إطار ما عُرف باسم نظرية "الصدمة والرعب"؛ لذا رفض زيادة حجم القوات الأميركية في العراق رغم الانتقادات التي وُجِّهت للمؤسسة العسكرية في حينها بسبب تصاعد أعمال المقاومة، وترتب على هذا أمران:

الأول: نقص عدد قوات الجيش الأميركي بنسبة الثلث من 2.1 مليون جندي عام 1999 إلى 1.4 مليون جندي عام 2004 (أي بعد غزو العراق بعام واحد).

والثاني: تعويض هذا النقص من خلال الشركات العسكرية الخاصة، ومن أبرزها شركة Brown Root Service التي تعد أحد فروع شركة هالبيرتون، ومن ثم زيادة الإنفاق العسكري على هذه الشركات. وطبقًا لمركز الإحصاء العام الأميركي، فقد أنفق البنتاجون 300 مليار دولار في تعاقدات بلغ عددها 3016 تعاقدًا لشراء خدمات عسكرية من 12 شركة خاصة خلال الفترة ما بين 1994 (تاريخ تولي تشيني رئاسة هالبيرتون) وعام 2002 (هذا بخلاف عقود التسليح)، كما بلغ حجم الأموال المخصصة لهذه الشركات من الميزانية المقررة للحرب في العراق وأفغانستان 20 بليون دولار، أي أكثر من ثلث الميزانية الأميركية(17).

وبالنسبة لروسيا، فقد سعت هي الأخرى من خلال شركة فاغنر وعبر تمويلها المباشر لإيجاد موطئ قدم لها في القارة الإفريقية خاصة على حساب الدول الأوروبية وتحديدًا فرنسا سواء في إفريقيا الوسطى أو تشاد، أو بوركينا فاسو ومالي، أو حتى ليبيا، وعلى اعتبار أن التكلفة السياسية والاقتصادية الناجمة عن تدخل هذه الشركة أقل بكثير من تكلفة تدخل القوات النظامية، كما أن أي فشل عسكري محتمل سيُنسب لهذه القوات وليس للجيش الروسي، بينما يعزز الفوز العسكري، مكانة ونفوذ الدولة الروسية(18).

ثالثًا: ما دور فاغنر في ليبيا؟ وكيف نقيم هذا الدور؟ وما مستقبلها في البلاد؟

كما سبق القول، فإن هدف الشركات العسكرية، ومنها فاغنر، الربح المادي بالأساس، ولا مانع لديها من تحقيق التزاوج بين هذه الأرباح وتحقيق مصالح الدولة الأم "الروسية" في هذه الحالة، باعتبارها إحدى أدوات السياسة الخارجية الخشنة لموسكو. لذا، يمكن القول بوجود عدة أهداف مشتركة بين روسيا وفاغنر، سعت الأخيرة لتحقيقها في ليبيا والشمال الإفريقي بصفة عامة، أبرزها ما يلي:

  • تقديم الدعم العسكري لخليفة حفتر الحليف الروسي في مواجهة حكومة الوفاق في طرابلس والمدعومة غربيًّا.

  • السيطرة على منشآت النفط الليبية، بما يمكِّنها من التحكم في الغاز المصدَّر لأوروبا عبر البحر المتوسط(19).

  • اعتبار ليبيا "دولة ممر" للانتشار الروسي "الأقل تكلفة" في إقليم الساحل والصحراء، لمزاحمة النفوذ الفرنسي الآخذ في التراجع التدريجي وسط وغرب القارة "إفريقيا الوسطى، تشاد، مالي، بوركينا فاسو" عبر بناء أنظمة قيادة وتحكم في القواعد العسكرية في البلاد من خلال قواعد القرضابية، والخادم، وبراك الشاطئ، والجفرة لإنشاء جسور جوية بين ليبيا والساحل ومناطق العمليات جنوب الصحراء.

لقد تنوعت مهام فاغنر في ليبيا بين المهام العسكرية المباشرة "المشاركة في القتال"، والمهام العسكرية غير القتالية، مثل تقديم التدريبات العسكرية وتقديم الدعم الفني لإصلاح وصيانة المركبات المدرعة وحماية المنشآت النفطية، بل أكثر من ذلك أضافت فاغنر مجموعة من الأنشطة الأخرى مثل الأنشطة السياسية "تقديم استشارات سياسية"، وإعلامية عبر وسائل التواصل الإعلامي من خلال شن حملات إعلامية لدعم بعض الرموز السياسية في البلاد مثل خليفة حفتر أو سيف الإسلام القذافي. وفي عام 2019، نشرت صحيفة ديلي بيست الأميركية وثائق لفاغنر تشير لإنشاء الشركة ما لا يقل عن 12 مجموعة مختلفة على فيسبوك تعمل في نفس الوقت على الترويج لكل من حفتر وسيف القذافي(20).

ويلاحظ أن هذه المهام كانت تتم بالتوازي، كما أن السياق الداخلي للصراع كان يحدد أيهما تكون لها الأولوية، ويمكن القول بوجود ثلاث مراحل لطبيعة ومهام تدخل الشركة في الصراع، هي: قبل معركة طرابلس (أبريل/نيسان 2019 إلى يونيو/حزيران 2020)، والمعركة ذاتها التي استمرت قرابة 14 شهرًا، وما بعدها.

فمع الظهور الأول للشركة في ليبيا "أكتوبر/تشرين الأول 2018"، تركزت مهامها على المهام غير القتالية، لكن مع بدء هجوم حفتر على طرابلس، كان لفاغنر دور قتالي بالإضافة للأدوار الأخرى المتمثلة في المساعدة التكتيكية والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، ولم يحد من هذه المشاركة القتالية، سوى التدخل التركي الكثيف لدعم حكومة الوفاق الوطني في حينها برئاسة فائز السراج(21).

لقد ساعدت "فاغنر" في تأمين السيطرة على قاعدة جوية إستراتيجية كبرى بالقرب من بلدة الجفرة جنوب شرق البلاد أوائل صيف عام 2019(22)، وبعد أن باتت قوات حفتر على أعتاب العاصمة طرابلس، دعمت قناصة المجموعة وأنظمة "بانتسير" الروسية المضادة للطائرات، تفوقه على خصومه، حتى تدخلت تركيا أوائل عام 2020. وخلال الانسحاب اللاحق لحفتر، زرعت قوات "فاغنر" العديد من العبوات الناسفة في المنطقة، مستهدفةً بذلك المدنيين عمدًا؛ مما تسبب في تشويه عشرات الأطفال وأثَّر بعمق على نظرة الشعب الليبي للمرتزقة وفاغنر على حدٍّ سواء(23).

لقد ترتب على معركة طرابلس فقدان قوات حفتر قاعدة الواطية الجوية، فضلًا عن سقوط ترهونة، آخر معاقله في الغرب (يونيو/حزيران 2020)، وكانت الهزيمة بمنزلة نقطة التحول في إستراتيجية فاغنر التي تمثلت مهمتها الجديدة في هذه المرحلة الثالثة في الدفاع عن سرت والهلال النفطي الليبي من خلال منع قوات حكومة الوفاق ومن يدعمهم من التقدم شرقًا. وتطورت هذه المهمة خلال عامي 2020 و2021 إلى بناء خط دفاع يفصل إقليم طرابلس الغرب عن برقة في الشرق وفزان في الجنوب(24).

ورغم أن اتفاقية وقف إطلاق النار (23 أكتوبر/تشرين الأول 2020) نصَّت على انسحاب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب من الأراضي الليبية، وأعطت اللجنة العسكرية المشتركة الليبية في حينها 5 + 5 (JMC) مهلة 90 يومًا لاستكمال ذلك، إلا أن معظم قوات فاغنر وغيرها من المرتزقة، لم تغادر ليبيا، وباتت هذه إحدى عقبات عملية التحول الديمقراطي في البلاد.

تقييم ومستقبل دور فاغنر

لقد أثَّرت فاغنر بصورة سلبية على الأمن الليبي وعدم الاستقرار السياسي في البلاد التي باتت مقسومة لشطرين تقريبًا، أحدهما في الشرق؛ حيث حفتر وبرلمان بنغازي، والثاني في الغرب حيث المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني.

إن استمرار وجود الشركة حتى الآن كان أحد أسباب تقويض تنفيذ اتفاق أكتوبر/تشرين الأول 2020 بشأن وقف إطلاق النار وسحب جميع المرتزقة والشركات العسكرية من البلاد، تمهيدًا لإجراء الانتخابات، كما أسهم وجودها في زيادة الدور التركي في ليبيا كقوة وازنة لها لدعم الحكومة الشرعية في طرابلس.

كما أسهمت الشركة في زيادة انتهاكات حقوق الإنسان خاصة خلال عملياتها في طرابلس، ورغم ذلك، فإن مقاتليها أفلتوا من العقاب؛ ما دفع الولايات المتحدة إلى تصنيفها، في يناير/كانون الثاني 2023، منظمة إجرامية عابرة للحدود. هذا التصنيف قد يؤدي إلى تفكير العديد من النظم مرارًا وتكرارًا، في إمكانية الاستعانة بفاغنر مستقبلًا، خاصة إذا ما تم تصنيفها أميركيًّا منظمة إرهابية، وقد يقل الاعتماد الإفريقي عليها حال قيام الولايات المتحدة والدول الأوروبية بتقديم المساعدة "خاصة العسكرية" لهذه النظم... أو تخفيف بعض العقوبات المفروضة عليها بسبب الوصول للحكم عن طريق الانقلابات العسكرية(25).

وفي النهاية، يمكن القول: إن مستقبل دور فاغنر في إفريقيا بصفة عامة، وفي ليبيا على وجه الخصوص مرتبط بعدة قضايا:

1- تداعيات استمرار حرب أوكرانيا؛ إذ يمكن القول: إن حرب أوكرانيا أثَّرت بالأساس على المهام القتالية لفاغنر في ليبيا، وبحسب قيادة الأفريكوم الأميركية، فقد تراجع عدد قوات الشركة من ألفي مقاتل عام 2020، إلى بضع مئات خلال عام 2022 بسبب الذهاب للمشاركة في القتال ضد أوكرانيا(26).

2- ويرتبط بذلك أيضًا الخلاف الأخير بين فاغنر ووزارة الدفاع الروسية "يونيو/حزيران 2023"، ورغبة الأخيرة في توقيع عقود مع مقاتلي الشركة ليكونوا تابعين لها بصورة مباشرة. وهي خطوة يفترض حال نجاحها، وجود مقاتليها في ليبيا بصورة رسمية باعتبارها قوات روسية نظامية، وإن كان هذا يمكن أن يشكل استفزازًا للشعب الليبي. وفي المقابل هناك إمكانية لإبقاء قوات الشركة مع تغيير الاسم، لصعوبة تضحية موسكو بمكتسباتها الأخيرة في ليبيا(27).

وهناك سبب آخر لإمكانية تراجع هذا الدور يتعلق ببداية حدوث تقارب مصري/تركي على مستويات عدة بما في ذلك الملف الليبي، هذا التقارب يلقى ترحيبًا أميركيًّا، وهناك شبه اتفاق ثلاثي على ضرورة إنهاء وجود المرتزقة بمن فيهم قوات فاغنر قبيل إجراء الانتخابات، وأهمية دعم حكومة غرب ليبيا، باعتبارها الأقدر على الترتيب لمرحلة الانتخابات(28).

لكن على أية حال، قد يكون من الصعب القول بانتهاء دور الشركة في ليبيا خاصة في ظل طموحات حفتر ورفضه الاستجابة لأية توافقات دولية من ناحية، واستمرار المصالح الروسية في ليبيا وإفريقيا من ناحية ثانية؛ لذا قد يكون مقبولًا القول بتراجع أو محدودية هذا الدور بسبب حرب أوكرانيا، لارتباط فاغنر بالمصالح الروسية التي تسعى للتمدد وليس الانكماش في إفريقيا ككل، وفي ليبيا على وجه الخصوص.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- أسسها رجل الأعمال الروسي، يفغيني بريغوجين، كشركة عسكرية خاصة بارزة مرتبطة بالكرملين، وظهرت لأول مرة في عام 2014 أثناء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وعملت منذ ذلك الحين في سوريا وما لا يقل عن ست دول إفريقية. وهي ليست كيانًا واحدًا، وإنما عبارة عن شبكة معقدة من الشركات ومجموعات المرتزقة التي ارتبطت عملياتها ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع العسكري والاستخباراتي الروسي، وتشير التقديرات إلى أن حوالي خمسة آلاف عضو يتمركزون في جميع أنحاء إفريقيا، وهم مزيج من الجنود الروس السابقين والمدانين والمواطنين الأجانب. لمزيد من التفاصيل، انظر:

Rampe, William , What Is Russia’s Wagner Group Doing in Africa?, May 23, 2023,(Visited on 30 may., 2023) https://2u.pw/2EHJ6nu

2- حول هذا التعريف انظر: فؤاد، نبيل،" شركات الأمن الخاصة"، في د. محمود أبو العينين (محرر)، التقرير الإستراتيجي الإفريقي 2004-2005 (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، مركز الدراسات الإفريقية، الإصدار الثالث، 2006) ص 125.

3- من بين هؤلاء ووكر ووايت (Walker & Whyte) فهم يرون أن الفروق بين المرتزقة وشركات الأمن الخاصة، والشركات العسكرية الخاصة غالبًا ما تكون ضبابية أو غير واضحة بهذه الدقة، فهم يرون النوع الأخير بمنزلة إصدار حديث للمرتزقة خاصة في ظل عدم وجود تعريف رسمي لها في القانون الوطني أو الدولي. أما شانون بوش Shannon Bosch، فهي ترى أن هذه الضبابية تشكل واحدة من التحديات القانونية التي تواجه واضعي القانون الدولي الإنساني في السنوات الأخيرة؛ ومن ثم لابد من فحصها بعناية وتحليلها والفصل بينها،

Baker, Deane-Peter and Gumedze, Sabelo," Private Military/Security Companies and Human Security in Africa "African Security Review (Pretoria: Institute of Security Studies, Vol. 16, No. 4, December 2007) PP. 1-3

4- Adebajo, Adekeye and Sriram, Chandra Lekha, " Messiahs or Mercenaries The Future of International Private Military Services " International Peacekeeping (New York: International Peace Academy, Vol.,7, No.4 , Winter 2000) Pp. 131-133

5 - شافعي، بدر حسن، دور شركات الأمن الخاصة في الصراعات الداخلية في إفريقيا (الشارقة: مركز الخليج للدراسات، 2012) ص 33.

 - 6Baker, Deane, Op.cit, p.2

7- Schreier, Fred and Caparini, Marina, "Privatizing Security: Law, Practice and Governance of Private Military and Security Companies", Occasional Paper (Geneva: Geneva Centre for the Democratic Control of Armed Forces (DCAF), No.6, March 2005) P.30

8- Faite, Alexander, "Involvement of Private Contractors in Armed Conflict: Implications under International Humanitarian Law", Defence Studies (London: Rutledge, Vol.4,No.2, June 2004) P.168

9- Idem

10- Schreier, Fred, Op.cit ,P.25

11- بوتين: فاغنر تلقت مليار دولار خلال عام، وكالة أنباء الأناضول نقلًا عن روسيا اليوم، 27 يونيو/حزيران 2023 (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2023)، https://2u.pw/71o3O2L

12- حول هذه الأسباب انظر: شافعي، بدر، شركات الأمن الخاصة.. الماهية..الأسباب.. الوظائف.. التداعيات، العربي الجديد، لندن، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2014 (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2023)، https://2u.pw/iylPV

13- ظهر نموذج جديد للأمن New Security Paradigm في مرحلة العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة، هذا المفهوم يعني أن فكرة الأمن لم تعد قاصرة فقط على الدولة، وإنما على مجموعة من الفاعلين منهم المرتزقة، والمتطوعون، وشركات الأمن والشركات العسكرية الخاصة، وأصبحت الدولة في بعض المواقف مثل أمن المضرب Security Racket؛ حيث يقوم القادة السياسيون بالاستخدام العنيف للقوة لتوفير الأمن للجماعات المؤيدة لبقائهم في السلطة.. وفي نفس الوقت يؤدي هذا إلى انتشار الفاعلين من غير الدول بما في ذلك حركات التمرد، ولوردات الحرب، وقوات المرتزقة. وفي هذه الأجواء يعمل رجال الأعمال والأفراد على الحصول على هذا الأمن من خلال هذه الشركات في ظل غياب قدرة الدولة على تحقيقه،

Lilly, Damian the Privatization of Security and Peacebuilding: A Framework for Action, International Alert (London: Policy and Advocacy Department, September 2000) P.6

14- رضوان، محمود محمد محمود إبراهيم، دور المرتزقة في الصراعات والحروب الأهلية الإفريقية.. دراسة حالة الكونجو "زائير"، أنجولا 1960-1991 (رسالة ماجستير، معهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، 2008)، ص ص 34-38.

15- لمزيد من التفاصيل حول دور الدول الثلاث، انظر:

Written Submission on Wagner’s Activities in Libya Submitted by [Organization name redacted] (WGN0014) May 2022 (Visited on 30 may., 2023) https://2u.pw/JNZF03O

وحول التمويل الإماراتي، انظر:

A Net Assessment of Wagner Group’s Networked Effects in Libya, (Visited on 30 may., 2023) https://2u.pw/ucngUgu

16- سويلم، حسام، خصخصة الحروب ودور المرتزقة وتطبيقاتها في العراق (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2005)، ص 44.

17- نفس المرجع السابق، ص ص 12-15.

18- Isenberg, David, Libya has been flooded with mercenaries and private military companies, 06 Feb, 2020. , (Visited on 30 may., 2023) , (Visited on 30 may., 2023)

19- في يونيو/حزيران 2020، نددت السفارة الأميركية في ليبيا بوجود فاغنر في حقل الشرارة النفطي الذي يعد أكبر حقل نفطي في البلاد.

20- Written Submission on Wagner’s Activities in Libya Submitted by [Organization name redacted] (WGN0014) May 2022

21- Written Submission on Wagner’s Activities in Libya ,Op. cit.

22- A Net Assessment of Wagner Group’s , Op. cit.

23- Isenberg, David, , Op. cit.

24- أكرم خريف: فاغنر في ليبيا.. الصراع والتأثير، مؤسسة روزا لوكسمبورغ، فبراير/شباط 2022 (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2023)، https://2u.pw/UsEtcEF

25- Russia’s Wagner Group in Africa: Issues for Congress, congressional research service, April 26, 2023 (Visited on 30 may., 2023) https://2u.pw/BQjviCQ

26- Idem

27- Isenberg, David ,Op.cit

 28 - تقارب رؤى أميركي مصري تركي بشأن "فاغنر" في ليبيا، العربي الجديد، 4 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2023)، https://2u.pw/LnS4mGl