خلال ساعات من صباح يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، كانت قوة من الجيش العراقي، مُعزَّزة بوحدات من الشرطة الاتحادية والحشد الشعبي، تسيطر على مدينة كركوك. وبالرغم من أن مجموعات من البيشمركة الموالية للقيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كوسرت رسول، حاولت مقاومة القوات المتقدمة نحو المدينة، ربما لدقائق لا أكثر، إلا أن العملية تمت بدون أية خسائر تُذكَر في الجانبين. الحقيقة، أن وحدات البيشمركة، التي يفترض بها الدفاع عن الإدارة الكردية في المدينة، كانت تعرف مسبقًا بحشود القوات الاتحادية على مشارف كركوك. ولكن، ما إن بدأت القوات الاتحادية تقدمها نحو المدينة حتى انسحبت الأغلبية العظمى من عناصر البيشمركة من مواقعها.
ليست البيشمركة، التي تقوم بدور جيش إقليم كردستان العراق، على قلب رجل واحد. وكما ينقسم النفوذ في الإقليم بين الحزب الديمقراطي الكردستاني في محافظتي أربيل ودهوك، من جهة، وحزب الاتحاد الوطني في السليمانية وحلبجة، من جهة أخرى، كذلك هي البيشمركة. والواضح، أن قيادة الاتحاد الوطني، التي تهيمن عليها أسرة الراحل جلال طالباني (باستثناء قِلَّة، مثل كوسرت رسول)، وثيقة الصلة بإيران، اتفقت مع بغداد، بإيعاز من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، لتسليم مواقعها للقوات الاتحادية بلا قتال.
في الأيام القليلة التالية، تقدمت القوات الاتحادية لفرض سيطرتها على طوزخورماتو، والحقول التابعة لشركتي نفط وغاز الشمال، وخانقين، وسنجار، ومعظم المنطقة غرب نينوى، وسد الموصل. وسرعان ما اندلعت معارك متفرقة بين الجانبين، عندما حاولت القوات الاتحادية التقدم إلى المعابر الحدودية مع سوريا وتركيا، التي كانت تديرها سلطات الإقليم الكردي. بذلك، لم تسيطر القوات العراقية على المناطق التي وُصفت في دستور 2005 العراقي باعتبارها "مناطق متنازعًا عليها"، وكانت قوات الإقليم الكردي سيطرت عليها بعد انتشار "تنظيم الدولة الإسلامية" الواسع في شمال العراق في صيف 2014، وحسب، بل واقتربت من حدود الإقليم المتعارف عليها، أيضًا. وبالرغم من أن حركة الطيران الدولي إلى مطار أربيل توقفت فعليًّا بطلب من بغداد، بعد إجراء أربيل استفتاء 25 سبتمبر/أيلول 2017، فثمة تقارير تفيد بأن بغداد لم تزل مصرَّة على السيطرة على المطار الرئيسي للإقليم والمعابر الدولية البرية.
هذه هزيمة فادحة للسيد مسعود بارزاني وحكومة الإقليم الكردي في أربيل، تكشف عن حجم الخطأ في الحسابات التي استند إليها بارزاني عندما تجاهل تحذيرات بغداد، وأنقرة، وطهران، وواشنطن، وصمَّم على إجراء استفتاء حق تقرير المصير. ولكن هزيمة بارزاني لا يبدو أنها تقتصر على تهديد الإقليم الكردي، وحسب، بل وميزان القوى داخل العراق، وفي المحيط المشرقي ككل. فأية خسارة أوقعت ببارزاني ومعسكره وبالحكم الذاتي الكردي في العراق؟! وما الذي يعنيه الانقلاب السريع في حظوظ أربيل في ميزان القوى الإقليمي؟
من الاستفتاء إلى الهزيمة
ما إن أُجري استفتاء 25 سبتمبر/أيلول 2017 حتى أعلنت بغداد عدم اعترافها بالاستفتاء ونتائجه، واعتبرته خطوة غير شرعية وغير دستورية. خلال الأيام القليلة التالية، بدأت لغة رئيس الحكومة العراقية تنحو منحى أكثر تشددًا. طالبت بغداد حكومة أربيل بإلغاء الاستفتاء ونتائجه، وتسليم المناطق المتنازع عليها والمعابر البرية والجوية الواقعة تحت سيطرة الإقليم الكردي للسلطات الاتحادية، قبل فتح باب التفاوض من جديد بين الطرفين. وأفادت تقارير من بغداد بأن حكومة العبادي اتخذت بالفعل قرارًا بالتقدم إلى كركوك وحقولها النفطية، ما إن تنتهي القوات العراقية من تحرير الحويجة من سيطرة تنظيم الدولة. وكانت سلطات الإقليم الكردي سيطرت على محافظة كركوك، وعلى معظم المناطق المتنازع عليها في محافظات ديالى ونينوى وصلاح الدين، بعد انتشار تنظيم الدولة الدراماتيكي في شمال العراق خلال صيف 2014.
فمن أين نبع تشدد بغداد تجاه الإقليم؟ وإلى ماذا استندت الحكومة الاتحادية في تحركها لاستعادة السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها؟
لم يكن ممكنًا للعبادي اتخاذ جملة القرارات التي اتخذها ضد حكومة أربيل بدون التأييد الذي حصل عليه إقليميًّا، وبدون تيقنه من غضِّ النظر الدولي، سيما الأميركي. إعلان كل من إيران وتركيا معارضة الاستفتاء الكردي وعدم الاعتراف بشرعيته كان أول دعم توفر للحكومة الاتحادية؛ وما إن طالبت بغداد، التي تتحكم بالمجال الجوي للعراق، وقف الرحلات الدولية إلى مطار أربيل، حتى استجابت طهران وأنقرة، قبل أن تتبعها كافة شركات الطيران الأجنبية الأخرى، التي تستخدم مطار أربيل. بل إن إيران وتركيا هدَّدتا بإقفال الحدود كلية مع الإقليم الكردي. وقد جاءت التصريحات الأميركية (من الرئيس الأميركي ومن سكرتير مجلس الأمن القومي)، التي أكدت على استمرار معارضة واشنطن للاستفتاء، وعلى أن إدارة ترامب لن تتخذ موقفًا منحازًا لأيٍّ من طرفي النزاع بين بغداد وأربيل، لتنزع عن حكومة بارزاني غطاء الحماية الدولي الأهم.
الواضح أن بارزاني لم يخطئ في تقديره للموقفين التركي والإيراني فقط، بل وأخطأ في تقدير حجم وتأثير الدول التي شجَّعته على إجراء الاستفتاء ووعدت بالوقوف إلى جانبه. لم يستطع نتنياهو تأمين التأييد الأميركي للاستفتاء ونتائجه، ولا أظهرت الإمارات والسعودية ما يكفي من الجرأة للتصريح بدعمهما لبارزاني ومعسكره؛ فما إن احتدت الأزمة وتبين ضعف موقف أربيل، حتى أمر نتنياهو أعضاء حكومته بالتوقف عن تصريحات التأييد للاستقلال الكردي، واتصل الملك سلمان بحيدر العبادي معربًا عن التزام المملكة بالحفاظ على وحدة العراق.
بيد أن أخطاء بارزاني لم تقتصر على حساباته الإقليمية والدولية، بل سرعان ما وجد نفسه في مواجهة انهيار جبهته الداخلية. لم يكن الانقسام بين أربيل والسليمانية جديدًا؛ وكان الصراع الدموي بين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني قد أوقع أكثر من عشرين ألف قتيل في منتصف التسعينات. وبدون الضغوط الأميركية، ما كان ممكنًا للحزبين التوصل إلى التفاهم القَلِق في المرحلة قبل غزو العراق واحتلاله، التفاهم الذي استمرَّ حتى اكتساب الإقليم شرعيته الدستورية بعد 2005. ولكن التنافس على النفوذ والتدافع على الثروة خلق حالة من الانقسام المكتوم بين السليمانية وحلبجة؛ حيث يتمتع الاتحاد الوطني باليد العليا، وأربيل ودهوك، التي تعتبر معاقل الديمقراطي الكردستاني.
خلال الأيام القليلة السابقة على إجراء الاستفتاء، وبالرغم من الأصوات المعارضة لتوقيت الاستفتاء، التي صدرت من جناح أسرة طالباني في قيادة الاتحاد الوطني، استُقبل بارزاني في السليمانية، ونظَّم له الاتحاد الوطني اجتماعًا جماهيريًّا للدعوة إلى التصويت بنعم في الاستفتاء. وهذا، ربما ما طمأن بارزاني إلى أن الاتحاد الوطني انحاز أخيرًا إلى معسكر تأييد الاستفتاء، وأن الإقليم سيمضي موحدًا خلف حكومة أربيل بعد ظهور النتائج. في حقيقة الأمر، كانت هيرو إبراهيم أحمد، زوجة الراحل جلال طالباني، وابنها بافل، اللذان يتحكمان في الجناح الأكبر للاتحاد الوطني، يلعبان دورًا مزدوجًا. فمن ناحية، تعاملا مع الاستفتاء كأمر واقع وأرسلا رسائل إيجابية لبارزاني في حال نجحت خطته في تحقيق استقلال الإقليم. ومن ناحية أخرى، حافظا على الصلات الوثيقة مع إيران، حليف الاتحاد الوطني الاستراتيجي، مؤكدين الاستقلال عن بارزاني.
هذا الموقف المزدوج هو ما جعل السليمانية أكثر انفتاحًا على الضغوط الإيرانية، عندما بدأت عزلة بارزاني في التبلور ووجدت بغداد الفرصة مواتية للتحرك ضد الإقليم. في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وصل قاسم سليماني إلى مدينة السليمانية للتقدم لأسرة طالباني بواجب العزاء في وفاة جلال طالباني؛ ويُعتقد أن الجنرال الإيراني النشط في كافة مناطق جوار إيران استطاع، خلال زيارته هذه، إقناع قيادة الاتحاد الوطني بالتخلي عن بارزاني والاتفاق مع بغداد على إخلاء وحدات البيشمركة الموالية للسليمانية مواقعها في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها المتواجدة فيها. وهذا ما تحقق بالفعل في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2017 والأيام القليلة التالية. فخلاف نائب رئيس إقليم كردستان والنائب الأول للأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، كوسرت رسول، مع أسرة طالباني وانحيازه لأربيل لم يكن له من تأثير كبير على مجرى الأمور.
حتى قبل سيطرة القوات العراقية على كركوك، لم تكن معنويات معسكر بارزاني وقوات البيشمركة التابعة له في أفضل أحوالها. كشفت أزمة الاستفتاء عن قصور نظر فادح لدى بارزاني والمحيطين به في أربيل، وبدا أنهم فوجئوا جميعًا بحجم المعارضة الإقليمية للاستفتاء، وبمدى التخلي الأميركي، وبدرجة التشدد التي أظهرتها بغداد. ولكن، وما إن اتضح أن السليمانية اختارت الذهاب منفردة إلى التفاهم مع الإيرانيين وبغداد، حتى انهارت معنويات حكومة الإقليم ومعنويات قوات البيشمركة التابعة لها. وفي أكثر من موقع، حتى تلك التي كانت تحت السيطرة الكاملة للقوات الموالية لأربيل، تخلَّت عناصر البيشمركة عن سلاحها ولاذت بالفرار، قبل أن تقع أية مواجهة مع القوات العراقية. وبفرار البيشمركة أو انسحابها، انتشر الذعر في أوساط السكان الكرد في المناطق التي تقدمت القوات العراقية إليها، وشهدت الطرق حركة نزوح عشرات الألوف من كرد كركوك وخانقين وطوزخورماتو وغرب الموصل إلى مناطق الأقليم الكردي.
فالأكراد لم يساعدوا أنفسهم عندما تولوا إدارة المناطق المختلطة إثنيًّا، ومارسوا سياسات متحيزة ضد العرب والتركمان وعملوا على تهجير ما أمكن منهم وعلى تغيير الطبيعة الديمغرافية لهذه المناطق. ولم يكن غريبًا بالتالي أن يخرج السكان العرب والتركمان في كركوك وديالى ونينوى للاحتفال برحيل البيشمركة، والترحيب بالقوات العراقية.
في الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول 2017، بدأت الأوضاع في التغير قليلًا؛ فما إن اقتربت القوات العراقية من حدود الإقليم، أو ما يُعرف بخط 2003 الأزرق، حتى أظهرت قوات البيشمركة تماسكًا واستعدادًا أكبر للقتال. وقد شهد محيط مدينة مخمور، جنوب شرقي الموصل، اشتباكات عنيفة بين الطرفين، في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017، عندما حاولت قوات البيشمركة استرداد المدينة من سيطرة القوات الاتحادية؛ كما دارت اشتباكات في منطقة زمار، شمال غربي الموصل، وفي الطريق إلى معبر فيش خابور مع سوريا، غرب الموصل، الذي أعلنت بغداد عزمها انتزاعه من سيطرة حكومة الإقليم. بعد يومين من الاشتباكات المسلحة، لم يحرز أي من الطرفين تقدمًا ملموسًا، وفي الثامن والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2017، وتحت ضغوط أميركية، عُقدت مفاوضات ميدانية بين مسؤولين عسكريين في الجيش العراقي وفي البيشمركة، بهدف التوصل إلى وقف شامل للاشتباكات وتحديد الخطوط الفاصلة بين قوات الجهتين.
لم يكن ثمة شك، خلال الأيام القليلة التالية لسيطرة القوات الاتحادية على كركوك، في أن وضع الإقليم برمته أصبح مهددًا، وأن دوائر راديكالية في بغداد وطهران دعت إلى حسم وضع الإقليم عسكريًّا والإطاحة ببارزاني بالقوة. ولكن، مع الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول 2017، تراجعت المخاطر التي تهدد الإقليم واستعادت القيادة الكردية بعض معنوياتها. السبب خلف التغير الملموس في وضع الإقليم لم يأت من تماسك قوات البيشمركة الموالية لأربيل، وحسب، بل ومن انعطافة ملموسة في الموقفين التركي والأميركي.
دلالات استراتيجية
دوليًّا، يعتبر شمال العراق، سيما الإقليم الكردي، منطقة نفوذ أميركية؛ وقد نشر الأميركيون وحدات مختلفة من قواتهم في مناطق متعددة من الإقليم ومحافظات الشمال العراقي منذ ما بعد سيطرة تنظيم الدولة على أجزاء واسعة من المنطقة في صيف 2014. وبالرغم من محاولات الروس استعادة مواقع لهم في الشرق الأوسط، تدرك موسكو أن هذه منطقة نفوذ أميركي. ولذا، فمهما كانت حقيقة الموقف الروسي من أزمة الاستفتاء، يظل دور موسكو وتأثيرها على مجريات الأزمة هامشيًّا.
إقليميًّا، تتمتع تركيا بنفوذ كبير نسبيًّا في أربيل وفي معظم الشمال العراقي؛ أولًا: لعلاقات بارزاني الوثيقة مع أنقرة والتسهيلات التي قدمتها تركيا للإقليم خلال السنوات العشر الأخيرة؛ وثانيًا: لتوجه أغلب التركمان السُّنَّة والسُّنَّة العرب، الذين يمثِّلون أغلب سكان شمال العراق، نحو أنقرة منذ ما بعد 2003. وهذا ما يفسر سعي إيران المستمر للإطاحة ببارزاني، وحفاظ طهران على علاقات وثيقة مع قيادة الاتحاد الوطني. ولكن، وبالرغم من الجهود الإيرانية الكبيرة في الشمال العراقي، لم تستطع طهران، في مواجهة النفوذين الأميركي والتركي، تأمين خط اتصال بري آمن ودائم، يربط الغرب الإيراني بسوريا.
قد تتطور هزيمة بارزاني ومعسكره إلى تغيير في موازين القوة في شمال العراق، ينعكس على التدافع الإيراني-التركي من أجل النفوذ في الجوار العربي، وعلى المساعي الأميركية لدفع المشروع التوسعي الإيراني إلى الخلف.
لقد تعامل الأميركيون مع الاستفتاء وتوابعه من خلال اعتبارين أساسيين: الأول: أن توقيت الاستفتاء غير مناسب، في ظل استمرار المعركة ضد إرهاب تنظيم الدولة، وأن مسألة استقلال الإقليم الكردي ستفجِّر أزمة بالغة التعقيد، ولا حاجة لها، مع تركيا، كما مع العراق. أما الاعتبار الثاني، فيستند إلى تقدير أميركي بأن المراهنة على العبادي هي الخيار الأفضل، وأن العبادي يمكن أن يبرز كزعيم وطني عراقي، يعمل على تحجيم النفوذ الإيراني في بلاده. وهذه هي المراهنة ذاتها التي وضعتها واشنطن على المالكي في 2010، ليتضح بعدها أن ولاء المالكي لإيران أكبر بكثير من تقديرات واشنطن، وأن نفوذ إيران في أوساط شيعة العراق أعمق وأكثر اتساعًا من أن يُواجَه بلا حرب.
أما الأتراك، فتعاملوا مع المسألة من منطلقات مختلفة؛ فعلى المستوى الاستراتيجي، تقوم السياسة التركية على أساس الحفاظ على وحدة دول المشرق، طالما أن تركيا ليس باستطاعتها بعدُ قيادة المنطقة نحو نظام إقليمي جديد. وترى أنقرة أن بروز كيان كردي مستقل في شمال العراق سيترك آثارًا بالغة السلبية على المسألة الكردية في تركيا، وعلى استقرار المنطقة ككل. إضافة إلى ذلك، لا يخفى أن عددًا من المسؤولين الأتراك، بما في ذلك الرئيس أردوغان، نظروا إلى تجاهل بارزاني لنداءات أنقرة بإلغاء الاستفتاء باعتباره خيانة وتنكرًا لما قامت به تركيا طوال السنوات الماضية من دعم للإقليم الكردي، وما قدمته من تسهيلات لتصدير النفط من الإقليم، وحماية بارزاني من مؤامرات الخصوم العراقيين والأكراد والإيرانيين، الذين عملوا على الإطاحة به. ولذا، كان ردُّ الفعل التركي على الاستفتاء غاضبًا، ولم يلبث أن تجلَّى في تأييد خطوات بغداد بلا تحفظ، والتوافق الوثيق مع إيران على حصار بارزاني ومعاقبته.
باهتزاز موقف بارزاني، عمل الأميركيون على التوسط لتحقيق تفاهم تكتيكي بين بغداد وأربيل، يكفل انسحاب البيشمركة مما تبقى من المناطق المتنازع عليها، دون اشتباكات مسلحة. وتوجه الأميركيون للضغط على رئيس الحكومة العراقية لإخراج الحشد الشعبي من المدن التي تقطنها أعداد ملموسة من الكرد، في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2017، مثل خانقين وكركوك، بعد أن قامت عناصر الحشد بعمليات انتقامية ضد السكان الكرد.
من جهة أخرى، احتفلت تركيا بسيطرة الحكومة العراقية على كركوك، التي ينظر لها الأتراك باعتبارها مدينة تركمانية، وسنجار، التي كانت تسيطر عليها قوات حماية الشعب، الكردية السورية، المعروفة بصلاتها الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني التركي. ما يبدو أن أنقرة غضَّت عنه النظر أن قوات حماية الشعب في سنجار كانت تستلم رواتبها من بغداد، وأن دوائر أمنية عراقية أسَّست منذ زمن صلات مع حزب العمال الكردستاني، بموافقة إيرانية.
في اليوم التالي لسيطرة بغداد على كركوك، وجَّه الجنرال سليماني رسالة للرئيس بارزاني، داعيًا إيَّاه للاعتراف بخطأ الخيارات السياسية التي تعهدها في السنوات القليلة الماضية. في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قال حسين أمير عبد اللهيان، مستشار رئيس مجلس الشورى الإيراني، في تصريحات لوكالة مهر: إن السيطرة العراقية على أربيل أسهل بكثير من السيطرة على كركوك، وإن كانت كركوك احتاجت بضع ساعات، فإن أربيل لا تحتاج أكثر من دقائق. وفي صباح 19 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أصدر القضاء العراقي في بغداد أمرًا بإلقاء القبض على كوسرت رسول، الوحيد بين قادة الاتحاد الوطني الذي قرر مقاومة القوات العراقية في كركوك، بسبب تصريحات أدلى بها، وصفت الجيش العراقي بالجيش المحتل. في اليوم نفسه، قال رئيس الحكومة التركية، بعد لقاء مع نائب رئيس الجمهورية الإيراني: إن مواقف تركيا وإيران متشابهة بشأن مستقبل المنطقة، وإن مسؤولي البلدين عازمون على مواصلة التعاون في هذا الإطار.
ما أصبح واضحًا، أن استمرار الولايات المتحدة وتركيا وإيران في موقفها من الأزمة قد يؤدي إلى انهيار الإقليم كلية، وليس بالضرورة باستخدام القوة العسكرية. ثمة فقدان فادح للثقة الآن بين أربيل والسليمانية، وقد برز توجه في بغداد وطهران يدعو إلى تشجيع السليمانية على الانشقاق، وشطر الإقليم إلى إقليمين: واحد يضم أربيل ودهوك، وآخر في السليمانية وحلبجة. بهذا، ستصبح حكومة أربيل، المحاصرة من كافة الجهات، تحت رحمة بغداد، ويُفرَض على القادة الأكراد الاستسلام الفعلي؛ ما يعني أن الخطر الذي يتهدد أربيل لم يعد يتعلق بكركوك أو المناطق المتنازع عليها، وحسب، بل كذلك بوجود الإقليم الكردي ذاته.
وقد أفادت مصادر ذات مصداقية في أربيل، بعد أيام قليلة من خسارة الإقليم لكركوك، أن بارزاني أبلغ الأميركيين أنه ما لم يتلقَّ دعمًا صريحًا من واشنطن، فإنه مضطر للانتقال إلى الجانب الإيراني. والمؤكد أن عددًا من مستشاري بارزاني باتوا على قناعة بأن ليس أمام أربيل من سبيل للحفاظ على ما تبقى سوى التسليم لإيران. ولم يكن خافيًا أنه في حال استسلام حكومة الإقليم لإيران وحلفائها في بغداد، فإن النفوذ في شمال العراق برمته سيُحسم لصالح إيران. وحتى الوجود التركي العسكري المحدود في بعشيقة، الذي يبدو أن بغداد تغضُّ الطرف عنه في المرحلة الحالية، لن يكون من الصعب التخلص منه، بعد أن تفقد القاعدة العسكرية التركية غطاء أربيل، وتسيطر القوات العراقية على الشريط الحدودي التركي-العراقي. أما السُّنَّة العرب في شمال العراق، فلن يعود باستطاعتهم الجدل مع المجموعة الشيعية الحاكمة، بعد أن حققت بغداد نصرًا ساحقًا على تنظيم الدولة وعلى الإقليم الكردي، معًا.
جملة هذه المخاطر هي التي أدت إلى انتقالة صغيرة، وإن ملموسة، في الموقفين الأميركي والتركي؛ ففي 26 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أجرى وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، اتصالًا هاتفيًّا طويلًا مع بارزاني، وفي اليوم التالي، أعلن الأميركيون عن وقف إطلاق النار بين البيشمركة والقوات الاتحادية. وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017، بدأت مفاوضات ميدانية بين العسكريين الأكراد والعراقيين. وكانت مصادر عراقية وكردية أفادت بأن تيلرسون، الذي كان وصل بغداد بصورة مفاجئة في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أخبر رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، بضرورة ألا تتقدم القوات الاتحادية إلى حدود الإقليم. بمعنى، أن واشنطن، التي غضَّت النظر عن سيطرة القوات الاتحادية على المناطق المتنازع عليها، لم تزل تلتزم حماية الإقليم الكردي ووجوده، على أساس من دستور 2005 العراقي.
في الوقت نفسه، لوحظ أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، توقف عن تصريحاته، التي استمرت منذ عقد استفتاء 25 سبتمبر/أيلول 2017، وحتى ما بعد استعادة القوات العراقية كركوك، المندِّدة ببارزاني وسياسته. وأفادت مصادر وثيقة الصلة بحكومة العدالة والتنمية، بأن أنقرة لن تسمح بسيطرة القوات العراقية على الإقليم، بأية صورة من الصور، وأن الاتصالات بين أربيل وأنقرة استُؤنفت من جديد. وهو ما يشير إلى أن أنقرة، كما واشنطن، باتت تدرك أن الاستمرار في سياسة عقاب أربيل قد تفضي إلى مخاطر عكسية، وإلى متغيرات استراتيجية على المستويين العراقي والإقليمي.
خيارات محدودة
لم يعد ثمة شك، في المستويين القريب والمتوسط، في أن مشروع الدولة الكردية المستقلة في شمال العراق قد انتهى. لم يفشل مشروع بارزاني للاستقلال لأن موازين القوى لم تكن لصالحه، وحسب، بل أيضًا لأن الطبقة السياسية الكردية الراهنة لا تبدو جاهزة لتأسيس دولة مستقلة. طبقة سياسية جُلُّها غارق في الفساد وصراعات الثروة والنفوذ لا تستطيع تحمل أعباء الاستقلال. وربما كانت استقالة بارزاني من رئاسة الإقليم الكردي، يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وقرار برلمان الإقليم بتوزيع صلاحياته على رئاسة الحكومة والبرلمان، أول المؤشرات على استجابة بارزاني للضغوط الداخلية والإقليمية، التي حمَّلته مسؤولية الأزمة التي يعيشها الإقليم منذ ما بعد استفتاء 25 سبتمبر/أيلول 2017.
لن يختفي بارزاني من الساحة السياسية الكردية، بالطبع، وهو لا يزال رئيسًا للحزب الديمقراطي الكردستاني، كما أن رئيس الحكومة، نيجرفان بارزاني، ليس سوى ابن شقيقه. ولكن أحدًا لا يمكن أن يتجاهل الدلالات الرمزية لاستقالة رئيس الإقليم. بصورة أو أخرى، تحمل الاستقالة معنى اعتراف القيادات الكردية في أربيل بأن مسعود بارزاني لم يعد رجل المرحلة، القادر على الخروج بالإقليم من المخاطر التي تهدده. ولكن عواقب فشل مشروع بارزاني لن تظل محصورة بحدود الإقليم، على أية حال.
إنْ تحركت أنقرة لترميم العلاقات مع أربيل، وأكدت واشنطن موقفها بعدم المس بحدود الإقليم، وتحركت أنقرة وواشنطن معًا للضغط على بغداد من أجل إطلاق عملية تفاوض واسعة النطاق لإصلاح الدولة العراقية وبناء نمط جديد من العلاقات بين كافة مكونات الشعب العراقي، فربما يمكن الحفاظ على بعض من توازن القوة في الشمال العراقي، وإفشال مساعي إيران لبسط نفوذها الكامل على العراق.
بغير ذلك، سيكتشف الأميركيون سريعًا أن مراهنتهم على تعاون العبادي في جهود دفع إيران خارج العراق ليست أقل وهمًا من مراهنتهم السابقة على المالكي للعب الدور نفسه. كما سيكتشف الأتراك أنهم، وبمحض إرادتهم، سلَّموا العراق برمته لإيران. وحتى على مستوى التأثير داخل كردستان العراق، ستظل إيران تتمتع بولاء الاتحاد الوطني، بينما تخسر تركيا ذراعها الكردية المتمثلة في بارزاني وحزبه. والأسوأ من ذلك، بالطبع، أن تقرِّر أربيل الالتحاق بخيار السليمانية والذهاب إلى الجانب الإيراني من خارطة القوة.