تأكَّد أن هناك محاولة انقلابية على نظام الحكم الديمقراطي في تركيا بعد أن سيطرت قوة عسكرية تركية على المقر الرئيس لهيئة الإذاعة والتلفزة، وأذاعت البيان الأول، الذي حمل اتهامات للحكم الديمقراطي بتقويض الديمقراطية والعلمانية في تركيا، وأعلن سيطرة الجيش على البلاد وتشكيل كيان باسم "مجلس السلم الوطني" لإدارة شؤون الحكم، كما أعلن منع التجول في كافة أنحاء البلاد؛ ووعد بوضع دستور جديد في أقرب فرصة.
تبين أن الشبكة العسكرية خلف الانقلاب اخترقت كافة أسلحة القوات المسلحة التركية، البرية والبحرية والجوية، وانتشرت في مختلف أنحاء البلاد: الشمال والجنوب، الشرق والغرب، والأناضول وأوروبا.
وارتكب الانقلابيون عددًا من الأخطاء، وواجههم عدد من العوامل، خلال ساعات قليلة من انطلاق الانقلاب، تضافرت على إفشال المحاولة الانقلابية. ويبدو واضحًا، على أية حال، أن الحكومة عازمة هذه المرة على تصفية دوائر الجيش والأمن وبيروقراطية الدولة والقضاء بصورة شاملة من أعضاء التنظيم السري لجماعة غولن.
مقدمة
بعد العاشرة بقليل، بتوقيت تركيا الصيفي، التاسعة بتوقيت غرينتش، من مساء يوم الجمعة، 15 يوليو/تموز، بدأت وحدات من قوات الجيش والجندرمة بالتحرك خارج معسكراتها في عدة مدن تركية، سيما إسطنبول والعاصمة أنقرة. خلال ما يقارب الساعة، كانت هذه الوحدات تهاجم مقر هيئة الإذاعة والتلفزة الرسمية في أنقرة وإسطنبول، وتقطع الطريق بين جانبي إسطنبول الآسيوي والأوروبي على جسري الفاتح والبوسفور، إضافة إلى عدة طرق وميادين رئيسة في إسطنبول، وتحتل مدخل مطار أتاتورك في إسطنبول، أكبر مطارات تركيا، وتهاجم القيادة العامة للجيش ومقر قيادة الجندرمة في أنقرة. هاجم الانقلابيون كذلك مقر قيادة الاستخبارات، بقوة برية وبطائرات مروحية مقاتلة. وفي الوقت نفسه، كانت طائرات أخرى مؤيدة للانقلابيين، تقصف البناية الرئيسة للبرلمان التركي.
نجح الانقلابيون في القبض على قائد أركان الجيش ونائبه، وقائد القوات البرية، وقائد قوات الجندرمة، وقائد القوات البحرية، وقائد القوات الجوية. وما إن حددوا مكان وجود رئيس الجمهورية في فندق على ساحل ميرمراس بجنوب غربي البلاد، حتى أمروا بقصف الفندق، وأرسلوا قوة محمولة جوًّا للقبض على رئيس الجمهورية. ولكن الرئيس، الذي كان قد غادر إلى المطار، متوجهًا إلى إسطنبول، نجا بفارق أقل من نصف الساعة. كما لم يستطع الانقلابيون القبض على قائد الجيش الأول (الذي يتخذ من ثكنات السليمية في إسطنبول مقرًّا لقيادته)، الذي يبدو أنه كان أيضًا هدفًا رئيسًا للانقلاب ولم يكن متواجدًا حينها في مقر قيادته.
بمجرد السيطرة على المقر الرئيس لهيئة الإذاعة والتلفزة، أجبر الانقلابيون إحدى المذيعات على قراءة بيانهم الأول، الذي حمل اتهامات للحكم الديمقراطي بتقويض الديمقراطية والعلمانية في تركيا، وأعلن سيطرة الجيش على البلاد وتشكيل كيان باسم "مجلس السلم الوطني" لإدارة شؤون الحكم. كما أعلن عن منع التجول في كافة أنحاء البلاد؛ ووعد بوضع دستور جديد في أقرب فرصة. أوحى البيان، الذي وُزِّع أيضًا من خلال الرابط الإلكتروني لقيادة الأركان، أن الحركة العسكرية هي حركة الجيش كله.
بذلك، لم يعد هناك ثمة شك في أن تركيا تتعرض لانقلاب عسكري.
ولكن، وخلال ما لا يزيد عن ساعات أربع، كانت المؤشرات تتزايد بسرعة بالغة على أن الانقلاب يفشل.
هذه قراءة أولية للمحاولة الانقلابية، لأسباب فشلها، لأصدائها الإقليمية والدولية، ولنتائجها المحتملة على الوضع السياسي التركي.
مجريات الانقلاب وبنيته
في بيان رئيس الحكومة المبكِّر ضد الانقلاب، أول تصريح حكومي رسمي، وصف بن علي يلدريم، أن ما يحدث هو تمرد من فئة صغيرة ضد الشرعية الديمقراطية وقيادة الجيش وحكم الشعب. الحقيقة، أن هذه كانت محاولة انقلابية واسعة النطاق، وأن حجمها يوحي بأنها ما كان لها أن تفشل.
ضمَّت الشبكة الانقلابية عشرات من الجنرالات والعقداء، بمن في ذلك قائدا الجيش الثاني والثالث، وقائد حامية مالاطيا، وقائد جيش حوض بحر إيجه، وقائد الاستخبارات العسكرية، وقائدا لوائين كوماندوز، وقائد مشاة البحرية، وعدد من ضباط هيئة الأركان، وقادة مجموعة مدرعة، واحدة على الأقل من الجيش الأول، وعدد من قادة القوات البحرية، وعدد من قادة قوات الجندرمة، وعدد غير محدد بعد من قادة القوات الجوية وطياريها، ومن ضباط الكليات العسكرية والجوية. وهناك أدلة مبكرة على أن قائد القوات الجوية السابق، الجنرال آكن أوزتورك، الذي انتهت فترة خدمته في العام الماضي فقط، كان الشخصية الرئيسة في المحاولة الانقلابية.
تَحَكَّم الانقلابيون، بصورة كاملة، بقاعدة أكنجي الجوية قرب أنقرة، التي اتخذوها مقرًّا قياديًّا لمحاولتهم الانقلابية، إضافة إلى قاعدتي ديار بكر وبيليكسير الجوية؛ كما استخدموا قاعدة قونية الثالثة، وتواجدوا في قاعدة ملاطيا الجوية. وضمت الشبكة الانقلابية، أيضًا، عددًا محدودًا من مسؤولي الشرطة، وقائد حرس السواحل.
كما يُعتقد أن الانقلابيين كانوا يتوقعون، إن نجحت محاولتهم، تأييد عدد كبير من القضاة ووكلاء النيابة من مختلف الدوائر والمستويات، بمن في ذلك أعضاء في مجلس القضاء الأعلى واثنان من قضاة المحكمة الدستورية؛ وتأييد عدد لم يُحدَّد بعد من حكام المدن، والأكاديميين، ورجال الأعمال، وعناصر بيروقراطية الدولة.
والواضح أن الشبكة العسكرية خلف الانقلاب اخترقت كافة أسلحة القوات المسلحة التركية، البرية والبحرية والجوية، وأنها انتشرت في مختلف أنحاء البلاد: الشمال والجنوب، الشرق والغرب، والأناضول وأوروبا. عشرات من الجنرالات الانقلابيين بين رتبتي العميد واللواء؛ كما أن أحد الجنرالات الانقلابيين حمل رتبة الفريق، ولم يفصله عن رئيس الأركان إلا فارق الأقدمية.
هذه شبكة بدأت في التشكُّل منذ سنوات وليس منذ شهور، وربما منذ بدأ الصدام بين حكومة العدالة والتنمية وجماعة فتح الله غولن في نهاية 2012. وتشير مصادر متداولة إلى أن قطاعًا واسعًا من الضباط الانقلابيين ينتمي لجماعة فتح الله غولن؛ ولكن ليس كلهم بالضرورة. بمعنى أن الكتلة المركزية للمحاولة الانقلابية كانت من أنصار فتح الله غولن، ولكن الشبكة الانقلابية العسكرية ضمَّت آخرين، سيما من الضباط الكبار المعارضين للحكم الديمقراطي. ويرجح أن أنصار غولن من العسكريين هم الوحيدون القادرون على تخطيط وتنفيذ مثل هذه العملية، سيما بعد أن أصاب الضعف الكتلة العسكرية الأتاتوركية في القضايا ضد مجموعات عسكرية تآمرية في 2008.
السؤال الآن هو: كيف شُكِّلت هذه الشبكة الهائلة من الانقلابيين داخل القوات المسلحة، بدون أن تدور حولها شبهات الأجهزة الأمنية؟ الحقيقة، أن مجلس الشورى العسكري كان مقرَّرًا أن يجتمع في لقائه نصف السنوي الدوري في بداية أغسطس/آب، وكان على جدول أعماله قرارات بإحالة مئات من الضباط المشتَبَه بولائهم لجماعة غولن إلى التقاعد. ويُعتقد بأن قرار الانقلابيين التحرك جاء لأنهم أدركوا أن عددًا ملموسًا منهم كان سيخرج من الجيش بقرارات وشيكة للشورى العسكرية. ولكن الحقيقة، أيضًا، أن جهة في الحكومة والدولة لم تكن على علم مسبق بوجود هذه الشبكة الانقلابية الهائلة. والسبب الرئيس خلف ذلك أن الرقابة الأمنية-السياسية في القوات المسلحة هي مسؤولية الاستخبارات العسكرية، التي ترسل تقاريرها مباشرة لرئاسة الأركان، وأن اختراق الانقلابيين لرئاسة الأركان والاستخبارات العسكرية وفَّر لهم ما يشبه الغطاء الآمن من الانكشاف أو الملاحقة.
الفشل: الحسابات والثغرات
ثمة عدد من الأخطاء التي ارتكبها الانقلابيون، وعدد من العوامل، التي اجتمعت معًا، خلال ساعات قليلة بين الحادية عشرة مساء 15 يوليو/تموز والثالثة صباح 16 يوليو/تموز، عملت على إفشال المحاولة الانقلابية، وانطلاق عملية كبرى، ومستمرة، لمطاردتهم، وتطهير القوات المسلحة ودوائر الدولة الأخرى.
من الجانب الانقلابي، يبدو أن الانقلابيين خطَّطوا أصلًا لأن تبدأ عمليتهم في الثالثة صباح 16 يوليو/تموز، ولكن إدراك ضباط الانقلاب في مقر قيادة الجيش، منذ الخامسة بعد ظهر يوم 15 يوليو/تموز، أن جهاز الاستخبارات عرف بالمحاولة، دفع الانقلابيين إلى تنفيذ عمليتهم قبل الموعد المقرر بعدَّة ساعات. تسبَّب هذا الإسراع، وبصورة جزئية، ربما، في فقدان قدر من القدرة التنسيقية بين مختلف الدوائر الانقلابية. ولأن الانقلاب وقع ولم يكن المواطنون الأتراك أخلدوا للنوم بعد، فقد توفرت فرصة أكبر على حشد الجموع الشعبية خلف الحكومة.
أخطأ الانقلابيون، إضافة إلى ذلك، عندما لم يعملوا بصورة مسبقة على كسب تأييد أيٍّ من الدوائر السياسية، أو المؤسسات الإعلامية الكبرى. وربما كان هذا الخلل مرتبطًا باعتقادهم أن مثل هذه الجهود ما كان لها أن تحقق نتائج مثمرة، وأنها كان يمكن أن تتسبب في كشف مبكر للمحاولة.
وأخطأ الانقلابيون بصورة بالغة عندما قرروا قصف البرلمان التركي، الذي لم يسبق أن تعرض للقصف ولا حتى عندما احتل البريطانيون إسطنبول بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى. وأثار قصف البرلمان مشاعر كافة قطاعات الشعب، وعزَّز من معارضة الانقلابيين والعزم الشعبي على مواجهتهم.
من جهة أخرى، كان للعوامل التالية دور كبير ومباشر في فشل المحاولة:
أولًا: علم جهاز الاستخبارات التركية (ميت)، بأن ثمة من يخطط لتحرك عسكري ضد الحكومة منذ الرابعة مساءً، على الأرجح. وقد سارع رئيس الجهاز، حاقان فيدان، إلى الاجتماع برئيس الأركان وتحذيره. فقام الأخير بإصدار تعميم لمنع أي تحرك في الجيش خارج الثكنات، احتياطًا، على الأقل، وبدون أن يقدِّر بالضرورة حجم المخطط الانقلابي. ويشير اطمئنان رئيس الأركان إلى وضعه شخصيًّا إلى أنه ظنَّ، ربما، أن التحرك العسكري الانقلابي سيجري خارج أنقرة وليس داخلها.
مباشرة بعد مغادرة فيدان مقر قيادة الجيش، أدرك الانقلابيون، الذين تواجدوا بصورة فعَّالة في مقر قيادة القوات المسلحة، أن مخططهم قد كشف، وسارعوا إلى القبض على قائد الأركان ونائبه. كما دعوا قائد القوات البرية إلى لقاء كاذب مع قائد الأركان؛ وبمجرد وصوله، قبضوا عليه هو الآخر؛ وقرروا أن يبدؤوا تحركهم العلني للسيطرة على الأهداف المحددة مسبقًا للمحاولة الانقلابية بصورة مبكرة.
أرسل الانقلابيون ثلاث طائرات مروحية إلى احتفال بزواج ابنة مساعد قائد القوات الجوية، كان يُعقد في ناد على الجانب الآسيوي من إسطنبول؛ حيث أُلقي القبض على قائد القوات الجوية ومساعده وعدد من قادة أركان القوات الجوية المعارضين لهم، كما أعطيت تعليمات بالقبض قائد القوات البحرية واحتجازه.
في الثامنة والنصف، أدرك مدير الاستخبارات أن قائد الأركان قد احتُجز وأن الانقلابيين ماضون في مخططهم. وأبلغ الرئيس أردوغان بأن ثمة عملًا انقلابيًّا وشيكًا، وطالبه بتغيير مكانه والظهور لطمأنة الشعب، وأكَّد له أن جهازه وكافة دوائر الدولة المؤيدة للشرعية ستقاوم الانقلاب.
عندما بدأ التحرك الانقلابي قبل الحادية عشرة بقليل، وتحرك الانقلابيون للسيطرة على مقر قيادة الاستخبارات، أصدر فيدان أوامره لأعضاء جهازه بمقاومة المهاجمين إلى آخر رجل فيهم. ويمكن القول: إن الفشل في السيطرة على مقر الاستخبارات في أنقرة، كان الفشل الأول للمحاولة الانقلابية، سيما أن قتل رئيس الجمهورية وقتل رئيس الاستخبارات، احتلَّ مرتبة أولى في أولويات الانقلابيين. خلال المرحلة التالية، لعب الجهاز دورًا رئيسًا في مطاردة الانقلابيين وملاحقة الشبكة المؤيدة لهم في أجهزة الدولة، بعد أن دارت الدورة عليهم في ساعات فجر 16 يوليو/تموز الأولى.
ثانيًا: أظهر رئيس الجمهورية شجاعة في مواجهة الانقلابيين، واستُقبِل موقفه وشجاعته بالتفاف شعبي كبير واستجابة شعبية، تجلَّت في استماتة المدافعين عن الشرعية في أكثر من مكان. تحدث أردوغان عبر تليفون محمول إلى محطة سي إن إن التركية من الفندق الذي كان يقضي فيه إجازته السنوية، بعد اتضاح حقيقة المحاولة الانقلابية بقليل، مؤكدًا على أن الحكومة والرئيس سيواجهان التمرد العسكري، داعيًا الشعب، في خطوة حاسمة، للخروج إلى الشوارع والميادين والمواقع المحتلة من الانقلابيين، وإلى مطار إسطنبول بصورة خاصة، لطرد الانقلابيين. وسارع أردوغان بعد حديثة لمحطة سي إن إن-ترك إلى مغادرة فندقه إلى المطار؛ حيث وفرت له شركة الطيران التركية ثلاث طائرات مدنية، غادرت سويًّا إلى مطار أتاتورك بإسطنبول. وقد ساعد في تضليل الانقلابيين أن أردوغان لم يستخدم طائرته الخاصة، وأن الانقلابيين لم يتيقنوا من وجوده في أيٍّ من الطائرات المدنية الثلاث.
خلال دقائق من توجيه أردوغان نداءه للشعب، كان مئات الآلاف، في إسطنبول، وفي أنقرة، وكافة المدن التركية الرئيسة الأخرى، يخرجون إلى الشوارع والميادين. وقد جرت مواجهات دامية بالفعل بين جموع الشعب والانقلابيين على جسر البوسفور، وفي عدَّة مواقع بالعاصمة أنقرة. كما هاجمت جموع الشعب عددًا من الثكنات العسكرية في مختلف أنحاء البلاد، ووضع المواطنون الأتراك سياراتهم أمام بوابات الثكنات، لمنع العربات العسكرية من مغادرتها. وفي مناطق أخرى، كما في ملاطيا، منعت الجموع الشعبية طائرات محملة بالذخيرة من الطيران من المطار العسكري لقصف أهداف في أنقرة، عبر إغلاق مدرجات المطار بالسيارات الثقيلة.
نجحت الجموع الشعبية في دحر القوات الانقلابية في أكثر من مكان، بما في ذلك مؤسسة الإذاعة والتلفزة الرسمية، بمساعدة ملموسة من رجال الأمن والشرطة. وكان النجاح الأهم في تطهير مطار أتاتورك من القوات الانقلابية مما سمح لطائرة أردوغان بالهبوط بأمان في إسطنبول، ومن ثم ظهوره الحاسم وسط الجماهير، وبدء التحول في ميزان القوة لصالح الشعب والشرعية، أولًا في إسطنبول، التي برزت باعتبارها مسرح الانقلاب الرئيس.
ثالثًا: لم تقل شجاعة رئيس الحكومة وأعضاء حكومته وأعضاء البرلمان المتواجدين في أنقرة عن شجاعة الرئيس. كان رئيس الحكومة أول من شجب المحاولة الانقلابية، وأول من أعلن عدم شرعيتها، عسكريًّا وسياسيًّا، وأول من أخبر الشعب بأن حكومته تقوم بعملها وأنها عازمة على مواجهة الانقلابيين وعقابهم. وكذلك فعل العديد من الوزراء، سيما وزراء الداخلية والعدل والخارجية والشؤون الأوروبية. وقد تجمع البرلمانيون، ورئيس البرلمان، المتواجدون في العاصمة أنقرة في البداية في قاعة البرلمان الرئيسة، وما إن بدأت طائرات الانقلابيين قصف البرلمان، حتى توجه البرلمانيون إلى قاعة أكثر أمنًا، وأصدروا بيانًا أكدوا فيه على الشرعية الانتخابية والدستورية ومعارضة المحاولة الانقلابية. وليس ثمة دليل على أن وزيرًا واحدًا أو برلمانيًّا واحدًا أظهر تأييدًا للانقلابيين أو كان على صلة بهم.
رابعًا: لم تظهر إرادة شعبية موحَّدة ضد المحاولة الانقلابية، وحسب، بل اتضح، وبصورة مبكرة، أن ليس ثمة قوة سياسية أو منظمة عمل مدني تؤيد الانقلابيين، بل إن قادة الحزبين القومي والشعب الجمهوري اتَّصلا برئيس الحكومة، مؤكدين على معارضة الانقلاب وتأييد الحكومة. كما سارعت كافة محطات التلفزة الخاصة، المؤيدة للحكومة والمعارضة لها، ربما، بعد تردد قصير، إلى معارضة التحرك الانقلابي، وإلى توفير منصة للرئيس ورئيس الحكومة والوزراء عندما كانت هيئة الإذاعة والتلفزة الرسمية لم تزل تحت سيطرة الانقلابيين.
خامسًا: صحيح أن حجم الشبكة الانقلابية العسكرية كان كبيرًا، ولكن الصحيح أيضًا أن الانقلابيين، بالرغم من نجاحهم في احتجاز رئيس الأركان وقائد القوات البرية وقائدي القوات الجوية والبحرية، لم يستطيعوا، بالرغم من التهديد بالقتل، الحصول على تأييد هؤلاء القادة لهم. معارضة الجنرال خلوصي إكار، قائد الأركان، ومعارضة قائد القوات البرية، للانقلاب، حرمت الانقلابيين من شرعية تسلسل القيادة والأمر، التي يستند إليها كل تحرك عسكري في الجيش الحديث.
وليس ثمة شك في أن موقف الجنرال أوميت دوندار، قائد الجيش الأول، أهم فيالق الجيش التركي، المعارِض للمحاولة الانقلابية منذ الدقائق الأولى، أسهم إسهامًا رئيسًا في تأزيم وضع الانقلابيين وإخفاقهم في إحكام قبضتهم على القوات المسلحة والبلاد. كما رئيس الاستخبارات، أدرك الجنرال دوندار منذ الثامنة أن هناك محاولة انقلابية وشيكة؛ وسارع إلى الاتصال بالرئيس وتشجيعه على القدوم إلى إسطنبول. دور الجنرال دوندار هو الذي دفع رئيس الحكومة، بعد ساعات قليلة على انطلاق المحاولة الانقلابية، إلى تعيينه قائمًا بأعمال رئيس الأركان، لسد ثغرة القيادة والأمر، التي نجمت عن احتجاز الانقلابيين للأخير. وبصفته الجديدة، أصدر الجنرال دوندار أوامره لقاعدة إسكيشهر الجوية، المؤيدة للشرعية، بأن تتوجه طائرتان منها لحماية طائرة الرئيس من تهديد طائرات الانقلابيين، عندما كان الرئيس في طريقه إلى إسطنبول.
سادسًا: ظهر بصورة واضحة أن حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية، أفغان علاء، منذ 2013، نجحت بصورة كبيرة في تطهير وزارة الداخلية وكافة أذرعها الشرطية والأمنية من أنصار جماعة غولن، وتغيير ثقافة منتسبيها إلى ثقافة تحترم الشعب والقانون. منذ لحظات الانقلاب الأولى، استجاب معظم قوات الشرطة والأمن لأوامر وزير الداخلية بمواجهة الانقلابيين وتوفير الحماية للشعب. وكان للجنرال زكايي أبساكالي، قائد القوات الخاصة التابعة للداخلية، دور ملموس في الاشتباك مع الانقلابيين في العاصمة أنقرة في أكثر من موقع، وفي مطاردتهم واعتقال الكثير منهم في المرحلة الثانية.
ويمكن القول: إن الحكومة التركية، سواء لعدم وضوح مسألة الولاء، أو للخوف من وقوع انقسام مسلح ودموي في الجيش، لم تستعن بأي من قوات الجيش في المواجهة مع الانقلابيين ومطاردتهم، إلا في حالات محدود، مثل الاستعانة بقاعدة إسكيشهر الجوية لحماية طائرة الرئيس ولإسقاط إحدى طائرات الانقلابيين، التي شاركت في قصف مقر جهاز الاستخبارات في أنقرة. مسؤولية المواجهة والمطاردة وقعت كليًّا على كاهل الشعب ورجال الاستخبارات والأمن والشرطة وقوات الداخلية الخاصة.
سابعًا: مارس قادة الانقلاب وضباطه الكذب والخداع على الجنود الذين أُمروا بالمشاركة في العملية الانقلابية. وأُخبر بعضُ الجنود بأنهم في مناورة عسكرية تجري في المدن، وأخبر آخرون بأنهم سيشاركون في عملية لإنقاذ البلاد، وأن الشعب سيستقبلهم بالورود. في منتصف الليل، ومباشرة بعد دعوة الرئيس الشعب للخروج إلى الشوارع، أعطت رئاسة الشؤون الدينية أمرًا إلى كافة المساجد في أنحاء البلاد برفع الآذان. في التقاليد التركية-العثمانية، كان الأذان يُرفع أحيانًا في غير وقته بأمر من السلطان لدعوة الناس إلى المشاركة في حملة عسكرية عاجلة. وقد أصاب رفع الأذان الوحدات الانقلابية المنتشرة في المدن بالارتباك، وكان حافزًا معنويًّا على خروج الجموع الشعبية إلى الشوارع والميادين.
في النهاية، يبدو أن تركيا تغيرت كثيرًا منذ آخر انقلاب عسكري كبير ناجح في 1980، وآخر تدخل عسكري مباشر في الشأن السياسي في 1997. هذا التغيير لم يشمل الشعب وإرادته في رفض الحكم العسكري، وحسب، ولكن أيضًا ثقافة قيادة الجيش وثقافة وزارة الداخلية وثقافة الطبقة السياسية. وكان مدهشًا بالفعل أن تجمعًا شعبيًّا واحدًا لم يظهر لتأييد الانقلابيين.
ما تجب رؤيته أن التوسع الهائل في حجم ووزن الطبقة التركية الوسطى في ربع القرن الماضي، والقوة الشعبية الكبيرة لما يُسمى في تركيا بالقاعدة الإسلامية والمحافظة، جعلت من الصعب خداع الشعب بأية دعوى انقلابية، وهذا، ما أخفق الانقلابيون في إدراكه، سواء لطموحاتهم الجامحة، أو لجهلهم وجهل مَن شجَّعهم الفادح.
ما بعد الفشل
تعهدت الحكومة التركية، منذ فجر 16 يوليو/تموز، حملة واسعة النطاق لمطاردة الانقلابيين واعتقالهم، وكشف العناصر المدنية، في مؤسسات الدولة والقضاء، التي كانت على صلة بالشبكة العسكرية للانقلاب. بعد ثلاثة أيام، ومع نهاية 18 يوليو/تموز، كان عدد من تم القبض عليهم يقارب الثمانية آلاف، أكثر من نصفهم من العسكريين.
بعض العسكريين قُبض عليهم، في الساعات الأولى لفشل العملية الانقلابية، من الشوارع أو في المؤسسات، التي استهدف الانقلابيون السيطرة عليها. آخرون قُبض عليهم بعد تحرير قيادة الجيش وقاعدة أكنجي الجوية من قبضة الانقلابيين. ولأن التحقيقات مع من تم القبض عليهم بدأت مباشرة، وأن أوراقًا وُجِدت في حوزة بعض الضباط، وأن انهيار الروح المعنوية لضباط آخرين جعلهم أكثر استعدادًا للحديث إلى المحققين، فقد بدأت ملامح الشبكة الانقلابية تتكشف بصورة حثيثة، واستمرت بالتالي المداهمات للقبض على المشتبه بهم من الضباط في ثكناتهم ومواقعهم المختلفة.
ولكن ليس من الواضح بعدُ كيف توفرت المعلومات التي أدَّت إلى اعتقال المدنيين، الموقوفين على ذمة التحقيق. والأرجح، أن أسماء بعضهم وردت في القوائم التي وُجدت بحوزة الضباط الانقلابيين لمن كانوا مرشحين للعمل مع النظام الانقلابي بعد نجاح المحاولة؛ بينما يعود البعض الآخر إلى قوائم توفرت مسبقًا لدى الأجهزة الأمنية لأنصار جماعة غولن.
المهم، أن عمليات الإيقاف والملاحقة جرت من اللحظة بصورة منتظمة، وتحت إشراف قضائي، وأن كافة الموقوفين يُستجوبون من قبل وكلاء نيابة. وبالرغم من أن قضايا مكتملة الملفات لم تنطلق في المحاكم المختصة بعد، فإن قرارات بالإفراج عن أعداد من الموقوفين، العسكريين والمدنيين، بدأت في الصدور منذ مساء 18 يوليو/تموز.
ويبدو واضحًا، أن الحكومة عازمة هذه المرة على تصفية دوائر الجيش والأمن وبيروقراطية الدولة والقضاء من أعضاء التنظيم السري لجماعة غولن بصورة شاملة. وهذا ما يفسر قرارات الإيقاف عن العمل، أو الإحالة على التقاعد، لعدة آلاف من القضاة ووكلاء النيابة والعاملين في سلك التعليم وبيروقراطية الدولة أو في مختلف أجهزة الأمن والشرطة ووزارة الداخلية.
تفاعلات إقليمية ودولية
وجدت المحاولة الانقلابية تأييدًا سريعًا من وسائل إعلام عربية، مصرية وسورية، وأخرى مرتبطة بدولة الإمارات العربية. وهناك أدلة ظرفية، وليست مؤكدة بعد، على أن عددًا من الدول العربية عرف مسبقًا بالمخطط الانقلابي، وربما وفرت دولة عربية واحدة، على الأقل، الدعم المالي لجماعة فتح الله غولن. وبالنظر إلى حجم الشبكة الانقلابية ومرتبة الضباط المتورطين، يصعب تصور أن لا تكون الولايات المتحدة على علم مسبق بالمحاولة، بدون أن يعني ذلك بالضرورة أن الأميركيين قدَّموا دعمًا مباشرًا للانقلابيين أو أبدوا التأييد لمخططهم. ولكن هناك في تركيا، وخارجها، من يقول: إن مَن عَلِم مسبقًا ولم يُبدِ معارضة واضحة، ولم يمرر المعلومات للحكومة التركية، لابد أنه كان، على الأقل، متعاطفًا مع المخطط الانقلابي وينتظر نجاحه.
بيد أن الأرجح أن الحكومة التركية، حتى إن توفرت لها أدلة على علاقة مسبقة ما لحلفائها الغربيين بالانقلابيين، لم تعلن هذا بصورة علنية، على الأقل في الوقت الراهن. سياسيًّا، ولدور تركيا وموقعها في العالم، ليس من الحكمة القول الآن: إن الحلفاء الغربيين ليسوا بالفعل حلفاء. ولكن، المرجح أن تصرَّ أنقرة، خلال الفترة المقبلة، على تسليم واشنطن لفتح الله غولن، وأن تنتهي سريعًا من إعداد ملف طلب تسلمه. إنْ تهربت واشنطن من بحث هذا الأمر، فستترك مسألة غولن أثرًا سيئًا على التعاون الأمني بين البلدين.
بعد وقوع المحاولة الانقلابية، وما إن بدأت الأدلة على فشلها في ساعات الفجر الأولى، أصدر الرئيس الأميركي ووزير خارجيته بيانات حملت تأييدًا للنظام الديمقراطي في تركيا، وشجبت المحاولة الانقلابية، ودعت إلى ضبط النفس وتجنب سفك الدماء. كما أصدر الاتحاد الأوربي بيانًا مشابهًا، وتتابعت من ثم بيانات العواصم الأوروبية في الساعات التالية.
وثمة مؤشرات على أن روسيا لم تكن مطمئنَّة للمحاولة الانقلابية، بالرغم من التوتر الذي شاب علاقات موسكو بأنقرة منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأن القيادة الروسية كانت سعيدة بالفعل بفشل الانقلابيين. ويصعب تفسير هذا الموقف الروسي إلا بأن إدارة الرئيس، فلاديمير بوتين، قرأت المحاولة الانقلابية باعتبارها فعلًا لقوى وثيقة الصلة بالولايات المتحدة، وأن نجاح المحاولة كان سيؤدي لفقدان أنقرة الكثير من استقلال قراراتها من جهة العلاقة مع واشنطن.
إقليميًّا، تأخرت السعودية والإمارات وإيران في إصدار بيانات التأييد للحكومة التركية الشرعية حتى ظهر اليوم التالي، 16 يوليو/تموز؛ بينما صمتت القاهرة، وأصدرت الحكومة الأردنية بيانًا اكتنفه شيء من الغموض والترحيب الفاتر بفشل الانقلابيين. وقد عارض المندوب المصري في مجلس الأمن صدور بيان عن المجلس، حملت مسودته شجبًا للانقلاب وتأييدًا للحكومة.
خلال الأيام القليلة التالية لفشل المحاولة الانقلابية، بدأت حملة غربية، رسمية وإعلامية، تندد بحملة المطاردة والتطهير التي تعهدتها الحكومة التركية للشبكة الانقلابية، وتتهم أنقرة باعتماد سياسة انتقام من معارضي حكومة العدالة والتنمية. كما حذَّرت حكومات غربية، والاتحاد الأوروبي، من أن اعتماد أنقرة لعقوبة الإعدام سيؤدي إلى إيقاف طلب تركيا للالتحاق بالاتحاد الأوروبي كلية. وشاركت في حملة التنديد بالإجراءات التركية ذات الوسائل الإعلامية العربية، التي كانت أظهرت تأييدًا مبكرًا للمحاولة الانقلابية. هذه الحملة، التي تتجاهل عنف الانقلابيين ومخططاتهم، وحجم الخسائر في صفوف المدنيين، وكون الحملة ضد المشتبه بارتباطهم بالشبكة الانقلابية تجري كلية تحت إشراف قضائي، عزَّزت من الشكوك في حقيقة موقف بعض الدول الغربية والعربية.
والمتوقع، أن يصبح موقف مختلف الدول، إقليميًّا ودوليًّا، محدِّدًا إضافيًّا لطبيعة علاقات أنقرة بهذه الدول في المرحلة المقبلة.
المسارات المحتملة
هذا أول انقلاب في تركيا الجمهورية، بهذا الحجم والفعالية، ينطلق بالفعل ثم يتعرض للفشل. وليس ثمة شك في أن ما يتكشف تدريجيًّا من حجم الشبكة الانقلابية، وما بات معروفًا من وحدة الشعب والحكومة والبرلمان والقوى السياسية في مواجهة المحاولة الانقلابية، سيترك أثرًا بالغًا على تركيا وعلى بنية الدولة التركية. ويشير فشل الانقلاب إلى عمق التحولات السياسية والاجتماعية التي عاشتها تركيا في ربع القرن الأخير. ولكن هذا الفشل يوفر فرصة كبرى، أيضًا، لإعادة بناء الجمهورية.
في المدى القريب، يرجح أن تكون أولوية الحكومة التركية إجراء عملية تغيير بنيوية للدولة والمؤسسة القضائية. ولأن المؤسسة العسكرية تعرضت لعطب غير مسبوق في تاريخ الجمهورية، فإن إعادة بناء الجيش ستحتل موقعًا متقدمًا في سلم أولويات الإصلاح. كما أن هناك فرصة كبيرة لتحقيق ما يشبه التوافق بين القوى السياسية على الدستور الجديد ومسألة نظام الحكم الشائكة. وبالرغم من أن الحكومة ستواصل سياسة مواجهة حزب العمال الكردستاني، فالمؤكد أن تفكيرًا جديدًا سيُطلق للتعامل مع القضية الكردية.
يبدو أن أردوغان خرج أكثر قوة من المحاولة الفاشلة للانقلاب، ولكن ليس هو فقط. ثمة شخصيات ودوائر لعبت أدوارًا مهمة في إفشال الانقلابيين؛ وهؤلاء سيكونون شركاء في النصر، أيضًا. ويمكن القول: إن الكتلة الإسلامية في حزب العدالة والتنمية أصبحت أكثر قوة مما كانت عليه قبل 15 يوليو/تموز، وإن الحزب سيستعيد تماسكه الذي بدا أنه اهتز بعد استقالة د. أحمد داود أغلو. وفي المجتمع التركي ككل، سيصبح التيار الإسلامي والمحافظ، الذي تحمَّل أبناؤه عبء المواجهات الأولى مع الانقلابيين، أكثر تأثيرًا وثقة بالنفس. والمؤكد أن الخيارات الاستراتيجية للرئيس ستكون محدِّدًا بالغ الأهمية لمستقبل الجمهورية التركية خلال المديين القصير والمتوسط.
ويرجح على مستوى السياسة الخارجية، أن الحكومة التركية لن تتراجع عن سياسة التهدئة التي بدأتها في الشهرين السابقين على المحاولة الانقلابية. ولكن أنقرة ستصبح أكثر استقلالًا في علاقتها بالولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، وأكثر تصميمًا على تحسين العلاقات مع روسيا، وأقل حرصًا على الالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
من منظار أوسع، أظهرت المحاولة الانقلابية حجم الاهتمام الشعبي العربي الكبير بتركيا وتحولاتها. وحتى إن لم يكن لفشل الانقلابيين آثار مباشرة وسريعة على الساحة السياسية العربية، فليس ثمة شك أن انتصار الشعب التركي في الدفاع عن حريته سيصب لصالح قوى الثورة والتغيير وضد قوى الثورة المضادة.