سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي (أكتوبر/تشرين الأول 2023- أبريل/نيسان 2024)

تتتبَّع الدراسة سيرورة التأطير الإخباري للحرب على قطاع غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، وتبحث مراحل وسياقات التحوُّل التي عرفتها روايات وتمثُّلات هذا الخطاب عن الذات الإسرائيلية والفلسطينية، وتستكشف منطلقات أُطُره الإخبارية وخلفياته وأهدافه. استندت الدراسة إلى المنهج السيميولوجي في تحليل نماذج من الخطابات الإعلامية الغربية، والكشف عن طرق إنتاجها للعلامات اللغوية وغير اللغوية، وكيفية تداولها وتأويلها من قبل الرأي العام الدولي. وانطلقت أيضًا من خلفية نظرية تستلهم مرتكزات نظرية التأطير عند روبرت إنتمان لفهم أساليب وآليات تأطير عينة عشوائية بسيطة من الخطابات الإعلامية الأميركية والبريطانية والفرنسية، خلال الحرب على غزة، ابتداء من السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 7 أبريل/نيسان 2024.
تحيز الخطاب الإعلامي الغربي للرواية الإسرائيلية كشف زيف تمثلاته الذهنية الحاملة لقيم المساواة والعدالة وحقوق الإنسان والنزاهة (غيتي)

مقدمة

بيَّنت الحرب التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أنها لم تكن حربًا على الأرض فقط، بل كانت أيضًا "حرب الرواية" بامتياز، باعتبار أن "حرب الرواية" لا تقلُّ شأنًا عن "حرب الأرض"، بل تُعد جزءًا لا يتجزأ من الإستراتيجية الحربية. فقد جنَّدت لها كل الأدوات والوسائل التكنولوجية، والتغطيات الإعلامية، والغطاء السياسي لصنَّاع القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي لتسويقها، وإقناع الرأي العام الدولي بشرعيتها ومصداقية أطروحاتها. وتظل التحولات التي طرأت على المشهد الفلسطيني في غزة، وانعكاساتها على المستويين، الإقليمي والدولي، مرتبطة بالتأثيرات التي مارستها الخطابات الإعلامية، لاسيما الغربية، في الجمهور المتلقي؛ إذ تُشكِّل هذه الخطابات رؤى وزوايا نظر تَنتُج عبرها تمثُّلات حول ما يقع في غزة، وفي ضوئها يتم توجيه الرأي العام إلى المسارات التي يُحدِّدها القائمون على إنتاج هذا النوع من الخطابات.

ويرى الباحث أن الخطاب الإعلامي يمثِّل معرفة بالواقع منظورًا إليه من زاوية معينة؛ وأن هذه الزاوية تُحدِّدها وتتحكم فيها الأطر الإخبارية والآليات المعتمدة في ذلك الخطاب. ومن هذا المنطلق، تحاول الدراسة البحث في سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، من خلال الإجابة على هذا الحقل الاستفهامي:

- هل الخطاب الإعلامي الغربي(1) يعكس لحظة زمنية جامدة لأحداث غزة (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023) أم يتغيَّر ويتطور بتغيُّر وتطور المنظورات والتمثُّلات إلى هذه الأحداث؟

- هل سرديات الواقع عن الحرب على قطاع غزة بصورها اليومية هي واقع السرديات كما ترصده عدسات الخطابات الإعلامية الغربية أم أن واقع السرديات يتعالى على سرديات الواقع؟

- هل الخطاب الإعلامي الغربي، في تمثُّله للحرب على غزة، خطاب محايد يروم الوصول إلى الكشف عن الحقيقة أم خطاب متحيِّز تحكمه خلفيات تتغيا التضليل والتعمية والانحياز؟

- كيف يُبنَى الخطاب الإعلامي الغربي؟ وبأي تأطير؟

- ما الآليات التي يعتمدها الخطاب الإعلامي الغربي لممارسة عملية التأثير؟  

ولأن أحداث غزة لا تزال تتفاعل في اتجاهات مختلفة حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة (أبريل/نيسان 2024)، مما يجعل سيرورة التأطير الإخباري لهذه الأحداث في تطور دائم أيضًا، فإن الضرورة المنهجية تقتضي ضبط المجال الزمني للعينة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 7 أبريل/نيسان 2024. وهنا، نلاحظ أن أحداث غزة الاستثنائية فرضت تغطية/ات إخبارية استثنائية أيضًا، جعلت عملية تتبُّع هذا السيل الجارف والمتنوع من الأخبار التي تنتجه كبريات الصحف والقنوات الدولية بشكل يومي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمرًا صعبًا على باحث بمفرده. وهذا ما جعلنا نحصر مجتمع البحث في الصحافة الغربية، سواء المكتوبة أو السمعية البصرية أو الإلكترونية. أما عينة المجتمع، فتم تحديدها بناء على مبدأ التنوع؛ إذ انتقى الباحث عينة عشوائية بسيطة من خلال نماذج من التغطيات الإخبارية لأحداث غزة تجسد في عمومها نموذجًا للخطاب الإعلامي الغربي. وهكذا تم التركيز في الإعلام الأميركي على "فوكس نيوز" (Fox News)، و"سي إن إن" (CNN) و"إم إس إن بي سي" (MSNBC) و"إيه بي سي نيوز" (ABC NEWS) "وذا نيشن" (The Nation) و"نيويورك تايمز" The New York Times)) و"التايم" (TIME). وفي الإعلام البريطاني، اهتمت الدراسة بـ"فايننشال تايمز" (Financial Times)، و"بي بي سي" (BBC)، و"الغارديان" (The Guardian)، و"إل بي سي" (LBC)، و"الإيكونوميست" (The Economist)، و"رويترز" (Reuters). أما في الإعلام الفرنسي فركزت الدراسة على "لوموند" (Le Monde)، و"لوبوان" (Le point)، و"فرانس 24" (France 24)، و"ميديا بارت" (Mediapart)، و"ليكسبريس" (L'Express)، و"ليزيكو" (Les Echos).

وتهدف الدراسة في سياق مقاربة هذا الحقل الاستفهامي، الذي يبحث سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، إلى التعرف على بنية وأنماط هذا الخطاب الذي واكب أحداث غزة ابتداء من السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023، ورصد اتجاهات السرديات الإعلامية الغربية وحدود تبنيها للرواية الإسرائيلية والرواية الفلسطينية. كما تهدف الدراسة إلى تحديد طبيعة ومرتكزات الأطر الإخبارية المهيمنة في الخطاب الإعلامي الغربي، واستكشاف منطلقاتها وخلفياتها وأهدافها، وتتبُّع التحوُّل في روايات الخطاب الإعلامي الغربي وتمثُّلاته للذات الفلسطينية والإسرائيلية، ورصد التزامه بأخلاقيات المهنة كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية.

1. مدخل منهجي ونظري  

تستند الدراسة إلى المنهج السيميولوجي لتحليل نماذج من الخطابات الإعلامية الغربية، والكشف عن طرق إنتاجها للعلامات اللغوية وغير اللغوية، وكيفية تداولها وتأويلها من قِبَل الرأي العام الدولي. كما تستعين بنتائج تقارير بعض المراكز والمعاهد الدولية المتخصصة ذات صلة بالموضوع. وتعتمد الدراسة في مقاربة الحقل الاستفهامي إطارًا نظريًّا وتحليليًّا يستند إلى نظرية التأطير الإخباري، لاسيما عند رائديها، إرفينغ غوفمان (Erving Goffman) وروبرت إنتمان (Robert Entman)؛ إذ يُسهِم التأطير الإخباري، بوصفه الطريقة التي يتم بها تقديم الأخبار، في معرفة طبيعة السرديات الإخبارية المنتجة، وتأثيراتها في الأنساق التفسيرية لدى الجمهور المستهدف.

إن أول المفاتيح للولوج إلى الخطاب الإعلامي الغربي هو مرجعه. فمرجع هذا الخطاب هو إعادة تشكيل لواقع معين؛ إذ يُعد اختيارًا وانتقاء وتكثيفًا لجملة من العناصر والرموز داخل إطار محدد، وانطلاقًا من فضاء خاص ومن زاوية معينة، وإقصاء لكل الزوائد التي من شأنها خلق خلل في توازن المعنى. إذن، يمثِّل الخطاب الإعلامي الغربي نافذة منفتحة على شيء من الأشياء، وإن الإشكال هو معرفة على أي شيء ينفتح؟

إن الخطاب الإعلامي الغربي بهذا المعنى هو معرفة بالواقع، وتقطيع له من زاوية معينة. وعلى هذا الأساس، فإن قراءة هذا الخطاب باعتباره حاملًا لمرجعية/يات معينة، تتطلب استحضار ثلاثة مستويات:

- الخطاب الإعلامي الغربي بوصفه تجميدًا للحظة معينة (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023).

- الواقع باعتباره مصدرًا لأحداث غزة.

- الإطار بوصفه الزاوية التي يُراد لها أن يُفهَم ويُفسَّر بها هذا الخطاب (زاوية المعالجة).

إن رصد هذه المستويات في علاقتها الجدلية، يقودنا إلى تحديد وجهة نظر الخطاب الإعلامي الغربي، ورؤيته لأحداث غزة، من خلال عملية التأطير.

لذلك، فإن هدف تتبُّع سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، لا يتحقق إلا من خلال تحديد آليات هذا التأطير واختياراته: اختيار هذا الإطار دون ذلك، وهذا المنظور دون الآخر، وهذا الموضوع دون ذلك.   

أولًا: السيرورة السيميائية

سننطلق من هذا المفهوم الذي طرحه الفيلسوف والسيميائي، شارل ساندرس بيرس (Charles Seinders Pierce)، لفهم كيف تُنْتَج المفاهيم والتصورات، وكيف تحدث هذه المفاهيم والتصورات علامات (Signs). والمقصود بالعلامة عند بيرس "شبكة من العلاقات تنقاد إلى أن تحلل إلى أطراف ثلاثة في الأبعاد الأساسية لهذه العلاقات. إن العلامة منظور إليها في ذاتها أداة ممكنة لإنجاز الدلالة والتواصل، ولا ترقى هذه الأداة أو (الماثول) في الحقيقة إلى غائيتها السيميوطيقية إلا بفعل علاقة دقيقة مع "موضوع" معين، أي ذلك الذي تحيل عليه (العلامة). ولكي يكون بمقدور العلامة تحقيق الدلالة والتواصل، فعليها أن تستدعي طرفًا ثالثًا هو المؤول"(2).

إن العلامة عند بيرس باعتبارها ماثولًا يحيل على موضوع عبر مؤول، تُشكِّل سيرورة سيميائية، وكل "سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة، وتستدعي من أجل بناء نظامها الداخلي ثلاثة عناصر هي ما يكوِّن العلامة ويضمن استمرارها في الوجود: ما يقوم بالتمثيل (ماثول)، وما يُشكِّل موضوع التمثيل (موضوع)، وما يشتغل كمفهمة تقود إلى الامتلاك الفكري للتجربة الصافية (مؤول)"(3). بمعنى أن أي إنتاج لخطاب ما، يبدأ من سلسلة من العلامات التي تُشكِّله. وهذه العلامات تقتضي توفرها على عناصر ثلاثة هي الماثول والموضوع والمؤول: فالماثول عبارة عن مفاهيم مجردة يتم إسقاطها على موضوعات معينة محصورة بزمان ومكان (واقع غزة)، فيأتي التأويل ليمنحها دلالة معينة (الخطاب الإعلامي). لكن هذا التأويل الذي يتحدث عنه بيرس ليس نهائيًّا، بل يشكل بداية لمسار تأويلي جديد في إطار ما يُسمِّيه بالسيرورة السيميائية. فالأحمر مثلًا بوصفه ماثولًا هو مفهوم مجرد، لكن عندما نربطه بموضوع من قبيل الوردة أو الحيوان أو الإنسان... فإنه يكتسي عبر عملية التأويل دلالات متعددة ومختلفة، باختلاف الأنساق الثقافية التي تؤطره؛ إذ يمكن الحديث عن الحب (موضوع الوردة) وعن الأضحية (موضوع الكبش كحيوان) وعن الجريمة (الإنسان)... إلا أن هذه التأويلات لمفهوم الأحمر ليست نهائية، بل يمكن أن تُشكِّل إطارًا لتوليد تأويلات جديدة كالعاطفة أو الشرف أو الخطر أو الموت أو الحداد أو الاستشهاد أو الإرهاب...

إذن، تُشير السيرورة السيميائية إلى مسار دائري لإنتاج العلامات (لغوية وغير لغوية) وتداولها داخل نسق ثقافي أومجتمع معين، وأن حركية التأويل التي تُحدِثها السيرورة السيميائية هي نتيجة لطريقة تمثُّل مجموعة من المفاهيم، وكيفية تفسيرها داخل سياق ثقافي واجتماعي محدد. بمعنى أن السيرورة السيميائية تشير إلى كيفية إنتاج العلامات وتداولها؛ إذ يتفاعل معها الأفراد، ويشكلون فهمًا مشتركًا لها.

ولعل هذا التحديد البيرسي (نسبة إلى بيرس) للسيرورة السيميائية يُشكِّل مدخلًا لفهم تمثُّلات الرواية الفلسطينية وتمثُّلات الرواية الإسرائيلية حول مفاهيم معينة مرتبطة بموضوعات محددة، تُشير إلى تأويلات مختلفة. كما أن السيرورة السيميائية تُشكِّل مدخلًا لاستكشاف أن معظم السرديات الإعلامية الغربية، وهي تَتَمثَّل مفاهيم معينة حول أحداث غزة، تحاول أن تتداولها عبر أطر إخبارية، فتمحنها تأويلات محددة ونهائية. لكن هذه التأويلات النهائية لا تلبث أن تُشكِّل بداية لمسار تأويلي لا نهائي في إطار السيرورة السيميائية.                                          

وقبل الحديث عن طبيعة هذه السيرورة على مستوى التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، فإن المنهجية تقتضي الوقوف في البداية عند مفهوم التأطير الإخباري.

ثانيًا: التأطير الإخباري

يواجه مجموعة من الدارسين عدة مفاهيم نظرية وإجرائية حول نظرية الأطر، ويتم تطبيقها في مجالات متعددة من قبيل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والدراسات الإعلامية... ويظل الهدف منها، رغم اختلاف منطلقاتها الإبستمولوجية والمنهجية، توفير رؤى تعكس -بشكل نقدي- أهمية هذه النظرية في فهم كيف تُنتَج الرسائل والخطابات؟ وكيف يتم تمريرها؟ وكيف يُراد لها أن يتم تلقيها من قبل الجمهور؟

وقبل أَجْرَأة مفاهيم هذه النظرية على مستوى الدراسة، لابد من تحديد ماهية التأطير الإخباري. ولعل الخوض في هذه العملية، يبدو صعبًا، في ظل هذا الثراء من المشارب المعرفية المختلفة التي تؤطرها. ومع ذلك، يمكن التمييز على -سبيل المثال لا الحصر- بين المقاربة السوسيولوجية التي تركز على إنتاج الأطر الإخبارية؛ والمقاربة السيكولوجية، التي تركز على تأثير التأطير الإخباري على الجمهور، بغض النظر عن المصدر.

إن ما يسترعي الاهتمام في هاتين المقاربتين هو التركيز على كيفية صنع القصص الخبرية حتى تصبح ذات معنى ودلالة لدى منتجها، ويتم تفسيرها من خلال وجهات نظر وقيم واعتبارات متنوعة(4).

فتماشيًا مع المقاربة السوسيولوجية، حاول غوفمان ابتداء من عام 1974 أن يحدد الفرضية الأساسية التي تنطلق منها نظرية التأطير الإخباري بأنها "الطريقة التي تنظم وتصنف وتقدم وسائل الإعلام الأحداث من خلالها، وتؤثر في أفكار وردود أفعال الجمهور عليها"(5). وفي عملية التنظيم والتصنيف والتقديم التي تمارسها وسائل الإعلام يتم إبراز بعض جوانب الواقع المتصور، على حساب جوانب أخرى، من خلال قصديات القائم بالاتصال. وهو ما يترتب عنه تشكيل لتصورات واتجاهات خاصة بالجمهور.

في نفس السياق، يرى إنتمان أن مفهوم التأطير يمثِّل نهجًا لفهم كيفية تشكيل وتوجيه الإعلام لفهم الجمهور للأحداث. وينطوي هذا التأطير "على انتقاء بعض الجوانب من واقع معين، وجعله أكثر بروزًا في النص التواصلي [في النص الإعلامي]. وهذه الطريقة من شأنها أن تدفع المتلقي لتفسير معين على حساب آخر"(6).

إن فكرة التأطير، كما يراها إنتمان، تقوم على "اختيار ما ينفع لتلميع بروزه، وهو أيضًا انتقاء لجوانب محددة من واقع مدرك، والدفع به نحو هالة من البريق في إيصال النص إلى الآخرين بطريقة تروِّج لتعريف مشكل معين، و/أو تأويل عشوائي غير رسمي، و/أو تحديد تقييم معنوي بمعايير القيم، و/أو عرض توصية لكيفية التعامل مع المصطلح الموصوف"(7).

إن عملية التأطير -لاسيما التأطير الإعلامي-كما حددها إنتمان، لا تأتي من فراغ، بل نتيجة عوامل كثيرة من قبيل الانتماء الوطني أو العرقي، أو عوامل مرتبطة بالسياسة التحريرية للمؤسسات الإعلامية، أو نتيجة ضغوط سياسية... ونادرًا ما تكون الأطر محايدة أو معدومة القيمة؛ إذ لا يتم اختيارها عن طريق الصدفة، وبذلك تفتح الطريق أمام التلاعب بالخبر من جهات معينة(8). 

إن هذا الثراء على مستوى التنظير، انعكس على مستوى تعددية المفاهيم المحيطة بمفهوم "التأطير الإخباري". ولذلك، يعتمد الباحث تعريف التأطير الذي اقترحه إنتمان، وبموجبه تقوم عملية التأطير بانتقاء جوانب معينة من الواقع المدرك بطريقة تعزز التعريف بقضية ما، أو بتفسير معين للأسباب، أو بتقييم أخلاقي لإشكالية وطريقة لحل المشكلة(9)، ثم يصبح وسيلة للفت الانتباه إلى جوانب محددة من الموضوع، أو الحد من أهمية البعض الآخر.

في ضوء هذا التصور، يعمل التأطير على تقديم خطاطات للجمهور لتفسير الأحداث، كما يمكن استخدامه كإستراتيجية تهدف إلى التلاعب بالأفراد من خلال فرض أطر مرجعية معينة. كما يهدف إنتاج الأطر وتوظيفها إلى تمثيل الواقع من أجل توجيه سلوكيات الأفراد أو الدول، والتأثير عليها.  

ويحدد إنتمان الأطر في أربعة مستويات تخص عملية الاتصال: القائم بالاتصال، والنص، والمتلقي، والثقافة. ويتم توجيه القائمين بالاتصال، بقصد أو بدونه، من خلال أطر أو خطاطات تفسيرية تنظم أنساق معتقداتهم وتسمح لهم أن يقرروا ما سيقولونه.

ويحتوي النص على أطر تتمظهر من خلال بروز أو غياب بعض الكلمات الرئيسية أو العبارات أو الصور النمطية أو مصادر المعلومات التي تبرز حقائق أو أحكامًا معينة(10).

أما الأطر التي توجه تفكير المتلقي وفهمه، فقد تعكس أو لا تُبرز، الأطر الموجودة في النص.

ويتم تعريف الثقافة بوصفها مجموعة من الأطر المشتركة في خطاب وتفكير معظم الناس الذين ينتمون إلى جماعة اجتماعية(11).

ومن ثم، فإن الأطر التي تستخدم المصطلحات التي لها الصدى الثقافي القوي عند الجمهور تمتلك إمكانات أكبر للتأثير، لأنها تستخدم كلمات وصورًا مفهومة وذات شحنة عاطفية(12).

ووفقًا لإنتمان، يشمل التأطير الإخباري ثلاثة عناصر رئيسية:

- الاختيار، أي اختيار القضايا والمعلومات التي سيتم تقديمها في الأخبار.

- تحديد الإطار، أي تعريف السياق أو الإطار الذي يتم تقديم القضية من خلاله، وذلك عبر استخدام لغة محددة وترتيب محتوى القصة.

- تثبيت الإطار، أي تثبيت الإطار في ذهن الجمهور عبر ترسيخ أفكار ومعلومات محددة، من خلال آلية التكرار.

ويحدد إنتمان أربع وظائف للتأطير الإخباري(13)، وهي:

  1. تعريف المشكلة أو القضية والأسباب الكامنة وراءها.
  2. تشخيص الأسباب وتحديد القوى الفاعلة.
  3. التقييم الأخلاقي.
  4. وضع الحلول للقضية ومحاولة علاجها.

إن هذه الوظائف الأربع للأطر الإعلامية التي حددها إنتمان، تسهم في تشكيل "أنساق تفسيرية يستند إليها الفرد في فهــم الواقــع الاجتمــاعي ومخرجاتــه مــن الأحــداث والقضــايا والمشــكلات، كما تساعد الفرد على إضفاء المغزى والدلالة على هذا الواقع، وبدون تلك الأنساق التفسـيرية يعجز الفرد عن التعاطي مع تلك الأحداث والقضايا والمشكلات"(14).

ولفهم عملية التأطير الإخباري التي تم توظيفها في الخطاب الإعلامي الغربي، لابد من تتبع الجوانب الجزئية التي تصاغ بها السرديات والكيفية التي تؤطر بها عملية السرد؛ لأن زاوية المعالجة هاته تجعلنا نصل إلى تأكيد فرضية تحيز هذا الخطاب للرواية الإسرائيلية أو عدم تحيزه. وتحديد الجوانب الجزئية يتم من خلال تحديد الآليات المعتمدة في عملية التأطير الإخباري.

ثالثًا: آليات التأطير 

يُقصد بآليات التأطير (Frame Mechanisms) مجموعة من الأدوات والتقنيات التي يتم بها تحديد كيفية تقديم الأخبار والأحداث، والتي في ضوئها يتم توجيه تفاعل الجمهور معها.

ويُصنِّف الأكاديمي، جيمس وليام تنكارد (James W. Tankard)، آليات التأطير في قائمة تضم 11 أداة لقياس الأطر الإخبارية(15)، وتشمل:

  1. العناوين.
  2. العناوين الفرعية.
  3. الصور.
  4. التعليقات على الصور.
  5. المقدمات الاستهلالية.
  6. الاختيار الخاص للمصدر.
  7. الاختيار الخاص للاقتباسات.
  8. تأثير الاقتباسات.
  9. الشعارات.
  10. الإحصاءات والرسوم البيانية.
  11. البيانات الإحصائية والفقرات الختامية.

وإلى جانب هذه الآليات التي وضعها تنكارد هناك أساليب وتقنيات أخرى يعتمدها التأطير الإخباري لتشكيل فهم الجمهور للأحداث، مثل:

- الإبراز والتحديد: ويتم فيه التركيز على جزء معين من القصة أو التبئير على جزئية من الواقع يمكن أن تؤثر في فهم الجمهور.

- تكرار المعلومات: يمكن استخدام تكرار الأفكار أو المعلومات لتعزيز فهم الجمهور وتوجيه انتباهه نحو جوانب معينة من قبيل: (هل تدين حماس؟) التي تكررت في معظم القنوات الإعلامية الغربية، لإلقاء مسؤولية ما ستؤول إليه الأوضاع في غزة على حركة حماس، ومحاولة ربط الحركة "بالإرهاب".

- التعليق الشخصي: يمكن أن تسهم التعليقات الشخصية من قبل الصحفيين أو مقدمي البرامج في توجيه الجمهور إلى تبني وجهة نظر معينة.  

- استخدام القصص الشخصية: تقديم الأخبار من خلال الروايات الشخصية يمكن أن يجعلها أكثر تأثيرًا في الجمهور، وفي توجيه القضية باتجاه التعاطف مع جهة دون أخرى.

هذه بعض الآليات والتقنيات التي يتم استخدامها في التأطير الإخباري الذي تتبنَّاه الوسيلة الإعلامية المعينة بهدف توجيه اهتمام الرأي العام، وإقناعه بجانب واحد دون غيره من جوانب القضية.

ولعل عوامل كثيرة تسهم في اختيار هذه الآليات وأطرها لممارسة مرامي الخطاب الإعلامي، وأهمها: السياسة التحريرية للمؤسسة الإعلامية، وجماعات الضغط، وسلطة المؤسسات السياسية، وكذلك سلطة مؤسسات الإعلان، والاتجاهات الأيديولوجية، والأنساق الاجتماعية والثقافية، ثم التأثيرات الخارجية.

إذن، يبدو أن التأطير الإخباري للقضايا والأحداث لا ينتج أو ينشأ من فراغ، بل يتشكل من خلال تأثير هذه العوامل المتعددة على مستوى بناء وإنتاج أطر الخطاب الإعلامي وآليات اشتغاله، وعلى مستوى تلقي الجمهور لهذا الخطاب وتشكيل اتجاهاته.

2. عناصر السرد في الرواية الفلسطينية والرواية الإسرائيلية

قبل الحديث عن التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، نحتاج في البداية إلى عرض العناصر السردية التي تُشكِّل الرواية الفلسطينية والرواية الإسرائيلية، بوصفهما مصدر السرديات الغربية.

أولًا: الشخصيات

ترى الرواية الفلسطينية حركة حماس جزءًا من الفاعلين في مسار قضية تمتد جذورها حتى قبل بروز هذه الحركة في المشهد السياسي الفلسطيني، في حين تحصر الرواية الإسرائيلية الصراع مع الفاعلين الفلسطينيين في "شخص/الفاعل" حماس، دون الأطراف الأخرى، وكأن ما وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 مرده إلى حماس. وهذا المنظور يختزل القضية الفلسطينية من خلال تأطير الشخصنة، وتأطير المسؤولية، باعتبار أن "حماس تُعد الفاعل المسؤول عما آلت إليها الأوضاع في غزة"، وليس التراكمات التي نتجت عن السياسة الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني حتى قبل بروز حركة حماس في المشهد السياسي الفلسطيني.

ثانيًا: الحدث

في الرواية الفلسطينية التي تُقدِّمها حركة حماس لا يبدأ الحدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإنما يمتد إلى مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، أي قبل 75 سنة من الاحتلال الإسرائيلي. وهذا ما ورد في الوثيقة التي نشرتها الحركة بعنوان: هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟ "إن معركة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار لم تبدأ في 7 أكتوبر، إنما بدأت قبل ذلك منذ 105 أعوام من الاحتلال؛ 30 عامًا تحت الاستعمار البريطاني و75 عامًا من الاحتلال الصهيوني"(16).

في حين أن الرواية الإسرائيلية تحصر الحدث في إطار التقطيع السانكروني(17)، ابتداء من السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وهذا الحصر الزمني للحدث تبنَّته أغلب السرديات الإعلامية الغربية، مما جعل أطر معالجتها للحرب على غزة لا تتجاوز هذا الحدث إلى أحداث سابقة.

ثالثًا: الزمن

الزمن في الرواية الفلسطينية زمن بصيغة الجمع، زمن متعدد، تتقاطعه أحداث مفصلية، أهمها نكبة 1948، ونكسة يونيو/حزيران 1967، وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973... وصولًا إلى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. فهو زمن دياكروني وتعاقبي. بمعنى أن ما وقع في "طوفان الأقصى" نتاج لكل أشكال التهجير والقتل والقمع والحصار... التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني قبل 75 سنة. في حين أن الزمن في الرواية الإسرائيلية هو زمن سانكروني، تم تقطيعه، وباتت لحظة 7 أكتوبر/تشرين الأول مفصولة عن كل المحطات والأحداث والسياسات السابقة (المسكوت عنها). وهذا التأطير الزمني هو الذي تنطلق منه معظم عدسات كاميرات الإعلام الغربي، ويتم تَبْئِيره في إطار عملية انتقائية، يُراد لها ممارسة التعمية على المتلقي من خلال حجب الزمن الحقيقي وراء حدث "طوفان الأقصى".

هذا يجعلنا أمام ما يُسمِّيه السيميولوجي رولان بارت (Roland Barthes) بـ"التطبيع"، أي تحويل العلامات من طابعها الثقافي (إنتاج يتم داخل التاريخ، أي داخل الزمنية الإنسانية) ومنحها بعدًا طبيعيًّا (أي علامات توجد خارج الزمنية ولا تتأثر بها). وداخل هذه العملية المعقدة يتم إفراغ البعد التاريخي والثقافي وتطبيعه بما يخدم مصالح طبقة أو جهة معينة(18).  

إن الأمر لا يعدو أن يكون عملية تحويل المعنى إلى شكل، أي إفراغ القضية الفلسطينية، بتاريخها وثقافتها وهويتها، من معناها الحقيقي، ومحاولة إعادة تعبئة الشكل الجديد بمعنى آخر يخدم أجندة الرواية الإسرائيلية، هو معنى "الضحية" و"الاعتداء".

إذن، تبرز في الرواية الإسرائيلية جدلية "الخفاء والتجلي": الخفاء لكل الأفعال الإجرامية التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني عبر أزمنته المتعددة، والتجلي كما تجسده عملية الإبراز التي تؤطر بها محطة 7 أكتوبر/تشرين الأول بوصفها نسقًا استقرائيًّا يحوي المعنى الذي تريد الرواية الإسرائيلية أن تسوقه للمنتظم الدولي.

رابعًا: الفضاء

تعتبر الرواية الفلسطينية أن فضاء الصراع مع "الكيان الإسرائيلي" غير محدد بقطاع غزة، وأن هذا القطاع هو جزء صغير مما تتعرض له باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة من عمليات اغتصاب وتدمير واحتلال... في حين تحاول الرواية الإسرائيلية أن تركز على قطاع غزة وغلافها فقط. وفي ذلك قصدية يُراد لها جعل المنتظم الدولي مشدودًا إلى فضاء واحد ووحيد تظهر فيه إسرائيل بأنها "ضحية"، وأن ما تقوم به من طمس لمعالم هذا الفضاء وتهجير لسكانه ومحاولة تهويده هو نتيجة لحدث "طوفان الأقصى"، وليس إلى ما مارسته من حصار شامل لهذا الفضاء، وللفضاءات الأخرى المسكوت عنها.

3. التأطير الإخباري للحرب على غزة

أولًا: القائم بالاتصال

يبدو الصراع على الرواية أولوية قصوى لصانع القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي، باعتبار أن "معركة الرواية" لا تقلُّ شأنًا عن "معركة الأرض"، بل تُعد جزءًا لا يتجزأ من الحرب. لذلك استطاع القائم بالدعاية الإسرائيلية تعبئة جميع الوسائل والقدرات الاتصالية والدعائية من أجل الترويج لهذه الرواية، وقد برز ذلك في معظم وسائل الإعلام الغربي خلال الأيام الأولى من الحرب. فتحوَّلت هذه الوسائل إلى أجهزة أيديولوجية/دعائية تُروِّج لأطروحات الرواية الإسرائيلية التي تُشوِّه حركات المقاومة الفلسطينية وإرادة الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي(19).

لذلك، نجد أن معظم السرديات الغربية، التي لطالما اعتبرت نفسها مرجعًا لأخلاقيات ولقواعد الممارسة المهنية، ولاسيما قواعد الحياد والموضوعية والتوازن والعدالة المسؤولية، ما فتئت أن انزاحت عن هذه الأخلاقيات والقواعد، وكشفت من خلال المعالجة الإعلامية للحرب على غزة عن انحياز تام للجانب الإسرائيلي، باعتمادها على نموذج روائي واحد، هو الرواية الإسرائيلية، دون نماذج أخرى. بمعنى أن أغلب السرديات الغربية تغيب فيها الحوارية والتناص (Intertextuality)(20)؛ إذ لا تتمثَّل نصوصًا متعددة، ولا مكان للغات مختلفة، ولا مجال لأصوات متعددة تؤسس لحوار بين الشخصيات المختلفة، بل تمَّ تأطير هذه السرديات في حدود استيعاب النص الروائي الإسرائيلي الواحد، واللغة الإسرائيلية الواحدة، والصوت الإسرائيلي الواحد، دون فسح المجال للرواية الفلسطينية واللغة الفلسطينية والصوت الفلسطيني. لذلك يجد المتلقي نفسه أمام مونولوج بالتعبير المسرحي؛ إذ يتم التماهي مع الشخصية الإسرائيلية إلى حدود التطهير بالمفهوم الأرسطي، أي التعاطف معها بشكل كلي. وهذا ما توصلت إليه دراسة أجراها الباحث الأميركي، ويليام يومانز William Youmans))، حول انحياز القائمين بالاتصال -وتحديدًا مجموعة من منتجي وصانعي الأخبار في القنوات الأميركية أثناء تغطيتها للحرب على غزة- للرواية الإسرائيلية ودعمهم لأطروحتها، لاسيما البرامج الحوارية لكل من "إن بي سي"، و"سي بي إس"، و"إيه بي سي"، و"فوكس نيوز"؛ إذ كشفت الدراسة أن القائمين بالاتصال في هذه القنوات استضافوا 120 من الشخصيات الأميركية من أصل 140 ضيفًا، وشكَّل الإسرائيليون الجنسية الثانية الأكثر شيوعًا (10 ضيوف)(21).

لذلك كان طبيعيًّا، في ظل توظيف آلية الإبراز المتعمدة لهذه القنوات الأميركية عبر جدلية "الخفاء والتجلي"، أي خفاء أو على الأصح إخفاء وحجب الصوت الفلسطيني، وتجلي الصوت الإسرائيلي ومن ورائه الصوت الأميركي الذي يتماهى معه، أن تتجه أغلب السرديات إلى التماهي مع الرواية الإسرائيلية والانحياز لها. وهذا ما أكدته الدراسة السابقة؛ إذ كانت الآراء، التي عبَّر عنها الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات، مؤيدة بأغلبية ساحقة لإسرائيل، بل نجد تحيزًا مطلقًا للرواية الإسرائيلية في قناة "فوكس نيوز". فقد أعرب 96% من الضيوف عن آراء مؤيدة لإسرائيل، ولم يتم التعبير عن وجهة نظر واحدة مؤيدة للفلسطينيين.

وباعتبار أن 82% (115 من أصل 140) من الضيوف كانوا مسؤولين حاليين أو سابقين في الحكومة الأميركية، وأن طبيعة النخبة السياسية في الولايات المتحدة، لاسيما المرتبطة بالسياسة الخارجية مؤيدة لإسرائيل بشكل حازم، كان من المتوقع أن يعكس التأطير في هذه البرامج الحوارية هذا الموقف بشكل غير متناسب. ويستنتج الباحث يومانز في دراسته أن إدارة بايدن والمشرعين الديمقراطيين كانوا من بين المنتجين الرئيسيين للرسائل المؤيدة لإسرائيل التي لم تأخذ في الاعتبار -على الإطلاق- الحقائق على الأرض في غزة(22).

لم يكن التأطير الإخباري مرتبطًا بطبيعة الشخصيات والضيوف، بل تجاوز الأمر إلى المساهمين في صناعة الخبر؛ إذ تم الحفاظ على الذين يعيدون إنتاج الرواية الإسرائيلية، في حين تم عزل أو فصل أو طرد أو إبعاد الأصوات التي تعادي هذه الرواية، أو التي تتفق مع الرواية الفلسطينية. في هذا السياق، أقدمت قناة "إم إس إن بي سي" الأميركية على إبعاد ثلاثة صحفيين مسلمين بارزين منذ بداية الحرب على غزة(23). كما فتحت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تحقيقًا مع بعض الصحفيين والإعلاميين المنتسبين لها بسبب دعمهم للرواية الفلسطينية.

كما أن عملية الطرد، وهذا الإبعاد للأصوات الفلسطينية أو المتعاطفة معها، لم ينحصر في المجال الإعلامي، بل تجاوزه إلى المجال الأكاديمي، وتحديدًا كبريات الجامعات الغربية، التي مورس عليها كل أشكال الضغط، لاسيما من قِبَل أصحاب النفوذ المالي (الممولين)، الذين حاولوا أن يمارسوا ما يسمى بـ"تأطير الوعي" عبر تكريس الرواية الإسرائيلية، ودعمها فكريًّا وثقافيًّا في الأوساط الجامعية عبر ممارسة كل أشكال الضغط والترهيب في حق الأصوات التي تريد أن تخرج عن هذا الإطار، أو التي تكشف زيف هذا الوعي أمام حقائق التاريخ والشرعية الدولية. وهذا ما عكسته بعض السرديات الإعلامية الغربية، من قبيل صحيفة "ليزيكو" الفرنسية التي عالجت هذا الموضوع من خلال النماذج الآتية:

- "حرب إسرائيل-حماس: مليارديرات أميركيون يضغطون على الجامعات".

- "هدَّد العديد من الشخصيات البارزة في وول ستريت بسحب التمويل من الجامعات الأميركية الكبرى لعدم إظهار الالتزام تجاه إسرائيل بعد هجوم حماس"(24).

في هذا السياق، كتبت صحيفة "فايننشال تايمز":

- "الجامعات الأميركية تخسر الملايين بعد قيام الجهات المانحة بسحب التمويل بسبب موقف حماس".

- "يقوم المانحون بسحب ملايين الدولارات من التمويل المبرمج للجامعات الأميركية لمعاقبتها على ردودها [السلبية] على هجوم حماس على إسرائيل"(25).

إن عملية قبر هذه الأصوات الفلسطينية، أو الداعمة لها، انتقل من الإعلام التقليدي، إلى الإعلام الجديد؛ إذ مارس المتحكمون في إنتاج هذه الخطابات، من خلال الخوارزميات الجديدة للذكاء الاصطناعي، عملية حجب أو محو لكل محتوى يتبنى الرواية الفلسطينية في مقابل إعلاء وتكريس للسردية الإسرائيلية.

إذن، نصبح مع القائم بالاتصال في الإعلام الغربي الجديد أمام تأطير جديد يتمثَّل في آليتين: "آلية التعمية"، و"آلية الإبراز". تكرس الأولى (التعمية) حجب صورة الواقع الفلسطيني بكل ما تعكسه من مآس ودمار وإبادة جماعية عن الرأي العام الدولي، وإخفاء أي صورة أو أي صوت ينطق بغزة أو بفلسطين. وتحاول الآلية الثانية (الإبراز) عبر المؤثرين وصنَّاع المحتوى الرقمي إبراز الرواية الإسرائيلية وترويجها على نطاق واسع.

لذلك يجد المتلقي نفسه أمام إعلان لـ"موت الواقع الفلسطيني"، وميلاد لواقع جديد، حيث مساحيق الواقع الافتراضي (الإسرائيلي) تعوض الواقع الحقيقي (الفلسطيني)، عبر المسح الكلي لذاكرة المتلقي من كل الإرث الواقعي الفلسطيني، ومحاولة إعادة ملئه بصور مصطنعة وسرديات تضليلية تتماهى مع الرواية الإسرائيلية. ويستصحب هذا الخداع والتضليل واقعًا زائفًا هو الإنكار المستمر للوجود الفلسطيني.

وقد أسهمت شركة ميتا، مالكة منصات "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب"، في دعم المحتوى الإسرائيلي، وذلك من خلال حذف أكثر من 795 ألف منشور داعم للقضية الفلسطينية باللغتين، العربية والعبرية، وصفتها بأنها مزعجة أو غير قانونية فيما يتعلق بالحرب على غزة. وقامت منصة "إكس" بإزالة مئات الحسابات المرتبطة بحركة حماس، كما حذفت آلاف المنشورات منذ هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة(26).

وبذلك نكون أمام حرب موازية للحرب التي تجري في غزة، وهي حرب بآليات جديدة يتم توظيفها في ساحة جديدة، أي الساحة الرقمية؛ إذ يُمارَس فيها كل أشكال "التمييز الرقمي"، و"الإبادة الرقمية"، و"حظر الظل" في حق كل محتوى يدعم الرواية/القضية الفلسطينية.

ويقصد بالآلية الرقمية الأولى (التمييز الرقمي) ممارسة كل أشكال التمييز بين الرواية الإسرائيلية والرواية الفلسطينية على مستوى البنية الرقمية، من خلال إعلاء الصوت الإسرائيلي على حساب الصوت الفلسطيني بناء على لغة الخوارزميات المبرمجة بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ يظهر التحيز في لغة الخوارزميات من خلال الدعم غير العادل وغير الأخلاقي للمحتوى الإسرائيلي على حساب المحتوى الفلسطيني.

في هذا السياق، تقول مديرة السياسات والمناصرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة "أكسس ناو"، مروة فطافطة: "لقد حوَّلت الحرب على غزة مساحات الإنترنت إلى ساحة معركة على الحقائق والروايات. شهدنا انفجارًا في خطاب الكراهية، وحملات الإقصاء (...) والمعلومات المضللة التي تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرير العنف الوحشي الذي أطلق العنان ضدهم. وبدلًا من حماية المستخدمين الفلسطينيين في مواجهة هذه الهجمات المتواصلة، ردَّت شركات التكنولوجيا من خلال قمع أصواتهم بشكل أكبر. وتأتي منظمة ميتا، على وجه الخصوص، في المرتبة الأولى بسبب رقابتها المنهجية والشديدة على الأصوات الفلسطينية. إن النهج التمييزي في التعامل مع المحتوى يحطم أي ادعاء متبق بشأن حياد شركات التكنولوجيا في أوقات الأزمات. إنهم ينحازون إلى أحد الجانبين، وغالبًا ما يكون ذلك ضد المضطهدين"(27).

أما الآلية الرقمية الثانية (الإبادة الرقمية)، فإن القائم بالاتصال، عبر المنصات الرقمية التابعة لـ"ميتا"، و"يوتيوب"، و"إكس"، و"تيك توك"، يمارس من خلالها تحييدًا للوجود الفلسطيني في العالم الرقمي/الافتراضي، أي حجب كل محتوى يساند القضية الفلسطينية، و"إبادة" الحسابات الفلسطينية ذات القاعدة الرقمية الكبيرة حتى لا تؤثر في الرأي العام الدولي، في مقابل السماح لخطاب الكراهية والعنف والعنصرية والإهانة، والتحريض على الإبادة الجماعية في غزة... عبر المنصات الرقمية دون إخضاعها للرقابة. ومن أمثلة ذلك ما صرح به نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي، نسيم فتوري، على منصة "إكس" ودعوته إلى إحراق غزة: "نحن إنسانيون للغاية"، "احرقوا غزة الآن"، "لا تسمح بدخول الوقود، ولا تسمح بدخول الماء حتى تتم إعادة الرهائن"(28).

أما بخصوص الآلية الرقمية الثالثة (حظر الظل) فقد استعملها القائم بالاتصال الرقمي للحد من انتشار السردية الفلسطينية على المنصات الرقمية. بمعنى أن توظيف هذه الآلية، في سياق الحرب على غزة، لا يرتبط بالهدف الذي أُنشِئت من أجله، وهو "تقييد المنشورات التي قد تكون غير مناسبة أو تنتهك قواعد المنصة الرقمية"، بل يُراد منها تقييد التفاعل على تعليقات ومنشورات بعض المستخدمين ممن يواظبون على نشر محتوى فلسطيني تراه المنصة مزعجًا بحكم انحيازها إلى الجانب الإسرائيلي.

إن التأطير الإخباري لا يقف عند القائم بالاتصال على مستوى التحيز للرواية الإسرائيلية، من خلال إعادة إنتاجها في العالم الرقمي والواقع الافتراضي ودعمه للشخصيات والأصوات الإسرائيلية على حساب الشخصيات والأصوات الفلسطينية، بل تجاوز ذلك إلى انتقاء القائم بالاتصال لبعض الأطر، في محاولة للتأثير على فهم المتلقين وطبيعة تقييمهم للأحداث، ومن ثم تكوين آراء واتجاهات بما يخدم خلفية المؤسسة الإعلامية. في هذا السياق، يذهب إدوارد هيرمان (Edward Herman) ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky) إلى أن القائمين على الاتصال "قادرون على تثبيت مقدمات الخطاب، وتحديد ما يُسمح لعامة الناس برؤيته وسماعه والتفكير فيه وإدارة الرأي العام من خلال حملات دعائية منتظمة" (...) تتعارض بشكل خطير مع الواقع(29).

لذلك لا ضير أن نجد مقدمات أغلب الخطابات الإعلامية الغربية تبدأ بسؤال يتم طرحه، لاسيما على الضيوف العرب، وتحديدًا على الشخصيات الفلسطينية: "هل تدين حماس؟"، وهو سؤال ينم عن توظيف لتأطير المسؤولية في شخص/الفاعل حماس تحديدًا، دون تجاوزها للفاعل الحقيقي في تفجير تلك الأحداث ممثلًا في إسرائيل. ولعل انتقاء الصوت العربي والفلسطيني دون الصوت الإسرائيلي والغربي بخصوص طرح هذا السؤال، والإصرار على الإجابة والإدانة قبل مواصلة المقابلات هو في الحقيقة انزياح صارخ عن مسار أخلاقيات المهنة، خاصة أن الضيوف، سواء الإسرائيليون أو الغربيون عمومًا، لا يتم مواجهتهم بسؤال مماثل عندما يتعلق الأمر بـ"الإبادة الجماعية" التي يمارسها الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني.

لذلك تظهر قصدية القائم بالاتصال في آلية الانتقاء هذه لغرض استمالة الرأي العام لإدانة حماس، وخلق تعاطف دولي مع الجانب الإسرائيلي، ومنحه "الحق في الدفاع عن نفسه". ونجد ذلك في تصريحات ومقابلات أغلب الرؤساء والشخصيات الدبلوماسية الغربية في الشهر الأول من الحرب على غزة؛ إذ أدانوا حركة حماس ونعتوها بـ"الإرهاب وداعش الجديدة"... وهذا ما يظهر أيضًا في مضامين معظم القنوات والصحف الغربية، التي تكرس هذه الأوصاف والنعوت في حق حماس لإعطاء المشروعية للجانب الإسرائيلي في ممارسة "حقه المشروع في إزاحة هذا التهديد الذي يشبه تهديد تنظم "الدولة الإسلامية" (داعش) والقاعدة"... ومن أمثلة ذلك ما أوردته صحيفة "لوموند"، في حوار أجرته مع النائب عن فرنسا الأبية، فرانسوا روفان، بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023: "كلامنا لا يرقى إلى مستوى جدية الأحداث في إسرائيل"، ودعا إلى استخدام عبارات قوية بخصوص "الأعمال الإرهابية التي ترتكبها حماس في إسرائيل، ويخشى من استيراد النزاع إلى فرنسا"(30).

وبعد يوم واحد فقط (11 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، نشرت "إيه بي سي نيوز" تقريرًا جاء فيه أن المدنيين في قطاع غزة يشعرون بالخوف نتيجة للضربات الإسرائيلية التي تستهدف "مقاتلي حركة حماس الإرهابية"(31). وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعاود صحيفة "الغارديان" تكرار مفردة "الإرهاب" لوصف هجوم حماس؛ إذ كتبت "حماس لم تتراجع أبدًا عن استخدام الإرهاب"(32). وبتاريخ 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عادت القناة الأميركية "سي إن إن" للحديث عن تيمة الإرهاب، على لسان الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد زيارته لإسرائيل؛ حيث أكد الرواية الإسرائيلية التي تفيد بأن المستشفى الأهلي في قطاع غزة تعرض "لصاروخ طائش أطلقته جماعة إرهابية في غزة"(33). كما نقلت إذاعة "إل بي سي"، تصريحًا للسفيرة الإسرائيلية لدى بريطانيا، تسيبي هوتوفلي، عن غزة التي وصفتها بـ"مدينة إرهاب فظيعة"، و"يجب تدمير كل مدرسة ومسجد ومنزل فيها"(34).

وكان تشبيه حماس بتنظيم "الدولة الإسلامية" حاضرًا بقوة في معظم السرديات الإعلامية الغربية، التي تماهت مع الرواية الإسرائيلية، لاسيما بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو: "حماس هي داعش"(35)، وهو الأمر الذي أصبح متواترًا في خطابات حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الأميركيون، مثل وزير الدفاع لويد أوستن، الذي أعلن أن ما فعلته حماس، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يُعد "أسوأ من داعش". وفي نفس السياق، صرَّح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن "تحالفًا دوليًّا شبيهًا بالتحالف الدولي الذي هزم تنظيمي القاعدة وداعش يجب أن ينشأ لهزيمة حماس"، وأن "إسرائيل ليست وحدها"، وأن "فرنسا مستعدة للتحالف الذي يقاتل داعش في العراق وسوريا أن يقاتل أيضًا ضد حماس"(36).

إذن، يتبيَّن أن معظم الخطاب الإعلامي الغربي، وهو يستند إلى إستراتيجية مبنية على تأطير القائم بالاتصال، يوظف مجموعة من الآليات التي تؤكد انحيازه إلى الرواية والأطروحة الإسرائيلية. ويوضح الشكل رقم (1) هذه الآليات كما وردت في نصوص العينة السابقة.  

11
شكل (1): آليات التأطير في نموذج القائم بالاتصال

إذا كان التأطير الإخباري، حسب إنتمان، يبدأ بالقائم بالاتصال، إلا أن أهمية هذا العنصر لا تكمن في ذاته، وإنما أيضًا فيما ينتجه من أنساق لغوية وأيقونية ورمزية... يُنظر إليها، أو على الأصح، يتم تبئيرها من زاوية منتجي ومحرري الأخبار.

ثانيًا: النص

يُشدِّد إنتمان على أهمية النص في تأثير تأطير الأخبار؛ إذ يمكن أن يؤدي دورًا مهمًّا في بناء وتشكيل الأخبار من خلال الاختيارات اللغوية والتعبيرات المستخدمة والاقتباسات، التي تقود للتأكيد على عناصر أو جوانب معينة في القصة الخبرية، ومن ثم تشكيل الفهم والانطباعات لدى الرأي العام.

إن عملية تشريح وتفكيك الخطاب الإعلامي الغربي أثناء تغطيته للحرب على غزة تكشف عمق الانحياز إلى الرواية الإسرائيلية؛ إذ إن معظم النصوص السردية الغربية تحمل جهازًا مفاهيميًّا إسرائيليًّا، أو يتساوق مع المعجم الإسرائيلي. وقد كشفت شبكة "بي بي سي" عبر حسابها على منصة "إكس" عن تحيز للجانب الإسرائيلي باعتماد معجم لغوي يتساوق مع هذا التماهي والتعاطف الراسخ؛ إذ جاء في إحدى التغريدات أن الإسرائيليين "تعرضوا للقتل" من طرف حركة حماس في حين وصفت الفلسطينيين بأنهم "ماتوا" بكل بساطة(37). وشتان بين الفعلين؛ إذ يشير الأول إلى "فعل إجرامي" (العنف، الإرهاب...)، أما الثاني فيكتسي طابعًا طبيعيًّا.

وبنفس اللغة المنحازة للسردية الإسرائيلية، تركز الخطابات الإعلامية الغربية على تسويق صور نمطية سلبية عن حركة حماس بشكل خاص، وعن الفلسطينيين بشكل عام، بوصفهم "عنيفين ومهووسين بالقتل وغير متحضرين"... في مقابل تصوير الإسرائيليين باعتبارهم "مسالمين ومحبين للحياة ومتحضرين...". وفي هذا الصدد، كتبت صحيفة "الغارديان" في افتتاحيتها مقالًا بعنوان: "الهياج القاتل الذي قامت به حماس"(38). وعلى نفس المنوال، تحدثت مجلة "الإيكونوميست" عن "الهجوم المتعطش للدماء من قبل حماس"(39). وعادت صحيفة "نيويورك تايمز" لتنشر تحقيقًا بعنوان مشابه: "صراخ بلا كلمات: كيف استخدمت حماس العنف الجنسي كسلاح في 7 أكتوبر"(40).

إن هذه اللغة غير البريئة تخفي وراءها تاريخًا مثخنًا بالجرائم والانتهاكات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، ومن أبرز محطاتها الإبادة الجماعية التي تُمارَس في حق الفلسطينيين في غزة، دون أن تتمكن هذه اللغة من الكشف عن المسكوت عنه ولو بعنوان مماثل "الهجوم المتعطش للدماء من قبل إسرائيل".

وذهب بعض الخطابات الإعلامية الغربية في تحيزه إلى انتقاء كلمات أبشع من القتل، من قبيل ما وصفته "إيه بي سي نيوز" في أحد تقاريرها بأن ما قامت به حماس ضد إسرائيل "مذبحة" (كيف تحولت ليلة من الرقص إلى أسوأ مذبحة مدنية في تاريخ إسرائيل)، وأن هجومها يُعد "هجومًا همجيًّا على مهرجان موسيقي في الهواء الطلق وُصف بأنه احتفال بـ"الوحدة والمحبة""(41). وفي نفس السياق، وبنفس المعجم اللغوي، نطالع في "فرانس 24": "لم أر مثل هذه الهمجية من قبل: المهمة المروعة لفرق الطب الشرعي الإسرائيلية"(42).  

إن انتقاء النماذج السابقة لمفردات لغوية بعينها (القتل والمذبحة والهمجية...) لتكون علامة وسمة لحركة حماس، ضمن إطار يعتمد آلية التكرار، هو محاولة لتشويه صورة حماس في ذهن المتلقي، والتأثير في وجدانه، ومن ثم توجيهه إلى الاقتناع بالقصة الإعلامية بطريقة تُصادق على تصور مُحدَّد للقضايا والأحداث الواقعة في غزة وغلافها.

وبالمقابل، يتم استعمال آلية أخرى عند التعامل مع الجانب الإسرائيلي، وهي آلية الإخفاء، فعوض الحديث عن "القصف" الإسرائيلي في غزة، يتم توظيف كلمة "انفجارات"، وفي ذلك إخفاء لأثر الجريمة، وطمس لمعالم هوية المسؤول عنها، ومن أمثلة هذا التوظيف ما ورد في قناة "بي بي سي"(43) من عبارات:

- "انفجارات بقطاع غزة في ظلام دامس".

- "أصوات انفجارات كبيرة تهز أجزاء من قطاع غزة".

في هذا السياق، تؤكد دراسة الباحث الأميركي، ويليام يومانز، أن طبيعة المفاهيم والمصطلحات الموظفة وتواردها بشكل مكثف ينم عن تحيز للرواية الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، تم ذكر "الاحتلال" 15 مرة فقط في البرامج الحوارية لكل من "إن بي سي"، و"سي بي إس"، و"إيه بي سي"، و"فوكس نيوز"، في مقابل، كلمة "رهائن" التي وردت 529 مرة، أي بمعدل 35 إشارة مقابل إشارة واحدة لكلمة "احتلال". وذُكِرت كلمة إسرائيل 2282 مرة، في مقابل كلمة "حماس" بمقدار النصف (1108 مرات). أما عبارة "وقف إطلاق النار" فوردت 94 مرة فقط، أو أقل منها بالنصف (برنامج "فوكس نيوز صنداي")؛ إذ عارض الضيوف الفكرة بشدة. والأكثر ندرة، حسب الباحث يومانز، هو مصطلح "الإبادة الجماعية"، الذي ذَكَره الضيوف 23 مرة فقط، ولم يُذْكَر إلا مرة واحدة لوصف سلوك إسرائيل في غزة(44).

وبلغة الأرقام أيضًا، نشر موقع "ذا إنترسبت" الأميركي، المختص بالاستقصاء الصحفي والنقد السياسي، تحليلًا علميًّا لأكثر من 1000 مقال في ثلاث صحف أميركية واكبت الحرب على غزة، وهي: "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"لوس أنجلوس". فاعتمادًا على برمجيات دقيقة، خلص فريق البحث إلى أن هناك انحيازًا تامًّا لهذه الصحف للرواية الإسرائيلية. رغم واقع عدم التناسب بين طرفي الصراع في غزة (بين دولة احتلال وشعب وقع عليه الاحتلال)، والدمار الواسع الذي أحدثته إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني على جميع المستويات (إبادة المنازل، وتدمير البنية التحتية، وتهجير قسري، وإبادة جماعية...)، فإن واقع السرديات أقوى من سرديات الواقع ويتعالى عليه بوصفه أنظف وأطهر من أن تلصق به بشاعة المشهد الذي يغزو غزة. ولذلك، فواقع السرديات هو الذي يتم تقبله وتمريره بوصفه الشاشة الوحيدة التي يجب أن تُرى، أما ما عدا ذلك، فهو سراب وغير حقيقي. ولذلك تجد "من بين كل اثنين من الضحايا الفلسطينيين، يُذكر الفلسطيني مرة واحدة، بينما يرتفع المعدل إلى ثماني مرات لكل قتيل إسرائيلي واحد، أي بفارق يبلغ 16 ضعفًا. وقد كان هذا الرقم دالًّا بشكل واضح على الفارق في قيمة حياة الإسرائيلي مقارنة بالفلسطيني"(45).

كما كشف التقرير عن تحيز السرديات الإخبارية الغربية للرواية الإسرائيلية، من خلال آلية التكرار، وخلص التحليل إلى أن "كلمة "مجزرة" استخدمت من قبل المحررين والمراسلين في الصحف الثلاث لوصف العمليات التي حدثت في السابع من أكتوبر، بواقع 60 مرة مقابل مرة واحدة للمجازر الإسرائيلية في غزة. أما كلمة "مذبحة"، فاستخدمت بفارق 125 إلى اثنين فقط. أما كلمة "مروع"، فارتبطت بالضحايا الإسرائيليين بواقع 36 مرة وأربع مرات فقط في سياق الحديث عن الضحايا الفلسطينيين، الذين خصصت لهم، بحسب الصحفي آدم جونسون، لغة جافة وصياغات سلبية"(46). ويبدو لافتًا أن تجد في "مجموع المقالات التي ذكرت الأطفال الفلسطينيين في عناوينها من بين 1100 عنوان جرى تحليلها هو مقالان فقط. والأمر ذاته ينطبق على الصحفيين"(47). 

إن لغة الأرقام هذه لها دلالة سيميولوجية من خلال رمزيتها في رفع أسهم الرواية الإسرائيلية على حساب أفول الرواية الفلسطينية. لكن لغة الأرقام ليست الوحيدة التي تكشف تحيز السرديات الإعلامية الغربية، بل نجد هذه الأخيرة تعتمد أيضًا تقنيات وآليات أخرى تكتسي أهمية بالغة، من قبيل آلية الإبراز التي تعتمدها لترسيخ "الفعل العدواني" في شخص/الفاعل (حماس) لدى الرأي العام الدولي، ووصمه بكل النعوت والأوصاف التي تجعل منه المسؤول المباشر عن الأحداث التي وقعت في غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ بالمقابل جعل إسرائيل في موضع المفعول به، الذي يستلزم "التعاطف معه ومساندته". ولذلك جاءت اللغة ومفرداتها لتعكس علاقة هذا الفاعل بالمفعول به، ومن أمثلة ذلك توظيف الخطاب الإعلامي الغربي لكلمات ومفردات لغوية متحيزة في وصف حماس بالحركة "الإرهابية" وبـ"داعش" كما رأينا سابقًا، وبـ"الحيوانات البشرية" ("قتل أطفال رضع" و"اغتصاب نساء إسرائيليات")، وأيضًا بـ"القاعدة" في محاولة لاستدعاء أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001 واستصحاب سياق معين يتطلب اتخاذ إجراءات وخطوات سياسية وقانونية معينة ضد حماس.   

في هذا السياق، نجد "رئيس الوزراء الإسرائيلي في إحدى كلماته خلق نوعًا من التناظر مع خطاب جورج بوش الابن الذي قسَّم فيه العالم إلى محور للخير ومحور للشر، حينما اعتبر أن حرب إسرائيل الحالية على غزة هي حرب بين "أبناء النور وأبناء الظلام"، ولن تتوقف حتى "يتغلب النور على الظلام"(48). وهذه السردية، التي نقلتها القناة الأوروبية "يورونيوز" (Euronews)، كررها الرئيس الأميركي، جو بايدن، عندما ربط بشكل صريح بين أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول التي ضربت الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث اعتبرها بايدن "11 سبتمبر الإسرائيلية"، مستدركًا أنها بالنسبة لحجم إسرائيل تفوق ما وقع في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في أميركا(49).

وهذا الانحياز إلى الجانب الإسرائيلي، لم يقتصر على الرئيس بايدن، ولا حتى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي كرر نفس خطاب نتنياهو وبايدن، بل نجد أيضًا الخطاب الإعلامي الغربي يتماهى مع نفس المونولوج السياسي الإسرائيلي. فقد وصفت المجلة الأميركية "ذا نيشن" ما قامت به حماس بـ"توغل سافر يمكن مقارنته بالهجوم الإرهابي الذي شنَّه تنظيم القاعدة على أميركا في الحادي عشر من سبتمبر"، بل ارتكبت حماس المزيد من "جرائم الحرب" باختطاف المدنيين. ومنحت المجلة الحق لنتنياهو في استخدام القوة الغاشمة ضد غزة مثلما فعل جورج بوش الابن في العراق(50).

وفي نفس السياق، وبلغة الانحياز أيضًا، تنشر المجلة الفرنسية "لوبوان" مقالًا تحت عنوان: "نحن جميعًا إسرائيليون"، وفي ذلك استحضار لعبارة مماثلة قيلت بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001: "كلنا أميركيــون"، إلا أن المجلة الفرنسية تذهب بعيدًا في بلاغتها المنحازة للجانب الإسرائيلي، حينما اعتبرت "أن عدد الضحايا في إسرائيل، مقارنة بعدد سكانها، أكبر من عدد ضحايا هجوم نيويورك بالنسبة لأميركا"(51).

نلاحظ هنا استخدام تقنية التناص؛ إذ تحاول الرواية الإسرائيلية، ومن خلالها السرديات الإخبارية الغربية، أن تتشبَّع بنصوص سياسية أخرى (خطاب بوش الابن) وبأحداث مماثلة (أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001)، يتم من خلالها تأطير الأخبار الإعلامية في اتجاه إعطاء المشروعية لحشد تحالف دولي، كما حدث سابقًا في عهد بوش الابن، لمحاربة "الإرهاب" في شخص/الفاعل (حركة حماس)، ومن خلالها "محور الشر" (الجهات الداعمة لها).

إن توظيف آلية التناص في النصوص السردية الغربية يكشف تحيزًا للرواية الإسرائيلية؛ إذ تُسهم في تأطير حماس ضمن تنظيمات تصنف إرهابية، مثل تنظيم الدولة والقاعدة، وبكونها أقرب إلى "الحيوانات البشرية"... ويجعل الطرف الآخر (إسرائيل) في موضع "الضحية"، حتى "أصبحت أُسُس القوة المعيارية للعالم الغربي: "مَنْ ليس مع إسرائيل فهو ضدنا" (ضد العالم الغربي)، و"من لا يُدين حماس فهو إرهابي"، و"من يتعاطف مع أهل غزة فهو يكره إسرائيل" ويدعم الإخوان المسلمين، و"من يتظاهر لوقف الحرب على غزة فهو ضد مصالح الأمن الإسرائيلي"، و"من لا يدعم الحرب ضد الحيوانات البشرية والإبادة الجماعية فهو ضد وجود دولة إسرائيل"، و"من يُدِنْ إسرائيل فهو معاد للسامية"، و"من يُدن الصهيونية فهو ليس منَّا"(52).

إذن، بين آلية التكرار وآلية التناص، وبين آلية الإخفاء وآلية الإبراز، يكمن خطر التأطير الذي تمارسه معظم السرديات الإخبارية الغربية، من خلال إنتاج مفاهيم وعبارات تحدد صورًا نمطية يُراد لها توجيه الرأي العام الدولي لإدانة حركة حماس من جهة، والتعاطف مع إسرائيل من جهة أخرى. ولذلك جاءت هذه الآليات لتعكس تلك الصور النمطية كما هو مبين في الشكل رقم (2).

22
شكل (2): آليات التأطير في نموذج النص

ثالثًا: المتلقي/الثقافة

إذا كانت آليات التأطير الموجودة في النص، كما رأينا سابقًا، توجه تفكير المتلقي وفهمه، إلا أن فاعلية التأثير لا تتحقق بشكل كبير إلا عندما يتم تأطيرها ضمن نسق ثقافي ينتمي إليه ذلك المتلقي. ولعل الانطلاق من هذه القناعة هو الذي جعل السرديات الغربية تحاول وضع المتلقي ضمن أطرها الإخبارية في محاولة للتأثير عليه، وتوجيهه نحو تبني منظورها الخاص. ويتميز هذا المنظور بإثارة مخزون الأعراف والقيم الثقافية التي تشكل مرجعيته. فعندما تلجأ وكالة "رويترز" في تغطيتها للمقابلة التي أجرتها مع الأسيرة الإسرائيلية-الفرنسية، ميا شيم، التي أُطلق سراحها في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023، اختارت بشكل قصدي أن تنقل تفاصيل المقابلة، بعنوانين:

- الأول (ورد في النسخة العربية): "(اغتصبني بعينيه) رهينة إسرائيلية سابقة تروي تفاصيل احتجازها لدى مسلح حماس"(53).

- الثاني (ورد في النسخة الإنجليزية): "رهينة إسرائيلية سابقة تقول إنها كانت تخشى أن يغتصبها خاطفها في غزة"(54).  

في المثالين، نجد اختلافًا على مستوى تأطير المتلقي؛ إذ إن فعل الاغتصاب بخصوص المتلقي العربي، بقي في حالة الفعل اللازم (حاسة العين)، ولم يتطور إلى الفعل المتعدي. أما بخصوص المتلقي الغربي، فيتغير فعل النظر إلى محاولة معايشة كل أنواع الرعب من أي إقدام على فعل الاغتصاب؛ مما يجعل المتلقي، أمام ما يُسمَّى في الأدبيات السيكولوجية، بـ"التداعي الحر"؛ إذ يمكِّن هذا العنوان المتلقي الغربي بأن يسرح بخياله لِتَمَثُّل أبشع الصور الممكنة التي تحوم حول فعل الاغتصاب، الذي يمكن أن يُقدم عليه أحد أفراد حماس في حق الأسيرة، لاسيما إذا تمَّ ربط ذلك بالصور النمطية السابقة لأفراد حماس (الإرهابيون، البربريون، المتعطشون للعنف والقتل والاغتصاب...) في حين أن واقع الأمر، لا يعدو أن يكون الفعل حبيس النظر ليس إلا.

إذن، يتبيَّن أن صيغة وضع العناوين تُعد آلية من الآليات المعتمدة في التأطير الممارس في السرديات الغربية للتأثير على المتلقي بناء على نسقه الثقافي العام (عربي/غربي)، إلا أن أوج التأثير يحدث عندما يتم إثارة قضايا حساسة في هذه الأنساق الثقافية من قبيل سؤال الدين وسؤال الهوية وسؤال العرق.

في هذا الصدد، نجد أن أغلب السرديات الإخبارية الغربية استثمرت هذه الثيمات لتُحَوِّلها إلى أطر معالجة للحرب على غزة؛ إذ تمَّ التركيز في التأطير الإخباري للخطاب الإعلامي الغربي على ما يُسمى بـ"التأطير الديني"، من خلال جعل المتلقي يتعاطف مع الإسرائيليين بوصفهم "ضحايا الإرهاب" بالتركيز على طريقة التعامل مع الجثث طبقًا للشريعة اليهودية، عبر إبراز صور من معهد التشريح الطبي الشرعي في تل أبيب، تعكس الجانب الطقوسي في الديانة اليهودية، التي تعتني بالإنسان وبكرامته حتى بعد الممات، وفي ذلك ترويج للبعد الإنساني الذي يميز الثقافة والديانة اليهودية، في مقابل "الوحشية والحيوانية" التي تؤطر سلوك حماس. ولا أدل على ذلك من سيل العناوين التي هاجمت بها معظم الصحف الفرنسية الأصوات التي تغرد خارج سرب الرواية الإسرائيلية لتنعتها بأوصاف من قبيل معاداة السامية. وأبرز مثال ما كتبته بعض الصحف الفرنسية عن السيد جون لوك ميلانشون، (Jean-Luc Mélenchon) بوصفه أحد الزعماء السياسيين الفرنسيين الذين وقفوا ضد إسرائيل في الحرب على غزة؛ إذ اعتبرت تصريحاته:      

- "مشبعة بالقوالب النمطية المعادية للسامية" (ميديا ​​بارت، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023).

- "معاداة السامية: كيف يزرع جون لوك ميلانشون الغموض"، (لوموند، 4 يناير/كانون الثاني 2024)(55).

تم التركيز أيضًا في معظم السرديات الإخبارية الغربية على التأطير العرقي، من خلال ما تعرض له اليهود سابقًا، في إطار محرقة الهولوكوست، من تطهير عرقي على يد النظام النازي، وتحاول تثبيت نفس التمثُّلات لدى المنتظم الدولي من خلال عملية "طوفان الأقصى" عبر تأطير يعكس نفس المظلومية في حق اليهود، الذين يتم تقديمهم "ضحية للعدوان الذي مارسته حماس في حق هذا الشعب المسالم".

ركز الإعلام الغربي على هذه الصورة منذ الأسبوع الأول من الحرب على غزة؛ إذ تجندت الرواية الإسرائيلية، وبعدها السرديات الغربية، في إبراز ما تُسمِّيه بشاعة "المأساة والتراجيديا" التي أنجزتها عملية "طوفان الأقصى"، من "اغتصاب النساء الإسرائيليات"، و"قطع رؤوس الأطفال الأبرياء"، و"إحراقهم في أفران"... وفي ذلك توظيف لآلية التناص، التي تستدعي نصوص ووقائع مماثلة لما مارسته النازية من مجازر في حق اليهود، والتنكيل بأجسادهم وحرقهم في أفران في أكبر عملية تطهير عرقي.

إن هذا التماثل والتناظر في الأحداث هو الذي يعطي المشروعية لإسرائيل لحشد الرأي العام الدولي، كما وقع ذلك مع النازيين، للقضاء على حماس بوصفها تهديدًا للعرق اليهودي. ويمكن التمثيل لهذا التأطير العرقي، عبر آلية التناص، بالوصف الذي ورد في مجلة "التايم " لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ إذ "خلال هجوم حماس، قتل الإرهابيون عمدًا الأطفال واغتصبوا النساء. ويدعو ميثاقها إلى تدمير الدولة اليهودية"(56).

إذن، تحرص معظم السرديات الغربية على استحضار ما يُسمِّيه كارل غوستاف يونغ (Carl Gustav Jung) بـ"اللاوعي الجمعي"، أي بنَى العقل الباطن أو الذاكرة الجمعية التي يتقاسمها جمهور معين في سياق ثقافي. إن الأمر هنا يتمثَّل في كل الإرث الثقافي الذي يحمله الغرب بكل قيمه وأعرافه ومواجعه (حروب، جرائم...). ولعل أهم هذه المواجع التي يتم من خلالها استثارة عواطف وشجون المتلقي الغربي هو محرقة الهولوكوست، والتي يتم ربطها بعملية "طوفان الأقصى"، باعتبار أن ما يتعرض له اليهود هو "هولوكوست جديد" من إخراج حماس. ولذلك، على الغرب، بناء على ما يجمعهم في إطار "نحن"، أن يتجندوا لمواجهة "هم" (حماس). وهذا ما يمنح الغطاء السياسي والعسكري والإعلامي لتبرير كل أشكال القتل والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في حق الفلسطينيين.

وينتج عن هذا التأطير للخطاب الإعلامي الغربي خلط عمدي بين اليهودية (ديانة)، والصهيونية (اتجاه قومي عنصري)، وخلط بين النضال من أجل استرجاع الحق المغتصب ومعاداة السامية. وفي هذا السياق، يقول الأكاديمي الألماني، دانييل مارويسكي (Daniel Marwecki): "عندما يتحدث السياسيون الألمان اليوم عن إسرائيل، فإنهم يفعلون ذلك من وجهة نظر أخلاقية، ويعتقدون جميعهم أن الدفاع عن إسرائيل هو الأمر الصحيح الذي يجب القيام به من الناحية الأخلاقية بسبب الماضي الألماني"(57).  

وهنا، نخلص إلى أن عملية التأثير في الرأي العام في معظم الخطاب الإعلامي الغربي تتم عبر استثارة ثيمات مرتبطة بالأنساق الثقافية التي تؤطر لا وعي المتلقي؛ إذ تجعله مُسَيَّجًا ضمن أطر تحددها آليات توجيهية، يكون الغرض منها تثبيت التفسيرات التي تريدها المؤسسات الإعلامية. وهو ما يعني فرض سقف للتأويل، أو "حدود التأويل"(58) بحسب المصطلح الذي يستخدمه السيميولوجي الإيطالي، أمبيرتو إيكو (Umberto Eco). أي إن معظم النصوص السردية الغربية، كما تشير العينة المدروسة، تحاول أن تحدد سقف التأويل لدى الجمهور المتلقي، من خلال مجموعة من الأنساق العرفية والثقافية التي تشي بمعان ودلالات لها مرجعها في لا وعي المتلقي الجمعي. بمعنى أن السرديات الإعلامية الغربية تحاول، عبر أطرها الإخبارية وآلياتها، أن تخندق الجمهور المتلقي، وتُسَيِّج حدود التأويل الذي تريده من خلال مسارات التلقي والقراءة لدى هذا الجمهور. ولذلك جاءت آليات التأطير المعتمدة في العينة المدروسة لتراهن على تسقيف التأويل لدى الجمهور في حدود الأنساق العرفية والدينية والثقافية التي تحمي إسرائيل من أي "تهديد إرهابي"، ومن أية محرقة جديدة.

33
شكل (3): آليات التأطير في نموذجي المتلقي/الثقافة

انطلاقًا من النماذج التي رصدتها عينة الدراسة، عبر مستويات التأطير التي حددها إنتمان في القائم بالاتصال والنص والمتلقي والثقافة، يتبيَّن أن انحياز معظم الخطابات الإعلامية الغربية للرواية الإسرائيلية لم يأت من فراغ، وإنما من خلال تجنيد هذه الخطابات لمدونة من الآليات المتنوعة والمتعددة، التي تشي بدلالات مشبعة بإيحاءات رمزية، يتم على ضوئها تصنيف إسرائيل باعتبارها "مصدر الخير والسلم والحضارة"... وتصنيف حماس بوصفها "مصدر الشر والعنف والهمجية وكل الشرور"... وتبرز أهمية التصنيف، في هذا السياق، في تجميد تمثُّلات المتلقي، وحصرها ضمن صور ثابتة تخضع دائمًا لإعادة الإنتاج.

ويبدو أن معظم الخطابات الإعلامية الغربية نجحت في ذلك، خلال الأسابيع الأولى من الحرب على غزة؛ إذ أسهمت، عبر آليات التأطير، في خلق تصنيفات، يُراد لها، من جهة مساندة إسرائيل ودعمها في حربها على غزة. ومن جهة أخرى، حشد التأييد لِوَسْم حماس بأوصاف سلبية ودَمْغِها بعلامة "التنظيم الإرهابي"، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والقاعدة...وذلك للتضييق عليها، وإخراجها من المشهد الفلسطيني.

جدول (1): الأوصاف المنبثقة عن مستويات التأطير الأربعة (القائم بالاتصال والنص والمتلقي والثقافة)

م

الإسرائيليون

حركة حماس

1

نحن

هم

2

الضحايا

الجناة

3

أبناء النور

أبناء الظلام

4

المسالمون

القتلة

5

الأبرياء

المجرمون

6

قوى الخير

قوى الشر

7

الحضارة

البربرية

8

متحضر

همجي

9

مواطنون متشبعون بقيم إنسانية

حيوانات بشرية

10

دولة ديمقراطية

جماعة إرهابية

إن هذه الثنائيات، وغيرها من الصور النمطية التي تطفح بها لغة السرديات الإخبارية الغربية، تُعد محاولة لِشَيْطَنَة المقاومة الفلسطينية ودَعْشَنَتِها بوصفها "جماعة إرهابية متشددة تنتمي إلى قوى الشر"، ولا تجيد إلا "الأفعال الهمجية والبربرية" في حق "دولة ديمقراطية متحضرة ومسالمة". وهذا يُشَرْعِن لإسرائيل -بوصفها "ضحية الأفعال الإرهابية"- حق الدفاع عن نفسها من خلال حربها على "الإرهاب"، ويبرر سلوك الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

إن هذه الصور النمطية التي تنتجها معظم النصوص السردية الغربية تمارس ما يسمى بـ"آلية التعمية"، وهي آلية يتم من خلالها تعمية الرأي العام الدولي (حجب صورة الواقع) عن سلسلة من الانتهاكات والجرائم وكل أشكال التهجير القسري والإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين. كما تمارس التعمية عن حقيقة عملية "طوفان الأقصى" بوصفها رد فعل عن 75 سنة من الاحتلال، وليس وليد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

بناء على هذا التضاد في التصنيفات والأوصاف يتبيَّن أن اختيار أطر وآليات بعينها كشف عن قصدية الانحياز في معظم الخطابات الإعلامية الغربية للرواية الإسرائيلية. وتُعد هذه القصدية نتيجة أسباب متعددة، أهمها:

- غياب استقلالية وسائل الإعلام عن السلطتين، السياسية والمالية.

- تأثير الدبلوماسية الإسرائيلية وضغطها على المؤسسات الإعلامية الغربية.

- سيطرة الجماعات الضاغطة (اللوبي الصهيوني) على السياسة الأميركية وقراراتها الداخلية (الانتخابات) والخارجية (الدفاع عن إسرائيل).

- سيطرة الشركات ورؤوس الأموال ذات الصلة بإسرائيل على الإعلام الغربي.

- تنامي الأحزاب اليمينية في عدد من الدول الأوروبية أسهم في التماهي مع اليمين المتطرف في إسرائيل (الأحزاب الحاكمة في إسرائيل).

- ارتباط معظم القنوات والصحف الغربية بالتوجهات السياسية اليمينية.

- تراجع هامش حرية الصحافي داخل المؤسسات الإعلامية، وتراجع التنظيمات النقابية والمهنية للدفاع عنه داخل هذه المؤسسات (غياب التضامن مع الصحافيين المفصولين عن عملهم بسبب موقفهم المعارض للتغطية الإعلامية المنحازة لإسرائيل(.

- صورة اليهود في اللاوعي الجمعي (التعاطف الإنساني مع اليهود الذين تعرضوا للهولوكوست).

4. تحولات الخطاب الإعلامي وتمثلاته للحرب على غزة   

تؤكد نظرية التأطير، كما صاغها غوفمان، أن الأفراد يفسرون العالم من حولهم من خلال منظومة من "الأطر الأولية"، وهي البنى العقلية التي تشكل إدراكهم وفهمهم. ولا تُعد هذه الأطر ثابتة، بل تتشكل باستمرار من خلال تمثُّلات جديدة. وهذه التمثلات لا تتأتى من فراغ، وإنما بناء على التفاعلات التي تحدث مع مجالات الإدراك، والمقصود بها هنا الحرب على غزة. ولذلك، فالتحولات التي تقع مع حركية الأحداث في غزة، تُنتِج مواقف متعددة على المستوى السياسي تؤثر في طبيعة التمثلات على مستوى سرديات الخطاب الإعلامي.

إن الانطلاق من زاوية المعالجة هذه، تسمح -من خلال مفردات عينة الدراسة- بتتبُّع سيرورات التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي، ورصد مدى تأثيراتها في توجيه الرأي العام الغربي بحسب تطورات الأحداث في غزة. فقد حاولت معظم السرديات الغربية، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي مع بداية "طوفان الأقصى"، أن تُنتِج إطار المسؤولية(59). وهو إطار يُحمِّل حركة حماس مسؤولية الأضرار التي وقعت في غزة وفي غلافها من "تقتيل واغتصاب وأسر وتدمير"... لذلك عمل الخطاب الإعلامي الغربي على تجريد الذات الفلسطينية من إنسانيتها؛ من خلال شَيْطَنَة الفعل الفلسطيني ودَعْشَنَتِه، ومحاولة تشكيل تمثُّل جديد لدى الرأي العام الدولي يتم من خلاله وَسْم حركة حماس بهوية تماثل تنظيم "الدولة الإسلامية"، أو القاعدة، وليس بوصفها حركة تحرُّر مثل مثيلاتها في العالم. ولذلك، لا غرابة أن نجد معظم القنوات الإخبارية الغربية تستهل مقدمة حواراتها، لاسيما مع الضيوف الفلسطينيين أو العرب، أو حتى الغربيين الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية، بسؤال: "هل تدين حماس؟". ويبدو لافتًا أن القائم بالاتصال يُلْزِم الضيوف ويصر على فعل الإدانة، وفي حالة السلب، يتم تكرار السؤال لمرات عديدة، أو يتم في بعض الأحيان إيقاف البرنامج. وذلك أكبر صور التحيز للرواية الإسرائيلية، الذي وصل إليه هذا النوع من الخطابات الإعلامية الغربية بعد أن ضرب بأخلاقيات وقواعد المهنة عرض الحائط.

ومن تجليات هذا التحيز أن أفرز إطارًا جديدًا هو إطار الشرعية، أي "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وقد أشارت إليه معظم الصحف الغربية، مثل مجلة "لوبوان" التي رأت "أن الرد الإسرائيلي يجب أن يكون بمستوى هذه الجريمة، وأن العمل الشنيع الذي ارتكبته حماس لا يترك مجالًا لأي حذر عملياتي. وعلى إسرائيل أن تكون عدوانية جدًّا"(60).

ولذلك، انشغل هذا الإعلام بنزع الشرعية عن حماس، من خلال خلق تمثُّلات تشوِّه صورة الحركة أمام الرأي العام الدولي بوصفها "حركة إرهابية تهدد السلم العالمي" مثل تنظيمي الدولة والقاعدة. ولذلك حرصت معظم السرديات الغربية، اعتمادًا على آليات متعددة من صور وشهادات واقتباسات وجدلية الإبراز والإخفاء- على تبئير أعداد القتلى والجرحى والأسرى الإسرائيليين، وصور لـ"أطفال رضع برؤوس مقطوعة أو محروقة، وصور لنساء إسرائيليات تم اغتصابهن"، وتصوير لحجم الكارثة التي حلَّت بمستوطنات غلاف غزة... لإقناع الجمهور بأن ما أقدمت عليه حماس في إطار عملية "طوفان الأقصى" هو "هجوم إرهابي".

كل ذلك، مهَّد لبروز إطار آخر، هو "إطار الصراع"، الذي يحاول أن يجعل الصراع محددًا بين دولة إسرائيل وحماس، باعتبارها "حركة إرهابية". وفي ذلك إغفال مقصود للسياق الذي جرت فيه عملية "طوفان الأقصى"، بمعنى أن معظم السرديات الغربية تحاول أن تؤطر خطابها خارج السياق، وكأن الحرب على غزة هي بين طرفين: الأول، وهو "الضحية" التي تم الاعتداء عليها (إسرائيل)، والثاني هو "الجاني الإرهابي" (حركة حماس)، وأن هذا الحدث وقع بشكل فجائي، ودون اعتبار للشروط التاريخية السابقة التي أفرزته، وكأن الصراع بدأ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول ، وليس قبل 75 عامًا من الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين، وأن الصراع أيضًا مع "حركة حماس الإرهابية"، وليس مع الدولة الفلسطينية بكل فصائلها (بما في ذلك حماس). 

بعد ذلك، وفي إطار حركية الأحداث، كان لابد أيضًا لسيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي أن تُنتِج أُطرًا أخرى تتماهى مع الرواية الإسرائيلية، ومن بينها "التأطير الحربي"، الذي تزامن مع القصف الجوي والبحري الإسرائيلي، وبعد ذلك الاجتياح البري لكل مناطق غزة، والذي ترتب عنه تهجير قسري وتطهير عرقي، وقتلى وجرحى بالآلاف، وإبادة جماعية في حق الفلسطينيين، ودمار كلي للبنيات التحتية لغزة.

تمَّ تسويغ هذه الانتهاكات إعلاميًّا بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وكأن الأمر يتعلق بطرفين متعادلين في موازين القوى الحربية، بينما يفتقد في الواقع إلى الندية؛ إذ تخوض إسرائيل الحرب على غزة كدولة تتوفر على أحدث الآليات والتجهيزات الفائقة الدقة، وتتلقى الدعم ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا واستخباراتيًّا وإعلاميًّا من قِبَل أكبر الدول العظمى، أمام طرف لا تتوافر لديه أدنى هذه المؤهلات للدفاع عن نفسه. ومع ذلك، نجد معظم الخطابات الإعلامية الغربية توظف لغة متحيزة لإسرائيل، من خلال جعل الطرفين (إسرائيل وحماس) يتمتعان بنفس شروط وقوانين الحرب. وبرز هذا التحيز في معظم الخطابات الإعلامية الغربية التي تطفح بعناوين من قبيل:

- "الحرب بين إسرائيل وحماس" (سي إن إن)(61).

- "أخبار الحرب بين إسرائيل وحماس" (نيويورك تايمز)(62).

- "مستجدات الحرب بين إسرائيل وحماس" (سي إن بي س)(63).

- "الحرب بين حماس وإسرائيل" (لوبوان)(64).

إن هذا الاختيار الموحد في عناوين معظم الخطابات الإعلامية الغربية، ليس صدفة، بل مبنيًّا على قصدية تحاول من خلالها تأطير الحرب بين جهتين تتمتعان بالندية وتوازن القوى وتوازن الصراع في حين أن "لا قياس مع وجود الفارق"، كما يقول البلاغيون، لأننا أمام جهة (إسرائيل) تمتلك كل شيء، وجهة (حركة حماس) تفتقد لأغلب الآليات والدعم اللوجستي وغيرها من الشروط التي تسمح لها بالدخول في حرب تناظرية من موقع قوة. كما أن تأطير الصراع بين إسرائيل وحماس فقط، دون إقحام باقي الفصائل الفلسطينية الأخرى، هو محاولة لحشر حركة حماس في زاوية منعزلة عن السياق العام للنضال الفلسطيني.

لكن هذه اللغة المتحيزة لإسرائيل ما لبثت أن تغيرت حماستها، بفعل ما حدث ويحدث في إطار حركية وسيرورة الأحداث التي تقع في غزة، وتداعياتها على الصعيدين، الإقليمي والدولي. فالانزلاقات التي سقطت فيها معظم السرديات الإخبارية الغربية، من خلال تبنيها للرواية الإسرائيلية، والتي دحضتها الوقائع والأحداث، لاسيما السرديات اليومية التي تنقلها بعض القنوات العربية (الجزيرة نموذجًا)، أو من خلال جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، والاعتذارات المتتالية لبعض كبريات القنوات الدولية، التي كانت بالأمس القريب، تشكِّل مرجعًا للالتزام بقواعد المهنية، جعل جزءًا كبيرًا من الرأي العام الدولي، بمن فيهم فئة من اليهود، تعيد النظر في الرواية الإسرائيلية، وتحاول أن تتبنى الرواية الفلسطينية.

في هذا السياق، أظهرت نتائج استطلاع رأي أجرته مؤسسة يوغوف (YouGov) حول اتجاهات طلبة الجامعات في بريطانيا بخصوص الحرب على غزة، بعد أقل من 10 أيام على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أن نسبة 39% من الجيل الشاب (18-24 عامًا) تتعاطف مع الفلسطينيين مقابل 11% من الفئة فقط ذاتها تتعاطف مع الإسرائيليين(65)، أي حوالي 4 أضعاف. وهذا له دلالة حول تغيُّر تمثُّلات هذه الجيل الشاب الذي بدأ يتصاعد في اتجاه دحض الأساطير التي بُنِيت عليها الرواية الإسرائيلية. 

لذلك كان لابد، في ضوء هذه المتغيرات المستجدة، أن تكشف حقيقة إسرائيل، وتكشف زيف معظم السرديات الغربية التي مارست مساحيق التجميل على أحداث غزة، وأن تواجه بالرفض والنقد... لاسيما لما شرعت أصوات فلسطينية وعربية أو حتى غربية في المشاركة بالنقاش العام، كتابة وتحليلًا ونقدًا لتوضيح حقيقة ما يقع، وما وقع سابقًا قبل 75 سنة من الاحتلال الإسرائيلي الذي تمَّ تقطيعه وحجبه عن عدسات معظم القنوات والصحف الغربية، والوقوف عند مجموعة من أشكال التضليل والزيف التي لحقت إعلاميًّا بحركة حماس في بداية الأحداث، وتم الكشف عن حقيقتها فيما بعد أمام الرأي العام الدولي بوصفها من صناعة البروباغندا الإسرائيلية ليس إلا.

كل ذلك أدى إلى إسقاط مجموعة من الأقنعة التي تقمصتها إسرائيل لخداع المنتظم الدولي. ولعل أهمها هو الظهور بوجه "الضحية" أمام "الإرهابي"، وبوجه "المدافع عن نفسه، وعن دينه، وعن عرقه"، من أية "همجية ودعشنة ومحرقة جديدة". كما أن السرديات اليومية التي تنقل ما يجري حقيقة على أرض غزة، لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي، أسهمت في تغيير تمثلات لصيقة بالرواية الإسرائيلية، واتجهت نحو تبني تمثلات أخرى، ولا أدل على ذلك من خروج مظاهرات كبيرة في مجموعة من العواصم الغربية لإدانة إسرائيل على الإبادة الجماعية التي تقوم بها في حق الشعب الفلسطيني، بعد أن كان هذا الجمهور الغربي في الأسابيع الأولى من أحداث غزة يندد بما قامت به حماس في حق إسرائيل.

ولعل كل ذلك أحدث تصدعًا في مواقف مجموعة من ااقف السياسية لمسؤولين وحكومات من المسؤولين والدول، التي كانت في الأسبوع الأول من "طوفان الأقصى" في الصف الإسرائيلي، بعد ذلك تحولت، وإن بدرجات متفاوتة، إلى تَفَهُّم القضية الفلسطينية أو محاولة الدفاع عنها. ومن ذلك مواقف معظم دول أميركا اللاتينية التي وصلت بعض بلدانها إلى حدِّ قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل (بوليفيا) أو سحب سفرائها للتشاور (كولومبيا وتشيلي) أو التنديد بممارسات إسرائيل العدوانية (المكسيك والبرازيل). كما حمَّلت معظم الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وبلجيكا والدنمارك والنرويج ولوكسمبورغ، مسؤولية ما يقع في غزة على إسرائيل؛ بل اعتبرت إيرلندا المشهد في غزة "جنونًا وعقابًا جماعيًّا". وحتى بعض الدول الأوروبية، التي ساندت في البداية إسرائيل سياسيًّا وإعلاميًّا، تغيَّرت نبرتها ولغتها التي تحاكي السردية الإسرائيلية إلى نبرة ولغة الرفض لهذه السردية.

ولعل أهم نموذج لذلك ما وقع لفرنسا التي كانت في الأسبوع الأول من المدافعين على إسرائيل، والداعين إلى تشكيل تحالف دولي ضد حماس، كالذي شُكِّل في سبتمبر/أيلول 2014 لضرب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، ثم تحوَّل الموقف إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وفك الحصار على أهلها. فقد أوضح وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، أن ما يقع في غزة هو "كارثة إنسانية جديدة، نبذل قصارى جهدنا لتفاديها". ففي مقابلة مع صحيفة "ليكسبرس"، انتقد الوزير الفرنسي السلطات الإسرائيلية التي اعتبرها مسؤولة عن منع وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، مشيرًا إلى أن الوضع الإنساني الكارثي "يؤدي إلى أوضاع لا يمكن الدفاع عنها، ولا تبريرها، ويتحمَّل الإسرائيليون مسؤوليتها"(66). كما أعلنت وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، أن بلادها ستعلق مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل. وفي هذا الشأن كتبت "لوموند" أن كندا أوقفت تصدير الأسلحة إلى إسرائيل(67). كما عرفت مواقف الحكومة الأميركية تجاه إسرائيل بعض التغيُّر أدى إلى امتعاض الحكومة الإسرائيلية التي انتقدت تصريحات لمسؤولين أميركيين عبَّروا عن عدم رضاهم لما يحدث في غزة من "مجازر وحصار ودمار". وطرحت واشنطن لأول مرة مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يدعو إلى "وقف فوري لإطلاق النار في غزة"، ولئن حمل معه شروطًا فهو يشكل تحولًا في الموقف الأميركي بعد أن كان هذا الأخير يعارض بشدة أي مشروع مماثل، بل استعملت واشنطن حق النقض في مجلس الأمن ثلاث مرات.

ولعل هذا التغيُّر النسبي في الموقف الأميركي يرجع إلى الضغوط الداخلية، لاسيما مع بروز بعض الأصوات في الحزب الديمقراطي الحاكم التي ترفض التماهي مع الموقف الرسمي الإسرائيلي، وضغوط التظاهرات التي تكتسح معظم الولايات الأميركية، خاصة المظاهرات التي يقودها طلاب المؤسسات الجامعية، مثل كولومبيا وهارفارد وجورج واشنطن وغيرها، رفضًا للإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، فضلًا عن ضغوط الاستحقاقات الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ إذ بيَّنت استطلاعات الرأي تآكل الدعم الذي يحظى به الحزب الديمقراطي من قِبَل الأصوات العربية بشكل خاص، نظرًا لما قدمه جو بايدن للحكومة الإسرائيلية من غطاء ودعم على حساب الحق الشرعي للفلسطينيين.

في ظل سيرورة الأحداث في قطاع غزة، وارتفاع أسهم الأصوات الرافضة للرواية الإسرائيلية في الاستمرار في الحرب، كان لابد أن يؤثر ذلك في سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة؛ إذ لم يعد إذن السؤال/البراديغم يُطرح في الإعلام الغربي: "هل تدين حماس؟" كما في الأسابيع الأولى من أحداث غزة، بل تغيَّر نتيجة بروز تمثُّلات جديدة أفرزتها حركية الأحداث في غزة وتداعياتها على المستوى الإقليمي والدولي، من قبيل التهجير القسري، واستهداف البنى التحتية من مدارس وجامعات ومساجد ومؤسسات، وممارسة سياسة التجويع والإبادة الجماعية، وفرض الحصار على إدخال المساعدات الإنسانية الضرورية... وذلك لإفراغ غزة من الوجود الفلسطيني، وطمس الهوية الفلسطينية، ومسح التاريخ الفلسطيني، ومحو الذاكرة الفلسطينية في اللاوعي الجمعي.

إن بشاعة الصور التي نقلتها وتنقلها بعض وسائل الإعلام، خاصة قناة الجزيرة، في قطاع غزة، مع تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية على القطاع، وكثرة الضحايا من المدنيين، وعمق التراجيديا التي أنتجتها الآلة الإسرائيلية، عجَّلت بتغيير الصور النمطية عن إسرائيل بوصفها "الضحية"، و"رمز الحضارة وواحة الديمقراطية"، إلى الكشف عن وجهها الآخر، "وجه الجلاد"، الذي يمارس كل الأشكال التي مارسها النازيون في حق اليهود، وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن باختلاف الممارسين لسياسة الإبادة الجماعية؛ إذ تُرتكب الآن في حق الشعب الفلسطيني عوض اليهودي.  

لقد أسهم ذلك في تحوُّلِ مستوى التأطير الإخباري؛ إذ لم يعد تأطير المسؤولية ملازمًا لحركة حماس، بل أخذ تمثُّلًا مغايرًا؛ إذ ارتبط هذه المرة بإسرائيل، لاسيما عندما انكشفت أطروحتها المزيفة التي انبنت على تسويق لأخبار تضليلية لا أساس لها من الصحة، مثل "حرق أطفال رضع وتقطيع رؤوسهم، واغتصاب النساء الإسرائيليات، وتعذيب الأسرى، والتنكيل بالجثث، والترويج لتحصن أعضاء حماس في أنفاق تحت المستشفيات"، والتي على أساسها  خدعت إسرائيل الرأي العام الدولي لتبرير جرائمها وانتهاكاتها في غزة، وتسويغ مشروعية استمرار الحرب على القطاع.

إن هذا التحول في تمثُّلات مجريات الحرب وربطها بالمسؤولين الحقيقيين عن استمراريتها بشكل مأساوي، أدى إلى ظهور تأطيرين آخرين ممثلين في التأطير القانوني(68)، أي تجريم أفعال إسرائيل ومتابعتها قضائيًّا أمام محكمة العدل الدولية في إطار ارتكابها لجرائم الإبادة الجماعية، و"التأطير السياسي" ويعني حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المشروعة. لكن الأمر لم يقف عند هذه الأطر، بل نجد أن الحصار الذي فرضته إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني -من تجويع للفلسطينيين وتدمير المستشفيات، ومنع وصول المساعدات الإنسانية عبر المعابر مع استمرارية التدمير والقتل للمدنيين العزل- عجَّل ببروز تأطيرين، هما: "التأطير الإنساني"(69) ويقصد به أَنْسَنَة الظروف التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، و"تأطير المأساة"(70) الذي يسلط الضوء على هول التدمير لمصادر الحياة في القطاع. وتُعد التصريحات التي تناقلتها مجموعة من الصحف والقنوات الإعلامية الغربية لمسؤولين غربيين دليلًا على هذين التأطيرين (تصريحات المسؤولين الفرنسيين والكنديين)(71).

ولعل الأزمة الخانقة التي وصلت إليها الحرب على الصعيد الإنساني، وما تثيره من مأساة حقيقية أمام أعين المنتظم الدولي والرأي العام الدولي، عجَّل من وتيرة المفاوضات في اتجاه البحث عن تسوية لوقف الحرب على قطاع غزة. ولذلك نجد معظم السرديات الغربية توظف تأطير حلول إنهاء العدوان(72)، من خلال مناقشة مبادرات الدول، لاسيما ذات الصلة بالأطراف المعنية.

إن هذا التأطير الأخير (حلول إنهاء العدوان)، وإن أسهم في تبني المبادرة الفرنسية التي تدعو إلى الوقف الفوري للحرب على غزة، وهو المشروع الذي تم اعتماده في القرار الأممي رقم (2728) وذلك بموافقة جميع أعضاء المجلس، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية التي امتنعت عن التصويت، فإن هذا القرار، يؤكد تحولًا مرنًا في الموقف الأميركي، جسدته تصريحات المسؤولين الأميركيين تجاه مواقف الحكومة الإسرائيلية، والتي تناقلتها معظم كبريات الصحف الدولية، مثل صحيفة "لوموند" التي كتبت نقلًا عن الرئيس الأميركي، جو بايدن: "إن نتنياهو يضر بإسرائيل أكثر مما يساعدها"(73). لكن هذا القرار، وإن شكَّل تحولًا، وإن بدرجات، على مستوى مواقف الدول، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، فإنه لم يتجسد على مستوى الواقع، نظرًا لرفض إسرائيل الامتثال له، كما أن القرار في حد ذاته مؤقت وليس نهائيًّا، وتمَّ فيه أيضًا اختزال العدوان في أبعاده الإنسانية عبر رفض الحصار المضروب على غزة، دون تجاوزه إلى تأطير الحل العادل للقضية الفلسطينية على أراضيها المحتلة. وهذا ما يجعل عملية/ات التأطير الإخباري للحرب على غزة في سيرورة لا نهائية. وتوضح الأشكال رقم (4) و(5) و(6) تمثيلًا لهذه السيرورة.

44
شكل (4) يبيِّن مرحلة التأطير الإخباري لنزع الشرعية عن حركة حماس

برزت هذه الأطر في الخطاب الإعلامي الغربي، مثلما يُظهِر الشكل رقم (4)، منذ الأسبوع الأول من الحرب على قطاع غزة، كما ذُكِر آنفًا؛ إذ تساوقت الرواية الغربية مع الرواية الإسرائيلية وكانتا في لحظة "حلول" (ذوبان)، بل كانت السردية الغربية متقدمة عن الرواية الإسرائيلية. لكن تطور الأحداث وتصاعد الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية، وتأثير بعض وسائل الإعلام في إبراز الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني، فرض تعديلًا في لغة وأطر هذا الخطاب الإعلامي الغربي. 

55
شكل (5) يُبرِز مرحلة التأطير الإخباري لإثبات الرواية الفلسطينية

حاول الخطاب الإعلامي الغربي بعد هذه المرحلة أن يكون حواريًّا وتعدديًّا ومنفتحًا، أي "انفتاح الخطاب/النص" على جميع الأصوات والفاعلين الدوليين الذين بدأ بعضهم مراجعة سياساته بشأن الحرب على غزة، خاصة بعد انتقال التدمير الممنهج لمقومات الحياة الفلسطينية إلى إبادة جماعية للشعب الفلسطيني. وقد رصد ذلك بعض مسؤولي الأمم المتحدة كما ورد في تقرير مقررة الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، التي حددت ثلاثة أنواع من أعمال الإبادة التي تحدث في غزة: "قتل أفراد في المجموعة، وإلحاق ضرر خطير بالسلامة الجسدية أو العقلية لأفراد المجموعة، وإخضاع المجموعة في شكل متعمد إلى ظروف معيشية من شأنها أن تؤدي إلى تدمير جسدي كامل أو جزئي"(74).

66
شكل (6) يوضح مرحلة التأطير الإخباري لحلول إنهاء الحرب على غزة

خاتمة  

توصلت الدراسة إلى أن الخطاب الإعلامي الغربي، في تغطيته للحرب على قطاع غزة، يعتمد أطرًا إخبارية تتغيَّر بتغيُّر زوايا الإدراك لهذه الحرب لدى القائمين بالاتصال ومنتجي الخطابات. ويشير ذلك إلى سيرورة من عمليات التأطير التي تتحوَّل من موقف لآخر ومن تمثُّل لآخر بناء على طبيعة التفاعلات مع الأحداث وتداعياتها على المستويين الإقليمي والدولي. لذلك، أظهرت النتائج -من خلال تتبُّع الباحث لسيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي- تحولات وتغيرات على مستوى الأطر الإخبارية التي تم توليدها وإنتاجها بناء على الخلفيات التي تتحكم في القائمين بالاتصال والمنتجين للخطابات الإعلامية، مما انعكس على تفسيرات الجمهور المتلقي وردود فعله في تبني الروايات ذات الأطروحات المتناقضة.                        

فقد تميزت معظم السرديات الغربية بإنتاج أطر المعالجة حول الحرب على غزة عبر مراحل زمنية مختلفة؛ إذ كان الانطباع العام في البداية هو تمثُّل الرواية الإسرائيلية برمتها. فأغلب المادة الإعلامية، وإن كانت تبدو ظاهريًّا متعددة، إلا أن حقيقة الأمر تؤكد اتباعها لنمط الرواية الإسرائيلية. ويعتمد هذا النمط على تقنيات تؤطر الرواية الصحفية عبر الشخصيات والأحداث والحبكة والزمن والفضاء، وغيرها من العناصر التي تحاول من خلالها الرواية الإسرائيلية أن تشكل مرجعًا واحدًا ووحيدًا للسرديات الغربية على مستوى الإنتاج. لكن مجريات الأحداث وسيرورتها كشفت عن أوجه كثيرة من الخداع والتضليل الذي مارسته الرواية الإسرائيلية على الرأي العام الدولي، والذي انطلى أيضًا على أغلب الخطابات الغربية التي تبنَّت هذا النموذج الروائي؛ إذ بدأت معالمه تظهر في مجموعة من السياقات الإقليمية والدولية؛ مما جعل الخطاب الإعلامي يعيد النظر في جهازه المفاهيمي وفي معجمه، وبدأ هذا الخطاب يخرج عن الحدود التي سيَّجتها الرواية الإسرائيلية، وأعاد النظر في جوانب من عملية الإنتاج/الإخراج الروائي، وبدأت تظهر معالم أخرى وتمثُّلات أخرى، وروايات أخرى، وأطروحات أخرى، تفند الرواية والأطروحة الإسرائيلية، جعلت الخطاب الإعلامي الغربي في مراحله المتقدمة يعيد النظر في أحكامه ومسلَّماته المطلقة، نحو تبني خطاب التناص (تعددية النصوص) وخطاب الحوارية (تعددية الأصوات) وخطاب النسبية (تقديم الاعتذارات حول الأطروحة المطلقة التي أنتجتها الرواية الإسرائيلية)...

ولعل التحولات التي طرأت على المشهد في غزة وانعكاساتها على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال تحول بعض مواقف الدول التي كانت في البداية تدعم إسرائيل عسكريًّا وماليًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، أسهمت في تغير تمثُّلاتها للوضع ولتتراجع عن هذا الدعم غير المشروط وتحمِّل إسرائيل ما آلت إليه الأوضاع في غزة. وأبرز نموذج في ذلك هو فرنسا التي تقدمت بمشروع قانون لوقف فوري لإطلاق النار بغزة، والذي اعتمده جميع أعضاء المجلس، مع امتناع الولايات المتحدة الأميركية.

إن هذا التحول على مستوى مواقف معظم الدول الغربية، انعكس أيضًا على مستوى سيرورة التأطير الإخباري على غزة في الخطاب الإعلامي الغربي؛ إذ أدت تغيرات المواقف التي تفاعلت مع أحداث غزة، إلى تحولات على مستوى الأطر الإخبارية، من خلال الانتقال من تأطير لآخر، بدءًا بإلقاء المسؤولية عن أحداث غزة على حماس، ثم في مرحلة لاحقة إلقاء المسؤولية على إسرائيل، وصولًا إلى اقتراح حلول إنهاء العدوان.

ولئن أسهم هذا التحول في التأطير الإخباري للحرب على غزة في الوصول إلى أهمية التأطير الأخير في إنهاء العدوان، والذي تمَّ تتويجه بالوقف الفوري للحرب على غزة، كما اعتمده القرار الأممي رقم (2728)، فإنه بقي محتشمًا ولا يدعو إلى وقف نهائي؛ كما تم اختزال العدوان في أبعاده الإنسانية عبر التنديد فقط بالحصار المضروب على غزة، دون تجاوزه إلى تأطير الحل العادل للقضية الفلسطينية على أراضيها المحتلة، لأنه من دون ذلك، ستبقى سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة لا نهائية.

وبيَّنت سيرورة التأطير الإخباري للحرب على غزة في معظم الخطاب الإعلامي الغربي أن التحول من تأطير إلى تأطير آخر ليس نتيجة قناعات ومبادئ تؤطر عمل المؤسسات الإعلامية الغربية، وإنما هو نتيجة طبيعية للتأثيرات والضغوط التي مورست على المتحكمين في هذه المؤسسات من أحزاب سياسية وممولين وجماعات الضغط وتأثير الانتخابات والمظاهرات الطلابية ومواقع التواصل الاجتماعي والتأثيرات الخارجية.  

وتوصلت الدراسة إلى أن تحيز الخطاب الإعلامي الغربي للرواية الإسرائيلية، لاسيما في الأشهر الأولى من بداية الحرب على غزة، كشف حقيقة هذا الخطاب، الذي كان مرتبطًا بتمثُّلات ذهنية حاملة لقيم تتعلق بالمساواة والعدالة وحقوق الإنسان والنزاهة والشفافية والمصداقية... إلا أن واقع الحال بيَّن زيف هذا الخطاب من خلال اعتماده على أطر وآليات يُراد لها ممارسة التضليل والتعمية، بدل الالتزام بقواعد وأخلاقيات المهنة. ولعل السقطات والاعتذارات المتتالية التي لحقت بمعظم الخطابات الغربية، أدت بالأغلبية من الرأي العام إلى إعادة النظر في تلك التمثُّلات والصور النمطية التي تجعل من الغرب مصدر تلك القيم النبيلة.  

نشرت هذه الدراسة في العدد الرابع من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) إن المقصود هنا بالخطاب الإعلامي الغربي هو ذلك الخطاب الصادر عن المؤسسات الإعلامية الكبرى المؤثرة، مثل: وكالات الأنباء، وشبكات التليفزيون الكبرى، وكبريات الصحف المملوكة لأصحاب النفوذ السياسي. لذلك، تحصر الدراسة زاوية معالجتها في هذا الصنف من الخطاب الإعلامي الغربي لكشف فرضية الانحياز إلى الرواية الإسرائيلية، دون الخوض في جميع الخطابات الغربية؛ إذ إن بعض وسائل الإعلام كشفت زيف الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، مثل "لوموند ديبلوماتيك" (Le Monde diplomatique). ويمكن الاستئناس، في هذا السياق، بدراسة أكاديمية لوائل بنجامين:

- Weil Benjamin," Pas si diplomatique que ça," Le Monde diplomatique et le conflit israélo-arabe de 2000 à 2006: une tentative d’analyse et d’interprétation (Paris: Université de Paris I).

(2) حنون مبارك، دروس في السيميائيات، ط 1 (المغرب، دار طوبقال للنشر، 1987)، ص 48.

(3) أمبرطو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيك، ترجمة سعيد بنكراد، (المغرب، المركز الثقافي العربي، 2000)، ص 138.

(4) Annick Brousseau, Le groupe d’experts intergouvernemental sur l’évolution du climat (GIEC), une communauté épistémique? (Montréal, Université du Québec 2016), 43.

(5) نقلًا عن:

ماهيناز رمزي محسن، "علاقة أساليب توظيف اللغة بأطر تقديم الأحداث داخل التقارير الإخبارية: دراسة تطبيقية على الحرب الإسرائيلية على غزة"، المجلة المصرية لبحوث الإعلام (جامعة القاهرة، كلية الإعلام، مصر، العدد 33، 2009)، 295-357.

(6) Robert M. Entman, "Framing: Towards Clarification of a Fractured Paradigm," Journal of Communication, Vol. 43, No 4, (1993): 51-58.

(7) Ibid, 51-58

(8) جاد ملكي، أمل ديب، "تأطير الحرب: تغطية الإعلام المرئي العالمي لحرب لبنان عام 2006"، مجلة المستقبل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 413، 2013)، ص 45.

(9) Entman, "Framing: Towards Clarification of a Fractured Paradigm," :51-58.

(10) Ibid, 51-58.

(11) Ibid, 53.

(12) Robert M. Entman, Projections of Power: Framing News, Public Opinion, and U.S. Foreign Policy, (Chicago, University of Chicago Press, 2004), 6.

(13) Ibid, 51.

(14) Zhongdang Pan, Gerald M. Kosicki, "Framing Analysis: An Approach to News Discourse," Political Communication, Vol. 10, No. 1, (1993): 56-57.

(15) Claes H. de Vreese, "News framing: Theory and Typology," Information Design Journal, Document Design, Vol. 13, No. 1, (2005(: 54.

(16) حركة المقاومة الإسلامية- حماس، "هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟"، الجزيرة نت، 21، يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2024)، https://rb.gy/cg1j3z.

(17) المقصود بـ"التقطيع السانكروني"، هو محاولة فصل مرحلة زمنية محددة عن المراحل الزمنية الأخرى، بينما تستحضر الدياكرونية جميع المراحل في إطار السيرورة التاريخية.

(18) رولان بارت، "الأسطورة اليوم"، ترجمة مصطفى كمال، مجلة بيت الحكمة (العدد 7، فبراير/شباط 1988)، ص 72.

(19) منية عبيدي، "موجهات الخطاب الإعلامي الغربي ومغالطات التغطية الإخبارية للحرب الإسرائيلية على غزة"، (مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، مركز الجزيرة للدراسات، قطر، العدد 3، يناير/كانون الثاني 2024)، 233-261.

(20) نُحِت مصطلح التناص من قِبَل الناقدة المتخصصة في مجال السيميولوجيا، جوليا كريستيفا، (Julia Kristeva) في كتابها: "السيميوطيقا" (Sèméiotikè: Recherches pour une sémanalyse, Édition du Seuil, 1978). والمقصود بهذا المصطلح "التداخل بين النصوص"، أي إن النص هو "جيولوجيا مبني من طبقات على شكل كتابات واقتباسات وإحالات من النصوص أو الخطابات السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله". ويعبر النص من خلال هذه التقنية عن مقاصد وغايات يحقق من خلالها أهدافًا كالتواصل والحوار، أو التوجيه والتأثير في الجمهور من خلال إثارة قضية أو حدث مهم في لاوعيه الجمعي.

(21) William Youmans, "The Sunday talk shows on Israel-Gaza: The blob still reigns", responsiblestatecraft, February 8, 2024, "accessed February 18, 2024". https://shorturl.at/optyZ.

(22) Ibid.

(23) "MSNBC removes 3 top Muslims from anchoring duties amid Gaza war," presstv.ir, October 14, 2023, "accessed October 25, 2023". https://urlz.fr/qeSp.

(24) "Guerre Israël-Hamas: des milliardaires américains mettent la pression sur les universités, "lesechos.fr, October 22, 2023, "accessed October 28, 2023". https://urlz.fr/qeU8.

(25) Andrew Jack, "US universities lose millions as donors pull funding over Hamas stance," ft.com, October 19, 2023, "accessed October 29, 2023". https://urlz.fr/qeTR.

(26) نادين مطر، "دور الإعلام الغربي في دعم الرواية الإسرائيلية"، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، https://shorturl.at/clx02.

(27) "Digital threats to press freedom during the conflict in Gaza," freepressunlimited, December 27, 2023, "accessed December 30, 2023". https://shorturl.at/dnwYZ.

(28) Ramzy Baroud, "The deputy speaker of Israel’s Knesset, Nissim Vaturi, has called for #Gaza to be burnt down," X, November 18, 2023. "accessed November 26, 2023". https://rb.gy/rd2qu9.

(29) نبيل عودة، "آليات إسرائيل في "دعشنة" الرواية الفلسطينية وانعكاساتها على معادلة الصراع بعيد أحداث 7 أكتوبر 2023"، linkedin، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://rb.gy/oaqwo1.

(30) "François Ruffin, député LFI: "Notre parole n’est pas à la hauteur de la gravité des événements en Israël, " lemonde.fr, October 10, 2023, "accessed October 28, 2023". https://urlz.fr/qeUw.

(31) Ivan Pereira, "Years of war, rise in terrorism led to the current Israel-Hamas conflict, experts say," abc News, October 13, 2023, "accessed October 20, 2023". https://urlz.fr/qeSX.

(32) Peter Beaumont, "What is Hamas, the militant group that rules Gaza?," heguardian.com, October 12, 2023, "accessed October 22, 2023". https://urlz.fr/qeYy.

(33) Betsy Klein et al., "Hospital blast looms over Biden’s complicated diplomatic mission to Israel", cnn.com, October 18, 2023, "accessed October 24, 2023". https://urlz.fr/qeYG.

(34) "Israeli Ambassador to the UK: “Everything turned to be this horrible terror city", youtube, January 4, 2024, "accessed January 24, 2023". https://urlz.fr/qeYQ.

(35) Ishaan Tharoor, "Israel says Hamas is ISIS. But it’s not," washingtonpost.com, October 25, 2023, "accessed October 29, 2023". https://vu.fr/qpAWY.

(36) Kevin Sieff et al., "In Israel, Macron proposes using anti-ISIS coalition against Hamas," washingtonpost.com, October 24, 2023, "accessed October 29, 2023". https://vu.fr/iASRN.

(37) Marianna Spring, "Slick videos or more 'authentic' content? The Israel-Gaza battles raging on TikTok and X," bbc.com, November 27, 2023, "accessed November 29, 2023". https://vu.fr/qMKHs.

(38) "The Guardian view on the Hamas attack: a new and deadly chapter opens in the Middle East", theguardian.com, October 8, 2023, "accessed October 22, 2023". https://vu.fr/fJNWF.

 (39) "The lessons from Hamas’s assault on Israel," economist.com, October 8, 2023, "accessed October 10, 2023". https://rb.gy/5mmbvk.

(40) " Jeffrey Gettleman et al., "Screams Without Words’: How Hamas Weaponized Sexual Violence on Oct. 7," nytimes.com, December 28, 2023, "accessed December 29, 2023". https://rb.gy/jcydwh.

 (41) Bill Hutchinson, Israel-Hamas War: Timeline and key developments", abcnews, November 22, 2023 , "accessed November 28, 2023". https://rb.gy/tfiawj.

(42) "Never seen such barbarity': the grim task of Israel's forensics teams," france24.com, October 17, 2023, "accessed November 22, 2023". https://rb.gy/nfhivh.

(43) Explosions seen as Gaza Strip in darkness," bbc.com, October 27, 2023, "accessed October 30, 2023". https://shorturl.at/cdkBX.

(44) Youmans, , "The Sunday talk shows on Israel-Gaza," op, cit.

(45) مقابلة مع آدم جونسون، صحفي في موقع ذا إنترسبت: "في ضرورة النقد العلمي لتغطية الإعلام الغربي للحرب الإسرائيلية على غزة"، مجلة الصحافة (معهد الجزيرة للإعلام، قطر، العدد 32، السنة 8، شتاء 2024)، ص 60.

(46) المرجع السابق، ص 61.

(47) المرجع السابق، ص 62.

(48) "Netanyahu: "We are sons of light, they are sons of darkness," youtube, October 26, 2023, "accessed October 30, 2023". https://rb.gy/w511dd.

(49) "Hamas attack on Israel is like 15 9/11s, US President Joe Biden says -BBC News", youtube, October 18, 2023, "accessed October 30, 2023". https://rb.gy/gdktpn.

(50) "The Lesson of 9/11 Is That Israel Cannot Win Its Gaza War," henation.com, October 26, 2023, "accessed October 30, 2023". https://rb.gy/7w4irc.

 (51) Etienne Gernelle, "Gernelle–Nous sommes tous Israéliens", lepoint.fr, October 11, 2023, "accessed October 20, 2023". https://rb.gy/q9bguy.

(52) محمد الراجي، "صهينة المجتمع الغربي: الخطر الداهم على القوة المعيارية والأخلاقية للغرب"، مركز الجزيرة للدراسات، 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://shorturl.at/dGHLO.

(53) نقلًا عن العربي الجديد، "العنف الجنسي في 7 أكتوبر: تقارير إعلامية بلا شهود"، 4 يناير/كانون الثاني 2024، (4 يناير/كانون الثاني 2024)، https://tinyurl.com/ybnh2dp3.

(54) "Israeli ex-hostage says she feared being raped by Gaza captor," Reuters, December 30, 2023, "accessed December 30, 2023". rb.gy/g6hc3v.

(55) Serge Halima, Pierre Rimbert, "Le journalisme français, un danger public," monde-diplomatique.fr, February 2024, "accessed February 22, 2024". https://shorturl.at/rFMUV.

(56) Noah Feldman, "The New Antisemitism," time.com, February 27, 2024, "accessed February 28, 2024". https://shorturl.at/bcvDI.

(57) محمد الشرقاوي، "بين خطابي الصهينة والفلسطنة: تحول نَسَقي في تمثلات الرأي العام الغربي"، مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام (مركز الجزيرة للدراسات، قطر، العدد 3، يناير/كانون الثاني 2024)، ص 269.

(58) Umberto Eco, Les limites de l’interprétation, traduction: Myriem Bouzaher, (Biblio Essais, 1994(.

(59) إن إطار المسؤولية تم تجسيده من خلال السؤال: "هل تدين حماس؟"، الذي أصبح براديغم (paradigm) يتم تكراره في أغلب الخطابات الإعلامية الغربية؛ إذ نجد أن معظم القنوات الغربية ("بي بي سي"، "سي إن إن"، "سكاي نيوز") تحاصر ضيوفها بهذا البراديغم بشكل قصدي. تستضيف الشخصيات الفلسطينية (حسام زملط، مصطفى البرغوثي...) والشخصيات العربية (باسم يوسف...) وتحاصرها بسؤال "الإدانة" الذي يتم تكراره مع هؤلاء الضيوف، وذلك لجعل المسؤولية مؤطرة بالفاعل الوحيد هو حركة حماس، دون تجاوزه إلى الفاعل الحقيقي ممثلًا في إسرائيل. ومن أمثلة ذلك حوار قناة "سكاي نيوز" مع السفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط:

- "Israel-Hamas war: Palestinian ambassador to the UK refuses to condemn attacks," youtube.com, October 8, 2023, "accessed october 20, 2023". https://t.ly/oUIP4.

(60) " Israël Hasson: Guerre Hamas-Israël: La riposte israélienne doit être à la hauteur de ce crime," lepoint.fr, October 10, 2023, "accessed October 20, 2023". https://t.ly/hEFHS.

(61) "March 15, 2024 Israel-Hamas war," cnn.com, March 16, 2024, "accessed March 28, 2024". https://t.ly/Ua99j.

(62) Isabel Kershner et al., "Israel-Hamas War News," nytimes.com, "accessed March 10, 2024". https://t.ly/BHcaT.

(63) Roxandra Iordache, "Israel-Hamas war updates: Israel and Hamas accuse each other of truce breaches on fifth day of temporary cease-fire," cnbc, November 29, 2023, "accessed December 10, 2023". https://t.ly/JP9tC.

(64) Alexandra Jaegy, "Guerre Hamas-Israël: ce qu’il faut retenir ce dimanche," lepoint.fr, April 22, 2024, "accessed April 22, 2024". https://tinyurl.com/38rw2fc4.

(65) "Majority of 18-24-years-olds in UK sympathise with Palestine," middleeastmonitor, October 17, 2023, "accessed October 27, 2023". https://tinyurl.com/y2zj98vc.

(66) Gaza: la France fustige Israël, "clairement" responsable du blocage de l’aide humanitaire," March 2, 2024, "accessed March 10, 2024". https://tinyurl.com/4d3cymwe.

(67) "Le Canada décide d’arrêter d’envoyer des armes à Israël," lemonde.fr, March 20, 2024, "accessed March 26, 2024". https://tinyurl.com/c22mrz9a.

(68) Nina Lakhani, "Israel is deliberately starving Palestinians, UN rights expert says," theguardian.com, February 27, 2024, "accessed February 30, 2024". https://tinyurl.com/yck99wrc.

(69) "Fergal Keane: Aid convoy tragedy shows fear of starvation haunts Gaza," bbc.com, March 2, 2024, "accessed March 30, 2024". https://tinyurl.com/9ewh9kp7.

(70) Sousan Hammad, "Watching the Tragedy in Gaza Unfold From Afar,"  time.com, October 20, 2023, "accessed March 8, 2024". https://tinyurl.com/57f2b8fe.

(71) "Biden pressure on Israel not enough, say dissenting US officials," bbc.com, Tom Bateman, April 10, 2024, "accessed April 10, 2024". https://tinyurl.com/yr5r2b9e.

(72) Nidal Al-Mughrabi and Arafat Barbakh, "US, Europe embark on new diplomatic push to quell Gaza war," US, Europe embark on new diplomatic push to quell Gaza war," January 6, 2024, "accessed January 10, 2024". https://tinyurl.com/5b8d2dxc.

(73) Netanyahu 'hurting Israel more than helping,' says Biden," lemonde.fr, March 10, 2024, "accessed March 10, 2024". https://tinyurl.com/5axcyzr2.

(74) Francesca Albanese, Anatomy of a Genocide, ohchr.org, March 24, 2024. "accessed March 25, 2024". https://rb.gy/t9cecv.