النهضة الاقتصادية في رواندا: العوامل ونتائجها والتحديات المستقبلية

تتناول هذه الدراسة نجاحات دولة رواندا المحققة تنمويًّا في العقود الأخيرة، وهي التي عانت من غياب الاستقرار بسبب الحرب الأهلية، فما عوامل النجاح التي أسهمت في تحقيق التحولات السياسية الاقتصادية والتنموية في رواندا، والتي جعلتها تنعم باستقرار لافت؟ وكيف يتم تقييم هذه التجربة؟ وما مدى قابليتها للاستدامة؟
يُحسب للحكومات الرواندية المتعاقبة التي قادها "كاغامي" صياغتها لرؤية وطنية (AP photo).

توطئة

في هذه الدراسة الموجزة سنسلط الضوء على دولة رواندا والنجاحات التي حققتها في العقود الأخيرة في مجال التنمية السياسية والاقتصادية، لاسيما بعد أن عانت فترة طويلة من غياب الاستقرار خلال فترة الحرب الأهلية وقبلها؛ حيث حدثت مذابح وتطهير عرقي لأعداد مهولة من الضحايا من آلاف البشر. وسنحاول في هذه الدراسة التعرف على أهم عوامل النجاح المختلفة التي أسهمت في تحقيق التحولات السياسية الاقتصادية والتنموية في رواندا، والتي جعلتها دولة تنعم باستقرار سياسي وباقتصاد متطور متعاف. ثم سنقوم بتقييم هذه التجربة ومدى قابليتها للاستدامة.

التحديات والعقبات ما بعد الحرب الأهلية

منذ انتهاء الحرب الأهلية في رواندا انتهجت الحكومة الوليدة سياسات وإصلاحات في عمليات إدارة الدولة لتحقيق السلم الأهلي والاجتماعي والرخاء الاقتصادي، ولأجل ذلك تبنَّت الحكومة الوليدة نهجًا سياسيًّا خاصًّا بحيث لا يمكن تصنيف حكومتها بالديمقراطية الحقيقية في ظل حكم الحزب الواحد وإقصاء وتهميش المعارضة، إلا أن النظام الحاكم قام بإجراء تحولات في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة كان من شأنها خلق نموذج بناء دولة جديد في القارة الإفريقية. لكن هذا التحول الإستراتيجي في إدارة الدولة لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، فقد شكَّلت ندرة الموارد البيئية أو الطبيعية تحديًا كبيرًا أمام الدولة الوليدة، وكان هذا الأمر أحد العوامل التي أسهمت سابقًا في إشعال الحرب الأهلية والتي خرجت رواندا لتوها منها، فبلد مثل رواندا ذو كثافة سكانية عالية بالنسبة لمساحته، وباتت الأراضي فيه محدودة لاسيما أن جزءًا مهمًّا من البلاد تنتشر فيه التلال والبراكين؛ مما يحد من الاستفادة من مساحات الدولة المختلفة بشكل فعال. يضاف إلى ذلك أن الدولة واجهت معضلة استنزاف الموارد أو تدهورها بسبب العوامل الطبيعية، كما أن الإرث السياسي السابق الذي أدى إلى غياب العدالة في توزيع الأرضي بين السكان شكَّل تحديًا آخر للدولة الوليدة؛ إذ استحوذ أغنياء ما قبل الحرب الأهلية على أكثر من نصف الأراضي الصالحة(1)، فيما لا يملك أكثر السكان الأراضي التي تمكِّنهم من تلبية احتياجاتهم اليومية.

وقد أسهم هذا الأمر في خلق نوعٍ من المجاعة البنيوية الصامتة، والتي انتشرت بين قطاعات واسعة من المجتمع. وقد وصلت نسبة البطالة في الريف حينها إذا نظرنا إلى فئة البالغين إلى 30% في نهاية الثمانينات، وكان من الطبيعي أن تفضي كل تلك المقدمات والتي امتدت وتراكمت على مدار سنين طويلة إلى خلق العديد من الحواجز والعقبات أمام قدرة الدولة بعد الحرب الأهلية في انتشال شعبها والسعي به إلى مستوى دولة حديثة قادرة على إدارة مواردها والاصطفاف ضمن الدول المستقرة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا في القارة السمراء.

عرفت رواندا في السابق، شأنها في ذلك شأن غالبية الدول الإفريقية، اتساع درجة الفقر لاسيما لدى سكان الريف، وظل الفشل الحكومي في معالجة هذه الإشكالات الجوهرية سمة أساسية للدولة الإفريقية منذ نشأتها. وبالرغم من أن السبب الحقيقي للصراع الداخلي في روندا هو تفشي الفقر واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، إلا أن السياسيين الروانديين نجحوا في إعادة توجيه دفة المشكلة من صراع له علاقة بالموارد إلى صراع بين قبيلتي التوتسي والهوتو.

وقبل قدوم الاستعمار الفرنسي، كان التوتسي هم الملوكَ الحاكمين رواندا ومن ثم يشكلون الطبقة الإقطاعية، بينما شكَّل الهوتو طبقة الفلاحين، وهذه التراتبية هي ما تم العبث فيه من قبل المستعمر لغايات تعزيز سياسات "فَرِّقْ تَسُدْ" الاستعمارية حتى لا تُشغَل شعوب تلك المنطقة بالمستعمر وممارساته. بالإضافة إلى تلك العوامل كان للصراع بين قطبي العالم في أثناء الحرب الباردة انعكاساته؛ إذ حدث نوع من التحالف بين التوتسي والدول التي كانت توالي المعسكر الشيوعي، فيما حصل الهوتو على دعم المعسكر الغربي. أسهم هذا كله في احتقان الذاكرة الاجتماعية لكلا الطرفين، وانعكس هذا جليًّا في شكل المجازر والتطهير العرقي الذي حصل في العام 1994.

قادت تلك الأسباب إلى زيادة الاحتقان تدريجيًّا بين أطراف الصراع، وهو ما تحول في مراحل لاحقة إلى مذابح وتهجير قسري، وما زاد الطين بلة أن النظام السياسي الديكتاتوري الذي ساد في فترة ما قبل الحرب الأهلية انتهج سياسات الإقصاء تجاه التوتسي.

إذن فالعوامل مجتمعة أعلاه أسهمت بدرجات مختلفة وبشكل من الأشكال في تهيئة الأطراف المختلفة للدخول في صراع أهلي طاحن وحرب تطهير عرقي دامية، وهذه العوامل لم يعمل كل منها بشكل منعزل عن الأخرى وإنما في إطار تفاعلي، وهو ما نجم عنه ظهور عوامل أخرى فرعية عن تلك شكَّلت بمجموعها مسبِّبات الحرب.

أصبحت هناك تحديات جمَّة أمام الحكومة الرواندية بعد الحرب أمام تحقيق الرخاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وقد شكَّل الإرث الدموي أول هذه التحديات التي واجهتها. وفي ظل هذا المشهد المأساوي، تملك اليأس قلوب الشعب مما قاد إلى التساؤل عن قدرة الحكومة على القيام بإصلاحات حقيقية؛ خصوصًا أن الذاكرة الاجتماعية محتقنة ومشحونة بالدماء والعداوات.

أما التحدي الثاني فهو هروب المستثمرين وأغنياء البلد وشبابها وكفاءاتها، فخسرت رواندا ثروتها البشرية والاقتصادية، حتى باتت خالية من الكفاءات والطاقات والأموال. إضافة إلى ذلك، فإن رواندا بلد شحيح الموارد، وهو ما ضاعف عليها الأعباء الاقتصادية، فالبلاد لا تمتلك حقولًا نفطية ولا مناجم ضخمة للمعادن النفيسة ولا منافذ بحرية، كما أنها بلد صغير من الناحية الجغرافية، بلد مليء بالتلال، وهو تحدٍّ جغرافي أو جيولوجي خطير يعيق عمليات الاستفادة من المساحات الجغرافية المحدودة؛ نظرًا لصغر حجم الدولة وكبر كثافة قاطنيها.  

ومن التحديات التي واجهتها الجمهورية الوليدة أيضًا، تزايد تعداد السكان بشكل كبير؛ بسبب عودة الكثير من اللاجئين من دول الجوار، لاسيما أولئك الذين هاجروا من تلقاء أنفسهم أو أُجبروا على الهجرة بسبب السياسات التي اتُّبعت ما بين عامي 1959 و1973. ولا شك أن عودة هؤلاء شكَّلت تحديًا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا إضافيًّا على الدولة الجديدة. وتشير بعض التقديرات إلى أن الزيادة السكانية تضاعفت مرتين خلال عقدين ونصف.

نهضة الاقتصادية بالرغم الصعاب

وفي غضون سنوات معدودات، حدثت تحولات سريعة وقفزات نوعية في الدولة الوليدة؛ فقد نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في رواندا بما نسبته 7.44% سنويًّا في المتوسط ​​من عام 2000 إلى عام 2022(2)، وتعود هذه الزيادة اللافتة إلى قيام الحكومة بإصلاحات اقتصادية بنيوية وتنظيم بيئة الأعمال وجلب الاستثمارات؛ ما أدى إلى نمو التجارة الخارجية والتي تضاعفت خلال تلك السنوات. وفي مجال التعليم زادت نسبة انخراط الطلبة في السلك التعليمي في مراحل التعليم ما قبل الجامعة، فمثلًا وصلت نسبة التسجيل في المدارس الابتدائية إلى حوالي 88% في العام 2022، ورجحت كفة الإناث على حساب الذكور في مراحل الثانوية. وفي القطاع الصحي انخفضت نسبة وفيات الولادة ومن هم تحت الخمس سنوات بشكل حاد، فيما تضاعف متوسط ​​العمر المتوقع عند الولادة من 31.6 سنة في عام 1995 إلى 66 سنة(3)، في عام 2022. وهذه الأرقام تشير إلى تطور غير عادي في التنمية البشرية والاجتماعية في البلاد، ويكمن السؤال هنا حول ماهية الأسباب التي دفعت باقتصاد روندا إلى هذه المستويات المتقدمة مقارنة بدول القارة الإفريقية الأخرى.

وقبل الخوض في الأسباب، يمكننا وصف الأداء الاجتماعي والاقتصادي لرواندا في فترة ما بعد الإبادة الجماعية بأربع سمات أساسية:

  1. وتيرة سريعة للنمو الاقتصادي، رافق ذلك تحسين في تقديم الخدمات في قطاعها الاجتماعي بشكل واضح.
  2. محدودية التغيير في الهيكل الصناعي؛ وبالتالي لم يكن هناك تطوير صناعي واضح.
  3. بقي الحد من الفقر على رأس أجندة للحكومة، بسبب انخفاض مستوى الدخل ووجود تفاوت اقتصادي يزداد سوءًا منذ انتهاء الحرب الأهلية.
  4. تم تحقيق النمو الاقتصادي في ظل حكم استبدادي.

ولأجل إحلال تنمية اقتصادية رائدة بعد انتهاء الحرب الأهلية، تبنَّت الحكومة منهجًا وسطًا ومتوازنًا بين نموذج السوق الرأسمالية الحرة من خلال تطبيق مبدأ "دعه يعمل" (Laissez-Faire) الاقتصادية أو الليبرالية الجديدة (Neoliberalism)، ونموذج السوق غير الحرة والتي تتدخل فيها الحكومة، وهذه الإستراتيجية مكَّنتها من التعامل بشكل متوازن مع الاعتبارات الداخلية والخارجية في آن واحد. وقد طبقت النموذج الأول في قطاعي الأعمال والتعدين، فيما طبقت النموذج الثاني في القطاع الزراعي والمناطق الريفية وهو ما أسهم في تعزيز السيطرة السياسية للحكومة في تلك المناطق البعيدة عن مراكز اتخاذ القرار.

كما أصدرت الحكومة الرواندية، في العام 2000، والأعوام اللاحقة جملة من السياسات في اتجاه تحقيق إصلاحات حقيقية في الدولة. وكانت الركيزة الرئيسية لإستراتيجية التنمية الاقتصادية هي تعزيز تنمية القطاع الخاص من خلال تحسين بيئة الأعمال. ولتحقيق ذلك، ركزت الحكومة على ثلاثة أمور، وهي: الحوكمة الرشيدة، وتطوير الموارد البشرية، وتطوير البنية التحتية للدولة. وعليه، قامت الحكومة بتحسين وتطوير وتنمية بيئة العمل في رواندا، واستنفدت إمكاناتها وكل جهدها في سبيل ذلك لأنه بالنسبة لها هو المدخل الرئيسي لتنمية القطاع الخاص.

أما في المناطق الزراعية والقرى، ولأجل زيادة الوظائف وتحسين الحركة التجارية، فقد أصدرت الحكومة عددًا من القرارات والسياسات، منها تقاسم الأراضي (Land-Sharing) والذي طُبِّق بين آلاف التوتسي العائدين من المنفى والهوتو المقيمين، لاسيما أن بيوت التوتسي العائدين سُكنت وأُخذت من قبل جيرانهم خلال سنين المنفى. وبهذا القرار حصل التوتسي على نصف الأراضي من الهوتو، وطُبِّقت هذه السياسة في المناطق الشرقية ذات الوفرة في الأراضي. وأسهمت هذه السياسة في إعادة توطين المهجرين وتوفير البيئة المناسبة لهم للاندماج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وفي العام 1999، أقرَّت الحكومة قرارًا مهمًّا اعترفت من خلاله بمساواة المرأة بالرجل فيما يتعلق بتملك الأراضي. وقبل هذا القرار لم يكن للمرأة في رواندا أي حق في تملك الأراضي. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن مما أسهم في إصدار وتطبيق هذا القرار هو حدوث تغيرات جوهرية في البنية الاجتماعية في القرى مما شكَّل أرضية مناسبة لصدور هذا القرار، بالإضافة إلى زيادة نسبة النساء على الرجال كأحد الاستحقاقات الواقعية للحرب الأهلية. وكان لصدور قرار آخر، وهو تسجيل العقار وإصدار الملكية، دور مهم في حفظ الحقوق؛ حيث نجحت الحكومة في تسجيل وإصدار صكوك الملكية لجميع العقارات بأسماء مالكيها.

محاربة الفساد والتنمية الاقتصادية

أظهرت رواندا أداء مؤسسيًّا ذا فاعلية عالية، فقد تموقعت في مؤشرات الحوكمة(4) للعام 2016 والأعوام اللاحقة على قدم المساواة مع البلدان الإفريقية متوسطة الدخل، وفي ظل أداء قوي بشكل واضح انعكس من خلال مؤشرات فعالية الحكومة، والسيطرة على الفساد، وسيادة القانون، والجودة التنظيمية.

وقد حافظت الحكومة الرواندية على جهودها الرفيعة المستوى لمكافحة الفساد في الأعوام اللاحقة، ففي مؤشر مدركات الفساد «CPI» لعام 2023(10)، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلت رواندا المركز 49 عالميًّا، وهي رابع أقل البلدان فسادًا في إفريقيا، بعد بوتسوانا والرأس الأخضر والسيشل، والأقل فسادًا في منطقة شرق إفريقيا.

ويعزى هذا النجاح في مجال محاربة الفساد في رواندا إلى الإجراءات العديدة التي قامت بها منذ انتهاء الحرب الأهلية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: حث دستور 2003 السياسيين وموظفي الخدمة المدنية على التصريح بأصولهم وممتلكاتهم.

وقد أعقب ذلك عدد من التدابير والتي اتُّخِذَت من قبل الحكومة ومنها مقاضاة كبار المسؤولين الحكوميين الذي خالفوا القانون. ومن أمثلة الإجراءات التي أسهمت في تعزيز الحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد أيضًا تحسين كفاءة اختيار موظفي الحكومة من المستويات القيادية وحتى الوظائف الدنيا؛ حيث أصبح الاختيار بناء على معيار الجدارة والكفاءة في ظل شفافية عالية.

عوامل أخرى للنجاح

إن وجود قيادة ملهمة ذات رؤية وذات إرادة في آن معًا كان أحد المرتكزات الأساسية لبناء الدولة الرواندية ما بعد الحرب، وشخصية مثل "بول كاغامي" تستحق التأمل جليًّا ودراستها بعمق. فهذا الرجل هو قائد عسكري سابق وقد شارك في الاقتتال الذي شهدته البلاد، وكان عضوًا في ميليشيات محلية بأوغندا والكونغو المجاورتين(5)، وينتمي إلى أقلية "التوتسي" التي أبيدت من قبل عصابات تنتمي إلى الأكثرية العرقية الأخرى "الهوتو"، إلا أنه وحكومته بعد الحرب الأهلية قد سلكوا طريقًا نهضويًّا يهدف بالدرجة الأولى أن يكون كل من على تراب الأرض الرواندية على قدم المساواة، وهو ما حدا به وبحكومته إلى عدد من الإصلاحات ذات الفاعلية، منها إلغاء تصنيف السكان إلى "هوتو" و"توتسي" في البطاقات الشخصية، والاكتفاء بكلمة رواندي، وهذا أدى إلى تعزيز النسيج الوطني.

ومما يُحسب للحكومات الرواندية المتعاقبة التي قادها "كاغامي" صياغتها لرؤية وطنية، فبعد تسلمه الحكم أطلقت الحكومة خطة وطنية طويلة الأجل لبناء اقتصاد قوي للبلاد، يهدف إلى تكوين الثروات وجذب وتشجيع الاستثمار بالبلاد وتقليل الاعتماد على المعونات والديون الخارجية.

ولتحقيق ذلك أطلقت الحكومة عددًا من السياسات، كما صاغت عددًا من التشريعات التي أسهمت في تقديم التسهيلات المختلفة لبيئة العمل في رواندا، ومنها على سبيل المثال تقليص الزمن اللازم لإنشاء نشاط تجاري من 43 يومًا إلى أربعة أيام، كما أن الحكومة أعادت بناء البنية التحتية. ونتيجة لذلك أصبحت رواندا صاحبة أحد أسرع الاقتصادات نموًّا في القارة السمراء منذ تولي الرئيس "بول كاغامي" السلطة، عام 2000، ويعتمد اقتصاد البلاد على الزراعة وتربية الحيوانات والتعدين والسياحة.

وفي خطوة فريدة، أطلقت الحكومة الرواندية مجلس الحوار الوطني (National Dialogue Council) وهو منتدى حواري يجمع رئيس الجمهورية بممثلي المواطنين لمناقشة القضايا الوطنية، ويأتي هذا المنتدى ضمن الإطار العام الذي وضعته الحكومة الرواندية لما يسمى بإطار اللامركزية في رواندا لتقديم الخدمات (Rwanda’s decentralization framework for service delivery)(6). وهذه الخطوة تعتبر خطوة عالية الشفافية في العلاقة بين الحكومة والشعب، كما أنها تسهم في رفع درجة وعي المواطنين حول أداء الدولة المؤسسي.

إن رواندا اليوم مثال واضح على ما يمكن أن تقوم به قيادة ملهمة تتحلى برؤية ثاقبة، فبالرغم من الإرث الصعب الذي وجده "بول كاغامي" أمامه، وموقع رواندا المحاطة بدول ضعيفة أو حتى فاشلة من كل جانب، فإنه أدرك أن الإنسان هو إكسير النجاح، ومهما أنفق من أموال في البنية التحتية والمشاريع الخدمية وغفل عن تطوير المواطن العادي فلن يصل إلى نتيجة، وهو ما جعله يضع الإنسان الرواندي نصب عينيه خلال مسيرة التنمية المظفرة. وعليه، حققت هذه الدولة الصغيرة نجاحات عجزت عنها دول عريقة وذات ثروات هائلة في القارة الإفريقية، بل إن رواندا أصبحت نموذجًا إفريقيًّا للنجاح الاقتصادي.

تحديات التنمية الاقتصادية

إن التنسيق بين الوزارات ووكالات القطاع العام لا يزال يشكل تحديًا ماثلًا للعيان. فمع تركيز الحكومة على عدم المركزية في إدارة المؤسسات الحكومية وذلك لتمكين الحكومات المحلية، وهو ما نشأ عنه العديد من الوكالات شبه المستقلة، إلا أن هذا بدوره خلق نوعًا من العقبات بسبب ظهور التنافس بين تلك المؤسسات، وهو ما أدى إلى إرباك المستثمرين وشركات القطاع الخاص. علاوة على ذلك فهناك نوع من تداخل المسؤوليات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية.

من التحديات التي تواجه التنمية الاقتصادية في رواندا اعتمادها المفرط على الاستثمار الخارجي المباشر (Foreign Direct Investment - FDI) على حساب محدودية رأس المال المحلي، وهناك أسباب عديدة لهذه الإشكالية؛ منها الدخل الضعيف لغالبية فئات الشعب، وضعف الادخار في البنوك؛ مما يعني أن حجم الادخار المحلي يشجع الاستثمارات قصيرة الأجل فقط، وهو ما يعني الحاجة الكبيرة إلى الاستثمار الخارجي لدفع عجلة التنمية الاقتصادية ولتمويل المشاريع التي تحتاج إلى الاستثمارات طويلة الأجل. كما أن صادرات رواندا، المكونة بشكل أساسي من الشاي والقهوة والمعادن تخضع أسعارها لتقلبات الأسعار في السوق الدولية وهو ما سيؤثر على إيراداتها لاسيما في أوقات الركود الاقتصادي.

كما يبدو في التجربة الإفريقية أن الديمقراطية ضرورية لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة(7)، فتاريخيًّا لا يوجد ديكتاتور -مدني أو عسكري أو متمرد- جلب الرخاء الدائم لأية دولة إفريقية، وخير مثال على ذلك تجربة ساحل العاج الاقتصادية الفريدة والتي انتهت بدوامة الحرب الأهلية في الفترة ما بين 2005-2010. وفي رواندا لا يمكن تصنيف حكومتها بالديمقراطية الحقيقية في ظل حكم الحزب الواحد وإقصاء وتهميش المعارضة، وهذا يطرح سؤالًا مهمًّا، وهو: ماذا لو تغير النظام؟ ماذا سيحدث للمعجزة الإفريقية الاقتصادية الرواندية الناشئة على المدى المتوسط والبعيد؟ وهل هناك ضمانات ألا تنتكس التجربة الرواندية مجددًا؟ إن النموذج الاقتصادي الذي تبنَّاه "بول كاغامي" هو نموذج يتماهى مع نموذج النمر الآسيوي في سنغافورة، إلا أن هذا النموذج له معطياته وظروفه التي تختلف عن الظروف التي أنشأت رواندا ما بعد الحرب الأهلية.

إن رواندا تحتاج إلى أنواع أخرى من الإصلاحات المستدامة للحفاظ على الإنجاز التاريخي الاقتصادي، فالإصلاحات الفكرية والسياسية والدستورية والمؤسسية مفقودة بشكل عام أو محدودة في أفضل أحوالها. كما أن كيفية تسلسل هذه الإصلاحات مهمة للغاية، وإلا فإن البلاد يمكن لها أن تكون مهيأة للوقوع في أتون الصراعات من جديد. إن العوامل التي تمكِّن النمو الاقتصادي السريع للأمة قد تعيقها التقلبات والانتكاسات السياسية وحتى الاقتصادية، وعليه يمكن اعتبار قوة التنمية في رواندا وضعفها وجهين لعملة واحدة.

نبذة عن الكاتب