الفصائل العراقية والحرب على غزة

دخلت المواجهة بين الفصائل العراقية المسلحة التي تأتلف فيما يسمى (المقاومة الإسلامية) مرحلة جديدة بعد قصفها بطائرة مسيّرة موقعا عسكريا أميركيا شمال الأردن قرب الحدود مع سوريا، نصرة غزة، تسبب بمقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة 34 آخرين.
قاعدة عين الأسد غربي العراق التي تتواجد فيها قوات أميركية تعرضت لعشرات الهجمات المسلحة (رويترز)

دخلت المواجهة بين الفصائل العراقية المسلحة التي تأتلف فيما يسمى (المقاومة الإسلامية) مع القوات الأميركية مرحلة جديدة، بعد مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة 34 آخرين في قصف بطائرة مسيرة استهدف موقعًا عسكريًّا أميركيًّا شمال الأردن قرب الحدود مع سوريا.

هذه التطور تسبب بتقديرات مختلفة لما ستؤول إليه الأوضاع بعدما أصبحت إدارة الرئيس جو بايدن أمام استحقاق داخلي أساسي لرد الاعتبار في سنة انتخابية صعبة في الولايات المتحدة. ولم تتردد (المقاومة الإسلامية) في العراق بالإعلان عن مسؤوليتها عن الهجوم، وكررت اعتباره نصرة لغزة، ودعمًا للمقاومة فيها.

كان هذا الهجوم الذي ألحق خسائر بشرية بالقوات الأميركية لأول مرة منذ بدء الحرب على غزة، جزءًا من سلسة هجمات بلغت حسب الفصائل العراقية أكثر من 170 هجومًا ضد القواعد الأميركية في سوريا والعراق، ردَّت عليها الأخيرة بهجمتين ضد مواقع لفصائل عراقية متهمة بضرب المواقع الأميركية، فضلًا عن عملية اغتيال لأحد القيادات الكبيرة في الفصائل بقلب بغداد.  

مواقف الفصائل العراقية المسلحة في "نصرة" غزة

تفاعل العراق الرسمي والشعبي والفصائلي مع عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من تطورات وعدوان إسرائيلي واسع ومستمر. وتوزعت ردود الأفعال ما بين الدعم الرسمي والسياسي المؤيد بقوة للشعب الفلسطيني، وفعاليات شعبية ومظاهرات منددة بالحرب الإسرائيلية على غزة. وفي خِضم الحرب غير المتكافئة بين "حماس" و"الجهاد" من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، ومع توقعات متزايدة بتوسعة نطاق الحرب من قبل "حزب الله اللبناني" والحوثيين في اليمن، جاءت مشاركة بعض الفصائل العراقية في هذه الحرب منذ السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من خلال استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا، تعبيرًا عن رفض هذه الفصائل لمشاركة واشنطن بشكل مباشر في الحرب دعمًا لـ"تل أبيب" من خلال الجسر الجوي العسكري الداعم للماكينة العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى تحشيد البوارج الحربية على شواطئها، يضاف لها المواقف السياسية المؤثرة على دول العالم لصالح هذا الكيان.

تركزت عمليات الفصائل العراقية على قاعدتين عسكريتين توجد فيهما قوات أميركية داخل العراق: الأولى هي (عين الأسد) غربي البلاد والثانية هي (حرير) في محافظة أربيل عاصمة إقليم كردستان، فضلًا عن قواعد أميركية في سوريا، كما جرى استهداف السفارة الأميركية في بغداد مرة واحدة في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، في حادث وصفته الحكومة العراقية على لسان رئيسها، بالعمل "الإرهابي"(1).

وجرى خلال هذه الهجمات التي زادت عن 170 هجومًا، حسب الفصائل العراقية، استخدام طائرات مسيرة انتحارية وصواريخ أرض-أرض ومدافع الهاون، ولم تكلف الجانب الأميركي خسائر جوهرية حسبما صدر عنه من إعلانات، حتى جاء هجوم فجر الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي الذي ألحق خسائر بشرية كبيرة بالقوات الأميركية لأول مرة.  

الموقف الأميركي والموقف العراقي

دأبت واشنطن على وصف الفصائل التي تقوم بمهاجمة قواتها في العراق وسوريا بـ"المسلحين المدعومين من إيران"، وقد قامت القوات الأميركية بالرد على فصائل محددة تتهم دون سواها من عشرات الفصائل العراقية، بتنفيذ الهجمات، وهي كل من حركة (النجباء) و(حزب الله العراقي)، و(سيد الشهداء). وتضمنت الردود الأميركية شن هجومين على مقرات ومراكز تدريب تنسب لحزب الله العراقي في مدينة (جرف الصخر) جنوب غربي بغداد، ومواقع عسكرية على الحدود مع الأردن، فضلًا عن اغتيال المسؤول العسكري لحركة (النجباء)، طالب علي السعيدي (أبو تقوى)، بطائرة مسيرة استهدفت سيارته في قلب العاصمة بغداد.

من يستهدف القواعد الأميركية في العراق؟

تُعد حركة (النجباء) و(حزب الله العراقي) و(سيد الشهداء)، أبرز الفصائل العراقية التي تُعلن صراحةً استهدافها للقواعد الأميركية، (عين الأسد) و(حرير)، ويمكن إيجاز ماهية هذه الفصائل وتفاصيل نشأتها وعقيدتها كالآتي:

-حركة النجباء

هي إحدى الفصائل الأبرز من جهة ارتباطها بإيران، عضو في (الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية)، أنشئت عام 2013، تحمل اسم "المقاومة الإسلامية حركة النجباء"، وتعرف اختصارًا باسم حركة النجباء.

زعيم الحركة هو الشيخ أكرم الكعبي، وقد كان أحد مؤسسي "جيش المهدي" بزعامة رجل الدين العراقي، مقتدى الصدر، وقد تم حله لاحقًا. كما لعب الكعبي دورًا مهمًّا في تأسيس جماعة "عصائب أهل الحق" التي نفذت عمليات عسكرية عديدة ضد القوات الأميركية.

انفصل الكعبي عن "عصائب أهل الحق" لينفرد بقيادة حركة "النجباء" التي تشكلت نتيجة اندماج الألوية العراقية التالية: "لواء عمار بن ياسر" و"لواء الإمام الحسن المجتبى" و"لواء الحمد".

وصنفت الولايات المتحدة في شهر مارس/آذار الماضي الحركة في قائمة "المنظمات الإرهابية" وحظرت التعامل معها. ويخضع الكعبي للعقوبات الأميركية منذ عام 2008 لدوره في الهجمات التي كانت تستهدف القوات الأميركية في العراق حينها.

وردَّ الكعبي على القرار الأميركي بقوله: "إن حركة النجباء مستعدة لضرب المصالح الأميركية في سوريا والعراق وأي مكان في العالم"(2).

تتعامل الحركة وزعيمها مع إيران بشكل مباشر، وتعتبر من أهم القوى المسلحة التي تسهم في تحقيق أجندتها الإقليمية، وفي العراق بشكل خاص(3).

 في 5 مارس/آذار 2019، أدرجت وزارة الخارجية الأميركية (حركة النجباء) ضمن قائمة "الإرهابيين العالميين المحددين بصفة خاصة" بموجب "الأمر التنفيذي رقم 13224".

للحركة علاقات قوية وداعمة مع (كتائب حزب الله العراق) و(حزب الله اللبناني) و(مجموعة أصحاب الكهف) المرتبطة بـ(عصائب أهل الحق)، كما تحظى بمعاملة مميزة في طهران. وبحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فإن "غالبية الأدلة تشير إلى أن (حركة النجباء) تسيطر على "فريق إخوة جهاد الإلكتروني" وقناة "ن ج" على منصة "تلغرام".

كتائب حزب الله في العراق

هي الفصيل الرئيسي والأكثر نفوذًا في العراق، كما أنها الأكبر في «قوات الحشد الشعبي» العراقية، وتسيطر على الإدارات الرئيسة فيه (رئاسة الأركان، والأمن، والاستخبارات، والصواريخ، والأسلحة المضادة للدروع). تشكلت من اندماج "جماعات خاصة" يديرها فيلق القدس التابع لـلحرس الثوري الإيراني في الفترة 2005-2007، وتعمل تحت القيادة المباشرة لإيران، حسب معلومات أميركية. وتنشر مجموعة واسعة من الخلايا المسؤولة عن العمليات الحركية والإعلامية والاجتماعية، بعضها ممول من الدولة العراقية، ولها فصائل من المستوى الأول تنفذ عمليات عسكرية حركية (محلية وأجنبية) وتملك جناحيْن، اجتماعي وسياسي. أدرجتها الولايات المتحدة، في عام 2009، ضمن قائمة "المنظمات الإرهابية العالمية الخاضعة لإدراج خاص" لمهاجمتها القوات الأميركية وزعزعة استقرار العراق(4).

وعلى موقعها الرسمي تعرِّف كتائب حزب الله نفسها بأنها تشكيل "مقاوم يؤمن بمبادئ الإسلام وينتهج خط الإسلام المحمدي الأصيل وآل البيت الأطهار عليهم السلام في رفض الظلم ومقارعة الظالمين"، وترى أن "ولاية الفقيه" هي الطريق الأمثل "لتحقيق حاكمية الإسلام في زمن الغيْبة" (أي غيْبة المهدي، الإمام الثاني عشر وفقًا لمذهب الاثنا عشرية الشيعي)(5).

مؤسس الحركة هو أبو مهدي المهندس، الذي قُتل بضربة أميركية قرب مطار بغداد، في مطلع عام 2020، بصحبة الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، وبعد المهندس تولى، عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) منصب الأمين العام، ومنصب رئيس أركان الحشد الذي كان يتولاه المهندس. وكلاهما مصنف على قوائم الإرهاب الأميركية.

ويُقدر عدد مسلحي "الكتائب" بسبعة آلاف عنصر، وفقًا لأرقام غير رسمية، ويُعتبر أسلوب عملها شبيهًا بأسلوب (حزب الله اللبناني)، كما أشرفت على تدربيها قيادات إيرانية ولبنانية، أبرزهم: عماد مغنية، الذي قُتل في سوريا، عام 2015 (6).

الكتائب غير ممثلة في حزب سياسي، لكنها جزء من قوات الحشد الشعبي في العراق، ويشير "معهد واشنطن" إلى أنها "الأكثر نفوذًا". وكما هي الحال بالنسبة لحركة النجباء فإن نشاط (حزب الله العراق) لا يقتصر على العراق فحسب، بل في سوريا أيضًا، سواء عندما انخرط في القتال إلى جانب نظام الأسد، أو مؤخرًا في أثناء إقدامه على الزج بعناصر، من أجل المشاركة في مهاجمة القوات الأميركية هناك(7).

كتائب سيد الشهداء

تختص هذه الجماعة بعمليات عسكرية عابرة للحدود في سوريا بشكل خاص، وتنسق أعمالها مباشرة مع (الحرس الثوري الإيراني)؛ حيث تركِّز على الأجندة الإقليمية المشتركة لـ(محور المقاومة) المدعوم من إيران، ويحمل مقاتلوها على الدوام شعارات تحمل صور المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، والمرشد الراحل، آية الله الخميني(8).

وحسب المواقع القريبة من (المقاومة الإسلامية ) في العراق فإن كتائب سيد الشهداء هي فصائل شيعية عراقية تشكلت في عام 2013 وتمحورت منذ نشأتها حول شخصية وقاعدة سلطة مصطفى عبد الحميد حسين العتابي (المعروف أيضًا بـ"أبو مصطفى الشيباني" أو حميد ثجيل وريج العتابي)، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لـ "كتائب حزب الله". وفي عام 2014، أصبح الأمين العام لكتائب سيد الشهداء هو أبو آلاء الولائي وأصبحت "كتائب سيد الشهداء" جزءًا من قوات الأمن العراقية عندما شكلت اللواء 14 من "قوات الحشد الشعبي" وبمعنى آخر فإنها جزء من الحشد الشعبي؛ حيث إن الممثل السياسي لـ "كتائب سيد الشهداء" والمتحدث باسمها فالح الخزعلي، الذي كان عضوًا في مجلس النواب العراقي لولايتين منذ عام 2014  إلى الوقت الحاضر.

ويصفها مؤيدوها بأن هدفها "حماية الأضرحة الشيعية حول العالم" و"الحفاظ على الوحدة العراقية" و"وضع حد للصراع الطائفي". شاركت في عمليات تحرير سوريا وحماية ضريح السيدة زينب عليها السلام وكذلك شاركت في عمليات تحرير العراق من عصابات داعش الإرهابية(9).

لم يكتف هذا الفصيل بالعمليات العسكرية في سوريا بل امتدت أنشطته إلى دول إقليمية أخرى، وصرح أمينه العام لاحقًا، في يوليو/تموز 2018، بأنه سيرسل مقاتلين لمحاربة القوات الحكومية في اليمن. تلقت الكتائب ضربتيْن جويتين أميركيتين في سوريا، الأولى في التنف، في أغسطس/آب 2017، زعمت الكتائب أنها أسفرت عن مقتل 36 عنصرًا وجرح 75 آخرين، ومرةً أخرى، في مارس/آذار 2021، في البوكمال، دون سقوط أي ضحايا. ونفت الولايات المتحدة الحادثة الأولى، ولكنها اعترفت بالثانية كردٍّ على التورط المزعوم للجماعة في الهجوم الصاروخي على مطار أربيل، في 16 فبراير/شباط 2021(10).

مثل سابقتيها وعدد آخر من الفصائل المسلحة في العراق، فإن (كتائب سيد الشهداء) تتبع هيئة الحشد الشعبي وتتلقى منه تمويلها، لكنها عمليًّا لا تلتزم بسياسة الحكومة العراقية ولا أوامر القائد العام.

وبعد استهداف مجمع السفارة الأميركية في المنطقة في بغداد، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2023، بصاروخين تعهد قائد (كتائب سيد الشهداء)، أبو آلاء الولائي، بأن الهجمات على المصالح الأميركية في العراق ستستمر طالما أن هناك حربًا في قطاع غزة(11).

قامت الولايات المتحدة عقب ذلك بتصنيف هذا الفصيل وأمينه العام "إرهابيين عالميين مصنفين تصنيفًا خاصًّا"، وتعقيبًا على استهداف مجمع السفارة الأميركية ببغداد، ذكر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن "النشاط الإرهابي لكتائب سيد الشهداء هدد حياة أفراد الولايات المتحدة والتحالف الدولي لهزيمة داعش في العراق وسوريا"، وأضاف " لقد قامت "كتائب سيد الشهداء" التي تعمل في بعض الأحيان مع المنظمات الأخرى التي تصنفها الولايات المتحدة بالإرهابية، بما فيها "كتائب حزب الله" و"حركة النجباء" بالتخطيط ودعم الهجمات ضد الأفراد الأميركيين"(12).

موقف الولايات المتحدة من استهداف قواعدها في العراق وسوريا

بسبب السياسة الأميركية المعلنة منذ بداية الحرب على غزة، بالعمل على منع تمدد الحرب في بقية مناطق الشرق الأوسط، فقد سعت واشنطن لعدم تصعيد الموقف في العراق؛ حيث تشكل أي عمليات عسكرية نوعية في الإقليم نافذة لتوسعة نطاق الحرب في الشرق الأوسط. وبحسب وزارة الخارجية الأميركية، فإن وزيرها، أنتوني بلينكن، ما انفك يحث رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، على محاسبة المسؤولين عن الهجمات المستمرة على العسكريين الأميركيين في العراق من جهة، والوفاء بالتزامات العراق بحماية البعثات الدبلوماسية وجميع المنشآت التي تستضيف العسكريين الأميركيين الموجودين في العراق بدعوة من الحكومة العراقية(13)، وقال بلينكن في بيان: "إن إيران دعمت من خلال الحرس الثوري الإسلامي وقوة العمليات الخارجية التابعة له المعروفة باسم فيلق القدس "كتائب سيد الشهداء" و"كتائب حزب الله" وغيرها من مجموعات الميليشيات المتحالفة مع إيران وقدمت لهم التدريب والتمويل والأسلحة المتطورة بما في ذلك الأنظمة الجوية بدون طيار الدقيقة والفتاكة بشكل متزايد. وأكد وزير الخارجية الأميركي أن "إيران هي الدولة الرائدة في العالم في رعاية الإرهاب. وتبقى الولايات المتحدة ملتزمة باستخدام جميع الأدوات المتاحة لها لمواجهة دعم إيران للإرهاب وإضعاف وتعطيل قدرة الجماعات المدعومة منها على شن هجمات إرهابية"(14).

لم تفلح محاولات الحكومة الأميركية في وقف عمليات الفصائل العراقية ضد قواتها، لكن عدم حصول خسائر جدية، كان يجعل الوضع بشكل عام ضمن حدود قواعد اشتباك مقبولة، لا ترقى لحرب شاملة، كما هو مطلوب أميركيًّا وإيرانيًّا، لكن مقتل وإصابة الجنود الأميركيين أطاح بهذا الحدود.

تركزت الجهود السياسية للحكومة الأميركية بالضغط على الحكومة العراقية، لوقف هجمات الفصائل، لكن طبيعة حرب غزة وضراوتها على الشعب الفلسطيني وحجم الانخراط الأميركي فيها، زاد من تعقيد مهمة الحكومة في بغداد، حيث تعالت الأصوات السياسية ضد الحرب الإسرائيلية، وزادت المطالبات بتفعيل قرار مجلس النواب العراقي الذي قرر عام 2020 إنهاء الوجود الأميركي في العراق، وكانت هذه المطالبات تزداد كلما قامت القوات الأميركية بضربات انتقامية على الأراضي العراقية، على اعتبار أن ذلك انتهاك للسيادة.

وقد دأبت الحكومة العراقية على رفض هجمات الفصائل، ورد الفعل الأميركي على حد سواء، ثم قامت بإعلان نيتها التفاوض مع واشنطن لبحث ترتيبات الانسحاب الأميركي، قبل أن تعلن كل من بغداد وواشنطن أنهما ستبدآن اجتماعات للجنة العسكرية العليا بينهما لبحث "انتقال مهمة التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية" وفقًا لجدول زمني يتم الاتفاق عليه، في حين تحدثت الخارجية العراقية عن "خفض تدريجي مدروس" لعناصر التحالف.

لم تؤثر هذه الخطوة التي باركتها القوى السياسية العراقية، على مواقف الفصائل المسلحة التي تندرج تحت مسمى (المقاومة الإسلامية)؛ حيث سرعان ما أصدرت بيانًا أكدت فيه استمرار عملياتها ضد القوات الأميركية وقالت إنها ستواصل عملياتها ضد الوجود الأجنبي، رغم إعلان الحكومة بدء المفاوضات مع واشنطن.

الانقسامات في مواقف القوى العراقية

تباينت مواقف القوى العراقية ومنها مواقف فصائل الحشد الشعبي المسلحة ذاتها من  استهداف قواعد قوات التحالف الدولي في العراق وسوريا، فالبعض اكتفى بمواقف احتجاج ورفض وإستنكار لمواقف الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل في حربها البشعة على قطاع غزة وطالب ضمنًا أو صراحةً بعدم تصعيد الموقف مع واشنطن لحسابات تتعلق بالحفاظ على العلاقة مع الولايات المتحدة وضروراتها الأمنية والسياسية، وأيضًا تجنيب البلاد ما قد تحدثه الولايات المتحدة من إرباك أزمات مالية واقتصادية للعراق ناهيك عن العقوبات التي قد تتخذها في حال إلحاق الأذى بقواتها الموجودة في العراق، وكان أبرز من تبنى هذه المواقف قوى وفصائل ضمن تحالف (الإطار التنسيقي) الشيعي الحاكم الذي ينتمي له رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني.

وقد التزمت معظم الفصائل المسلحة بهذه السياسة، حتى مع إعلان تعاطفها مع المقاومة في غزة، وهو ذاته موقف رئيس الحكومة العراقية الذي تعرض للضغوط والإحراج، فهو من جهة لا يملك (القدرة) على إيقاف عمليات التعرض التي تقوم بها فصائل (المقاومة الإسلامية)؛ إذ رغم أنه يتولى موقع القائد العام للقوات المسلحة، إلا أن هذه الفصائل التي تعمل ضمن إطار (الحشد الشعبي)، وتتلقى تمويلها المالي وتسليحها من الدولة، تعمل بموجب أجندتها الخاصة، لا تبعًا لتوجيهات القيادة العراقية. وكان  رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، تعرض لاعتداءات علنية من قبل فصائل عراقية منها قصف منزله بطائرة مسيرة، ومحاصرة مكتبه، وإهانته بشكل علني، بعد محاولته فرض سيطرته على هذه الفصائل واعتقال عدد من عناصرها التي ضُبطت وهي تستعد لإطلاق قذائف ضد الأميركيين.

وفي الوقت ذاته، فإن السوداني لا يمتلك الأدوات السياسية أو العسكرية التي تمكِّنه من منع أو مواجهة الهجمات الأميركية ضد الفصائل المعنية التي وصفها السياسيون في العراق بأنها انتهاك صارخ لسيادة البلاد، مما جعله في الحالتين بمواجهة القوى السياسية والحشد الشعبي وأخرى من خارج الحدود.

تلقى السوداني وبشكل مكثف، ومنذ السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اتصالات من وزير الخارجية أو وزير الدفاع الأميركيين، يحثونه على ضرورة إيفاء العراق بالتزاماته الخاصة بحماية المستشارين العسكريين والبعثات الدبلوماسية العاملة في العراق، باعتبار وجودها كان بدعوة من قبل الحكومة العراقية. وعلى هذا الأساس فإنه سعى لاحتواء الفصائل المسلحة من خلال الزعامات الشيعية الأخرى التي قامت بتأييده، إلا أن النتائج غالبًا ما وصلت إلى طريق مسدود، حتى جاء الهجوم على الموقع الأميركي في شمال الأردن ليفرض واقعًا جديدًا من غير المعروف تمامًا كيف ستتصرف الحكومة والقوى السياسية إزاءه.

ومن غير الوارد بشكل عام تعرض فصائل (المقاومة الإسلامية) إلى أضرار جدية تحت أي ضربات أميركية انتقامية سريعة، كما أنها لن تندمج ضمن الدولة العراقية وتخضع للقيادة العراقية، في المدى المنظور، لذلك فمن المتوقع أن تستمر المواجهات مع القوات الأميركية بغض النظر عن الحرب على غزة، حيث تستمر هذه الضربات والضربات المضادة منذ سنوات عدة، وتمثل أساسًا لشرعية وجود هذه الفصائل، فضلًا عن أن قدراتها القتالية والتسليحية والمالية تجعل منها قوة ضخمة لا يمكن القضاء عليها بعمليات سريعة كما لا يمكن للحكومة العراقية حلها أو دمجها بدون اتفاقات جوهرية مع إيران بشكل خاص.

نبذة عن الكاتب

مراجع

 

1- Iran-backed militia vows more attacks after US Embassy in Iraq comes under fire, CNN, December 8, 2023 (Viewed at 29/1/2024): https://edition.cnn.com/2023/12/08/politics/us-embassy-iraq-attack/inde…
2- ما هي حركة "النجباء" العراقية المسلحة وما دورها؟، سي إن إن عربي، 15 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-46470444

3- وكالة رويترز، تقرير خاص- النجباء..قصة الفصيل العراقي الذي يساعد إيران على فتح طريق إلى دمشق، 22 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/DRY08
4- مايكل نايتس، لمحة عن كتائب حزب الله، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 14 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/lmht-amwt-n-ktay…
5- المقاومة الإسلامية- كتائب حزب الله، عن الكتائب، (تاريخ الدخول: 25 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.kataibhezbollah.me/about

6- كتائب حزب الله في العراق: ما طبيعتها ومن يقف وراءها،  BBC عربي، 30 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50945835

7- كتائب حزب الله" في العراق.. سر الضربات "الاستثنائية" الأميركية، الحرة، 23 نوفمبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/dIOY4

 

8- Hizballah Cavalcade: Kata’ib Sayyid al-Shuhada Emerges: Updates on the New Iraqi Shia Militia Supplying Fighters to Syria, Internet Archive, (viewed at:29/1/2024): https://jihadology.net/2013/09/09/hizballah-cavalcade-kataib-sayyid-al-…
9- المقاومة الإسلامية كتائب سيد الشهداء عليه السلام، موقع آماج الإخبارية.. صوت المقاومة الإسلامية، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/jtEMN

10- مايكل نايتس، لمحة عامة عن «كتائب سيد الشهداء»، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 3 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/lmht-amt-n-ktayb…

11- أول تعليق من قائد "كتائب سيد الشهداء" على استهداف السفارة الأميركية في بغداد، سي إن إن عربي، 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2023/12/08/kataeb-sayyed-als…
12- واشنطن تصنف جماعة كتائب "سيد الشهداء" وأمينها العام إرهابيين عالميين مصنفين تصنيفًا خاصًّا، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، الحرة، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/bcsY5

13- بيان: بلينكن يضغط على رئيس وزراء العراق بشأن الهجمات على القوات الأميركية، SWI swissinfo.ch، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/AKPU9
14- المصدر السابق.