معارك تينزواتين.. هل تقود إلى جبهة صراع روسي أوكراني بإفريقيا؟

عكست معارك تينزواتين موجة من الاصطفافات الإقليمية والدولية مع مالي أو ضدها، دون أن يكون لذلك تأثير إيجابي على الصراع التقليدي بين السلطة المركزية في باماكو، والمجموعات الأزوادية بشقيها السياسي والعسكري، وإن برزت دعوات تطالب بالحوار بين الطرفين، وإخماد جذوة التوتر.
مرتزقة روس يستقلون مروحية في شمال مالي (أسوشيتد برس-أرشيف).

مقدمة

اندلعت نهاية يوليو/تموز 2024 معارك ضارية بين الجيش المالي مدعوما بقوات من مجموعة "فاغنر" الروسية، وبين القوات المسلحة الأزوادية، في منطقة تينزواتين شمالي مالي بالقرب من الحدود مع الجزائر.

وتعتبر هذه المنطقة مهمة للطرفين المتقاتلين، فبالنسبة للجيش المالي يريد أن يواصل استرجاع المناطق التي ظلت فترة طويلة تحت سيطرة القوات الأزوادية، وبالنسبة للمجموعات المسلحة الأزوادية، فإن تينزواتين تعد من آخر المعاقل الباقية لديها، وسيطرة جيش باماكو عليها قد تعني لها خسارة كل شيء.

والواضح أن الجيش المالي لم يسترجع تينزواتين، والخسائر كانت كبيرة نسبيا في صفوفه وقوات "فاغنر"، ولكنه لم يستسلم؛ إذ واصل بعض عمليات القصف لاحقا على نحو متقطع، مما يعني أن احتمال تجدد المعارك وارد جدًّا.

ولعل المثير في معارك تينزواتين مقارنة بكل المعارك والحروب الداخلية السابقة -بما في ذلك تلك التي اندلعت من أجل استرجاع الجيش المالي مدينة كيدال معقل المجموعات الأزوادية- هو الارتدادات التي تلتها؛ إذ اتسعت دائرة تداعياتها لتتجاوز الحدود المالية، نحو دول أخرى لا تربطها الجغرافيا، ولا التاريخ بهذا البلد الغرب إفريقي.

وقد عكست هذه التداعيات في جانب منها تداعيات أخرى للحرب الروسية الأوكرانية على إفريقيا، وبالأخص في منطقة الساحل التي أصبح نفوذ موسكو فيها يتزايد بشكل كبير، منذ موجة الانقلابات العسكرية الأخيرة، وطرد القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتحالف الدول الثلاث مع روسيا. 

كما عكست معارك تينزواتين موجة من الاصطفافات الإقليمية والدولية مع مالي أو ضدها، دون أن يكون لذلك تأثير إيجابي على الصراع التقليدي بين السلطة المركزية في باماكو، والمجموعات الأزوادية بشقيها السياسي والعسكري، وإن برزت دعوات تطالب بالحوار بين الطرفين، وإخماد جذوة التوتر. 

وفضلا عن التداعيات، فإن معارك منطقة تينزواتين الواقعة بالقرب من الحدود بين مالي والجزائر، تثير المخاوف بشأن طبعية مستقبل العلاقات المتوترة منذ بعض الوقت بين البلدين الجارين.

تينزواتين.. سردية الانتصار والهزيمة لحرب الأيام الثلاثة

اندلعت معارك تينزواتين -وهي بلدة صغيرة تقع بالشمال المالي قرب الحدود مع الجزائر- أيام 25 و26 و27 يوليو/تموز 2024، وفي غياب طرف مستقل يقدم رؤيته بشأن هذه الحرب ونتائجها، قدم كل طرف روايته بشكل مباشر أو غير مباشر.

وقد أعلن الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي -وهو إطار يضم الحركات الأزوادية التي تقاتل الحكومة المالية في شمال البلاد- في آخر حصيلة صادر ة عنه مقتل "84 عنصرا" من مجموعة "فاغنر" الروسية، و"47 من عناصر الجيش المالي"، و"أسر 7 آخرين"(1).

وأضاف الإطار الاستراتيجي أنه دمر "ست مدرعات وست مركبات نقل جنود"، كما استولى على "خمس مدرعات، وخمس آليات رباعية الدفع منها مركبة إسعاف، وصهريج وشاحنة نقل جنود كلها في حالة جيدة"، كما صادرت قواته "ثمانية وعشرين سلاحا ثقيلا وجماعيا، 137 سلاحا فرديا، خمسة عشر صاروخ آر بي جي، وثماني قاذفات قنابل وكميات من الذخيرة ومعدات اتصال عسكرية"، وفي المقابل فإنه اعترف بمقتل سبعة من عناصره، وجرح اثني عشر آخرين(2).

أما الجيش المالي فقد أصدر بيانين منفصلين تضمنا حصيلتين للمعارك، "تحدث في أولهما عن مقتل جنديين من جنوده وجرح عشرة آخرين، وكذا مقتل عشرين من المقاتلين الأزواديين، فضلا عن تدمير بعض المعدات العسكرية، وفي الثاني تحدث عن مقتل خمسة من العناصر الأزوادية"(3).

أما مجموعة "فاغنر" فقد اكتفت على قناتها على تليغرام بالقول "إن هذه ليست المعركة الأولى غير المتكافئة مع الإرهاب العالمي، ولن تكون الأخيرة"، وتحدثت عن تعرض قافلة تابعة لها وللجيش المالي لهجوم من طرف جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، أسفر عن قتلى، مشيرة إلى أن القوات الأزوادية استغلت "عاصفة رملية لصالحها؛ إذ لم تتمكن الطائرات من تقديم الدعم بسبب الظروف الجوية"(4).

وبينما اعترفت "فاغنر" ضمنيا بالهزيمة في هذه المعارك، فإن الجيش المالي، قدم حصيلتين تظهران انتصاره في المعارك، كما قدم الإطار الاستراتيجي حصيلة أكبر لانتصار قواته، ووزع على بعض منصات التواصل الاجتماعي صورا وفيديوهات، تظهر قتلى وجرحى وأسرى من العسكريين الماليين والروس. 

وبعد أيام قليلة من انتهاء المعارك، أعلن الجيش المالي ضربات جوية بتنسيق مع القوات المسلحة لبوركينا فاسو، وذلك بهدف "تأمين الأشخاص والممتلكات في بلدة تينزواتين وضواحيها، ضد تحالف الإرهابيين المسؤولين عن عمليات الابتزاز والانتهاكات والاتجار غير المشروع ضد السكان الماليين"(5)، وفقا للرواية الرسمية.

ورغم إعلان الإطار الاستراتيجي الأزوادي أن هذه الضربات استهدفت موقعا للتنقيب التقليدي عن الذهب، وأن ضحاياها كانوا من جنسيات أجنبية، فإنها تبعث برسالة مفادها أن معارك نهاية يوليو/تموز، ليست سوى حلقة من سلسلة لها أبعاد عسكرية ودبلوماسية إقليمية ودولية.

تداعيات معارك تينزواتين إقليميا ودوليا

خلفت معارك تينزواتين مجموعة من التداعيات الإقليمية والدولية، اتخذت أبعادا مختلفة بينها قطع العلاقات الدبلوماسية، والاصطفافات إلى جانب هذا الطرف أو ذلك.

فعلى إثر هذه المعارك، أعلنت مالي في الرابع من أغسطس/آب 2024 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا "بمفعول فوري"، وأكدت في بيان تلاه عبر التلفزيون الرسمي المتحدث باسم حكومتها العقيد عبد الله مايغا أن "المتحدث باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف، أقر "بضلوع بلاده" في هجوم جبان وغادر وهمجي شنته جماعات إرهابية مسلحة وأسفر عن مقتل عناصر من قوات الدفاع والأمن المالية في تينزواتين، وعن أضرار مادية"(6).

ولم تتأخر النيجر كثيرا في الاصطفاف إلى جانب حليفتها؛ إذ أعلنت يوم الثلاثاء السادس من أغسطس/آب، قطع العلاقات مع أوكرانيا، وأوضح بيان تلاه عبر التلفزيون الرسمي النيجري العقيد أمادو عبد الرحمن، أن الحكومة النيجرية و"بالتضامن التام مع حكومة وشعب مالي، تقرر بسيادتها الكاملة (...) قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا بأثر فوري"(7).

وقد أعلنت أوكرانيا في بيان لوزارة خارجيتها رفضها "بشدة اتهامات الحكومة الانتقالية في مالي لها بدعم الإرهاب الدولي"، واعتبرت قرار قطع العلاقات "قصير النظر ومتسرعا"(8).

وردا على النيجر، اعتبرت الخارجية الأوكرانية أن الاتهامات الموجهة إليها "لا يمكن أن تصمد أمام أي انتقاد، ولا أساس لها من الصحة"، مضيفة في بيان أن سلطات النيجر قررت قطع العلاقات الدبلوماسية معها "دون إجراء أي تحقيقات في الحادث الذي وقع في مالي، ودون تقديم أي دليل يرتبط بأسباب هذا القرار"(9).

وقد دخلت روسيا على خط التصريحات والبيانات، واتهمت في تصريح للناطقة باسم خارجيتها ماريا زاخاروفا أوكرانيا بـ"فتح جبهة ثانية" في إفريقيا، معتبرة سبب ذلك هو "عدم قدرة نظام فولوديمير زيلينسكي على هزيمة روسيا في ميدان المعركة"، فقرر التوجه إلى إفريقيا و"دعم جماعات إرهابية في دول بالقارة مؤيدة لموسكو"(10).

وقد اتسعت دائرة تداعيات معارك تينزواتين؛ إذ قررت مالي طرد سفيرة السويد لديها كريستينا كونيل، احتجاجا على إعلان وزير التعاون الدولي في مجال التنمية والتجارة السويدي يوهان فورسيل، أن حكومة بلاده قررت الإلغاء التدريجي لمساعداتها المخصصة لمالي، بعد قطعها العلاقات مع أوكرانيا (11).

وعلى صعيد آخر استدعت الخارجية السنغالية السفير الأوكراني بالبلاد يوري بيفوفاروف، احتجاجا على تأييده في فيديو نشرته صفحة السفارة على فيسبوك، القوات المسلحة الأزوادية.

وأكد بيان للوزارة أن السنغال "ترفض الإرهاب بكافة أشكاله، ولا يمكنها الموافقة على التصريحات التي تدعمه، وخاصة تلك التي تستهدف زعزعة استقرار دولة صديقة مثل مالي"(12).

وقد أكد هذا الموقف كذلك الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو خلال زيارة لمالي، تباحث خلالها مع نظيره شوغيل كوكالا مايغا، والرئيس الانتقالي المالي آسيمي غويتا.

وتبنت موقفا مشابها، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إكواس)؛ إذ عبرت عن إدانتها للهجمات "ضد أفراد قوات الدفاع والأمن المالية في تينزواتين".

وإزاء ذلك، انتقد الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي، موقفي السنغال والمنظمة، مؤكدا أنهما "كانا عضوين في الوساطة الدولية في إطار الاتفاق" الناتج عن مسار الجزائر(13)، وأن ذلك كان كافيا لأن يقفا موقف الحياد.

كييف وموسكو.. تنافس النفوذ والمصالح بإفريقيا

لقد أعادت معارك تينزواتين إلى الواجهة مجددا، التنافس الروسي الأوكراني على القارة الإفريقية، وتزامن قرار مالي قطع العلاقات مع أوكرانيا، مع رابع جولة إفريقية لوزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، قادته إلى كل من مالاوي، وزامبيا، وموريشيوس.

ومنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022، زار كوليبا اثني عشر بلدا إفريقيا، مقابل أربع عشرة دولة بالقارة زارها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف(14) في خطوة تعكس تنافسا شرسا على النفوذ والمصالح.

كما فتحت أوكرانيا مجموعة من السفارات في بلدان إفريقية مختلفة خلال الأشهر الأخيرة، بينما يتجاوز عدد السفارات الروسية بالقارة الأربعين.

وتعتمد إفريقيا بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا في الحصول على جزء معتبر من احتياجاتها من الحبوب، بنسب تتجاوز في بعض الأحيان 80% بالنسبة لعدد من دول القارة(15). 

وقد بلغ حجم واردات إفريقيا من روسيا 4 مليارات دولار من المنتجات الزراعية عام 2020، مقابل ثلاثة مليارات دولار هي قيمة وارداتها من أوكرانيا، وتمثل مادتا القمح والذرة نسبة تناهز 90% من المنتجات المستوردة(16).

وفضلا عن البعد الاقتصادي والتجاري لإفريقيا، خصوصا في أفق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية الواعدة، في ظل توفر القارة على الكثير من المعادن تدخل في العديد من الصناعات الدولية، فإن إفريقيا تشكل كذلك كتلة هامة على صعيد التصويت في الأمم المتحدة؛ إذ تمثل نسبة 28% من أعضاء الأمم المتحدة، كما أن الاتحاد الإفريقي أصبح عضوا في مجموعة العشرين(17).

وقد شكل هذا البعد عاملا محفزا للتنافس الروسي الأوكراني على إفريقيا، فالبلدان المتحاربان يسعى كل منهما إلى كسب أصوات الدول الإفريقية على مستوى الأمم المتحدة لدى التصويت على القرارات الأممية المتعلقة بحرب البلدين، التي تبدو بلا أفق.

ومحاولة لتفادي الاصطفاف الإفريقي مع روسيا أو أوكرانيا، سعى الاتحاد الإفريقي للوساطة بين البلدين، وتقفت أثره في ذلك المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إكواس)، ولكن الوساطتين باءتا بالفشل، وتعاظم التنافس الروسي الأوكراني على كسب أصوات القارة بالأمم المتحدة عبر آليات مختلفة، بينها الحبوب، وقد سعا الطرفان إلى توظيفها من أجل تعزيز الحضور.

وبينما تعتمد روسيا على تركة الاتحاد السوفيتي سابقا من أجل تعزيز النفوذ بالقارة، فإن أوكرانيا تحاول تسويق كونها تتعرض لـ"غزو" روسي، وتحذر إفريقيا من تبعات تقاربها مع دولة "غازية".

وفي المقابل تحاول روسيا محو تلك الصورة، وتسويق أنها تتعرض لـ"مؤامرة" غربية، من خلال الاصطفاف الغربي الواسع إلى جانب أوكرانيا. 

وإزاء هذين الخطابين اللذين يتم تسويقها في إفريقيا، تتوزع البلدان الإفريقية بين داعم لروسيا، وداعم لأوكرانيا، وملتزم الحياد إزاء الصراع ويعتبره شأنا داخليا. 

ولكن فضلًا عن الموقف من الحرب، فإن لدى إفريقيا ما يمكن أن تقدمه للبلدين وغيرهما، فهي تتوفر على معادن كثيرة تتنافس عليها معظم دول العالم، وهذه ورقة يمكن أن تعزز بها القارة مكانتها.

حرب روسيا وحرب الساحل.. مفارقة الأضرار والمكاسب

بنسب متفاوتة تضررت مختلف الدول الإفريقية جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وكان لبعض بلدان القارة نصيب وافر من تلك الأضرار، لأنها تعاني في الأصل من تحديات أخرى مرتبطة بالأمن، والتغير المناخي، وضاعفت حرب البلدين اللذين يشكلان مصدرا غذائيا هاما لإفريقيا من حجم المعاناة. 

وفي هذا السياق أعلنت دولة تشاد حالة طوارئ غذائية في يونيو/حزيران 2022، جراء التدهور المستمر للوضع الغذائي نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، في حين حذرت الأمم المتحدة من "إعصار مجاعة"(18).

وقد حذرت منظمات إقليمية ودولية من انعدام أمن غذائي حاد في كل من مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو(19)؛ إذ تفاقمت معاناة ملايين السكّان، بفعل عوامل عديدة، بينها الصدمات المناخية، وتداعيات حرب موسكو وكييف على هذه الدول الحبيسة، التي فاقم صعوبة أوضاعها خضوعها لعقوبات جراء الانقلابات العسكرية التي شهدتها.

لقد أثر تعطل سلاسل التوريد جراء الحرب، في الأمن الغذائي للأفارقة الذين يعتمدون بشكل رئيسي على الزراعة، في حين تعتمد عشرون دولة إفريقية بنسبة 90% من احتياجاتها من القمح على الدولتين المتحاربتين(20).

وعلى غرار عدد من الدول الأخرى، انعكست حرب روسيا وأوكرانيا سلبا على دول الساحل الإفريقي من خلال عدة مناحٍ، بينها نقص الغذاء، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، ومعروف أن الحبوب تشكل عماد غذاء الأفارقة، وأن القارة عاجزة عن إنتاج احتياجاتها من الغذاء، رغم توفرها على أراض شاسعة صالحة للزراعة.

ولم تقتصر التداعيات على هذه الحد فحسب، وإنما اتخذت كذلك أبعادا أخرى؛ إذ انعكست سلبا على عشرات آلاف الطلاب الأفارقة الذين كانوا يدرسون بروسيا وأوكرانيا، واضطر الكثيرون منهم إلى المغادرة، خصوصا من المناطق التي وصلت إليها الحرب، أو كانت مهددة بأن تصل إليها(21).

وفي خطوة أخرى تعكس حجم حرج إفريقيا إزاء هذه الحرب، تحول تأثر مختلف بلدانها فيما يتعلق بالأمن الغذائي، إلى عامل للتنافس الروسي الأوكراني؛ إذ أعلن البلدان عن تقديم مساعدات غذائية للعديد من بلدان القارة، بما فيها دول الساحل.

وفي مقابل التداعيات المتعددة الأوجه للحرب الروسية الأوكرانية على دول الساحل الإفريقي، يستفيد البلدان من عدم الاستقرار السياسي والأمني بالمنطقة، فعلى إثر سلسلة الانقلابات العسكرية التي عرفتها كل من مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، عززت روسيا حضورها بهذه البلدان، وقدمت نفسها بديلًا عن فرنسا الشريك التقليدي للدول الثلاث، وقد نجحت في كسب هذا الرهان.

كما عززت روسيا حضورها العسكري في هذه الدول، مستغلة حربها المستمرة منذ أزيد من عقد على الجماعات المسلحة، واتخذ ذلك منحيين رئيسيين، أحدهما تمثل في تعاقد مالي مع مجموعة "فاغنر" الروسية، والثاني تجلى من خلال نشر قوات روسية في النيجر، وبوكينا فاسو تحت غطاء الفيلق الإفريقي، والهدف الرئيسي في النهاية هو تأمين المصالح الروسية ومناهضة الوجود الغربي بهذه الدول(22).

وإضافة إلى نشر قوات في هذه الدول، قدمت روسيا كذلك مساعدات عسكرية لهذه البلدان، فاستفادت من تلك الأسلحة، لتعزيز ترسانتها في سبيل مواجهة الجماعات المسلحة الناشطة بالمنطقة، وخاصة في المثلث الحدودي الواقع بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو.

وقد وسعت روسيا مجالات تعاونها مع هذه البلدان لتشمل إضافة إلى صفقات السلاح، مجالات تعاون أخرى مختلفة اقتصادية وتجارية.

أما بالنسبة لأوكرانيا، فقد كشفت معارك تينزواتين الأخيرة، سعيها لدخول الساحل عبر المجال العسكري من خلال دعم مناهضي روسيا في المنطقة، واعتبرت السلطات المالية ومقربون منها أن حجم وطبيعة السلاح الذي استخدمته القوات المسلحة الأزوادية يؤشر على تلقيها الدعم والتدريب من طرف خارجي تبين لاحقا بحسب هؤلاء أنه أوكرانيا.

وأوكرانيا بهذه الخطوة تسعى للقيام بدور مشابه -مع بعض الاختلاف- لدورها في السودان؛ إذ قاتلت إلى جانب القوات المسلحة السودانية في مواجهة قوات الدعم السريع المدعومة من طرف روسيا، بحسب ما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال"(23).

خاتمة

لم تقتصر معارك تينزواتين على النطاق الجغرافي الضيق الذي دارت عليه بالشمال المالي، وإنما تجاوزته بكثير لتلقي بظلال من الأزمات الدبلوماسية، والاصطفافات الرسمية على عدد من الدول والمنظمات.

بل إن الأمر وصل إلى أروقة الأمم المتحدة؛ إذ بعثت مالي والنيجر وبوركينا فاسو رسالة مشتركة إلى مجلس الأمن الدولي، عبر وزارات خارجية الدول الثلاث المنضوية تحت لواء "تحالف دول الساحل".

وقد عبرت البلدان الثلاثة عن إدانتها للدعم الذي قالت إن أوكرانيا تقدمه للمجموعات المسلحة بمنطقة الساحل الإفريقي، داعية مجلس الأمن الذي ترأسته خلال شهر أغسطس/آب، دولة سيراليون إلى الانتباه لذلك ووضع حد له.

وتعكس هذه الخطوة مسعى الدول الحليفة لروسيا إلى أن تأخذ مواقفها المناهضة لأوكرانيا أبعد مدى ممكن، خدمة لموسكو في حربها مع كييف.

ويبدو أن معارك تينزواتين كشفت في بعد خطر منها، عن جبهة إفريقية من الحرب الروسية الأوكرانية، قد لا يجدي فيها قطع مالي والنيجر علاقاتهما الدبلوماسية مع أوكرانيا، فمع كل تجدد للمعارك بين الجيش المالي والقوات المسلحة الأزوادية، قد تظهر في الخلفية روسيا من خلال السلاح والأفراد، وأوكرانيا من خلال السلاح والتدريب، وربما الأفراد كذلك.

وقد لا يقتصر الأمر على مالي، وإنما هو مرشح للتوسع نحو باقي دول المنطقة التي أصبحت سائرة في ركب روسيا كالنيجر، وبوركينا فاسو، وربما تشاد كذلك.

إن المخاوف قائمة من أن تتسع دائرة الحلفاء والخصوم، فتدخل على الخط أطراف دولية أخرى بشكل مباشر، أو غير مباشر، فيكون الغرب مثلا في الخلفية داعما لأوكرانيا، خصوصا فرنسا التي طُردت قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والولايات المتحدة التي تعرضت قواتها للطرد من النيجر، وتصطف خلف روسيا أطراف أخرى كإيران حليفة حلفاء موسكو بالساحل. 

إن توسع الحرب في مالي لتنتقل من حرب داخلية سببها صراع تقليدي قائم منذ عقود، بين مجموعات تطالب بانفصال إقليم أزواد عن الدولة المركزية المالية، إلى حرب متعددة الأطراف بعضها إقليمي وآخر دولي، قد ينذر بخطر كبير لا يستبعد أن تصل شظاياه إلى بعض دول المنطقة، ومالي تحدها سبع دول تأثرت جميعها بشكل أو بآخر بالاضطراب الأمني في البلاد.

فبوركينا فاسو والنيجر، تسربت إليهما الجماعات المسلحة قادمة من الشمال المالي منذ نحو عشر سنوات، والجزائر علاقاتها متوترة مع باماكو منذ بعض الوقت، وهي الراعي لاتفاق السلام والمصالحة الموقع بين السلطات المالية والحركات الأزوادية عام 2015، قبل أن يتم إلغاؤه في عهد السلطات الانتقالية الحالية.

كما أن معارك تينزواتين كانت قريبة من الحدود معها، وهذا يعني أن تأثرها بتمدد الصراع وارد بشكل كبير، كما هو الحال بالنسبة لموريتانيا التي شهدت بعض مناطقها المحاذية لمالي الأشهر الماضية استهدافات متكررة من طرف الجيش ومعاونيه الروس.

وبالنسبة لساحل العاج الجارة الجنوبية لمالي، فقد تحدثت بعض وسائل الإعلام الإقليمية والدولية خلال الأسابيع الأخيرة عن سماحها للولايات المتحدة الأميركية بإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها بعد انسحابها من النيجر، وهذا يؤشر على أنها ستكون معنية بالصراع إذا تمدد، وتعدد فيه الحلفاء والخصوم.

ولا تبدو غينيا كوناكري والسنغال في مأمن من هذه المخاوف، فهما بلدان محسوبان تقليديا على فرنسا، ولم يديرا لها الظهر خلال التحولات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) معركة تينزواتين.. الأزواديون يلحقون خسائر فادحة بالجيش المالي وفاغنر، 2 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 13 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/cm8NJ

2) نفس المصدر السابق

3) تينزواتين.. هل انتهت المعارك؟ أم إحدى محطاتها فقط؟، 28 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 13 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/nT0cX

4) نفس المصدر السابق

5) انظر الموضوع:

Mali / Burkina : Une coordination des forces armées frappe des cibles ¨terroristes¨ à Tinzaoutene, publié le 31 juillet 2024, vu le 13 Août 2024, https://shorturl.at/eqWzO

6) انظر الموضوع:

Le Mali rompt ses relations diplomatiques avec l’Ukraine, publié le 05 août 2024, vu le 14 août 2024, https://shorturl.at/UENnM

7) انظر الموضوع:

Après le Mali, le Niger rompt ses relations avec l’Ukraine, publié le 07 août 2024, vu le 14 août 2024, https://shorturl.at/y4IB2

8) بيان وزارة الخارجية الأوكرانية بشأن قرار الحكومة الانتقالية لجمهورية مالي قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، 5 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/QRkHE

9) بيان وزارة الخارجية الأوكرانية بشأن قرار سلطات جمهورية النيجر قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، 8 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/XrTl4

10) روسيا تتهم أوكرانيا بفتح "جبهة ثانية" بأفريقيا بعد الهجوم على "فاغنر" في مالي، 7 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/kiQAw

11) معارك تينزواتين تنتقل من حرب ميدانية إلى حرب دبلوماسية، 11 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/HL7MS

12) السنغال تستدعي السفير الأوكراني احتجاجا على تأييده القوات الأزوادية، 3 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/lUmKw

13) الإطار الأزوادي ينتقد تضامن السنغال وإكواس مع مالي، 6 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/k8pg7

14) هل تسعى أوكرانيا لفتح جبهة جديدة ضد روسيا بأفريقيا؟، 11 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/VUd6X

15) دبلوماسية ناعمة وخشنة.. أوكرانيا تسلك طريق "الدب الروسي" في أفريقيا، 10 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 14 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/NAp7D

16) انظر الموضوع:

Confit Russie – Ukraine : quelles conséquences sur les économies africaines ? publié avril 2022, vu le 14 août 2024, https://shorturl.at/XBqkK

17) مصدر سابق

18) تشاد تعلن حالة الطوارئ الغذائية وتحذير أممي من إعصار مجاعة، 02 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/P1Ht8

19) الساحل الإفريقي.. 7.5 ملايين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، 06 مايو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/ysnz2

20) الحرب الروسية الأوكرانية والأمن الغذائي بإفريقيا: التداعيات والفرص، 04 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/1jxIQ

21) في ظل تنامي علاقاتها مع روسيا والصين.. ما تداعيات الحرب في أوكرانيا على أفريقيا؟، 04 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/x7HcW

22) درس فاغنر: كيف يعزز الفيلق الإفريقي نفوذ روسيا في القارة السمراء؟، 27 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/Ke9wx

23) أوكرانيا تقاتل روسيا في السودان وتدرب الجيش الحكومي، 08 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/MZcpx