العلاقات الثقافة الفرنسية الجزائرية من 1962 الى 1972

سلَّطت هذه الدراسة الضوء على موضوع التعاون الفرنسي الجزائري في المجال الثقافي؛ لذلك كانت تراوح بين التقصي التاريخي ومساءلة النصوص القانونية التي أطّرت ذلك التعاون، دون إغفال المحددات الأخرى كالمحددين التاريخي والسياسي، وذلك لمعرفة انعكاساته المختلفة على الجزائر المستقلة.
(الجزيرة)

المقدمة

تكمن أهمية موضوع هذه الدراسة في كونه يعالج قضية محورية في حياة الشعوب والأمم، والمتمثلة في التاريخ الثقافي، خاصة لمَّا يتعلق الأمر بدولة تتلمس أولى بداياتها في ظل الحرية، وتكوين شخصيتها الوطنية بعيدا عن تأثير الاستعمار وتحييد مختلف المؤثرات التي تعرضت لها قبل وبعد الاستقلال، ولأن مشكل التعاون الثقافي من أخطر ما فكر فيه المستعمِر على اعتبار تشكيل الشخصية والهوية الوطنية يمر عبر بوابة الثقافة والمدرسة والإعلام.  

وانطلاقا من ذلك فإن هذه الدراسة تهدف إلى:

  1. التحقق من أن العلاقات الثقافية شكلت آلية فعالة وحاسمة في الاستمرار الفرنسي في الجزائر.
  2. الكشف عن قيمة ودور اللغة في تحقيق الأهداف والغايات الفرنسية من التعاون في مجال التعليم.
  3. الكشف عن الآثار العميقة التي ترتبت عن السياسة الثقافية الفرنسية.

وضمن هذا السياق يمكن معالجة مسألة التعاون أو العلاقات الجزائرية الفرنسية في المجال الثقافي من خلال طرح لإشكالية التالية:

  • تذبذب وتردد السياسة الاستعمارية في تعليم الجزائريين من حيث البرامج، البنيات التحتية، الأهداف، الغايات المستهدفة ما بين فترة وأخرى، ومن حكومة وأخرى.
  • نخبوية التعليم حيث تم استهداف فئات اجتماعية معينة ومحدودة من حيث العدد ومن حيث العمق السوسيولوجي، وتعميمها في المقابل لدى الفئات الموالية لفرنسا، التي سيكون لها شأن مستقبلي داخل الدولة، مما سوف يؤدي إلى انسلاخ كلي من الروابط الثقافية، وقد أدى هذا إلى وضع تاريخي وسياسي مشحون بالصراع بين الاطياف الثقافية المختلفة داخل النسيج المجتمعي الجزائري.
  • رهان اللغة والتعليم، والصراع النخبوي حول لغة التعليم، وقد تأكد ذلك من خلال اتفاقيات إيفيان والبروتوكولات المرتبطة بها.
  • المؤسسات التعليمية الفرنسية في الجزائر المستقلة ودورها في التأسيس لاستمرارية الهيمنة الفرنسية الثقافية في الجزائر.
  • إشكالية الازدواجية اللغوية وآثارها المستقبلية على المجتمع الجزائري.
  • رسم الخريطة الجينية لمستقبل السياسة في الجزائر من خلال المدرسة حيث نجد أن أغلب الإطاراتهي، إما من خريجي مدارس العهد الاستعماري أو من خريجي مدارس الديوان الفرنسي في الجزائر المستقلة.

من خلال ما سبق تطرح الدراسة هذا التساؤل: إلى أي مدى شكلت العلاقات الثقافية بين الجزائر وفرنسا آلية من آليات استمرار الهيمنة الاستعمارية؟ وتنجر عنه الأسئلة الفرعية التالية:

  • ما الأطر التي أسست للعلاقات الثقافية الجزائرية الفرنسية؟
  • ما السيرورة التاريخية والسياسية للتعليم الفرنسي في الجزائر؟
  • ما الآثار والنتائج التي تمخضت عن العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
  • ما هو الدور الذي لعبته المؤسسات الثقافية الفرنسية العمومية والخاصة في بناء جسور للتواصل بين المستعمِر والمستعمَر

الخاتمة

خلصنا من خلال الدراسة التي تضمنها هذا البحث إلى أن الاستعمار الفرنسي الاستيطاني في الجزائر لم يستسغ الهزيمة العسكرية التي كسرت كبرياءه وأنهت أسطورة إمبراطورتيه الاستعمارية، فعمل على إيجاد ساحة أخرى للصراع مع الشعب الجزائري، لا تقل ضراوة عن سياسة الإبادة الجماعية التي انتهجها على مدار 132 سنة من الهيمنة، هذه الساحة هي ساحة الصراع الثقافي واللغوي بذراعيهما الإعلامي، وذلك من خلال سياسة " التعاون" التي عبرت وتُعبر من خلالها فرنسا على النزعة الكولونيالية التي ميزت صناع القرار في باريس، الأمر الذي جعل هوية الشعب (عروبة وإسلام وماضيه) قبل 1830 هدفا مباشرا سعى المستعمِر للنيل منها وتشويهها  قبل وبعد الاستقلال، وذلك إدراكا منه أن جذوة المقاومة لا تنطفئ ما دام الشعور بالانتماء للهوية العربية والإسلامية قائما، وما دام الولاء لأرض الأجداد محركا للعواطف، ملهبا وملهما للهمم؛ لذا فإن الاستعمار الفرنسي، ومن خلال سياسة التعاون وخاصة في مجال التعليم المنتهجة عبر المدارس الفرنسية التي سيرها "الديوان الجامعي الثقافي الفرنسي" أو من خلال نشاط "الأبرشيات" أو "بعثات التعاون المختلفة"، منذ زمن الاحتلال عبر مختلف المراحل السياسية التي مر بها النظام السياسي الفرنسي بدءاً من الملَكية ومرورا بالجمهورية الثانية فالإمبراطورية الثانية بقيادة لويس نابليون، وصولا إلى الجمهورية الثالثة والرابعة وحتى الخامسة بقيادة الجنرال شارل ديغول، عمل على إقامة نظام تعليمي فرنسي الروح واللسان، صحيح أنه كان لفئة محدودة عدديا واجتماعيا،  حيث اقتصرت على أبناء الأعيان وذوي الولاء الفرنسي، إلا أنه عرف محطات جد هامة خصوصا في ظل الإمبراطورية الفرنسية التي استطاعت أن تؤسس لتعليم فرنسي واسع الانتشار – نسبيا - أفقيا وعموديا خصوصا مع بروز فكرة المملكة العربية التي سعى نابليون Napoléon إلى إقامتها وفق رؤية استعمارية مختلفة من حيث الشكل على الأقل نظير رؤية المَلكية والجمهورية.

  تطور الأمر مع الجمهورية الثالثة خاصة في ظل إصلاحات جول فيريJules Ferry  أحد مُنظري الاستعمار، وواضع أُسس المدرسة الابتدائية الحديثة، ذات الدعائم الثلاث (المجانية، الإلزامية والعلمانية)؛ التي سعى من خلالها  إلى نقل وتعميم التجربة التعليمية الفرنسية في الجزائر، كونه كان يحلم باستقرار الصليب واللسان الفرنسي بشكل نهائي في بلاد اللغة العربية والإسلام، ورغم ما قيل عن السياسة الثقافية الفرنسية في الجزائر إلا أن الأرقام  والإحصاءات أشارت إلى أن الأمية ظلت مرتفعة نتيجة ضعف التمدرس بين الجزائريين حيث إن النسبة لم تتجاوز أل 4% نهاية عشرينيات القرن الماضي، من بين الفئة المؤهلة للتمدرس أي الفئة من ست سنوات إلى أربعة عشرة سنة، فتلك الإجراءات لم تُغير الكثير من الواقع الثقافي للأهالي، حيث ظلت الأرقام ضعيفة جدا بالمقارنة مع أبناء المعمرين، الذين بلغت نسبة تمدرسهم 90%.

استمر الوضع مع الجمهورية الخامسة من خلال مشروع قسنطينة وتحديدا في شقه الثقافي، فقد حاول الجنرال  شارل ديغول طرح أسلوب مختلف وجديد زاوج من خلاله بين القوة العسكرية والإصلاح الاجتماعي والثقافي، بهدف إحداث شرخ بين الثورة والشعب، إدراكا منه أن الثورة تتغذى من الشارع، فحاول إحداث قطيعة بينهما، مما أدى إلى ارتفاع نسبي في أعداد المتمدرسين وكذا المؤسسات التربوية. استمرت السياسة الثقافية الفرنسية في الجزائر المستقلة من خلال المشروع الديغولي لكن هذه المرة للالتفاف على الثورة وإفراغها من محتواها الثقافي، بهدف مواصلة السيطرة على مقدرات البلاد ورأس مالها الثقافي. وهو الأمر الذي عملنا على تفكيك وتحليل إشكاليته عبر أطوار هذه الدراسة، حيث سعينا إلى طرح رؤية جديدة من خلال استقراء النصوص والاطلاع على بعض الوثائق الأرشيفية الموجودة في مكتبة Les Glycines بالجزائر العاصمة ومكتبتي صوفيا وابن خلدون بمدينة وهران، بالإضافة إلى المادة الأرشيفية في المكتبات والمراكز الفرنسية.

وقد خلصنا إلى جملة من النتائج، لعل أبرزها:

  • الاهتمام الكبير الذي أصبح يُوليه رجال الفكر والسياسة للعلاقات الدولية.
  • انتقال مركز الاهتمام من السياسة والاقتصاد إلى الثقافة.
  • تحول الثقافة في العرف السياسي من الترف الفكري إلى الاستثمار المربح.
  • دور البعد الثقافي، وما تكتسيه الثقافة من أهمية في الإستراتيجية السياسية الفرنسية منذ ريشليوRichelieu   وإلى ديغول الذي جعل خدمة الثقافة واللغة الفرنسيتين من أولوياته، كونهما البوابة التي تتسلل منهما فرنسا لدواليب الحكم في المستعمرات السابقة للمحافظة على امتيازاتها.
  • التقييم السلبي للتعاون لدى النخب الجزائرية المعارضة كونه يمثل استمرارا للوجود الفرنسي، حتى مع التعاطي الإيجابي للسلطة الفتية بدءا من فرحات عباس إلى أحمد بن بلة.
  • التعاطي السلبي مع التعاون من طرف أحزاب اليمين الفرنسي كعقاب للشعوب التي ثارت على فرنسا، مبررة ذلك بحجة إرهاق الخزينة العمومية.
  • الغموض والتردد اللذان ميّزا سياسة التعاون بين البلدين.
  • الأزمات التي تخللت سنوات التعاون الأولى.
  • الحضور الطاغي للتاريخ كمحدِّد للعلاقات الثنائية.

لقد شكّلت سياسة التعاون تحولا جوهريا في طبيعة العلاقات الثنائية بين المستعمِر والمستعمَر من خلال تجليات التعاون ومجالاته أي جوانبه الإجرائية (مجالات التعاون الثقافي، العلمي والإعلامي)، كالمدرسة التي عملت إبقاء الجزائر فرنسية اللسان والثقافة من خلال المؤسسات والمناهج والتأطير، وكذا استمرار الهيمنة في مجال الإذاعة والتلفزيون، حيث خاضت الدولة الفتية معارك شرسة لاستعادة السيادة على هذه المؤسسة الحيوية.

 انتهينا من خلال هذا العمل إلى تأكيد الأطروحة الكولونيالية التي قمنا بتفكيكها، حيث أظهرنا الانعكاسات السلبية للتعاون الثقافي، وكيف أن هذا الوضع قد أفرز ازدواجية ثقافية وصلت إلى حد الصدام بين فريقين يشتركان في الجنسية والتاريخ ويختلفان في الولاء، وتحديدا فيما يتعلق بالتأثير الثقافي واللغوي، حتى وإن كان التأثير الاقتصادي لا يقل أهمية عنه.

 إن التعاون وفق هذه الرؤية ليس إلا إعادة لترتيب الأوراق وصياغة توازنات جديدة تبنى على المصالح العليا للاستعمار، حيث يحافظ من خلالها على تواجده، فكان التعاون بحق الوجه الجديد للاستعمار، وهذا ما أصبح يُعبر عنه بالاستعمار الجديد (Néocolonialisme)، الأمر الذي يمكن استنتاجه من خلال إعادة قراءة محتوى اتفاقيات إيفيان، ومختلف القوانين والمراسيم والأمريات التي أوردناها في متن هذه الأطروحة.

 إن التعاون كان يجري في إطار البعد الفرنكوفوني وحضور طاغ ومهيمن للإطارات الفرونكوفونية، مقابل إبعاد ممنهج للبعد العربي والإسلامي وتغييب مقصود للنخب العربية الإسلامية؛ إن الإطارات التي سيرت التعاون من خلال مؤسساته سواء في باريس أو في الجزائر، على مدار السنوات الأولى للاستقلال، ظلت خاضعة للهيمنة الفرنسية، فخلال السنوات الأولى للاستقلال "لم تستطع الجزائر أن تجد نفسها"، حسب تعبير الأنثروبولوجي والمستعرب جيلبارت غراندغيوم Gilbert Grandguillaume (l’Algérie se sentait mal danssa peau)؛ انعكس هذا على المجتمع الجزائري، فعاش التشرذم بين طبقة برجوازية تعتبر اللغة الفرنسية وسيلة ضرورية من أجل رُقيها الاجتماعي، وهو الاتجاه التي تخندقت وراءه الإدارة التي أرستها فرنسا عشية الاستقلال والتي أصبحت تتحكم في المشهد السياسي والثقافي وحتى الاقتصادي  الجزائري، وبين فريق آخر يُعرف بالفئة المحافظة التي كانت مغيّبة سياسيا، ومهمشة اجتماعيا، ذات ولاء للثقافة العربية الإسلامية، حيث لم تكن تنظر إلى الاستقلال إلا كمُخلِّص للبلاد من هيمنة المسيحي المتعصب، ومسترجع لمكانة اللغة العربية.

من هنا نستطيع أن نؤكد صحة ما خلص إليه جيلبارت غراندغيوم الذي لخّص رؤيته لهذا التعاون بإعطاء العنوان المعبّر التالي لمقال له في كتاب زمن التعاون (le temps de la coopération): "التعاون ضد التعريب".

لقد اشتغلنا على امتداد هذه الدراسة على موضوع التعاون الفرنسي الجزائري في المجال الثقافي؛ لذلك كانت هذه الدراسة بدورها تراوح بين التقصي التاريخي ومساءلة النصوص القانونية التي أطّرت ذلك التعاون، دون إغفال المحددات الأخرى كالمحددين التاريخي والسياسي، وذلك من خلال محاولة استشراف مآل ومصير هذا التعاون ومن ثمة انعكاساته المختلفة على الجزائر المستقلة.

وفي الأخير، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الدراسة تناولت جانبا واحدا من العلاقات، والمتمثل في العلاقات الثقافية، دون الخوض في الجوانب الأخرى من العلاقات الجزائرية الفرنسية التي عطلت الانتقال السلس من الثورة إلى الدولة وبالتالي تحقيق الاستقلال التام، وهو الهدف الذي خططت له بإتقان الجمهورية الخامسة.

للاطلاع على نص الأطروحة (اضغط هنا).

الآراء الواردة في الأطروحة تمثِّل صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.

نبذة عن الكاتب