تحالف دول الساحل والحاجة إلى اعتماد الأفارقة على الذات

يشكل التحالف الثلاثي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو خيارًا جديدًا قد يكون مناهضًا لمجموعة الإيكواس التي تفرض حصارًا خانقًا على اقتصادات الدول صاحبة المبادرة، فضلًا عن أنه موجه في معنى من معانيه للوجود الفرنسي في المنطقة، بحثًا عن حلفاء دوليين جدد من أبرزهم روسيا.
هل سيشكل التحالف الجديد خيارًا سياسيًّا واقتصاديًّا في وجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس"؟ (الفرنسية)

مع نهاية العام 2023، اتفق وزراء خارجية بوركينا فاسو والنيجر ومالي على خطة "لتعزيز التكامل السياسي والاقتصادي" يتم بموجبها تدشين أولى المراحل المؤدية لإنشاء اتحاد كونفيدرالي بين الدول المتجاورة والتي تشترك أنظمتها الحاكمة في كونها نتاج انقلابات عسكرية متعاقبة وذات ملامح شخصية متشابهة. ولا يخفى على المهتم ما تشترك فيه أنظمة هذه الدولة الثلاث من غلبة عنصر الشباب على قياداتها المُبادرة إلى طي ملف الأنظمة المدنية المتدثرة بالديمقراطية.

وفي نظر المتابعين، فإن الإجراءات المتفق عليها بين وزراء الساحل للشؤون الخارجية تدخل في صميم تطلعات رؤساء الدول الغرب إفريقية والتي أصدروها في أعقاب إقرار ميثاق ليبتاكو غورما، لتحالف دول الساحل (AES)، والذي حمل اسم منطقة تاريخية تتاخم الحدود المشتركة بين بلدان التحالف الثلاثة.

وربما يعود ذلك لما يظهر من القواسم المشتركة ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بين شعوبها، ومدى الحاجة الماسة لتبادل المساعدة والدعم بالقوة العسكرية عند الاقتضاء. وعلاوة على ذلك، ولأسباب إستراتيجية، فإن هذه اللقاءات المتلاحقة إنما تندرج في إطار هدف طويل المدى من المطلوب أن يكتمل في النهاية بتوحيد أطراف الميثاق ضمن اتحاد كونفيدرالي يمكنه أن يشكل بديلًا أمنيًّا عن مجموعة دول الساحل الخمس G5 (المحْلولة عمليًّا)، والتي كانت تضم إلى جانب هذه الدول الثلاث كلًّا من تشاد وموريتانيا.

وقد يشكل التحالف الجديد خيارًا سياسيًّا واقتصاديًّا في وجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) التي تفرض حصارًا خانقًا على اقتصادات الدول صاحبة المبادرة، هذا فضلًا عن قلبِ صفحة الوجود الفرنسي في المنطقة، والبحث عن حلفاء دوليين جدد.

لماذا فشلت السياسات الدفاعية في منطقة الساحل؟

توصف منطقة ليبتاكو غورما، المعروفة أيضًا باسم "الحدود الثلاثية" في إشارة إلى توزعها بين تُخوم بوركينا فاسو ومالي والنيجر، بكونها "حفرة سائبة". فعلى فضاء يبلغ 370 ألف كيلومتر مربع وهو مساحة المنطقة التي تهيمن عليها تاريخيًّا المُجتمعات الرعوية، ولاسيما الفُولاَنْ والغُورْمَا، ولكن أيضًا شُعوب الطوارق والصُونغَايْ، فإنه من الملاحظ غياب مؤسسات الدولة برغم الحاجة إليها لضبط التداخُل الديمغرافي والطبيعي وضغط الولاءات العرقية التي تتجاوز الانتماء الوطني.

وفقًا لمؤشر الإرهاب لعام (GTI) 2023، وهو تقرير نشره المعهد العالمي للاقتصاد والسلام ومقره أستراليا، فقد أصبحت المنطقة بؤرةً للإرهاب؛ حيث سجلت في 2022 عددًا أكبر من الوفيات الناجمة عن الإرهاب مقارنة بجنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجتمعة. وبحسب مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية فإن أكثر من ثُلثِ المدنيين الذين قُتلوا على يد الجماعات الإسلامية المتشددة في منطقة الساحل فقدوا أرواحهم في إحدى المقاطعات الخمس (أنسونغو، وغاو، وأودالان، وسوم، وسينو)، وهو ما يناهز ربع جميع حوادث العنف المرتبطة بالجماعات الإسلامية المتشددة في منطقة الساحل(1). وتحتل بوركينا فاسو المرتبة الأولى قاريًّا والثانية من حيث كثرة المتضررين من الإرهاب على مستوى العالم بعد أفغانستان(2).

تمتدُ منطقة ليبتاكو غورما إلى عُمقِ الحُدود البوركينابية بنسبة تناهز 58% من مجمل أراضيها، وهو ما يفسر تأثرها بمجموعة غير مسبوقة من التهديدات الجهادية التي تستهدف  العُمق البوركينابي، بما في ذلك العاصمة، واغادوغو، وغيرها في الهضبة والوسط والشمال. ولا يتعلق الأمر بالتداخل الحاصل بين الحدود فقط، بل إن له صلة واضحة بانتشار الفوضى التي تطبع النزوح المتواصل للمجموعات والإثنيات غير المستقرة، أو الوافدة، أو تلك التي أرغمتها سنوات الجفاف الكبير من 1970 إلى 1985 على الهجرة، مع ما رافق تلك الحقبة من تدهور في الغطاء النباتي، الشيء الذي ضرب الوئام والتآلف فيما بين السكان.

وقد شكل طول أمد الجفاف وانعدام الاستقرار عائقًا رئيسيًّا في سبيل وصول المدنيين في دول الساحل إلى الخدمات الأساسية، ومنها تأمين أقوات الناس وممتلكاتهم أثناء فترات الشدة والمصاعب، ولهذا اتخذت الجماعات الجهادية من المثلث الحدودي قبل 11 سنة خلت قلبًا لإستراتيجياتها الرامية إلى إرباك الحكومات المحلية. ولم تتردد عن ممارسة الأنشطة غير المشروعة طولًا وعرضًا، فجمعت بين الاتجار بكافة أنواعه (بالأسلحة والمخدرات والدراجات النارية والوقود المهرب من نيجيريا)، واستهداف ثروات الأعيان والوجهاء، واختطاف الماشية أثناء الهجمات على القرى وتجمعات السكان الرحل.

ومن الواضح أنه إلى جانب استخراج الذهب والصيد النهري في شمال مالي والنيجر، واللذان شكلا مصدرًا رئيسيًا لتمويل الإرهاب والغلو وتجنيد الأتباع على أسس إثنية وعرقية وقبلية واضحة، وبحسب المعلومات المتداولة، فقد مكنت هذه العمليات قادة "تنظيم الدولة الإسلامية -ولاية الساحل" من مباشرة جمع الزَكَوَات جبرًا مقابل توفير الحماية.

وعلى سبيل المثال، لم يمض وقت طويل حتى تضاعفت معاناة السكان في بوركينا فاسو بسبب العمليات التي تقوم بها المجموعات عبر الحدود، حتى تبلور اقتناع الأوساط البوركينابية بفكرة مُؤداها أن الانفلات الأمني داخل منطقة ليبتاكو غورما هو امتداد للأزمة المالية وأن الأخيرة لم تعد تستطيع السيطرة على حدودها.

وفي هذا الصدد، كان حكام باماكو يسعون من جانبهم إلى تدارك الخطر الوشيك على وحدة وسيادة بلادهم، فلجأ الرئيس الانتقالي، يونكوندا تراوري، إلى تفعيل مُعاهدات التعاون العسكري مع فرنسا، وذلك على ضوء التدخلات العسكرية التي سبق للإليزيه أن قام بها في العديد من المستعمرات السابقة بهدف إبقاء حلفائه السياسيين المغضوب عليهم شعبيًّا في الحكم وفقًا لمقتضيات تحددها "ذراع فرنسا الإفريقية"، وهي قواعد سرية غالبًا حيث يعود إرساؤها إلى الفترة ما بين 1959 و1961.

وفي تناغم مع النداء المالي، أعلن رئيس فرنسا آنذاك، فرانسوا هولاند، في فبراير/شباط 2013، عن إطلاق عملية سيرفال بهدف منع العاصمة المالية، باماكو، من السقوط في أيدي الجماعات المسلحة التي تتقدم باتجاهها معتبرًا الخطوة "أسعد يوم في حياته السياسية". غير أن سنوات العسل لم تدم طويلًا فقد انهارت العلاقة بعد عقد بشكل مريع على خلفية فشل السياسات الأمنية في مالي، على حدِّ وصف الكولونيل، عبد الله مايغا، الوزير الأول بالإنابة، سنة 2022، الذي اعتبرها "استعمارية، ومتعالية، وأبوية وانتقامية".

والأدهى والأمرُّ أن شعورًا عارمًا في هذا الاتجاه أصاب القوى المدنية والروحية، فالسلطات الفرنسية لم تفهم دائمًا "بشكل كامل الحساسيات التاريخية الموجودة مع دول الساحل، ولقد أخطأت في كثير من الأحيان بسبب الافتقار العميق إلى التواضع والاستماع"(3) إلى شركائها المحليين. ومن وجهة نظرنا، الخاصة فإن تنامي العداء لفرنسا في الساحل يعود للخلط بين فرنسا والمصالح المالية والاقتصادية لحلفائها الظاهرين والأخفياء في شمال وجنوب مالي، بما في ذلك قادة جبهات التمرد الأقوياء، وهو ما اعتبر دورًا مريبًا وطعنًا في ظهر الشعب المالي. وكما يقول المثل الفرنسي: "إن طريق جهنم لا تخلو من نوايا حسنة". فقد انقلبت المعادلة؛ فوجد السفير الفرنسي في نفس العاصمة، باماكو، في يناير/ كانون الثاني 2022، نفسه "شخصًا غير مرغوب فيه"، وهو ما أوجب على وزارة الخارجية الفرنسية إعادته إلى باريس على متن نفس الطائرات الحربية التي تقل جنود برخان المنسحبين من مالي بقرار من رئيس فرنسي آخر هو إيمانويل ماكرون؛ لتغادر فرنسا منطقة الساحل تاركة إياها تتخبط في واحدة من الأزمات الإنسانية الكبرى في العالم.

وعلى الرغم من الإمدادات المالية والعسكرية الكبيرة، فإن القوات الدولية بقيادة فرنسا فشلت في مواجهة تمرد الجماعات الإسلامية بدول الساحل، ولم تتمكن من مساعدة الدولة المالية في استعادة السيطرة على أقاليم الشمال، وهو ما سمح بصوابية الاتجاهات المناهضة لفرنسا وترك انطباعًا سلبيًّا لدى شعوب المنطقة إزاء المستعمر القديم وذلك على ضوء مؤشرات ثلاثة، هي:

  1.  الشكوك تحوم حول مدى نجاعة الوجود الفرنسي: رأت الشعوب الإفريقية أن القواعد الفرنسية في العديد من الدول بمنزلة قواعد حمائية للشركات التي تستغل الموارد الإستراتيجية المحلية، دون أن يظهر انعكاس ذلك على الشباب الإفريقي الذي يموت في عرض البحر وهو في طريقه إلى أوروبا بعدما واجه عقبات كأْداء في الحصول على التأشيرة من السفارات الفرنسية والأوروبية في المنطقة. على أن فرنسا التي كانت حرية التنقل هي القاعدة بينها ومستعمراتها القديمة باتت منذ سبتمبر/أيلول 1986 في غير متناول المواطنين الأفارقة، في الوقت الذي يتزايد تأثيرها على الأنظمة وتتعمق صلاتها برؤوس الأموال.
  2.  تعاظم دور البانأفريكانيسم(4): شكلت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة مهمة وضرورية للتواصل مع الناس في جميع أنحاء العالم، وفي إفريقيا لعبت دورًا كبيرًا كأداة لتكوين وبناء العلاقات وخلق شعور جارف بالانتماء إلى الأصالة الإفريقية. وهكذا برز نشطاء البانأفريكانيسم أو القوميين الأفارقة الذين شكلوا مع الوقت أبرز منتقدي السياسات الفرنسية في إفريقيا وأكثرهم جرأة، ومن بين هؤلاء: كيمي سيبا، وناتالي يامب، وغيرهما. ولديهما نوع من التناغم أو التنسيق في هذا الصدد مع دول ذات نفوذ مناهض لفرنسا في إفريقيا، وكثيرًا ما لوحظ التقارب بين دعاة هذا التيار والمصالح الروسية من جهة؛ حيث يدعون بشكل دائم إلى المنتديات والبرامج التلفزية ومن جانب آخر لا تخفى صلة التأثير والتأثر بين قادة البلدان الثلاثة ورواد هذا التيار الداعي إلى القومية الإفريقية الأصيلة.
  3.  فشل عملية برخان: استدعت الاضطرابات والتمردات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2012 الرد من خلال عمليتي سيرفال في مالي وبرخان في دول الساحل، ولكن التدخل الفرنسي لم يحقق نتائج مرضية، بل انتشرت عدوى الاضطراب في باقي الدول، وتفاقمت الأزمات الإنسانية وموجات النزوح على مدار العقد الماضي، مما أثار سخط السكان الذين اعتبروا تدخل فرنسا تجديدًا للحقبة الاستعمارية، وتصاعد بالتالي الخطاب والتوجهات المعادية لفرنسا.

انهيار مجموعة دول الخمس بالساحل

في الأيام التي أعقبت الانقلاب في مالي سنة 2022، بدا الرئيس ماكرون مهتمًّا أكثر في التشديد على "إعادة الشرعية" والالتزام علنًا باستعادة الديمقراطية أكثر من إفهام النخبة السياسية والمواطنين العاديين لماذا أخفقت الجيوش المدعومة من فرنسا في إحراز تقدم ملموس داخل المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة.

وعليه، لم تفوت الجهات المعنية اصطياد الطريدة التي باتت توصف بكونها "المستعمر القديم" الذي يُحاول جاهدًا إظهار لعب دور مبالغ فيه؛ الشيء الذي يبرر استحواذ العسكر على السلطة المركزية بالقوة في كل من مالي ثم بوركينا فاسو فالنيجر. ولا شك أن سلسلة الانقلابات هذه أفسحت المجال أمام تداعيات دراماتيكية ضربت المنطقة بشكل متلاحق. فعلى ضوء التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى شرعت المجالس العسكرية الحاكمة تباعًا في تطوير علاقاتها الأمنية مع روسيا ووكيلتها في المنطقة "مجموعة فاغنر الخاصة"، وهي الخطوة التي شرعت بموجبها الأخيرة في إعادة بناء وجودها الإستراتيجي في دول المنطقة المضطربة.

أما مُعظم الساسة الأفارقة، بمن فيهم أشد منتقدي فرنسا شراسة، على سبيل المثال الناشطة نتالي يامب، فقد عملوا على تعزيز المشاعر المعادية للوجود الغربي عمومًا، ومكَّن الانسحاب الفرنسي الروس من التغلغل بين هذه القوى من دون وجود منافس ميداني يُذكر(5).

وعلى سبيل التوضيح أكثر، فقد أُنشِئت مجموعة دول الساحل الخمس (G5)، في أوائل عام 2014، بمبادرة مُشتركة بين موريتانيا وتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر؛ كأطراف متعاقدة على تأسيس إطار تنموي بذراع عسكرية تعهد إليها الدول بمسؤوليات الدفاع المشترك. وبعد أشهر من هذا الزخم قررت الدول الأعضاء إحداث بنية مرنة لهياكل المنظمة، من ضمنها أمانة دائمة في نواكشوط (دولة المقر) يعهد اليها بتنسيق السياسات الأمنية والتنموية للدول الخمس، مع التركيز على إدارة المناطق الحدودية.

وقد استضافت باماكو القوات العملياتية، ودفعت جيوش الدول الخمس بقواتها لتنضم إلى القوة المشتركة التي لم تختبر قط على الميدان بسبب افتقارها للوسائل والمعدات. وقد بقي أداء المنظمة العسكري جد مرتبك، إلى أن سدَّد الطرف المالي الضربة الأولى للمجموعة، في مايو/أيار 2022، مبررًا مغادرته بكون هذا التنظيم الخماسي "يستغله الخارج" بعد عقد من الزمن من الانتشار الفرنسي على أراضيها. وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن القادة العسكريون في بوركينا فاسو والنيجر عن انسحابهم "من كافة الهيئات التابعة لمجموعة دول الساحل، بما في ذلك القوة المشتركة".

وهكذا، ودون إهمال الدوافع الأخرى، يبدو تفكك مجموعة الساحل الخمس مرتبطًا بالانسحاب الفرنسي أيضًا من منطقة الساحل. وعلى هذا المنوال، احتدم التنافس الجيوستراتيجي بين الغرب وروسيا داخل أقاليم القارة الإفريقية الخمسة ضمن لعبة يُراد منها إبراز حضور أقطاب جديدة لا يمكن تجاوزها على الساحة الدولية والإقليمية بما يفرض على الغرب الاعتراف بروسيا قوة دولية تنضاف لنظام دولي مغاير.

إن المشروع الروسي يتحرك وفق المواجهة الدائمة مع مصالح فرنسا في منطقة الساحل عارضًا على الأفارقة التسليح الفوري والتدريب المكثف والاستشارة مقابل استفادة روسيا من المناجم الخام والدعم السياسي داخل أروقة الأمم المتحدة، ويمكننا التأكيد على أنها مقاربة تقترب من الأنماط المألوفة لدى الأفارقة القدماء والتي يطلق عليها "المقايضة".

إعادة بناء الذات الوطنية عبر تحالف الساحل

أخيرًا، أشادت المجالس العسكرية بعلو همة قادتها في أعقاب إعلان الرئيس الانتقالي المالي، العقيد هاشيمي كويتا، في بداية نوفمبر/تشرين الأول 2023، انتصار مالي على الحركات المتمردة في منطقة كيدال، معقل الإطار الإستراتيجي الدائم (Cadre Stratégique Permanent، أو CSP) في الشمال. ويجمع الأخير بين الفصائل الانفصالية كتنسيقية الحركات الأزوادية (CMA) وبعض الجماعات المسلحة الأخرى، والتي تتطلع إلى تأسيس وطن قومي لسكان الشمال من العرب والطوارق، الشيء الذي ستكون لتأثيراته، إن تحقق فرضًا، تبعاتٌ ماحقة على استقرار الدول المجاورة مثل الجزائر، وعلى نحو خاص سيعرِّض النيجر وبوركينافاسو للخطر المؤكد.

ومن هذا المنظور، ساند البلدان الأخيران هذه العملية التي تمثل أولى ثمار تحالف دول الساحل، والذي أعلِن عنه قبيل هذا التطور الذي عُدَّ نتاجًا لدعم مجموعة فاغنر الروسية. وضمن خلاصة متشائمة لهذا الانتصار توصلت "مجموعة الأزمات الدولية" إلى أن الاشتباكات التي اندلعت بسبب انسحاب بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، وما أعقب ذلك من محاولات الطرفين الاستيلاء على القواعد الإستراتيجية للهيئة الأممية، من شأنه على المدى الطويل أن يصبح مكلفًا لجميع الأطراف؛ بحيث "تخاطر السلطات المالية والإطار الإستراتيجي الدائم بخسارة مكاسبهما على الأرض لصالح الجهاديين. ومن شأن القتال المطول بين الجانبين أن يضعفهما، لصالح المجموعات الجهادية"(6).

وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان الطوارق الذين انسحبوا إلى مرتفعات وجبال الإيفوغاس من أجل إعادة تجميع قواهم ربما سيفكرون في رد على التحالف الجديد بالتنسيق مع المتشددين الإسلاميين والانتقام من الجيش المالي.

وفي هذا الأثناء، كثفت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي) هجماتها على القوات المالية ومعها فاغنر؛ حيث تعهد زعيمها الروحي، إياد أغ غالي، بإلحاق الهزيمة المذلة بتحالف الساحل الجديد الذي وصفه بحلف "الكفار الجدد"، داعيًا إلى التعبئة العامة لتحقيق أهدافه.

ويأتي هذا الموقف ليبرهن على التنافس الحاد مع خصمها الآخر الأكثر تأثيرًا في مستقبل الساحل عمومًا وهو "تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية الساحل" (IS Sahel)، الذي يتميز عن غيره من جماعات الساحل الجهادية بسعيه الدائم لإظهار نفسه أكثر "أرثوذكسية" وغلوًّا من الآخرين. فمن جانبه، يرى التنظيم أن التنسيق المحكم بين جيوش التحالف الجديد المتعاونة مع روسيا وفاغنر يمثل تهديدًا مباشرًا للمناطق التي يسيطر عليها خاصة المثلث الحدودي أو ليبتاكو غورما.

على سبيل الذكر، وبفضل إحياء باماكو لعلاقاتها الدفاعية مع موسكو، اقتنى الجيش المالي شحنات ضخمة من المقاتلات والطائرات الروسية من طراز سوخوي "سو-25" مصممة لدعم القوات البرية، وأخرى من طائرات طراز "البطرس إل-39" الهجومية، ومروحيات "إم آي-8 إس"، وهي مصممة لنقل القوات ومعدات القوات البرية، وغيرها. وذلك ما سمح بتحقيق سلسلة نجاحات في مواجهة المجموعات الجهادية والحركات المتمردة في شمال البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية.

غير أن ذلك ما كان ليتم لولا دخول سلاح طائرات من طراز بيرقدار التركية المسيَّرة (TB2) إلى ساحة الحرب. وقد أسهمت هذه الطائرات في حسم المعركة في الشمال بشكل جلي، نظرًا لقدرة هذه المسيرات على تحديد المواقع وتحييد الأهداف بصفة دقيقة. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن النيجر كانت أول من اقتنى هذا النوع من الطائرات في المنطقة.

نخلص في نهاية هذا الورقة إلى الإقرار بأن ديناميات التدخل الدولي والإقليمي في منطقة الساحل تسهم كثيرًا في تأجيج النزاعات المحلية، كما تزيدُ ارتداداتها من جدية التعاون المشترك بين الحكومات، فتسبب بطء الدعم المالي الدولي عن عمليات تجمع دول الساحل الخمس لمدة 10 سنوات في انهيار التجمع فجأة. كما لم يبذل المجتمع الدولي جهدًا لتفعيل اتفاقية السلام الموقعة بالجزائر سنة 2015 حتى تحولت إلى عبء على الأطراف الموقعة عليها، في الوقت الذي تتخبط فيه دول المنطقة في مستنقع من المصالح الجيوسياسية الإقليمية والدولية والصراعات المتأججة داخليًّا وخارجيًّا على حد سواء، دون أن تكون للجهات الفاعلة المحلية أدوار واضحة يمكنها من خلالها الدفع بخيارات التفاوض على التسوية.  

نظريًّا، في معظم بلدان الساحل تسهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية في زيادة معاناة أعداد هائلة من الشباب من البطالة، بالإضافة إلى عدم وجود أمل لإصلاح الأنظمة الاستبدادية، وانعدام التوزيع العادل لثروات الأوطان. كل هذا خلق سياقًا يُشبه القنبلة الموقوتة، من إفرازاته الهجرة المكثفة نحو الشمال، بالإضافة إلى التكلفة طويلة الأمد للصراعات المسلحة والتي ستؤدي إلى مزيد من سفك الدماء أو الثورات الشعبية العارمة، لا محالة.

عمليًّا، انخرط قادة بوركينا فاسو والنيجر ومالي العسكريون في سياق ميثاق "ليبتاكو غورما (تحالف دول الساحل) في اتفاق دفاعي يلزمهم خوض المعركة بشكل مشترك. وهم يرون أن "أي اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة سيعتبر عدوانًا على الأطراف الأخرى"؛ الشيء الذي قد لا يتحقق للأسف، إذا دفعت الظروف والأوضاع المزرية بقوى انقلابية أخرى لها مطامع غير مشروعة في سدة الحكم.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1)- Five Zones of Militant Islamist Violence in the Sahel, By the Africa Center for Strategic Studies, September 26, 2022 (accessed  January 9, 2024):   https://shorturl.at/lDJSU

2)- Global Terrorism Index 2023, Economic Sand Peace, Mars 2023, (accessed  January 9, 2024): https://shorturl.at/AEMR3

3)- Pourquoi la politique sahélienne de la France est un échec? Oxfam France, 10 août 2022, (Vu le 8 Janvier 2024): https://shorturl.at/lnDG6

4) البانأفريكانيسم (Panafricanism): تيار فكري وقومي متصاعد يرى أن الشعوب المنحدرة من أصل إفريقي لها مصالح مشتركة ويجب توحيدها على ذلك الأساس، وله شخصيات ورموز تحشد له المنحدرين من أصل إفريقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي واللقاءات العلمية والفنية في شتى أنحاء العالم.

5) كيف نفهم مستقبل نفوذ روسيا في منطقة الساحل من خلال انقلاب النيجر؟، موقع أسباب، أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2024)، https://shorturl.at/lGQ47

6)- Northern Mali: A Conflict with No Victors, Crisis Group 13 October 2023, (accessed  January 9, 2024): https://shorturl.at/uCGV9