المقدمة
هذه الدراسة، التي جاءت بعنوان "قضية بيت المقدس في العلاقات التركية-الإسرائيلية (2002-2017)"، تُحاول تسليط الضوء على العلاقات التركية-الإسرائيلية، وتبيين جذورها والمراحل التي مرت بها من جانب، وتسليط الضوء من جانب آخر على قضية بيت المقدس في إطار هذه العلاقة بين البلدين، حيث وصلت العلاقات بينهما، على ضوء المواقف التركية الداعمة لقضية بيت المقدس، إلى حد القطيعة، وذلك إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نهاية عام 2017 القاضي بنقل السفارة الأميركية من مدينة تل أبيب إلى مدينة القدس.
وقد تم اختيار هذا العنوان "قضية بيت المقدس في العلاقات التركية-الإسرائيلية (2002-2017)" لتسليط الأضواء على تضارب المصالح بين الطرفين، الذي ازداد وضوحًا في ظل التطورات السياسية المتتابعة في مدينة القدس والمسجد الأقصى، وما رافقها من توتر متصاعد في العلاقات التركية-الإسرائيلية.
ومن الجدير بالذكر أن جذور العلاقة بين تركيا وإسرائيل تعود إلى مارس/آذار عام 1949، حين كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعلن اعترافها بدولة إسرائيل. وقد أولت القيادة الإسرائيلية منذ ذلك الحين أهمية كبيرة لهذه العلاقة، نظرًا إلى مكانة تركيا المحورية وتأثيرها الواسع في معادلات الشرق الأوسط، ولا سيما في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي، فضلًا عن كونها حليفًا استراتيجيًّا للغرب وعضوًا في حلف شمال الأطلسي (NATO) الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ الاعتراف التركي بالدولة الوليدة، بدأت العلاقات الثنائية تنمو تدريجيًّا، إذ سعت كل من أنقرة وتل أبيب إلى تحقيق مصالحهما القومية في ضوء النظام الدولي الذي أخذ يتشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وما رافقه من بروز قطبين عالميين متنافسين يسعى كل منهما إلى توسيع مناطق نفوذه، ولا سيما في المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية كالمضائق البحرية ومناطق إنتاج النفط.
وفي عام 1958 قام رئيس الحكومة الإسرائيلية ديفيد بن غوريون بزيارة سرية إلى العاصمة التركية أنقرة، شكلت منعطفًا مهمًا في مسار العلاقات الثنائية، إذ أخذت العلاقة بعدها طابعًا استراتيجيًا، وأصبحت إسرائيل أحد الموردين الرئيسيين للسلاح إلى تركيا في إطار تعاون واسع شمل الجوانب العسكرية والدبلوماسية والاستراتيجية، الأمر الذي أفضى إلى توافق البلدين حول العديد من القضايا المرتبطة باستقرار الشرق الأوسط وأمنه.
غير أن هذا المسار شهد تحولًا جوهريًّا مع وصول حزب العدالة والتنمية (AKP) إلى الحكم في تركيا عام 2002، حيث بدأت ملامح التباين بين الجانبين تتضح تدريجيًا، وبلغت ذروتها عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية عام 2008. وقد عبّر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حينها عن موقف بلاده من السياسات الإسرائيلية عبر سلسلة من التصريحات الحادة، كان أبرزها موقفه الشهير في منتدى دافوس عام 2009، حين قاطع الجلسة بعبارة (One minute).
ثم جاءت حادثة السفينة التركية "مافي مرمرة" في مايو/أيار 2010 لتفاقم التوتر، إذ اعترضتها القوات الإسرائيلية في المياه الدولية أثناء توجهها إلى قطاع غزة ضمن "أسطول الحرية"، ما أدى إلى مقتل تسعة مواطنين أتراك وإصابة آخرين، وهو ما مثّل نقطة تحول حاسمة دفعت بالعلاقات إلى مستوى غير مسبوق من التدهور.
وقد أسهمت تلك الحادثة، إلى جانب الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة والاعتداءات المتواصلة على المسجد الأقصى، في تدهور العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى حد القطيعة وسحب السفراء عام 2011.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية حاولت لاحقًا معالجة الأزمة عبر وساطات دولية متعددة، أفضت إلى اعتذار رسمي لتركيا وتوقيع اتفاق لتطبيع العلاقات في روما عام 2016، فإن العلاقات سرعان ما عادت إلى التوتر إثر المواقف التركية الرافضة للسياسات الإسرائيلية في القدس، ولا سيما تلك المرتبطة بالإجراءات داخل المسجد الأقصى.
في الإطار النظري لهذه الدراسة، اعتمد الباحث النظرية الواقعية (Realism) التي تنطلق من مبدأ أن العلاقات بين الدول تقوم على السعي لتحقيق المصالح القومية عبر بناء القوة وتوظيفها لضمان المكانة في موازين القوى الدولية.
وقد اعتُبرت هذه النظرية الأقدر على تفسير طبيعة العلاقات الدولية خلال مرحلة الحرب الباردة، التي شهدت بروز قطبين عالميين متعارضين: أحدهما بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والآخر بقيادة الاتحاد السوفييتي. وقد اتسمت العلاقة بين القطبين بعدم الانسجام نتيجة تضارب المصالح ومساعي كل طرف لتعزيز قدراته العسكرية والتأثير في مناطق النفوذ.
كما استعان الباحث بـ الواقعية الجديدة (Neorealism) التي ظهرت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وجاءت لتؤكد المبادئ العامة للنظرية الواقعية مع تطوير أدواتها بما ينسجم مع التحولات البنيوية للنظام الدولي الحديث، الذي تعده الواقعية الجديدة الإطار المنظم للعلاقات بين الدول.
منهجية الدراسة
تقوم هذه الدراسة على المنهج الوصفي (الكيفي)، بوصفه الأنسب لطبيعة موضوعها وأهدافها، إذ يُمكّن الباحث من دراسة الظواهر كما هي في الواقع، وتحليل خصائصها وعلاقاتها والعوامل المؤثرة فيها، وصولًا إلى فهم أعمق للسياق العام الذي تتحرك ضمنه.
ويُعد المنهج الوصفي من أكثر المناهج استخدامًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لما يوفره من قدرة على تفسير السلوكيات والمواقف والاتجاهات استنادًا إلى الوقائع والمعطيات الملموسة، دون تدخل أو تحوير.
وفي ضوء ذلك، اعتمدت الدراسة هذا المنهج لتحليل مسار العلاقات التركية-الإسرائيلية بين عامي 2002 و2017، من خلال توصيف المراحل التي مرت بها، واستقراء التفاعلات السياسية والدبلوماسية التي أحاطت بها، وتفسيرها بالاستناد إلى إطار نظري يقوم على مفاهيم المصلحة القومية وتوازن القوى في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية.
خطوات تطبيق المنهج الوصفي (الكيفي) في الدراسة
اعتمدت الدراسة مجموعة من الخطوات المنهجية المترابطة لضمان دقة التحليل وموضوعية النتائج، تمثلت فيما يلي:
- تحديد المشكلة البحثية، والمتمثلة في انتقال العلاقات التركية-الإسرائيلية من مرحلة الشراكة والتحالف إلى مرحلة التوتر والقطيعة، في ضوء الخلفية الأيديولوجية للحزبين الحاكمين في كل من تركيا وإسرائيل.
- جمع البيانات والمعلومات من المراجع والكتب والدراسات العلمية وآراء الخبراء والمقالات المتخصصة، إضافة إلى الأرشيفات والوثائق الرسمية الصادرة باللغات التركية والعبرية والإنجليزية.
- توثيق الأحداث الميدانية التي عايشها الباحث في فلسطين وتركيا، ولا سيما تلك المتعلقة بالانتفاضة الفلسطينية وفعاليات التضامن التركية.
- اعتماد الأمانة العلمية في التوثيق من خلال الإحالة الدقيقة إلى المصادر والمراجع المستخدمة، وإجراء مقابلات محدودة للتحقق من صحة المعلومات المنشورة وتعزيز موثوقيتها.
- تخصيص فصل تمهيدي يتناول الخلفية التاريخية للعلاقات التركية-الإسرائيلية بوصفها الأساس لفهم التطورات اللاحقة.
- توظيف النظرية الواقعية في تفسير مسار العلاقات وتحليل محطاتها الرئيسة، بالتركيز على مفاهيم المصلحة القومية وتوازن القوى.
- إعداد خلاصات تحليلية لكل فصل تُبرز نتائجه الرئيسة وتربطه بالفصل التالي لضمان وحدة البناء المنهجي للدراسة.
- صياغة الخاتمة العامة التي تتضمن النتائج النهائية للدراسة والإجابات على الأسئلة البحثية، إضافة إلى مجموعة من التوصيات الموجهة إلى الجهات الأكاديمية وصناع القرار المعنيين بالعلاقات الدولية.
الخاتمة
سعت هذه الدراسة إلى تحليل موقع قضية القدس في مسار العلاقات التركية-الإسرائيلية، في ضوء التحولات السياسية والإقليمية التي شهدتها المنطقة خلال المدة بين عامي 2002 و2017. وقد تناولت الدراسة أربعة محاور رئيسية تمثلت في تتبع تطور العلاقات الثنائية منذ عام 1949، وبيان أثر سياسة حزب العدالة والتنمية (AKP) في إعادة تشكيلها، وتحليل الموقف التركي من سياسة التهويد الإسرائيلية في القدس، ثم استشراف أثر قضية بيت المقدس في مستقبل العلاقات بين الجانبين.
وتبين من نتائج البحث أن حزب العدالة والتنمية أعاد توجيه مقاربة تركيا تجاه إسرائيل، محوِّلًا العلاقة من شراكة استراتيجية إلى علاقة طبيعية مشروطة بالمواقف الإسرائيلية من القضية الفلسطينية. كما أظهرت النتائج أن إسرائيل سعت إلى احتواء الموقف التركي إدراكًا منها للثقل الجيوسياسي الذي تمثله تركيا في التوازنات الإقليمية. وخلصت الدراسة إلى أن قضية القدس كانت محورًا أساسيًا في إعادة تشكيل العلاقة بين البلدين، إذ أسهمت السياسات الإسرائيلية تجاه المدينة والمسجد الأقصى في تجدد التوتر الدبلوماسي بعد عام 2016، رغم محاولات إعادة التطبيع التي سبقت ذلك.
توصيات الدراسة
- تشجيع الباحثين والأكاديميين على تعميق الدراسة في الجوانب الاقتصادية والعسكرية للعلاقات التركية-الإسرائيلية بعد عام 2002.
- دعوة الجامعات والمؤسسات البحثية التركية إلى تنظيم مؤتمرات ودراسات دورية تتناول قضية القدس من منظور استراتيجي شامل.
- إنشاء مكتب متخصص بقضية القدس يتبع رئاسة الجمهورية التركية، يتولى تنسيق الجهود البحثية والسياسية ذات الصلة.
- ربط أي تحسن في العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بسلوكها وسياساتها تجاه القدس والمسجد الأقصى.
- تفعيل التنسيق بين السلطة الفلسطينية والحكومة الأردنية وتركيا لاستثمار الدور التركي في دعم أي مفاوضات مستقبلية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
- إدراج قضية القدس ضمن البرامج السياسية للأحزاب التركية، وتعزيز حضورها في الخطاب العام والفعاليات الوطنية.
- تطوير آليات التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني التركية ونظيراتها المقدسية بما يخدم التنمية والصمود في المدينة.
- تخصيص مساحات ثابتة في وسائل الإعلام التركية لتغطية مستمرة لقضية القدس والمسجد الأقصى.
- تشجيع الزيارات التركية إلى مدينة القدس والمسجد الأقصى عبر مؤسسات سياحية معتمدة، تعزيزًا للتضامن مع سكان المدينة ودعمًا لصمودهم.
تنويه
- الآراء والمواقف الواردة في هذه الأطروحة تعبّر عن وجهة نظر الباحث وحده، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز الجزيرة للدراسات أو سياساته التحريرية.
- للاطلاع على النص الكامل للأطروحة بصيغة (PDF)، [ اضغط هنا ]
- يرحّب مركز الجزيرة للدراسات بتلقي رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه ذات الصلة بمجالات اهتمامه للنشر على موقعه الإلكتروني، ويمكن للباحثين الراغبين في ذلك مراسلتنا عبر البريد الإلكتروني: ajcs-publications@aljazeera.net
- يحتفظ الباحثون بحقهم في إعادة نشر رسائلهم وأطروحاتهم أو تطويرها لاحقًا في أي صيغة أخرى، بما في ذلك إصدارها في كتاب.