مواجهات الضفة الغربية وتداعياتها في سياق الحرب على غزة

شنَّت إسرائيل في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، حملة تصعيد مضادة على الضفة الغربية، بدافع القضاء على ما أسمته "البؤر الإرهابية"، ولمنع قوى المقاومة من فتح جبهة أخرى واسعة ضدها في الضفة تُصعِّب مهمتها في استمرار الحرب على القطاع.
8 مايو 2024
تشن إسرائيل، بالتزامن مع العدوان على غزة، حرب استنزاف على الضفة، حيث آلتها العسكرية لا تتوقف عن الاقتحام والتدمير والقتل (الفرنسية).

مقدمة

إلى جانب الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، كانت مناطق الضفة الغربية واحدة من ساحات المواجهة الرئيسية التي كانت تؤرق إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. حاولت إسرائيل اجتثاث "العمل المقاوم" من مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية تحديدًا، عبر حملات عسكرية متواصلة كان آخرها وأشدها "البيت والحديقة" في مدينة جنين ومخيمها في مطلع شهر يوليو/تموز 2023(1)، ولما عَجزت عن ذلك بالعمل العسكري لجأت، مع الولايات المتحدة، إلى القمم الأمنية الإقليمية التي عقدتها في الأردن ومصر والنقب، كقنوات "للدبلوماسية الوقائية المُصغرة"، ويبدو أنها كانت تسعى إلى ترتيبات أمنية بمساعدة السلطة الفلسطينية، وبالشراكة مع أطراف إقليمية محلية بهدف إنهاء "العمل المقاوم" في شمال الضفة(2)،  لكن طوفان الأقصى أطاح بكل الخطط الإسرائيلية الأميركية ووضع إسرائيل في مواجهة وضع مُركب وأكثر تعقيدًا وتهديدًا بعد أن توسعت وتصاعدت ساحات الفعل الفلسطيني "المقاوم" لتشمل وسط الضفة الغربية وجنوبها، بل وفي "أراضي 48" والقدس المحتلة. 

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كثفت التنظيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، جهودهما لتنفيذ عمليات نوعية، وَسَعَيتا إلى تكريس "وحدة الساحات" من خلال إشراك الضفة الغربية بالفعل الوطني المساند لغزة شعبيًّا وعسكريًّا، على خلفية الحرب الإسرائيلية الدائرة على القطاع، خاصة مع تصاعد الإجراءات الأمنية الإسرائيلية العقابية الانتقامية في الضفة، وتصاعد عُنف المستوطنين الحاد ضد الفلسطينيين، بتغطية وإسناد واسعين من قِبل أجهزة الدولة الرسمية(3).

تسعى هذه الورقة إلى قراءة سياق المواجهات بالنسبة للطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، وتداعياته على كل منهما وعلى مآل التصعيد الحالي وإمكانية تطوره في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، وتتناول كذلك، طبيعة الربط بين ما يجري من عدوان على قطاع غزة، وما يوازيه في الضفة من إستراتيجيات احتلالية استباقية عنيفة تهدف إلى تحقيق قوة ردع مانعة من الانزلاق نحو انتفاضة ثالثة.

أولًا: المواجهات في الضفة وسياقها

تزايدت حدة المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل في الضفة، عقب وصول حكومة اليمين المتطرف للحكم في إسرائيل، وتزايدت وتيرة عمليات المقاومة الشعبية والمسلحة في مختلف مناطق الضفة الغربية. شهدت المقاومة كذلك تطورات كبيرة في بيئتها وطريقة عملها، خاصة بعد معركة "سيف القدس"، في مايو/أيار 2021. فقد بلغت عمليات المقاومة في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المُحتل، بما في ذلك القدس، 592 عملية في شهر مايو/أيار 2021. أما العام 2023، فقد شهد ارتفاعًا ملحوظًا في أعمال المقاومة والاشتباكات المسلحة في مدن الضفة، وقُتل فيه 37 إسرائيليًّا غالبيتهم جنود، فيما أصيب أكثر من 400 آخرين جراء تنفيذ أكثر من 8000 عمل مقاوم، تراوحت بين إطلاق نار، وطعن أو محاولة طعن، ودهس أو محاولة دهس، إضافة إلى عمليتي إطلاق صواريخ و9 عمليات إسقاط طائرات استطلاع(4).

مع تصاعد العمل المقاوم تطورت البنية التحتية العسكرية للمقاومة وتجاوزت الانقسام والخلاف التنظيمي بين فتح وحماس، وظهرت مجموعات مثل "عرين الأسود" في نابلس" وكتيبة جنين" في مخيم جنين، ومخيم نور شمس في طولكم، ومخيم بلاطة في نابلس، ومخيم عقبة جبر في أريحا، وبلدات أخرى في الشمال مثل طوباس وجبع...وغيرهما(5).

أخذت هذه التشكيلات المسلحة شكلًا تنظيميًّا جديدًا وشهدت تنوعًا واضحًا في أشكالها وطُرقها؛ تراوحت ما بين العمل الفردي الذاتي، والعمل الفردي الذي يرتبط ببعض الفصائل، إلى العمل الجماعي الذي ظهر في العلن في عدد من مدن الضفة. في سياق العمل الفردي برزت عمليات الطعن أو الدهس لجنود الاحتلال والمستوطنين، وفي بعض الأحيان كان إطلاق النار جُزءًا من هذه العمليات، التي تبنَّت الفصائل بعضًا منها، بينما أتى البعض الآخر من منطلق ذاتي بسبب الاحتقان الناجم عن جرائم الاحتلال في الضفة والقدس(6).

أما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 و"طوفان الأقصى"، صَعَّدت إسرائيل من عملياتها العسكرية والأمنية في مختلف مناطق الضفة الغربية، "حماية لأمن" المستوطنين ومنعًا لاندلاع مواجهات في الضفة الغربية، وإن كانت تتركز في جنين ونابلس وطولكرم أكثر من سواها. واتخذ الجيش الإسرائيلي سلسلة من الإجراءات الانتقامية بذريعة الخوف من وقوع هجمات مماثلة من قبل الفلسطينيين ضد المستوطنات، وأغلقت سلطات الاحتلال مئات الطرق التي تربط المدن والبلدات الفلسطينية بالطرق الرئيسية في الضفة الغربية، كما أغلق الجيش الإسرائيلي مخارج ومداخل العديد من البلدات الفلسطينية بحواجز ترابية وبوابات حديدية، وعزز وسائل الدفاع عن المستوطنات من خلال تجنيد المزيد من جنود الاحتياط لحراسة المستوطنات، ووزع آلاف الأسلحة على المستوطنين(7).

رافق التصعيد الأمني تفاقم سوء الوضع الاقتصادي لأهالي الضفة الغربية، لاسيما وأن إسرائيل منعت العمال الفلسطينيين البالغ عددهم أكثر من 150 ألفًا من دخول سوق العمل الإسرائيلي، ولا يزال الفلسطينيون منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حَبيسي مُدنهم وبلداتهم، ولم يعد باستطاعتهم مواصلة حياتهم اليومية بانتظام، كالذهاب إلى العمل أو المؤسسات التعليمية أو التسوق والعلاج. من الناحية العملية، خلال السبعة أشهر الماضية، تقلص الوجود الفلسطيني بشكل كبير في المنطقة (ج)، والتي تشكل حوالي 60٪ من أراضي الضفة الغربية(8). واعتقل جيش الاحتلال أثناء عملياته العسكرية في الضفة آلاف الفلسطينيين، وعمل على هدم منازل وبُنى تحتية وتجريف شوارع وأرصفة، وتخريب شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي. كما زاد الجيش عدد الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، وقَطَعَ سُبل التواصل بين مُدنها وبلداتها؛ إذ وصل عددها بعد الحرب إلى 649 حاجزًا وعائقًا، بزيادة 49 حاجزًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

كما أسهم تسليح المستوطنين وضمهم إلى الوحدات العسكرية في الجيش في تأجيج التوتر في الضفة، وقد استغل جزءٌ منهم هذا الأمر لممارسة أعمال عنف ضد الفلسطينيين وإجبارهم على ترك أراضيهم. كما برزت ظاهرة تدخل المستوطنين في العمليات الأمنية والميدانية للجيش الإسرائيلي مستغلين ظروف الحرب بهدف فرض وقائع ميدانية تخدم أجندتهم، منها: إنشاء بؤر استيطانية جديدة وقطع الطرق على الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم(9).

مع استمرار الحرب على قطاع غزة، توسعت المواجهة العسكرية في الضفة وتصاعدت، بخلاف المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في الضفة، التي واكبت الحرب بوتيرة عالية في بدايتها، ثم ما لبثت تتراجع وتخبو حتى تلاشت تقريبًا من مختلف مدن الضفة لاعتبارات مختلفة، أهمها: تبدِّي موقف السلطة الفلسطينية الرسمي الذي آثر الانتقال من النأي بالنفس في بداية الحرب، إلى التدخل الصريح لمنع توسع الاحتجاجات في الضفة ومنع التصعيد، بل وتعطيل المساعي الداعية لإشراك الضفة في إسناد غزة شعبيًّا وعسكريًّا عبر سياسات الاحتواء والتنفيس تارة، والتهديد والقمع تارة أخرى(10). زد على ذلك حملات البطش والانتقام الشديدة التي شنتها قوات الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة منذ بداية الحرب، منها عمليات الاعتقال التي استهدفت حتى الأسبوع الأول من مايو/أيار ما يزيد عن 8495 معتقلًا فلسطينيًّا(11) مما غيب إمكانية تنظيم الجماهير اجتماعيًّا وسياسيًّا في الضفة، وأبقى تركيزها في سياق الهموم والالتزامات الفردية أكثر من الأيديولوجيات والالتزامات الجماعية التي تُغذي الانتفاضات الجماهيرية(12). 

إن "العمل المقاوم" يستمر في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في إطار مساعي فصائل المقاومة لإسناد جبهة غزة وقطع الطريق على المساعي الإسرائيلية لإنهاء مظاهر العمل المسلح الذي ظل يُشاغلها ويزعجها لسنوات. فيما تسعى إسرائيل من جانبها لمحاولة استثمار المناخات التي خلقتها الحرب لإضعاف فصائل المقاومة في الضفة الغربية، وعلى الأخص منها حماس، أو إنهائها إن أمكن.

ثانيًا: هدف التصعيد الإسرائيلي في الضفة

حاولت إسرائيل تصوير ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على أنه تهديد وجودي، ووفقًا لها فإن الطريق لمنع حدث مماثل هو تدمير قطاع غزة وطرد سكانه، وبالتزامن، سحق المقاومة في الضفة الغربية(13). وإن كانت هذه هي الذريعة التي دفعت إسرائيل لشن حملاتها العسكرية على الضفة، فإن استقراء دلالات وأبعاد تكثيفها لعملياتها العسكرية وما ارتبط بها من سياسات وإجراءات وتصعيد، يؤكد أنها قصدت تحقيق الأهداف الآتية:

أولًا: الاستفادة من أجواء الحرب على القطاع لتنفيذ عمليات واسعة كثيفة باستخدام الأسلحة الثقيلة والطيران الحربي دون الالتفات للانتقادات أو العواقب في غمرة الانشغال الدولي بالحرب بهدف القضاء على البنية العسكرية المسلحة في الضفة بوسائل أكثر فتكًا، ما كان لها أن تستعملها من دون سياق الحرب الدائرة وهي ترى أن الظرف ملائم جدًّا لتصفية الحساب مع المخيمات والمناطق التي كانت، وما زالت، نشطة وفعالة ضدها، باعتبارها رموزًا للتمسك بحق العودة، وكونها منبعًا للحراك الثوري والنضالي(14).

ثانيًا: تحويل الضفة الغربية لتهديد ثانوي عبر عمليات استباقية لإحباط الخلايا المسلحة ومنع تمدد المواجهات إلى الضفة ووأد شعار "وحدة الساحات" من خلال ضرب حركتي حماس والجهاد الإسلامي واستهداف نشطائهما بالاعتقال والتصفية الجسدية. ولم يقتصر الاستهداف على المقاومين والفصائل التي ينتمي إليها المقاومون، إنما جرى استهداف كل المحيط الفلسطيني، في إطار العقاب الجماعي الهادف إلى جعل المجتمع الفلسطيني مثبطًا لأي عمل مقاوم(15).

ثالثًا: هذا التصعيد، وفق الرؤية الاسرائيلية، مهم، وهو جزء أساسي من استعادة الردع الإسرائيلي بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، فتفكيك "بؤر الإرهاب" في الضفة الغربية هو رسالة إلى قادة حماس مفادها أن الحرب ضدهم لا تقتصر على قطاع غزة، وأنها ستستمر في ملاحقة الحركة أينما وُجدت بنيتها التحتية(16).

رابعًا: منع الفلسطينيين من تهديد المستوطنين، عبر استثمار أجواء الحرب التي تعتبر فرصة مواتية بالنسبة للمستوطنين يستغلونها لتسخير الجيش، الذي يتماهى مع نزواتهم، لأغراض أيديولوجية تتمثل في ترحيل الفلسطينيين وإيذائهم(17).

خامسًا: تطمح إسرائيل أن تؤسس الحملات العسكرية المكثفة التي يقوم به جيشها ضد البنى التحتية التنظيمية لحماس والجهاد الإسلامي في شمال الضفة، بصورة أو بأخرى، ومن دون تنسيق مباشر، لتسهيل مهمة السلطة الفلسطينية في بسط سيطرتها ووضع أسس جيدة لترتيبات اليوم التالي للحرب.

سادسًا: يهدف التصعيد الإسرائيلي كذلك إلى تعميق التطهير العرقي وإجبار الفلسطينيين على النزوح عن أراضيهم، وبخاصة في مناطق "ج" تمهيدًا للسيطرة عليها والاستيطان فيها، عبر خنق الضفة بالحواجز وضرب مقومات البقاء وحرية التنقل، فقد أشارت مصادر إسرائيلية إلى أن المستوطنين استغلوا التصعيد في الضفة لتشييد نحو 15 بؤرة استيطانية جديدة في مناطق "ج"، فضلًا عن تهجير السكان الفلسطينيين من 15 تجمعًا رَعَويًّا(18).  

سابعًا: هناك تفسير آخر للتصعيد الإسرائيلي في ساحة الضفة يرتبط بكون الأخيرة مساحة لمناورة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، مع قوى اليمين الإسرائيلية المتطرفة، التي تهدده بين الفينة والأخرى بالانسحاب من الحكومة إذا ما انسحب من قطاع غزة وأوقف الحرب، وبالتالي يُنظر للفعل الاحتلالي في الضفة على أنه أداة مناورة ومقايضة من نتنياهو يعوض بها شركائه الذين يتكئ عليهم في استقرار ائتلافه؛ حيث الضفة بالنسبة لليمين القومي الصهيوني أهم من قطاع غزة سياسيًّا ودينيًّا.

تستمر خشية اسرائيل من تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية وإمكانية انفجارها عبر اندلاع أعمال احتجاج شعبية وعسكرية واسعة فيها، بما يُلحق الضرر بمقدرة إسرائيل على التفرغ للحرب على غزة، ويضر بالدعم الدولي للحرب، الآخذ بالتآكل، إلا أن هذه الخشية لا تثنيها عن مواصلة حملاتها العسكرية الواسعة في الضفة الغربية مُستغلةً الظروف التي خلقتها حربها على القطاع لتصفية حساباتها مع الضفة وتحقيق ما عَجِزت عنه في سياق ظروف ما قبل الحرب، خاصة تفريغ مناطق في الضفة من الوجود الفلسطيني، بشكل يصب في القضاء على فُرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة.

ثالثًا: هدف "المقاومة" من التصعيد في الضفة

شهدت الضفة الغربية تناميًا للفعل المقاوم بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتحديدًا في شمال الضفة، في مُدن جنين ونابلس وطولكرم؛ حيث أسهمت "كتيبة جنين" "وعرين الأسود" وتشكيلات أخرى، في تصاعد المقاومة. استطاعت هذه المجموعات ورغم شدة الهجمة الإسرائيلية على الضفة، أن ترفع مستوى الفعل "المقاوم" بما يخفف من ضغط الحرب الإسرائيلية على غزة، ويتناسب وحجم التحديات التي تعيشها الضفة الغربية في ظل محاولة إسرائيل الاستفادة من المناخات التي خلقتها الحرب لتنفيذ ما تصبو إليه أمنيًّا وسياسيًّا في الضفة. يمكن القول: إن المقاومة الفلسطينية في الضفة في حالة تطور وتشهد موجات من التصاعد تتناسب مع موجات الاستيطان والعدوان الإسرائيلي على أراضي وممتلكات وأرواح الفلسطينيين. كما أن تطور "المقاومة" الكمي والنوعي في العمليات وأدوات الهجوم والتنسيق، يعكس وجود آليات جديدة للعمل واستمرارية في الابتكار لتجاوز التحديات المفروضة من الاحتلال(19).

لكن هذا التطور في عمليات المقاومة لا يعني إنكار الصعوبات التي تواجهها؛ وأبرزها التفوق الأمني الكاسح للاحتلال الإسرائيلي. فقد طور الاحتلال الإسرائيلي منظومة أمنية تخدم أهدافه السياسية والإستراتيجية بشكل مثالي، عبر تقطيع مناطق الضفة، وإحكام قبضته على مفاصلها، وتجهيز أدوات ضبط وسيطرة للتحكم بحركة الفلسطينيين، كالحواجز العسكرية والطرق الالتفافية وما يتصل بذلك من أبراج ومكعبات إسمنتية وبوابات حديدية. هذا كله مكَّن الاحتلال من حصار البلدات الفلسطينية وفق احتياجاته الأمنية، وَفَصَلَها بما يخدمه سياسيًّا، وحال دون "المقاومين" والتنقل أو الاختفاء الكامل أو نقل الخبرة والتجربة(20). ومع كل هذه الصعاب والمخاطر تستمر "المقاومة" في تصعيد عملياتها للاعتبارات التالية:

أولًا: تسعى "فصائل المقاومة" لتحويل الضفة الغربية إلى جبهة إسناد رئيسية لقطاع غزة؛ الأمر الذي سيخفف الضغط عن القطاع ويضغط على إسرائيل للموافقة على إنهاء الحرب ودَفْعَها لسحب جيشها منه.

ثانيًا: تُعمق عمليات "المقاومة" المتصاعدة أزمة حكومة الاحتلال وتستنزفها في مسارات متعددة، خاصة الاقتصادية والأمنية، وترفع تكلفة التدابير الأمنية التي تتخذها في الضفة الغربية إلى الحد الأقصى.

ثالثًا: تؤكد عمليات "المقاومة" في الضفة على أن الروح الكفاحية للفلسطينيين ما زالت حاضرة، رغم محاولات وجهود إسرائيل والمتساوقين معها فلسطينيًّا لكيِّ الوعي وفرض سياق اجتماعي سياسي مختلف، يفترض تقبل إسرائيل والإنكفاء أمامها بدعوى اختلال ميزان القوى(21).

تستمر المقاومة في الضفة الغربية وتتصاعد، في مسعى للانخراط بمزيد من القوة كطرف فاعل في معادلة ردع العدوان الإسرائيلي على القطاع. لكن هذا الانخراط، وبعد ما يقارب 7 أشهر من عمر هذه الحرب الطاحنة، لا تزال مساهمة الضفة الغربية في المعركة محدودة، ولا ترقى إلى مستوى المشاغلة الذي يجعلها تساهم مساهمة مباشرة وفاعلة في تحقيق إنجاز نوعي في سياق المواجهة الدائرة بمضاعفة الأثمان التي تدفعها إسرائيل في الضفة، بحيث تُضطر إما لوقف الحرب على غزة أو تقصير أمدها قدر المستطاع.

رابعًا: تداعيات المواجهة في الضفة

تزامَنَ تصعيد المواجهة في الضفة والحرب على القطاع مع صعود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تُجاهر بنيتها ضم الضفة وتوسيع الاستيطان والقضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية. تقع الضفة الغربية في قلب العقيدة الدينية اليهودية المتطرفة، باعتبارها مركز الدولة اليهودية القديمة؛ حيث الأحقية التاريخية والدينية المزعومة ترتبط بالوجود اليهودي في "يهودا والسامرة". فالسيطرة على الضفة وتهويدها، بل وإفراغها من الفلسطينيين هو أحد الأجندات السياسية لحكومة المتطرفين الحالية، وتحديدًا الوزيرين، بن غفير وسموتريتش، اللذين يقودان حملة تحشيد ديني متطرفة ضد الضفة الغربية ومكوناتها الجغرافية والديمغرافية(22).

يرى هؤلاء أن الاتجاهات الديمغرافية في فلسطين التاريخية ستحوِّل غير اليهود في إسرائيل إلى أغلبية، ومن ثم، فإن الحل المثالي هو الترحيل الفوري للعرب. بالنسبة إليهم، فإن الطريق لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني هو طرد الفلسطينيين من "إسرائيل الكبرى"، فهم يؤمنون بـ"حق إسرائيل الإلهي" في الحكم من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط(23).

ظلت إسرائيل تبني على هدوء الضفة الغربية، خاصة بعد مجيء السلطة، وتراهن على أن هندسة الوعي قد أخذت مكانها في العقل الفلسطيني وترسخت. إلا أن الانتفاضات المتتالية وموجات المواجهة التي تفجرت في الضفة الفلسطينية جعلتها مركز الثقل في المواجهة مع الاحتلال. بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما قبله، كانت نواة العمل المقاوم تتعاظم في الضفة، عبر التشكيلات العسكرية، مُشكِّلة بذلك حالة جديدة من أنماط "المقاومة" للاحتلال الإسرائيلي، الرافضة لمبدأ التدجين بأي طريقة، وهو ما جعل الضفة في مركز تفكير الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول(24). 

صحيح أن معركة "طوفان الأقصى" كشفت عن عمق حالة السوء والاغتراب التي تمر بها الضفة الغربية، خاصة مع وهْن الحاضنة الشعبية الداعمة "للمقاومة" وهشاشتها، لكن يبدو أنها كشفت أيضًا عن سخط حقيقي ملحوظ في الرأي العام الفلسطيني تجاه نهج "الحياد السلبي" الذي اتخذته السلطة الفلسطينية الحالية، صاحبه إنكار لمسار أوسلو وما نتج عنه حتى الآن من تقوية لقبضة الاحتلال على الضفة الغربية والقدس وغيرها، وتراجع عن القناعة بالحلول السلمية التي تبنَّتها السلطة الفلسطينية، والتي تضمن لها البقاء والاستمرار ولو على حساب متطلبات نصرة قضية التحرر والاستقلال واحتياجات الشعب الفلسطيني وبقائه مهددًا بالاستيطان والتهجير.

ورغم تآكل شرعية السلطة الفلسطينية وهيمنتها في ظل المواجهة الحالية، فإن هذا لا يعني بالضرورة زوالها سريعًا أو سقوط الخيارات السياسية التي تتبناها؛ لكونها، أولًا، لا تزال الناظم الاقتصادي والاجتماعي الأهم للواقع في الضفة الغربية؛ إذ ترتبط بأجهزتها ومؤسساتها الحياة اليومية لنحو 170 ألف موظف يُعيلون نحو مليون فلسطيني، وليس ثمة بديل عملي يملأ الفراغ، على الأقل حاليًّا، بالإضافة إلى حضورها الأمني، وكونها لا تزال مطلبًا دوليًّا وإقليميًّا. وهكذا فإن اتساع حالة المقاومة القائمة أو انكماشها، مرهونٌ كذلك بموقف السلطة الفلسطينية؛ التي ربما تسعى لتكون عاملًا أكثر تأثيرًا مستقبلًا في كبح حالة المقاومة الجارية لاعتبارات خدمة مشروعها السياسي الذي يرى في "المقاومة المسلحة" عائقًا لا رافدًا لتحقيق التطلعات الوطنية بالحرية والاستقلال(25).

ستتوقف الحرب على غزة في لحظة ما، وسيبدأ صراع المسارات، وعلى رأسها الاستقرار أو السكون الذي تحاول القوى المختلفة إعادة ضبط الضفة حوله، لكن المؤكد أن تحديد ملامح ما سيجري فيها مرتبطٌ بنتائج الحرب على غزة.

خامسًا: التوقعات والسيناريوهات

 يرتبط التصعيد الحالي للعمل المقاوم في الضفة، بصورة أو بأخرى، بالعدوان على القطاع، وعلى الأرجح أن تؤدي قرارات الحكومة الإسرائيلية باجتياح رفح إلى تصاعده، مع توقع أن تتجه الأمور في الضفة الغربية نحو الهدوء التدريجي لكن البطيء حال التوصل إلى تهدئة في القطاع. بينما يُرجح على المدى المتوسط والطويل أن تكون الضفة الغربية مقبلة على تصعيد آخر في ظل انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين والتطرف؛ إذ سينعكس هذا الانزياح على واقع الضفة الغربية والقدس من خلال تزايد اعتداءات المستوطنين، والميل الحكومي الإسرائيلي الرسمي لاسترضاء اليمين المتطرف عبر توسيع المستوطنات ومحاولة تحجيم دور السلطة الفلسطينية ومنعها من ممارسة أدوار سياسية والاقتصار على الأدوار الخدمية، وهي رؤية اليمين الإسرائيلي والحكومة الحالية(26).

 ويبدو أن هذه الحرب زرعت في أوساط معينة لدى المستوطنين وقيادتهم فكرة "أننا نعيش في واقع جديد يجب استثماره للحد الأقصى"، بل يؤمن بعضهم: "أن ما حدث في مستوطنات غلاف غزة هو عقاب على عدم الاستمرار في الاستيطان وتطبيق السيادة، وأنه من الممكن التصرف بشكل مستقل دون علم وإذن الجهات الرسمية وفرض حقائق على الأرض بما يفرض مستوى جديدًا من السيطرة الاستيطانية"(27).

تدرك إسرائيل خطورة زيادة حالات الصدام بين المستوطنين والفلسطينيين في الضفة، وخطورة تصعيد المواجهة في ضوء التأثير الكبير المحتمل لهذه الأحداث على الحالة الأمنية في الضفة وصورة وشرعية إسرائيل في العالم. أما تحول المواجهات إلى انتفاضة عارمة في الضفة في المرحلة المقبلة، فيبقى احتمالًا ضعيفًا حتى لو اشتدت الحرب أو طالت أكثر، بسبب الملاحقة الإسرائيلية والاستنزاف الذي أصاب المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية في جميع مناحي الحياة خلال المواجهة الحالية. بل من المرجح أن تتجه الأمور نحو الهدوء التدريجي والبطيء، خاصة في حال التوصل إلى نوع من التهدئة في قطاع غزة.

وعلى الصعيد الفلسطيني الداخلي، من الواضح أن تداعيات الطوفان وما أعقبها من مسار، لم تعط أفقًا سياسيًّا للفلسطينيين بوجود بصيص أمل للخروج من المأزق الفلسطيني في شقيه؛ الانقسام، أو إمكانية فتح مسار سياسي يُفضي إلى دولة فلسطينية، خاصة أن الفلسطينيين حتى اللحظة غير متفقين على رؤية موحدة لما بعد الحرب(28).

خاتمة

تعيش الضفة الغربية اليوم حرب استنزاف شاملة من قبل إسرائيل؛ فآلتها العسكرية وبالتزامن مع العدوان على غزة، لا تتوقف عن عمليات الاقتحام والتدمير والقتل والتهجير. وهذه الأعمال تخدم في نهاية المطاف أهداف الاحتلال الكبرى: الوصول بالضفة إلى حالة من التطويع والسكون، تمهيدًا لفرض الأجندة السياسية الإسرائيلية بضم الضفة أو أجزاء منها إلى إسرائيل، وسحق إمكانية خلق كيان سياسي فلسطيني قابل للحياة فيها. 

ولكن تدرك إسرائيل أيضًا أن الضفة تمثل خاصرتها الرخوة؛ حيث يمكن "للمقاومة" استهداف جنود الاحتلال والمستوطنين انطلاقًا منها. لذلك قد يعتبر المشروع الاستيطاني الصهيوني الضفة هي ساحة الحرب الحقيقية بالنسبة له، ووفق هذا المنطق فإنه يسعى إلى اجتثاث كل محاولة أو نموذج "مقاومة" قد يظهر هناك. من هنا، يبدو مستقبل الضفة ومقاومتها متعلقًا بشكل كبير بمآلات العدوان على غزة، وطبيعة التحولات التي ستأتي في مرحلة ما بعد الحرب، فإذا نجحت إسرائيل في تحقيق أهداف حربها، فعلى الأرجح أن الضفة ذاهبة إلى حالة من السكون والانصياع أو القبول بالأمر الواقع. أما إذا كانت نتائج الحرب مغايرة، فربما تنكسر هذه المعادلة التي سعت إسرائيل إلى تكريسها.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. ساري عرابي، العملية العسكرية في جنين.. عن مشكلة "البيت والحديقة"، المركز الفلسطيني للإعلام، 4 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/gCP69
  2. نمرود غورين، بعد أزمة جنين.. ما المطلوب من واشنطن لتحسين العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية؟، معهد الشرق الأوسط، 17 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/dgvX3
  3.  طاقم متابعة السلام الآن، الجبهة الثالثة – الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر، موقع منظمة السلام الآن، 11 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/vyCW5
  4. عبد الرحمن عادل، التصعيد الإسرائيلي واستمرار المقاومة في الضفة: الدلالات والمآلات، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 10 ديسمبر/كانون أول 2023، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/aglSV
  5. عيدو زلكوبتس، تفكيك عاصمة الإرهاب في الضفة: الرسالة التي يوجهها الجيش الإسرائيلي إلى حماس في جنين، صحيفة معاريف، 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/hmLRU
  6. عبد الرحمن عادل، مصدر سبق ذكره.
  7. طاقم متابعة السلام الآن، مصدر سبق ذكره.
  8. تومر ألمجور، في ظل الحرب، جبهة أخرى تشتعل: العنف والإرهاب يتفشيان في الضفة، موقع القناة الـ12 العبرية، 21 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2023)، https://t.ly/NdJiL
  9. وحدة الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية، الضغط والاستنزاف: السياسة الأمنية الإسرائيلية وأفق التصعيد في الضفة الغربية، مركز الإمارات للسياسات، 27 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2024)، https://t.ly/RdLKR
  10. عبد الرحمن عادل، مصدر سبق ذكره.
  11. ملخص معطيات حملات الاعتقال بعد السابع من أكتوبر حتى تاريخ اليوم 28 أبريل/نيسان 2024، نادي الأسير الفلسطيني، (تاريخ الدخول: 29 أبريل/نيسان 2024)،  https://t.ly/z5z2y
  12. نعومي نيومان، لماذا لم تُفتح حتى الآن جبهة في الضفة الغربية؟، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني، 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 26 أبريل/نيسان 2024)، https://t.ly/KqpnB
  13. تومر ألمجور، مصدر سبق ذكره.
  14. سعيد أبو معلا، التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية تفسيرات لمواجهة حالية وأخرى آتية، موقع صحيفة القدس العربي، 20 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 26 أبريل/نيسان 2024)،  https://t.ly/UCyk6
  15. نوعم أمير، في الضفة لم يفهموا ما نحن على وشك إنهائه في غزة: الهجمات هي التي تخلق الردع، موقع ميكور ريشون العبري، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول 24 أبريل/نيسان 2024)، https://n9.cl/qvfm03
  16. سعيد أبو معلا، مصدر سبق ذكره.
  17. وحدة الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية، مصدر سبق ذكره.
  18. طاقم متابعة السلام الآن، مصدر سبق ذكره.
  19. إياد أبو زنيد، ما بين الإرباك في غزة والتصعيد في الضفة...هل تنفجر انتفاضة ثالثة؟، الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، 26 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2024)، https://shorturl.at/dgzCR
  20. نفس المصدر السابق.
  21. نفس المصدر السابق.
  22. نفس المصدر السابق
  23. بنتسي روبين، اختبار خاص: هل هناك أحزاب تؤيد الدولة الفلسطينية؟، موقع سروجيم، 21 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 19 فبراير/شباط 2024)، https://t.ly/eg2X4
  24. إياد أبو زنيد، مصدر سبق ذكره.
  25. نفس المصدر السابق.
  26. وحدة الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية، مصدر سبق ذكره.
  27. طاقم متابعة السلام الآن، مصدر سبق ذكره.
  28. سعيد أبو معلا، مصدر سبق ذكره.