أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا رسميًّا فوز معسكر "نَعَمْ" على التعديلات الدستورية، بما يزيد عن 51 بالمئة بقليل، أمام معسكر الرافضين للتعديلات بنسبة تزيد عن 48 بالمئة بقليل، وهي نتائج ليست نهائية.
ما كان مفاجئًا، أن الأغلبية الساحقة من أصوات حزب الحركة القومية، الذي ساندت قيادته وأغلبية كتلته البرلمانية حزمة التعديلات، قالت: لا؛ كما أن المدن الخمس الكبرى، بما ذلك إسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا، صوَّتت جميعًا لصالح لا.
الواضح أن الصوت الكردي لعب دورًا بالغ الأهمية في تحقيق فوز أنصار "نعم". بمعنى أن من قالوا: نعم للتعديلات في مدن الكثافة الكردية فاق بصورة ملموسة مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
في المجال الخارجي، لا يُتوقع أن تترك نتيجة الاستفتاء أثرًا مباشرًا على الملفات الإقليمية الساخنة، سيما في سوريا. كما أغلب القضايا الإقليمية.
مقدمة
كان الأحد، 16 أبريل/نيسان 2017، يومًا تاريخيًّا، صعبًا ومرهقًا، في مسيرة الجمهورية التركية، أشبه بيوم إعلان الجمهورية نفسها، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، على أنقاض السلطنة العثمانية. ذهب الأتراك بعشرات الملايين، ومن ساعات الصباح الأولى، في ثالث استفتاء تعقده حكومات العدالة والتنمية منذ توليها مقاليد البلاد في 2002، للتصويت على جملة من التعديلات الدستورية الجذرية، التي ستغير الطريقة التي تدار بها شؤون الدولة التركية وتحول نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي. وقد انتهى اليوم الطويل بإقرار التعديلات، وإن بفارق صغير.
في تعليقه على النتائج، قال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي نجحت المعارضة في رسم صورة تربط التعديلات الدستورية به شخصيًّا: إن إقرار النظام الرئاسي يضع نهاية للجدل المستمر منذ مئتي عام حول مسألة الحكم. ولابد أنه قصد بذلك بداية اندلاع جدل الحكم في عهد التنظيمات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، الذي أسَّس للاضطراب السياسي الذي شاب العهد العثماني المتأخر ولأزمات الجمهورية المتكررة منذ 1923. ولكن المعارضين، الذين يقولون: إن الاستفتاء أظهر انقسام الرأي العام حول النظام الرئاسي أكثر من الإجماع حوله، يعتبرون مثل هذه النتائج لن تضع حدًّا لهذا الجدل، ولا يستبعدون خوض أول انتخابات رئاسية مقبلة على برنامج لإصلاح الإصلاحات المقرَّة.
كيف تُفهم نتائج استفتاء النظام الرئاسي في تركيا؟ ولماذا أثارت التعديلات الدستورية المقترحة كل هذه الجدل والمناخ الانقسامي؟ وما الآثار المتوقعة لإقرار التعديلات الدستورية، إجرائيًّا وسياسيًّا؟
الاستفتاء ونتائجه
ثمة 58 مليون مواطن تركي كان يحق لهم التصويت في الاستفتاء، 55 مليونًا منهم داخل البلاد وثلاثة ملايين خارجها؛ حيث تتواجد جاليات تركية معتبرة الحجم في دول، مثل: ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة. طبقًا لأرقام اللجنة العليا للانتخابات، بلغ عدد المصوِّتين في الخارج ما يقارب المليون ونصف المليون، إضافة إلى ما يزيد عن 49 مليونًا أدلوا بأصواتهم في 174 ألف صندوق اقتراع داخل البلاد. بذلك، بلغت نسبة المصوتين 86 بالمئة من مجموع من يحق لهم التصويت، وهي نسبة عالية جدًّا، مقارنة بنسب المصوتين عادة في انتخابات الدول الغربية الديمقراطية، سواء الأوروبية منها أو الولايات المتحدة.
وبالرغم من أن اللجنة العليا للانتخابات أعلنت رسميًّا فوز معسكر "نعم"، إلا أن النتائج الرسمية لنسب المصوتين لن تُعرَف بصورة نهاية إلا بعد الانتهاء من الطعون خلال الأسبوعين التاليين للاستفتاء. ولذا، فإن النتائج المعلنة بعد الانتهاء من إحصاء الأصوات، والتي أعطت أنصار "نعم" ما يزيد عن 51 بالمئة بقليل، ومعسكر الرافضين للتعديلات ما يزيد عن 48 بقليل، ليست نهائية. ولكن ليس متوقعًا أن تتغير النتيجة بصورة ملموسة، سيما أن المصوتين بنعم أكبر نسبيًّا من المصوتين بلا.
وقد كشفت خارطة توزيع الأصوات عن نتائج متوقعة وتقليدية في بعض جوانبها، وأخرى مفاجئة خرجت عن المألوف في السلوك الانتخابي المعهود في الخمس عشرة سنة الماضية، بيد أنها تقدِّم التفسير الضروري لفوز معسكر نعم بفارق صغير.
على مستوى ما هو متوقع، أُقرَّت التعديلات الدستورية بأغلبية كبيرة في معظم ولايات الأناضول والبحر الأسود، بينما حقق معسكر الرفض نتائج ملموسة في الولايات الغربية على ساحل المتوسط وحوضي بحري مرمرة وإيجة، التي تعتبر مناطق نفوذ تقليدية للمعارضة.
ما كان مفاجئًا، أن الأغلبية الساحقة من أصوات حزب الحركة القومية، الذي ساندت قيادته وأغلبية كتلته البرلمانية حزمة التعديلات، قالت: لا؛ بمعنى أن قيادة الحزب لم تستطع إقناع قاعدة الحزب الشعبية بمساندة النظام الرئاسي. كما أن المدن الخمس الكبرى، بما ذلك إسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا، صوَّتت جميعًا لصالح لا. ولكن، وباستثناء أزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري المعارض، حيث حصل أنصار "لا" على 68 بالمئة من الأصوات، فإن الفارق بين المعسكرين كان ضئيلًا في كافة المدن الأخرى. أضنة، بالطبع، هي مدينة قومية التوجه، ولأن أغلبية أنصار حزب الحركة القومية صوَّت بلا، فإن ذهابها لمعسكر الرافضين ليس مستغربًا؛ ولكن إسطنبول وأنقرة تصوِّتان عادة بأغلبية مريحة لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، ولابد أن يطرح الفشل في الحصول على دعم المدينتين للتعديلات أسئلة مقلقة في قيادة العدالة والتنمية وحكومته. الحقيقة، أنه بين المدن الثلاثين، التي توصف بلدياتها بالكبيرة (بيوك شهر؛ والتي يزيد عدد سكانها على 700 ألف نسمة)، صوَّتت الأغلبية في 17 مدينة لصالح "لا".
ما يبدو واضحًا، هو أن نتيجة الاستفتاء جاءت أقرب إلى نتائج الانتخابات الرئاسية في صيف 2014، التي فاز فيها أردوغان بما يقارب 52 بالمئة من الأصوات، في مواجهة منافس اصطفت خلفه أحزاب المعارضة، مع فوارق مهمة وذات دلالة في نمط توزيع الأصوات. لم يضف دعم حزب الحركة القومية شيئًا لأصوات معسكر "نعم"، بالتأكيد، ولكن قطاعًا ملموسًا، أيضًا، من سكان المدن الكبرى، من أبناء الطبقة الوسطى، الحاصلين على تعليم جيد، من أنصار حزب العدالة والتنمية، اختار أن يقول: لا. السبب الرئيس خلف موقف هؤلاء هو عدم اقتناعهم بالمبررات التي قدمها الداعون لضرورة التعديلات الدستورية. فكيف، إذن، عوَّض أنصار التعديلات فقدان جزء من قاعدتهم التقليدية، والفوز في الاستفتاء؟
الواضح أن الصوت الكردي لعب دورًا بالغ الأهمية في تحقيق فوز أنصار "نعم". فاز معسكر "لا" في أغلب مدن الكثافة السكانية الكردية، بالتأكيد، ولكن نسبة الأصوات التي قالت: "لا" في هذه المدن كانت أقل بكثير من الأصوات التي ناصرت المعارضة القومية الكردية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية. بمعنى أن من قالوا: "نعم" للتعديلات في مدن الكثافة الكردية فاق بصورة ملموسة مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. مثلًا، بلغ مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية بمدينة هكاري 17 بالمئة من الأصوات، بينما أعطى 32 بالمئة من الناخبين في هذه الولاية أصواتهم لصالح "نعم" في الاستفتاء، وكذلك كان الأمر في ديار بكر (22 و32 بالمئة)، وشيرناك (16 و32 بالمئة)، وموش (35 و50 بالمئة)، وآغري (27 و43). أهمية هذه النتائج أنها تكشف عن فقدان ثقة الرأي العام الكردي في حزب العمال الكردستاني وعودته إلى سياسة الحرب على الدولة والمجتمع في العامين الماضيين، وعن نجاح حكومة العدالة والتنمية في كسب ثقة قطاعات أكبر من الرأي العام الكردي في جنوب شرقي البلاد.
ليس ثمة شك في أن المعارضة نجحت في إقناع قطاع كبير من الأتراك بأن النظام الرئاسي ليس مشروع الحكومة ولا حتى حزب العدالة والتنمية، بل مشروع أردوغان الشخصي. والمؤكد، من جهة أخرى، أن قيادة حزب العدالة والتنمية وحكومته، كما الرئيس أردوغان، خاضوا الحملة الانتخابية بهدف إقرار هذه التعديلات بنسبة لا تقل عن 55 بالمئة من الأصوات. في النهاية، أُقرَّت التعديلات، بالفعل، ولكنها أقرت بفارق صغير، بحيث يمكن القول: إن نتائج الاستفتاء مثَّلت رسالة من وجهين: لم يفقد الشعب ثقته بالرئيس، وقد أعطاه الموافقة على مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي، ولكن هذه الموافقة رافقها قدر قليل من مشاعر السعادة.
انقسام حول التعديلات
دستوريًّا، حُكمت تركيا بالنظام البرلماني منذ ولادة الجمهورية في 1923. ولكن كلًّا من رئيسي الجمهورية الأولين، مصطفى كمال وعصمت إينونو، تمتع بسلطات معنوية هائلة، وفَّرت لهما تأثيرًا كبيرًا على رؤساء حكوماتهما وسياسات تلك الحكومات. ولأن البلاد حُكمت من قبل حزب واحد، حزب الشعب الجمهوري، حتى 1950، لم يُعانِ مصطفى كمال ولا إينونو من مشاكل النظام البرلماني. ولكن، ومنذ بداية التعددية السياسية في 1950، بدأت معضلات النظام البرلماني في البروز. تركيا، كما كل دول المشرق، تعيش حالة انقسام سياسي، وفقدان الإجماع على مسائل الأمم الكبرى؛ وقد أدى النظام البرلماني منذ بداية التعددية الحزبية إلى قيام حكومات ائتلافية ضعيفة، كانت سببًا في تعطيل ملموس لعجلة التنمية، وإلى سلسلة من الانقلابات العسكرية المباشرة وغير المباشرة.
كل رؤساء الحكومات الكبار منذ 1950 طالب بالتحول إلى النظام الرئاسي، بمن في ذلك: مندريس، وديميريل، وأوزال، وأربكان. أردوغان ليس أول من قال بضرورة الانتقال من البرلماني إلى الرئاسي. وليس ثمة شك في أن أحمد داود أوغلو، الذي خلف أردوغان في رئاسة الحكومة وقيادة حزب العدالة والتنمية في الفترة بين صيف 2014 وربيع 2016، بذل جهودًا كبيرة لإقناع أحزاب المعارضة الرئيسة بمساندة مشروع وضع دستور جديد للبلاد. ولكن داود أوغلو لم يستطع الحصول على دعم حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية لدستور يقوم على النظام الرئاسي؛ وبالرغم من الأغلبية التي تمتع بها حزب العدالة والتنمية في البرلمان، لم تكن هذه الأغلبية كافية لإقرار دستور جديد في البرلمان، ولا حتى لحصوله على أصوات برلمانية كافية لطرحه على الاستفتاء الشعبي، ولكن المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، ولَّدت تغييرًا كبيرًا في المناخ السياسي.
كانت المحاولة الانقلابية مؤشرًا واضحًا على أن الدولة التركية لم تزل عرضة لمخاطر كبرى؛ ولأن مصير الدولة يحتل الموقع المركزي في عقل حزب الحركة القومية، فسرعان ما انتقلت قيادة الحزب من معسكر الرافضين للنظام الرئاسي إلى الـتأييد. مهَّد انضمام حزب الحركة للقومية إلى حزب العدالة والتنمية في الدعوة للنظام الرئاسي الطريق لكتابة مسودة التعديلات الدستورية، المكونة من 18 مادة، ومن ثم إلى حصول هذه التعديلات على ما يكفي من الأصوات في البرلمان لطرحها على الاستفتاء الشعبي.
بيد أن إقرار التعديلات في البرلمان للاستفتاء لم يضع نهاية للنقاش الذي اندلع حولها. أخذ حزب الشعب الجمهوري موقفًا معارضًا لفكرة النظام الرئاسي من أصلها، وكذلك فعل حزب الشعوب الديمقراطي، ذو التوجه القومي الكردي والمرتبط بحزب العمال الكردستاني المصنف دوليًّا بالإرهابي. ولكن الجدل حول التعديلات كان أوسع بكثير من قاعدتي الحزبين وأنصارهم في دوائر السياسة والثقافة والإعلام. وربما كان وجود شكوك حول التعديلات داخل العدالة والتنمية نفسه، وفي صفوف حزب الحركة القومية، الأكثر مدعاة لقلق معسكر تأييد التعديلات.
بخلاف موقفي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، كانت الأغلبية العظمى في العدالة والتنمية، وربما حتى في صفوف قياديي الحركة القومية وبرلمانييه، ترى ضرورة الانتقال للنظام الرئاسي. ولذا، فإن الشكوك حول التعديلات، في صفوف الحزبين، تعلقت ببعض مواد حزمة التعديلات، وليس كلها، سيما تلك التي يقول منتقدوها: إنها تعطي الرئيس صلاحيات كبيرة، تُضعف من صلاحيات البرلمان، وقد تؤدي إلى إضعاف نظام التعددية الحزبية في الساحة السياسية التركية؛ بمعنى إضعاف الحيوية السياسية في البلاد. كان غياب الحماس الكبير للتعديلات في صفوف حزب العدالة والتنمية، وبروز مجموعة من القيادات النشطة في حزب الحركة القومية، عارضت رئيس الحزب ودعت قواعد الحزب إلى التصويت ضد التعديلات، إضافة إلى فقدان الحملة الانتخابية المناصرة للتعديلات للمهنية والحنكة السياسية، التي طالما تميزت بها حملات العدالة والتنمية الانتخابية، أسبابًا في فتور الاستجابة الشعبية لحملة التصويت بنعم. وبدا أن الرئيس، أردوغان، ورئيس الحكومة، يلدريم، اللذين تصدَّرا حملة "نعم"، لم يستطيعا تقديم المسوغات الكافية للانتقال للنظام الرئاسي، أو طرح الخطاب المقنع لجدواه وأثره الإيجابي على استقرار البلاد ودفع عجلة نهضتها إلى الأمام.
سؤال الشرعية
خلال ساعات قليلة من إعلان النتائج الأولية، تصاعدت أصوات في حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، شكَّكت في انتصار معسكر المؤيدين. وأكد مسؤولون في الحزبين على أنهما سيطالبان بإعادة فرز الأصوات في ما يقارب 60 بالمئة من صناديق الاقتراع، موزعة على عدد واسع من مراكز الاقتراع. ولكن، وحتى إن قدم الحزبان أسبابًا مقنعة للجنة الانتخابات العليا، تسوغ إعادة الفرز في هذه الصناديق، فالأرجح أن النتيجة المعلنة، مساء الأحد 16 أبريل/نيسان، لن تتغير بصورة جوهرية. إن لم يكن الفارق بين نسب الأصوات التي ذهبت لكل من المعسكرين كبيرًا، فإن فارق الأصوات، الذي يرجَّح أنه يفوق المليون وثلث المليون صوتًا، كبير بالتأكيد.
هذا، بالطبع، لم يمنع التشكيك في شرعية إقرار التعديلات؛ إذ إن تعديلات دستورية تطول نظام الحكم نفسه، تحتاج أغلبية أكبر، في منظور المشككين، من تلك التي حصل عليها أنصار التعديلات. في المقابل، يجيب أنصار التعديلات بأن الجميع يعرف أن البلاد منقسمة حول القضايا السياسية الكبرى، وأن نتيجة الاستفتاء لا تختلف عن انتخابات رئاسة الجمهورية في 2014 وعن توزيع الأصوات بين الحزب الحاكم ومجمل أصوات أحزاب المعارضة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية. فوق ذلك، فإن استفتاء 1987 حول الحياة السياسية، لم يقر عودة سياسيي ما قبل انقلاب 1980 إلا بما يزيد عن الخمسين بالمئة من الأصوات بنقطة عشرية واحدة. وفي استفتاء 2010 على حزمة التعديلات الدستورية الكبيرة، التي تقدمت بها حكومة العدالة والتنمية، والذي دعمته قطاعات واسعة من الشعب التركي، بما في ذلك الدوائر الليبرالية والعلمانية، لم تقر التعديلات بأكثر من 58 بالمئة من الأصوات.
هذه هي طبيعة الحياة السياسية في تركيا الجمهورية، يؤكد أنصار التعديلات، ومهما كان حجم الفارق بين الجانبين، فقد قال الشعب كلمته. ويشير هؤلاء إلى الاستفتاء البريطاني في صيف 2016، الخاص بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والذي انتهى إلى إقرار خيار الخروج من الاتحاد، أكبر قرار في تاريخ بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، بنسبة أصوات لا تفوق تلك التي حصل عليها أنصار النظام الرئاسي في تركيا. إضافة إلى ذلك، فإن نسبة من أدلوا بأصواتهم، من مجموع من يحق لهم التصويت، في الاستفتاء التركي، تفوق بصورة هائلة نسبة من صوَّت في الاستفتاء البريطاني.
في النهاية، ومهما كان صدى هذا الجدل، فالمؤكد أن الطريقة التي ستتم بها إدارة المرحلة الانتقالية سيكون لها الأثر الأكبر في التهدئة أو تفاقم حالة الاستقطاب السياسي في البلاد. طبقًا للتعديلات الدستورية المقرَّة، لن تكتمل عملية الانتقال إلى النظام الرئاسي إلا بعد عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية معًا، وفي يوم واحد، في خريف 2019. وهناك بالتالي عامان كاملان ليُظهر الرئيس وقيادة وحكومة العدالة والتنمية حُسن النية والمقاربة التوافقية تجاه أولئك الذي صوَّتوا بلا، بما في ذلك ضمن دوائر التأييد التقليدية لحزب العدالة والتنمية.
الطريق إلى النظام الجديد
ما إن تعلن اللجنة العليا للانتخابات النتيجة الرسمية النهائية للاستفتاء، من المتوقع خلال أسبوعين، حتى تبدأ عملية تدريجية لانتقال البلاد إلى النظام الرئاسي. بعض مواد حزمة التعديلات الدستورية، يمكن الشروع في تطبيقها مباشرة بعد إعلان النتيجة الرسمية للاستفتاء، مثل عودة الرئيس لاكتساب حقوقه في عضوية حزب سياسي ما، تمامًا كما كان عليه الأمر في تركيا قبل دستور 1961، الذي وضعه انقلابيو مايو/أيار 1960. ولكن اكتمال عملية الانتقال للنظام الرئاسي لن تصل محطتها الأخيرة إلا بعد إجراء انتخابات خريف 2019 المتزامنة؛ حيث سيختفي منصب رئيس الحكومة وتنتقل صلاحياته التنفيذية إلى رئيس الجمهورية.
هذا على المستوى الإجرائي البحت للعملية الانتقالية، ولكن المسألة الأهم تتعلق بالمستوى السياسي، ليس فقط ما يتصل منه بخيارات الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكن أيضًا بمستقبل حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري. كشف الاستفتاء عن فشل زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، في قيادة قاعدة الحزب الشعبية لتأييد التعديلات الدستورية، وعن التأثير الكبير للقيادات المناهضة له، وهذا ما سيعيد الحياة إلى الحراك الساعي إلى الإطاحة ببهتشلي. أما حزب الشعب الجمهوري، وبالرغم من تصريحات قياداته المشكِّكة بنتائج الاستفتاء، فليس من الخافي على قطاع واسع من كوادر الحزب أن زعيمه، كمال كاليشدار أوغلو، قد فشل مرة أخرى في مواجهة حزب العدالة والتنمية، وربما حان الوقت لذهابه.
كما أن هناك أسئلة لا تقل أهمية حول مستقبل حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك احتمالات استقالة رئيس الحكومة ورئيس الحزب يلدريم، الذي لا يبدو سعيدًا في علاقته ببعض وزرائه المقربين من أردوغان، ولابد أنه يشعر الآن بأنه أدى مهمته ولم يعد مطالبًا بالبقاء في منصبه. وعلى الحزب، إضافة إلى ذلك، أن يبدأ البحث عن الأسباب، سواء السياسية أو تلك المتعلقة بطريقة إدارة الحملة الانتخابية، التي أدت إلى فشله في تحقيق نسبة الخمسة والخمسين من التأييد الشعبي للتعديلات الدستورية، سيما خسارة تأييد قلاع تقليدية للحزب، مثل مناطق أيوب وفاتح وزيتونبورنو في إسطنبول الكبرى. لقد بدا الحزب، سيما بعد إطاحة حكومة داود أوغلو واستبعاد المجموعة الشابة التي أحاطت به من المواقع القيادية، وكأنه فَقَدَ الكثير من ديناميته وللرؤية المقنعة للمستقبل. فهل سيعمل أردوغان خلال العامين المقبلين على احتضان هؤلاء مرة أخرى، وضخِّ دماء جديدة إلى العدالة والتنمية، خاصة بعد عودته إلى صفوف الحزب وقيادته. لتحقيق فوز برلماني ورئاسي معًا في 2019، يحتاج أردوغان، كما العدالة والتنمية، ليس لإعادة بناء الصورة والتصور، وحسب، بل ولابتكار رؤية وخطاب جديدين، أيضًا.
على المستوى القومي، وبالرغم من دعم حزب الحركة القومية للتعديلات والنظام الرئاسي، فإن فشل الحزب في إضافة كتلة شعبية ملموسة لمعسكر المؤيدين في الاستفتاء يعني أن العدالة والتنمية ليس مدينًا بالكثير لبهتشلي وحزبه. ما كان متوقعًا قبل الاستفتاء أن التقارب بين الحزبين سيحد من قدرة العدالة والتنمية على المناورة فيما يتعلق بالمسألة الكردية. الآن، يفتح التحرر النسبي من أعباء العلاقة مع حزب الحركة القومية مجالًا أكبر أمام العدالة والتنمية للذهاب نحو مقاربة مختلفة للمسألة الكردية، على الأقل في المدى المتوسط.
في المجال الخارجي، لا يُتوقع أن تترك نتيجة الاستفتاء أثرًا مباشرًا على الملفات الإقليمية الساخنة، سيما في سوريا. كما أغلب القضايا الإقليمية، لا تعتبر السياسة التركية تجاه الأزمة السورية مشروطة بطبيعة نظام الحكم في البلاد، بل بطبيعة التوازنات في الساحة السورية، وطبيعة العلاقات التركية مع كل من روسيا والولايات المتحدة.
من جهة أخرى، ستلعب ردود فعل العواصم الأوروبية على نتائج الاستفتاء دورًا مباشرًا في مفاقمة التوتر الراهن في العلاقات بين الجانبين أو في تهدئته. وفي ضوء الانتقادات الأوروبية المبكرة للمناخ الذي أُجري فيه الاستفتاء، لا يبدو أن تطبيعًا قريبًا للعلاقات التركية-الأوروبية يلوح في الأفق. أما إن ذهبت تركيا نحو خيار تبني حكم الإعدام، كما وعد الرئيس في أكثر من مناسبة خلال الحملة الانتخابية، فسيرد الاتحاد الأوربي بالتأكيد بتجميد طلب العضوية التركي رسميًّا، ويبدأ البحث عن قواعد مختلفة للعلاقة بين تركيا والاتحاد. ما قد يشكِّل عزاء للرئيس التركي هو اتصال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، به مساء 17 أبريل/نيسان، للتهنئة بإجراء الاستفتاء.