يستعد أغلب اللبنانيين لاندلاع حرب أخرى أوسع نطاقًا بين حزب الله وإسرائيل. ويرى كثير منهم أن هذه الحرب باتت قدرًا محتومًا وأنها ستستهدف العاصمة، بيروت، وليس جنوب البلاد وحسب. ما يجعل احتمال اتساع الحرب أكثر ارتفاعًا اليوم كان التصعيد الملموس الذي شهدته حالة الاشتباك الحدودي وتبادل القصف بين حزب الله والجيش الإسرائيلي خلال النصف الأول من يونيو/حزيران 2024.
كانت الاشتباكات بين الطرفين قد اندلعت مباشرة بعد أن بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023. اقتصرت هذه الاشتباكات طوال الأشهر التالية لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قيام حزب الله باستهداف مواقع عسكرية إسرائيلية حدودية بقصف صاروخي أو مدفعي، ورد الجانب الإسرائيلي بقصف مكافئ أو أشد قليلًا. ولكن، وعلى الرغم من أن حسابات الطرفين جعلت مصلحتهما في تفادي الحرب الشاملة وحصر المواجهة في ساحة محدودة بالمنطقة جنوب الليطاني، في الجانب اللبناني، وشريط صغير في الجانب الإسرائيلي، إلا أن الإسرائيليين تجاوزوا هذه الساحة أكثر من مرة. هاجم الإسرائيليون أهدافًا شمال الليطاني، وحتى في منطقة البقاع، واستهدفوا بالاغتيال قيادات بارزة من حزب الله أو جماعات المقاومة الأخرى في لبنان.
في 11 يونيو/حزيران، اغتالت إسرائيل القيادي المخضرم في حزب الله، طالب سامي عبد الله، وثلاثة آخرين من رفاقه، أثناء اجتماع لهم بقرية جويا في جنوب لبنان. طبقًا لأرقام حزب الله، قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 350 عنصرًا من مقاتلي الحزب منذ بداية الحرب على غزة واندلاع الاشتباكات في جنوب لبنان؛ ولكن طالب كان بالتأكيد أرفع مسؤول عسكري في الحزب تنجح إسرائيل في اغتياله. ولأن حسابات الحزب قامت على مواجهة التصعيد بتصعيد مماثل، أطلقت وحدات حزب الله في الجنوب على يومين متتاليين مئات الصواريخ والقذائف على أهداف إسرائيلية؛ مما أدى إلى تدمير واسع في بلدات ومواقع عسكرية إسرائيلية شمالية، وإلى إشعال النار في مئات الكيلومترات المربعة.
وكما كان متوقعًا، ولَّد التصعيد المتبادل مزيدًا من التصعيد. قام المبعوث الرئاسي الأميركي، آموس هوكشتاين، بزيارة مكوكية لإسرائيل ولبنان، يومي 17 و18 يونيو/حزيران، ذكرت مصادر لبنانية أنه وجَّه خلالها إنذارًا مباشرًا لرئيس الحكومة اللبنانية بأن الولايات المتحدة ستطوي معارضتها لحرب إسرائيلية على لبنان، وأن الإسرائيليين يتحضرون فعلًا لهذه الحرب ما لم يبدأ حزب الله سحب قواته من جنوب الليطاني. في 22 يونيو/حزيران، سرَّبت مصادر أميركية رسمية خبرًا لوسائل الإعلام يفيد بأن الولايات المتحدة ستشارك في الدفاع عن إسرائيل في حال نشوب حرب شاملة على الجبهة اللبنانية، بدون أن تنشر قوات أميركية في المنطقة.
في داخل إسرائيل، اتهمت قيادات معارضة رئيس الحكومة، نتنياهو، بالفشل في حماية أهالي المنطقة الحدودية الشمالية، والعجز عن تأمين عودتهم إلى بلداتهم وقراهم وحياتهم الطبيعية. وكان لافتًا أن يعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وسط الحراك الدبلوماسي المتصاعد لاحتواء التصعيد، وبعد اجتماعه بقيادات الجيش في الجبهة الشمالية، أنه صادق فعلًا على خطة حرب لردع حزب الله وتأمين الحدود الشمالية.
فهل بات اندلاع حرب أخرى على لبنان أمرًا حتميًّا ووشيكًا؟ وهل هناك مصلحة ما لأي من طرفيها، أو لكليهما، في اندلاع هذه الحرب؟ أم أن تدحرج الوضع نحو الحرب خرج بالفعل عن إرادة الطرفين؟
حزب الله: صدام محدود
ليس ثمة دليل على أن عملية "طوفان الأقصى" التي تعهدتها قوات عز الدين القسام التابعة لحماس، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قد أُنجزت بالاتفاق والتنسيق المسبقين مع حزب الله. حتى إدارة بايدن ترى أن الحزب لم تكن له صلة مباشرة بالعملية. الحقيقة، أن حزب الله، الذي تربطه علاقات وثيقة بإيران، ولا يخرج عادة عن الإطار الاستراتيجي الإيراني، كان ينتهج سياسة تهدئة خلال الأشهر السابقة على "طوفان الأقصى"، نظرًا لأن التهدئة كانت السمة الأبرز للسياسة الإيرانية في الإقليم، وعلى مستوى العلاقات الإيرانية-الأميركية. وربما لم تكن قيادة الحزب سعيدة ولا مرحِّبة بخطوة التصعيد التي قامت بها حماس في "طوفان الأقصى". كما لابد أن الحزب فوجئ بحجم وبشاعة الرد الإسرائيلي على خطوة حماس.
بيد أن الحزب، كما إيران، معني بنفوذهما في الإقليم، وبالحفاظ على صورتهما باعتبارهما طليعة القوى المقاومة لإسرائيل. وللحفاظ على هذا النفوذ وعلى هذه الصورة، اختار الحزب الانخراط في الدفاع عن حلفائه في قطاع غزة بالمشاركة المحدودة في الحرب، المشاركة المحدودة بسقف يعزز من موقعه المقاوم، ولا تدفع نحو اندلاع حرب شاملة على لبنان. وكانت هذه هي المقاربة التي اتبعها الحزب طوال الشهور السابقة من الحرب على غزة، مؤكدًا في الوقت نفسه أن ما يقوم به هو جهد مساند للمقاومين في قطاع غزة، وأنه لا يعمل ولا يسعى إلى توسيع نطاق ومستوى الاشتباك، وأنه سيقوم فورًا بوقف نشاطاته العسكرية بمجرد التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في القطاع.
ولكن مقاربة الحزب المنضبطة، على أية حال، لم تكن بلا عواقب. في الجانب اللبناني، أدى القصف الإسرائيلي إلى نزوح ما لا يقل عن 150 ألفًا من سكان جنوب لبنان إلى مناطق أبعد قليلًا في العمق اللبناني، وإلى تدمير واسع النطاق في قرى لبنانية حدودية. وفي الجانب الإسرائيلي، يعتقد أن ما يزيد عن مئة ألف من سكان مناطق الحدود الشمالية قد أخلوا بلداتهم وقراهم منذ أكتوبر/تشرين الماضي، وأن دمارًا أُوقِع أيضًا ببلدات إسرائيلية حدودية، كما بمواقع ومعسكرات عسكرية إسرائيلية، بعضها ذو أهمية رقابية بالغة.
طوال الشهور السبعة الأولى للحرب، كان الجانب الإسرائيلي هو الذي اختار التصعيد، سواء بتوسيع نطاق المواجهة إلى ما هو أبعد من نهر الليطاني، أو بتعهد اغتيالات لقادة بارزين من الحزب، لم تتوقف حتى بعد اغتيال طالب عبد الله. ولأن وساطات فرنسية وأميركية سرعان ما انطلقت لاحتواء الموقف على الجبهة اللبنانية ومنع اندلاع حرب شاملة، حسب الإسرائيليون أن إيقاع خسائر مؤلمة بالحزب وحاضنته الشعبية سيدفعه إلى سحب قواته من جنوب الليطاني، المطلب الرئيسي للجانب الإسرائيلي. ولكن الضربات الإسرائيلية التصعيدية لم تؤد إلى ردع الحزب، ولا إلى نجاح الوساطات.
في اليوم التالي على الإنذار الذي وجهه المبعوث الرئاسي الأميركي للحكومة اللبنانية، نشر حزب الله شريطًا مصورًا، بالغ الوضوح والدقة، لميناء حيفا والمواقع العسكرية وشبه العسكرية الإسرائيلية في الميناء وجواره، ذكرت مصادر الحزب أن ما قام به كان بطائرة مسيرة للحزب. وكان واضحًا أن الحزب أراد أن يُظهر للإسرائيليين وحلفائهم من القوى الغربية أن منظومات الدفاع الإسرائيلية ليست ضمانة لمواجهة مقدرات الحزب. ولم يكن أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، أقل وضوحًا في اليوم الذي تلا نشر الشريط، عندما قال في كلمة ألقاها في تأبين طالب عبد الله: إن مقدرات الحزب العسكرية أكبر بكثير مما يحسبه الإسرائيليون، وإن الحزب في حال اندلاع حرب شاملة سيقاتل بلا سقف ولا قيود. ولم يلبث عدد من المعلقين اللبنانيين المعروفين بقربهم من الحزب أن أعادوا في وسائل إعلام مختلفة التوكيد على حجم مقدرات الحزب، وتفوقه التقني، وقدرته على إيقاع تدمير بالغ وواسع النطاق بدولة إسرائيل.
ما يعنيه هذا كله أن حزب الله لم يزل عند موقفه الأول من الحرب على غزة؛ لم يزل الحزب يرى أن اشتباكه مع إسرائيل يقع ضمن خانة مساندة غزة، وليس السعي إلى حرب أوسع على الجبهة اللبنانية. وفي مواجهة التهديدات بالحرب الشاملة، سواء تلك القادمة من الوسطاء الغربيين أو من المسؤولين الإسرائيليين، يرسل الحزب رسائل متتالية لكافة المعنيين تفيد بأن حربًا إسرائيلية أخرى على لبنان ستكون باهظة التكاليف للإسرائيليين. المشكلة في كل هذا، أن إسرائيل دولة لا تعرف ولا تستطيع التعايش مع التهديد الجاد في جوارها؛ وكلما تأكدت جدية وثقل التهديد الذي يمثله حزب الله لإسرائيل ازدادت احتمالات الحرب.
الموقف الإسرائيلي: توقيت الصدام الشامل
تصاعد التهديد الذي بات يمثله حزب الله، وجدية هذا التهديد الملموسة يوميًّا في الشمال الإسرائيلي، يدفع نحو توافق في أوساط الطبقة السياسية والأمنية الإسرائيلية على ضرورة التعامل مع الحزب بصورة أو أخرى، وآجلًا أو عاجلًا. خلال الشهور الأولى من الحرب على غزة، حسبت القيادة الإسرائيلية أن حشد ثلاث فرق على الجبهة اللبنانية وتعهد ردود قاسية ومؤلمة على هجمات حزب الله، وصور الدمار التي بات يراها قادة الحزب لمدن قطاع غزة وبلداته، ستسهم في الضغط على الحزب للتعامل الإيجابي مع الوسطاء الأميركيين والفرنسيين، ومن ثم الانسحاب إلى شمال الليطاني. ولكن لا الهجمات الجوية وعمليات الاغتيال، ولا جهود الوسطاء، نجحت في تليين موقف الحزب وإيقاف هجماته.
ما حدث، أن الحزب أظهر تصميمًا لا يلين على ربط الوضع على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية بالوضع في قطاع غزة، وحسًّا إستراتيجيًّا باستهدافه مراكز الرقابة والرصد في شمال إسرائيل، وقدرات عسكرية وتقنية عالية كافية لإيقاع الأذى بمواقع وأهداف إسرائيلية حيوية، مدنية وعسكرية. وعلى الرغم من أن من الصعب على الإسرائيليين تقدير ما إن كان لدى الحزب وسائل تؤهله لاستهداف وسط وجنوب إسرائيل، وبأية درجة من الدقة، فما بات معروفًا للإسرائيليين هو بالتأكيد كاف للتوصل إلى قناعة بضرورة مواجهة الخطر الذي يمثله الحزب. ولكن إسرائيل، وكما في معظم منعطفات هذه الحرب، تبدو منقسمة حول طبيعة وكيفية وتوقيت المواجهة مع الحزب.
ثمة أصوات في أوساط المعارضة الإسرائيلية، وبين قيادات عسكرية وأمنية متقاعدة، ورؤساء حكومة سابقين (لا يستبعد أن تكون صدى لدوائر في قيادة الجيش وفي المؤسسة الأمنية)، تقول: إن من الضروري الآن تجنب إشعال حرب شاملة مع لبنان. يدعو هؤلاء إلى التوصل لاتفاق لإنهاء الحرب في غزة، يفضي بالضرورة إلى إحلال السلام في الشمال الإسرائيلي، وانتظار ظروف إقليمية ودولية أفضل لحسم تحدي حزب الله. يفترض هؤلاء أن حالة حزب الله، كما هي حالة حماس، تستدعي إيقاع الهزيمة ليس بالمسلحين وحسب، ولكن أيضًا بالحاضنة الشعبية لهم، وهذا ما سينجم عنه خسائر فادحة بالمدنيين اللبنانيين ودمار واسع النطاق في الجنوب اللبناني وبيروت والبقاع. وإن كانت الحرب على غزة أدت إلى تحول واسع النطاق في الرأي العام العالمي، وفي المؤسسات الحقوقية والعدلية الدولية، ضد إسرائيل، فإن حربًا أخرى على لبنان ستزيد من عزلة إسرائيل وتقويض وضعها الدولي.
تشتد حاجة إسرائيل في الوقت الحالي لترميم وضعها الدولي لمنع إيران من التقدم نحول امتلاك السلاح النووي، أو على الأقل القدرة على امتلاك هذا السلاح خلال فترة قصيرة. فبعد الانتقادات التي وجهتها وكالة الطاقة الذرية الدولية في تقريرها الأخير لإيران، وذهاب الإيرانيين إلى تشغيل أعداد إضافية كبيرة من أجهزة الطرد المركزي في محطتي بوردو ونطنز، جعلتهم يرفعون إانتاجهم من اليورانيوم المخصب بكميات ومستويات تخصيب تكاد تكون كافية لإنتاج قنابل نووية. وهذا ما يستدعي جهودًا دولية حثيثة، ووضعًا دوليًّا أفضل لإسرائيل، لمنع تحول إيران إلى دولة حافة نووية. بدون ذلك، يقول هؤلاء، سيكون على إسرائيل نفسها خوض حرب ليست مضمونة العواقب والنتائج مع إيران.
ويشير دعاة تأجيل الحرب، أيضًا، إلى أن الجيش الإسرائيلي، الذي أنهكته الحرب في غزة وأظهرت الكثير من جوانب ضعفه، ليس جاهزًا بعد لحرب على حزب الله، الذي تفوق قدراته بكثير تلك التي واجهها الجيش في غزة. كما أن من الصعب التيقن، في ظل الانتخابات الأميركية، من مشاركة الولايات المتحدة في الدفاع عن إسرائيل، سيما إن اتسع نطاق الحرب مع حزب الله إلى ساحات أخرى، مثل سوريا والعراق وإيران. بعد ذلك كله، وحتى إن نجح الجيش الإسرائيلي في تدمير بنية الحزب التحتية في جنوب لبنان ودفعه إلى شمال الليطاني، فليس من الواضح بروز قوة محلية أو دولية قادرة على التحكم في جنوب لبنان ومنع حزب الله من الاقتراب مجددًا من الحدود مع إسرائيل. ففي ظل الانقسام السياسي اللبناني الداخلي وضعف الحكومة اللبنانية، يبدو من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فرض سيادة رسمية لبنانية على الجنوب. كما أن الانقسام الدولي والتدافع بين القوى الكبرى سيحبط أية مساع أممية لتشكيل قوة دولية تكفل الحفاظ على الأمن في الجنوب وتمنع عودة قوات الحزب إليه.
في الجانب الآخر، يقول دعاة الحرب العاجلة: إن اتفاقًا كاملًا ووقفًا نهائيًّا لإطلاق النار في غزة لم يزل بعيدًا، وإن إسرائيل، لا على مستوى أمن الدولة، ولا مستوى أمن مواطنيها، تستطيع تأجيل التعامل مع الخطر الذي يمثله حزب الله. ويؤكد هؤلاء أن الجيش الإسرائيلي بمجرد الانتقال إلى المرحلة الثالثة للحرب في غزة سيكون قادرًا على حشد ما تتطلبه عملية عسكرية في لبنان، وأن لدى الجيش من الإمكانيات والوسائل ما يضمن تفوقه، وما يكفي لإيقاع الهزيمة بالحزب وتلقين قاعدته الشعبية وعموم اللبنانيين الدرس الضروري لترسيخ هدوء مديد على الجبهة اللبنانية.
ويقول أنصار الحرب أيضًا: إن على إسرائيل، عندما يتعلق الأمر بمسائل وجودية، ألا تكترث كثيرًا بالرأي العام الدولي، طالما ضمنت استمرار الدعم والتأييد الأميركيين؛ وإنهم واثقون من أن الولايات المتحدة ستقوم بما يتطلبه الموقف للمشاركة في الدفاع عن إسرائيل إن نشبت حرب شاملة مع حزب الله، على الرغم من التوتر الطارئ في علاقة نتنياهو مع إدارة بايدن. لا يجادل هؤلاء في مدى تقدم إيران نحو امتلاك القدرة النووية، ولكنهم يرون أن المخاطر التي تهدد إسرائيل من إيران النووية تستدعي تعاملًا أسرع مع حزب الله، الذي هو في الحقيقة أحد أذرع إيران الإقليمية. حسْم التحدي الذي يمثله الحزب، من وجهة نظرهم، يعني توفير مناخ أفضل لإسرائيل لمنع إيران من التحول إلى قوة نووية.
إضافة إلى هذا كله، ليس من المستبعد أن يرى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في حرب أخرى أوسع نطاقًا على لبنان وحزب الله مصلحة سياسية له، تصب لصالح بقائه في موقعه وتعمل على تماسك تحالفه الحكومي مع اليمين الديني الصهيوني.
استعدادات غير مكتملة
في ظل الظروف الحالية، لم يعد من الممكن تجاهل القوى الدافعة نحو حرب أوسع على لبنان. بكلمة أخرى، باتت الحرب الشاملة محتملة بالتأكيد، وإن لم تصبح مرجحة بعد. الفرق العسكرية الثلاث المحتشدة على الجبهة اللبنانية منذ بداية الحرب على غزة لا تكفي لتعهد عملية عسكرية كبرى في الجنوب اللبناني، تستهدف إيقاع الهزيمة بحزب الله وقاعدته الشعبية، وتدمير مواقع الحزب وطرده إلى شمال الليطاني. تحتاج إسرائيل حشد ما لا يقل عن 7-8 فرق للقيام بهذه العملية، وتحتاج إلى إعادة ضبط العلاقة مع واشنطن، سواء على المستوى السياسي، أو رفع معدل الإمدادات العسكرية، والاتفاق على مدى المشاركة الأميركية في حال اندلعت المواجهة مع الحزب وحلفائه في الإقليم.
تقدر القيادة الإسرائيلية أن وتيرة الحرب في غزة ستنخفض نسبيًّا خلال أسابيع قليلة؛ مما سيسمح بتعهد عملية أكبر في لبنان في أغسطس/آب أو سبتمبر/أيلول القادمين. ولكن إسرائيل، على أية حال، فقدت عنصر المفاجأة، مما سيوفر لحزب الله فرصة الاستعداد وضبط مستوى العمليات الحالية وانتشار القوات استعدادًا لحرب أوسع. وعلى الرغم من كفاءة أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي، فمن الواضح أن الحزب، الذي يستمر في استهداف مراكز الرقابة والرصد في شمال إسرائيل، قادر على استغلال فجواتٍ ما في جدار الدفاعات الإسرائيلية للوصول إلى أهداف إسرائيلية عسكرية ومدنية حيوية. بمعنى، أن الحرب على لبنان، مهما كان حجم التفوق الإسرائيلي، يصعب توقع مسارها ومداها الزمني وعواقبها.
أحد أهم، وأخطر، ما يمكن أن ينجم عن حرب إسرائيلية على لبنان هو بالتأكيد توسع نطاقها الإقليمي، وامتدادها من ثم إلى سوريا، والعراق، واليمن، وربما الأردن، بل وحتى إيران. وإلى جانب استمرار الحرب في غزة بصورة من الصور، فإن حربًا على لبنان يمكن أن تشعل الشرق الأوسط برمته، وتستمر لزمن أطول بكثير مما خطط لها. ولأن مثل هذه العواقب تتعارض مع مصالح وانشغالات الولايات المتحدة في الإقليم والساحة الدولية، فقد تتحرك إدارة بايدن لمنع الحرب قبل نشوبها. ولكن نجاح هذا المسعى لن يكون ممكنًا بدون ضغوط فعلية وملموسة على نتنياهو وحكومته؛ الأمر الذي يصعب الاطمئنان له بعد الإخفاقات الأميركية السياسية المتكررة في غزة.