فجأة وبدون أية مقدمات، شن قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان حميدتي، في 9 من أكتوبر/تشرين الأول 2024، هجومًا عنيفًا على مصر، محملًا إياها المسؤولية عن الإخفاقات التي تعرضت لها قواته مؤخرًا، خاصة في منطقة جبل موية الإستراتيجية بولاية سنار، ولم يكتف بذلك، بل هدد مصر من خلال إعلانه القبض على بعض الجنود المصريين "المرتزقة" من وجهة نظره، وقام بفرض عقوبات على التجار في المناطق الخاضعة لسيطرة قواته حال تصديرهم أي منتجات "للعدو" مصر.
هذا الخطاب العفوي، وما تلاه من بيان أكثر توضيحًا صادر عن قواته بعده بيومين، يطرح تساؤلات عدة عن أسبابه وتوقيته من ناحية، وحقيقة هذه الاتهامات، والموقف المصري من التطورات في السودان من ناحية ثانية، ثم مآلات هذا التصعيد، وهل هو تصعيد لفظي فقط، أم قد تتطور الأمور لأكثر من ذلك؟
أسباب الاتهامات
لقد كال حميدتي في خطابه المتلفز، ثم في البيان الصادر عن قواته، مجموعة من الاتهامات لمصر يمكن إجمالها فيما يلي(1):
- 1- اتهام مصر بالمشاركة في عمليات التدريب والقتال مع الجيش السوداني، ليس هذه المرة فحسب، وإنما منذ بدء القتال "شارك سلاح الجو المصري في القتال إلى جانب الجيش؛ حيث شارك الطيران المصري في قصف معسكرات قوات الدعم السريع، ومنها مجزرة معسكر كرري؛ إذ قُتل في بداية الحرب جرَّاء القصف الغادر أكثر من 4 آلاف من الجنود العُزل الذين كانوا يتأهبون للمغادرة للسعودية للمشاركة في عاصفة الحزم. أما بالنسبة للعمليات الأخيرة فقد "ظلت مصر تدعم الجيش بكل الإمكانيات العسكرية، وسهَّلت عبر حدودها دخول إمدادات السلاح والذخائر والطائرات والطائرات المسيرة؛ إذ قدمت خلال شهر أغسطس الماضي ثماني طائرات من طراز K8 للجيش وصلت للقاعدة الجوية في بورتسودان، وتشارك الآن في القتال، وآخرها معركة جبل موية، كما ساهم الطيران المصري في قتل مئات المدنيين الأبرياء في دارفور والخرطوم والجزيرة وسنار، ومليط، والكومة، ونيالا، والضعين، وكذلك وفرت مصر للجيش إمدادات بقنابل 250 كيلو أمريكية الصنع كانت سببًا في تدمير المنازل والأسواق والمنشآت المدنية"(2).
- 2- الربط بين مصر والجيش السوداني الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين! وأوقعها التناقض في احتضان الجيش السوداني المختطف كليًّا لجماعة "الإخوان المسلمين" في السودان، متمثلة في الحركة الإسلامية الإرهابية التي أشعلت الحرب الحالية في السودان وتناصرها كل جماعات التطرف للإبقاء على السودان حاضنة مهمة للإرهاب الدولي، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للاستمرار في حكم السودان.
- 3- اتهام مصر بعرقلة مفاوضات جدة الأولى والثانية، والمنامة، ومفاوضات جنيف الأخيرة؛ لكونها لا تضمن بقاء الجيش في السلطة.
- 4-اتهام مصر بعد الحياد من خلال وصف الخارجية المصرية في أحد بياناتها الدعم السريع "بالميليشيا".
وإزاء هذه الاتهامات أصدرت قيادة قوات حميدتي قرارًا إداريًّا بفرض حظر تجاري على تصدير السلع السودانية إلى مصر من المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع في السودان، وحذَّر المك أبو شوتال، القيادي بقوات الدعم السريع من منطقة النيل الأزرق، التجارَ من تصدير أي بضائع إلى مصر، وتوعدهم بالمحاسبة وفقًا لقرار صادر من المجلس الاستشاري لهذه القوات باعتبار مصر "عدوًّا صريحًا"(3). وفي اليوم التالي للبيان، أي يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، صدر تحذير لمصر بعدم التدخل حماية لأرواح أسرى من الجيش المصري في حوزة قوات الدعم السريع، تم وصفهم بأنهم "مرتزقة مصريون".
أسباب التصعيد
هذه اللهجة "التصعيدية" في مثل هذا التوقيت، يمكن تفسيرها استنادًا لأسباب داخلية، وأخرى خارجية، إقليمية ودولية:
أولًا: الأسباب الداخلية
جاءت هذه التصريحات بعد التراجع العسكري الكبير لقوات الدعم السريع في منطقة جبل موية الإستراتيجية بولاية سنار. تلك الولاية التي تحاذي الحدود الإثيوبية، وتستطيع قوات حميدتي من خلالها فتح خطوط إمداد قريبة من الجبهة الإثيوبية بدلًا من الاعتماد على قواعدها الخلفية في غرب السودان.
كما توجد بهذه المنطقة أكبر قاعدة جوية في جنوب الخرطوم، وهي قاعدة كنانة الجوية التي تبعد عن مدينة ربك حوالي 21 كيلومترًا إلى الجنوب الشرقي. ويستهدف حميدتي من السيطرة على جبل موية، السيطرة على سنار والتمدد جنوبًا للوصول للحدود الإثيوبية لتأمين خطوط إمداد من أقصى الشرق إلى الغرب. وهو ما يقلق إريتريا لكون الحرب ستكون بالقرب من حدودها، وقد يدفعها ذلك للتدخل لدعم الجيش السوداني بسبب شكِّها في نوايا حميدتي وحلفائه الإقليميين(4).
كما يلاحظ أن هذه التصريحات تأتي أيضًا بعد فشل قوات الدعم السريع في إحكام السيطرة بشكل كامل على إقليم دارفور في الغرب، وإمكانية تحقيق انفصاله عن الكيان الأم حال فشلها في الوصول إلى الحكم في الخرطوم.
ومن ناحية ثالثة، يمكن تفسير هذه التصريحات في إطار بحث حميدتي عن طرف ثالث، يحمِّله الخسائر التي تعرضت لها قواته مؤخرًا، خاصة في ظل زيادة الحاضنة الشعبية للجيش من كل الأطياف وانضمام عناصر إسلامية قوية له أسهمت في تحقيق هذه الانتصارات، مقابل زيادة الرفض الشعبي للدعم السريع بسبب استمرار الانتهاكات "الفظيعة" بحق المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
الأسباب الإقليمية
من الواضح أن تصريحات حميدتي ترتبط أيضًا بتراجع الدعم الإقليمي له، مقابل زيادة هذا الدعم للجيش وهو ما أشار إليه في خطابه؛ حيث لم يتهم مصر فقط، وإنما اتهم سبع دول لم يسمها بدعمها للجيش؛ وذلك ما أدى لتفوقه العسكري في المعارك الأخيرة. ويبدو أن هذا التراجع يرجع لتورطه في العديد من جرائم القتل والسلب والنهب.
كما يمكن فهم تصريحات قائد قوات الدعم السريع أيضًا في سياق التباين الكبير بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة، والتحركات المصرية الأخيرة في القرن الإفريقي لتشكيل تحالف مناوئ لإثيوبيا يضم بالأساس كلًّا من مصر وإريتريا والصومال. لذا، لا غرابة في أن تأتي هذه التصريحات قبل يوم واحد من زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لإريتريا ولقائه كلًّا من الرئيسين، الإريتري والصومالي، أسياس أفورقي وحسن شيخ محمود، وهو اللقاء الذي ركز كما ورد في البيان الختامي للقمة الثلاثية، على تعزيز الاستقرار الإقليمي وتوجيه الجهود المشتركة نحو مواجهة التدخلات الخارجية، وتعزيز إمكانيات مؤسسات الدولة الصومالية لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية، وتمكين الجيش الفيدرالي من التصدي للإرهاب بكافة صوره، وحماية حدوده البرية والبحرية، وصيانة وحدة أراضيه(5). وهو ما يمكن أن يُفسَّر على أنه استمرار للمساعي المصرية في محاصرة النفوذ الإثيوبي في المنطقة.
لهذه الأسباب، يمكن فهم هذه التصريحات بأنها تمت بتحريض إثيوبي للتأثير على التحركات المصرية في القرن الإفريقي. وهو ما يدفعنا إلى رصد الموقف الإثيوبي من التطورات الأخيرة في السودان، والذي يؤثر في المقابل على التحركات المصرية في الاتجاه المعاكس بسبب استمرار التباين بين الجانبين بشأن سد النهضة بصفة عامة، والاتفاقية الإطارية لحوض النيل "عنتيبي" بصفة خاصة، والتي دخلت حيز التنفيذ بعد أربعة أيام فقط من هذه التصريحات.
لقد لعب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، دورًا في الوساطة بين المجلس العسكري والقوى المدنية التي قادت الثورة ضد البشير، كما نجح في التوصل لاتفاق سياسي بينهما بخصوص المرحلة الانتقالية أو ما بات يُعرف بـ"الوثيقة الدستورية-أغسطس 2019"، ولعل هذا ما جعل الموقف السوداني أكثر قربًا من الموقف الإثيوبي. وهذا التقارب السوداني-الإثيوبي يمكن الاستدلال عليه من خلال موقفين أساسيين:
- رفض السودان التوقيع على مسودة الاتفاق الأميركي بخصوص قواعد الملء الأول والتشغيل، في فبراير/شباط 2020، التي وقَّعتها مصر بالأحرف الأولى، وغابت عنها إثيوبيا، وتعلَّل السودان حينها بأن رفضه يهدف لضرورة التوصل لاتفاق يوقع عليه الأطراف الثلاثة(6).
- رفض السودان إدراج اسمه في مشروع قرار وزراء الخارجية العرب، في مارس/آذار 2020، الداعم لدولتي المصب في مواجهة إثيوبيا بعد فشل التوقيع على الوثيقة الأميركية، نهاية فبراير/شباط من نفس السنة، معللًا ذلك بعدم الرغبة في حدوث مواجهة عربية-إثيوبية، رغم أن المشروع يشير إلى التأثيرات السلبية للسد على مصر والسودان(7).
- رفض حميدتي، في ديسمبر/كانون الأول 2020، والذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس مجلس السيادة، المشاركة في العمليات التي قادتها القوات المسلحة السودانية لاستعادة السيطرة على مناطق الفشقة التي كانت تحتلها إثيوبيا، رغم أن قواته كانت بمنزلة القوة الضاربة للجيش في العمليات البرية التي تقودها القوات المسلحة في مختلف المناطق. وبحسب ما كشفت عنه صحف محلية سودانية مطلعة على الملفات العسكرية في حينها، وما أوردته بعض التحليلات، فإن هذا الرفض يرجع للعلاقة التي تربط حميدتي بإثيوبيا(8).
هذا التقارب بين آبي أحمد وحميدتي، اتضح مرة أخرى في سبتمبر/أيلول 2023، عندما توجه الأخير، في ثاني جولة إقليمية له منذ اندلاع الحرب، إلى أديس أبابا، على رأس وفد يضم عددًا من مساعديه. واستُقبل استقبالًا رسميًّا من قبل آبي أحمد. واتضح هذا التقارب بصورة أكبر في رعاية أديس أبابا المفاوضات التي تمت بين حميدتي وحمدوك، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، أوائل هذا العام، لوقف إطلاق الحرب، ولعودة الحكم المدني، في ظل غياب للجيش "الطرف الآخر من المعادلة"؛ وهو ما دفع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، مالك عقار، إلى اتهام "تقدم" بأنها تمثل حاضنة مدنية لقوات الدعم السريع، أي إنها شريك لها، وليست وسيطًا.
هذا التعاون الوثيق بين الجانبين دفع حميدتي لعرض تقديمه المساعدة العسكرية لإثيوبيا لمواجهة جماعة فانو الأمهرية المدعومة من إريتريا، وما تردد في المقابل عن تحريض إثيوبي للمفوضية الإفريقية لاستمرار تشددها وعدم الاعتراف بالبرهان(9).
الأسباب الدولية
يمكن الربط بين تصريحات حميدتي وتراجع التأييد الدولي له، بسبب ملف حقوق الإنسان من ناحية، وسعي المؤسسة العسكرية في المقابل إلى تقديم بعض العروض "السخية" لبعض هذه الدول وفي مقدمتها روسيا. وهو ما دفع حميدتي في خطابه لتوجيه اللوم للأطراف الدولية بعدم دعم تنفيذ الاتفاق الإطاري، في ديسمبر/كانون الأول 2022، للمرحلة الانتقالية والحكم المدني عبر تخليها عن دعم قواته، ومشروعه الذي يتمحور بصورة أساسية حول القضاء على الإسلاميين، وتمكين هذه القوات من خلال هذا الاتفاق بالتحالف مع بعض القوى المدنية مثل قوى الحرية والتغيير، من الاستئثار بالسلطة والحكم(10).
ووفق بعض التقارير الدولية، فإن أحد أسباب تراجع حميدتي عسكريًّا، هو التفوق النوعي للجيش خاصة في مجال سلاح الطيران الذي يمتلك قرابة 200 طائرة، وتوفير دول كبرى لهذه الطائرات مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران وغيرها.
لكن ربما الجزئية الأهم في هذا الصدد تتعلق بتحول الموقف الروسي من أحد الداعمين لحميدتي، إلى داعم رئيسي للجيش السوداني، وهو ما أشار إليه حميدتي في خطابه الأخير حيت اعترف بقتال عناصر من قوات فاغنر إلى جانب قواته، ثم تبدل الموقف الروسي إلى النقيض بدعم روسيا للجيش السوداني.
هذا التحول ربما يرجع للمحادثات الأخيرة بين الجيش السوداني وروسيا، أغسطس/آب 2024، بشأن التصديق على الاتفاقية التي وقَّعها البشير مع موسكو، عام 2017، بشأن إنشاء قاعدة بحرية للدعم اللوجيستي في بورتسودان مقابل الحصول على أسلحة وذخائر روسية، وهي الاتفاقية التي لم تدخل حيز التنفيذ حتى الآن لعدم تصديق البرلمان عليها بعد الإطاحة بالبشير، ويرغب قادة الجيش في إحيائها مقابل الحصول على التسليح من ناحية ووقف دعم فاغنر لحميدتي من ناحية ثانية(11).
ثانيًا: الموقف المصري من التعامل مع حميدتي
رغم نفي الخارجة المصرية اتهامات حميدتي جملة وتفصيلًا، إلا أن هذا يطرح تساؤلًا عن إمكانية حدوث الدعم المصري الفعلي للجيش السوداني، وعن الموقف المصري من التطورات التي تشهدها البلاد منذ الإطاحة بالبشير، وموقف مصر من حميدتي.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الاتفاقات الأمنية المصرية مع السودان، وكذلك التدريبات العسكرية بعضها تم توقيعه قبل الإطاحة بالبشير، وبعضها الآخر قبل الحرب الأخيرة بين البرهان وحميدتي، منذ 15 أبريل/نيسان 2023.
وخلال زيارة البشير لمصر، في يناير/كانون الثاني 2019، أي قبل الانقلاب عليه بحوالي ثلاثة أشهر، تم الاتفاق على إطار للتعاون الأمني لمنع تهريب الأسلحة والمسلحين والمواد المحظورة عبر الحدود بعد اتهامات استهدفت البشير بالسماح بنقل أسلحة قادمة من إيران عبر السودان، ومنها لمصر، ثم قطاع غزة.
وبالنسبة لملف تأمين الحدود، تم إجراء تدريبات مشتركة، عُرفت باسم "حارس الجنوب-1" بين قوات حرس الحدود في البلدين بقاعدة محمد نجيب العسكرية، وذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2021، لمنع تسلل اللاجئين أو عصابات التهريب أو أية عناصر يمكن أن تهدد الأمن القومي للبلدين.
كما جرت مناورات حماة النيل قبل اندلاع الصراع في السودان، في 15 أبريل/نيسان 2023، بين القوات الجوية والبرية في البلدين لتحسين التنسيق الدفاعي والهجومي المشترك، وتعزيز القدرات على مواجهة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب وحماية المنشآت الحيوية.
سعت مصر بعد الإطاحة بالبشير لتبني موقف الحياد ودعم المجلس العسكري بقيادته المزدوجة بين الرئيس البرهان ونائبه حميدتي؛ لذا دعت القاهرة لعقد قمة إفريقية مصغرة في 23 أبريل/نيسان 2019، أي بعد 12 يومًا فقط من الإطاحة بالبشير، لمناقشة الأوضاع في السودان، وعدم الضغط على المجلس العسكري لتسليم الحكم للمدنيين، وتمديد مهلة الاتحاد الإفريقي في ذات الشأن من 15 يومًا إلى 3 أشهر، وكان أحد أسباب نجاح مصر في مساعيها خلال القمة، قناعة عدد من القادة المشاركين بها بعدم وجود مشكلة في بقاء المؤسسة العسكرية في صدارة المشهد لفترة، على أن تقوم بتسليم السلطة في نهاية المطاف(12).
لقد استهدفت مصر الحصول على تأييد المجلس العسكري السوداني في موقفها بشأن سد النهضة، لاسيما بعد دخول إثيوبيا على خط الأزمة السودانية بعد الإطاحة بالبشير. هذا التقارب المصري من المجلس العسكري، انسحب بسرعة على الموقف من سد النهضة؛ إذ جعل السودان لا يطالب فقط بضرورة التوسط الإفريقي في أزمة السد، بل بضرورة تدويلها عبر مشاركة الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ لعدم قدرة الاتحاد الإفريقي بمفرده على الوساطة(13).
كما تبنى السودان الموقف المصري بضرورة التوصل لاتفاق ملزم قبل قيام إثيوبيا بملء المرحلة الثانية، في يوليو/تموز 2021، مبررًا ذلك بخطورة هذه العملية على تشغيل سدِّ الروصيرص السوداني، وعلى حياة عشرين مليون نسمة يقطنون أسفله، ويعيشون على ضفاف النيل الأزرق وحتى منطقة عطبرة(14).
كما حرصت مصر أيضًا على استغلال تقاربها من المجلس العسكري لتجفيف منابع جماعة الإخوان، وإغلاق ملفهم بصورة كاملة عبر خطوتين أساسيتين(15):
أولًا: التعاون الأمني عبر التنسيق بشأن تسليم أعضاء جماعة الإخوان في السودان الذين لجؤوا إليها بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، عبر سحب جنسيتهم، ثم تسليمهم، وكان هذا أحد المحاور التي تضمنتها زيارة البرهان للقاهرة، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2020. وقد ترتب على ذلك إعلان الداخلية السودانية، في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أي بعد أقل من شهرين من الزيارة، سحب الجنسية السودانية من ثلاثة آلاف أجنبي حصلوا عليها إبان حكم البشير، ومن بينهم أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين.
ثانيًا: مطالبة السلطات السودانية بغلق المراكز الدعوية والاجتماعية التابعة لإخوان السودان بدعوى نشرها للتطرف؛ وهو ما دفع السلطات السودانية إلى إغلاق 131 جمعية مرتبطة بالإخوان في جنوب دارفور، في 23 يناير/كانون الثاني 2021، بدعوى تلقيها أموالًا أجنبية لدعم الأنشطة الإرهابية والتحريض على العنف ونشر الفكر المتطرف في المنطقة.
ورغم ما بدا سابقًا، من انحياز النظام المصري للمؤسسة العسكرية بقيادة البرهان، والتدريبات المشتركة بين الجانبين في مطار مروي شمال الخرطوم، إلا أن الرئيس السيسي أعلن بعد يومين من أسر بعض الجنود والضباط المصريين في مروي، 17 أبريل/نيسان 2023، عدم الانحياز لأي من طرفي الصراع، عارضًا الوساطة لتسوية الأزمة بينهما؛ إذ أشار إلى "خطورة التداعيات السلبية لتلك التطورات على استقرار السودان، مطالبًا الأطراف السودانية بتغليب لغة الحوار والتوافق الوطني، وإعلاء المصالح العليا للشعب السوداني الشقيق"(16). كما أكد خلال لقائه بأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في البلاد، في 18 أبريل/نيسان 2023، أن "القوات المصرية الموجودة في السودان بهدف التدريب فقط وليست لدعم طرف على حساب آخر"، وقد قام سامح شكري، وزير الخارجية المصري في حينها، بإجراء اتصالين، في 4 مايو/أيار 2023، بكل من البرهان وحميدتي للمطالبة بضبط النفس والوقف الفوري لإطلاق النار(17). كما أيدت مصر ما تم التوصل إليه في اتفاق جدة "12 مايو" بشأن "تعهد الطرفين بعدم استهداف المدنيين، واعتبار ذلك خطوة للتوصل عبر الوسطاء والشركاء الإقليميين والدوليين، لوقف شامل ودائم لإطلاق النار واستئناف الحوار، بما يسهم في إخراج السودان من محنته، واستعادة الشعب السوداني الشقيق لحقه في أن ينعم بالسلم والأمن والاستقرار"(18).
وقد استضافت القاهرة، في 13 يوليو/تموز 2023، قمة جوار السودان بمشاركة رؤساء دول وحكومات جمهورية إفريقيا الوسطي، وتشاد، وإريتريا، وإثيوبيا، وليبيا، وجنوب السودان، وبحضور رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي وأمين عام جامعة الدول العربية، لبحث كيفية معالجة الأزمة السودانية؛ حيث توافق المشاركون على ما يلي(19):
- الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد للوضع الأمني والإنساني في السودان، ومناشدة الأطراف المتحاربة وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار لإنهاء الحرب، وتجنب إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب السوداني وإتلاف الممتلكات.
- التأكيد على الاحترام الكامل لسيادة ووحدة السودان وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والتعامل مع النزاع القائم باعتباره شأنًا داخليًّا، والتشديد على أهمية عدم تدخل أي أطراف خارجية في الأزمة بما يعيق جهود احتوائها ويطيل من أمدها.
- التأكيد على أهمية الحفاظ على الدولة السودانية ومقدراتها ومؤسساتها، ومنع تفككها أو تشرذمها وانتشار عوامل الفوضى بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة في محيطها، وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات بالغة الخطورة على أمن واستقرار دول الجوار والمنطقة ككل.
هذا الموقف المصري المحايد، ربما يرجع لعدة أسباب، منها أنه في ظل تكافؤ القوى النسبي بين الطرفين المتحاربين في السودان، فإن الانحياز لطرف ما كالجيش مثلًا، سيؤدي بالضرورة لعداوة الطرف الآخر أي قوات الدعم السريع، وبالتالي ستكون هناك إشكالية حقيقية حال التوسط لاتفاق شراكة بين الجانبين المتحاربين؛ إذ سيصبح حميدتي في حالة عداء مع النظام المصري، كما أن الأمور ستزداد تعقيدًا حال نجاحه في السيطرة على المشهد السياسي برمته. ويبدو أن مصر قد استفادت من سابق خبرتها في ليبيا؛ إذ أدى انحيازها لحفتر، لعداء الطرف الحكومي في طرابلس، وعدم حلحلة الأمور حتى الآن، خاصة، أن الاتجاه للحياد في الأزمة هو السائد لدى معظم دول العالم والمنظمات الدولية التي لا تنظر إلى قوات حميدتي على أنها ميليشيا متمردة، ولكنها أحد مكونات المؤسسة العسكرية، ومن ثم فإن الصراع يدور بين جناحين داخل هذه المؤسسة يحظى كل منهما بشرعية دولية(20).
مصر من الحياد إلى الانحياز
من الواضح أن الموقف المصري تحول إلى الانحياز للمؤسسة العسكرية ممثلة في البرهان بعد تباعد المواقف بينه وبين حميدتي، وبسبب التصعيد العسكري للأخير في مناطق مختلفة في البلاد، وسعيه للسيطرة على مقاليد الحكم، ورفضه أية فكرة لتسوية الصراع وتقاسم السلطة، وهو ما يعني تهديد الأمن القومي المصري خاصة فيما يتعلق باستمرار تدفق اللاجئين عبر الحدود لمناطق مختلفة ومنها مصر. وبحسب مفوضية شؤون اللاجئين، فإن إجمالي عدد السودانيين الوافدين إلى مصر حتى 30 سبتمبر/أيلول 2024 بلغ نحو 1.2 مليون شخص(21).
كما أن التقارب الكبير بين حميدتي وآبي أحمد، وإعلان إثيوبيا قرب انتهاء عملية تخزين المياه في سد النهضة، فضلًا عن نجاحها في الضغط على جنوب السودان للتصديق على الاتفاقية الإطارية بخصوص مياه النيل "عنتيبي" ودخولها حيز التنفيذ رغم التحفظات المصرية والسودانية، جعل من مصلحة مصر التقارب مع البرهان الذي لا يزال يرفض الممارسات الإثيوبية بشأن ملفي سد النهضة واتفاقية عنتيبي، وتخشى مصر من أن يؤدي وصول حميدتي للحكم إلى انحيازه للموقف الإثيوبي سواء بشأن سد النهضة أو غيره من السدود التي تنوي إثيوبيا بناءها على النيل الأزرق بسعة إجمالية تقدر بـ140 مليار متر مكعب تخصم من حصة مصر، كما تخشى أيضًا من إمكانية انضمام حميدتي لاتفاقية عنتيبي لتبقى مصر منفردة في موقفها بالنسبة لباقي دول الحوض.
لقد نجحت مصر في تحقيق مجموعة من أهداف أمنها القومي عبر دعمها للمؤسسة العسكرية السودانية، وإن كان هذا تسبب لها في مشاكل عدة في الأحداث الأخيرة سواء مع القوى المدنية التي اتهمتها بالانحياز للعسكر، أو حتى من قبل حميدتي باعتبارها تميل فعليًّا لدعم البرهان؛ إذ تأسست وجهة النظر المصرية على أن الجيوش القومية، وليست الجهات الفاعلة غير الحكومية، في إشارة إلى حميدتي، هي الأولى بالدعم(22).
مآلات العلاقة بين مصر وحميدتي: سيناريوهات متوقعة
يمكن القول: إننا أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة للعلاقة بين القاهرة وحميدتي ترتبط أساسًا بميزان القوى وسير المعارك بين البرهان وحميدتي:
الأول: استمرار تراجع قوات الدعم السريع عسكريًّا في مواجهة المجلس العسكري وانتصار البرهان: وهذا يعني أن مصر ستعزز تعاونها مع الجيش، وستواصل تقديم المزيد من الدعم له باعتبار أن هذا السيناريو يعزز موقفها في ملف سد النهضة، ويضمن استقرار حدودها الجنوبية.
وفي الحقيقة هناك مجموعة من المؤشرات الآنية على إمكانية تحقق هذا السيناريو منها استمرار الانشقاقات في صفوف الدعم السريع، فقد أعلن خمسة من مستشاري حميدتي انشقاقهم بعد أيام من إعلان قائده بولاية الجزيرة، أبو عاقلة كيكل، انشقاقه أيضًا وانضمامه للجيش السوداني، وبرَّر مسؤول ملف شرق السودان في الدعم السريع، عبد القادر إبراهيم محمد، هذا الانشقاق بوجود نوايا لسيطرة قوات الدعم السريع على سواحل السودان على البحر الأحمر لصالح دول أخرى "لم يسمها" وهي السبب الرئيسي لاندلاع الحرب، وأن الدعم السريع طرح مشروعات بولاية البحر الأحمر بتكلفة ثلاثين مليار دولار، تشمل ثلاثة مطارات وثلاثة موانئ وإنشاء ستة معسكرات لتدريب قوات من ضمنها قوات بحرية لنشر ثلاثين ألف مقاتل على طول الساحل، وأن التصديقات الأولية لهذه المشروعات تم تمريرها بنفوذ نائب رئيس مجلس السيادة حينها، محمد حمدان حميدتي، لكن قيادة الجيش انتبهت لمخاطر المشروعات على السيادة الوطنية ورفضتها؛ مما دفع حميدتي للتهديد بالاستيلاء على السلطة حال رفض المشروعات بولاية البحر الأحمر(23).
الثاني: استعادة حميدتي للنفوذ العسكري، ونجاحه في هزيمة الجيش والسيطرة على السودان: حينئذ قد تضطر مصر لتحسين علاقاتها مع حميدتي -ولو عبر وسطاء- باعتباره الفاعل الرئيسي في البلاد، وإن كان هذا سيكلفها الكثير خاصة في ظل استمرار علاقته الوثيقة بإثيوبيا.
أما ثالث السيناريوهات فهو التهدئة والتوصل إلى تسوية سياسية بين البرهان وحميدتي عبر الوساطة: وهنا قد تكون الدول الإقليمية من بين الوسطاء بين حميدتي والقاهرة مما قد يعطي للعلاقات بين مصر وحميدتي صيغة جديدة. وهذا السيناريو، وهو إمكانية قيام أطراف أخرى إقليمية أو دولية أو حتى مشتركة بهذه الوساطة، قد يكون واردًا. وسيكون هذا السيناريو مقبولًا مصريًّا شريطة تحقيق أهداف الأمن القومي المصري سواء المتعلقة بالأمن القومي بمفهومه الضيق أي أمن الحدود، أو بمفهومه الواسع أي الأمن المائي.
1) بيان المتحدث باسم الدعم السريع، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، على تلغرام، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://t.me/RSFSudan،
2) الدعم السريع توجه تحذيرًا للقاهرة وتكشف عن أسرى مصريين لديها، موقع صحيفة الراكوبة، تاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 25 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://tinyurl.com/ycyvtuxj
3) «الدعم السريع» تعلن حظرًا للصادرات السودانية إلى مصر، الشرق الأوسط، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، 2024، https://2cm.es/OtNn
4) حسن، حمدي عبد الرحمن، وساطة أم شراكة؟: إعلان أديس أبابا وتبعات لقاء حميدتي وحمدوك، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 4 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/OtNr
5) البيان المشترك للقمة المصرية الإريترية الصومالية، موقع رئاسة الجمهورية المصرية، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/Out0
6) أبوشوك، رقية، سد النهضة..مصر توقع..والسودان يتحفظ.. استفهامات ملحة، صحيفة المجهر السياسي السودانية، 2 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://bit.ly/39IkQho
7) السودان يتحفظ على قرار وزراء الخارجية بشأن مخاطر ملء سد النهضة، العربي الجديد، 5 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://bit.ly/2Njhz0r
8) ترتيبات ستصعّد الصراع في دارفور.. ماذا أراد البرهان من إقالة حميدتي والإبقاء على رتبته العسكرية؟ موقع الجزيرة نت، بتاريخ 20 مايو 2023 (تم التصفح في 1 نوفمبر 2024): https://shorturl.at/kLIxL
9) الرزيقي، الصادق، الحرب ومواقف دول جوار السودان (1-3)، 24 يناير/كانون الثاني 2024، الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/M7et
10) يعقوب، ركابي حسن، خطاب حميدتي.. إقرار بالهزيمة العسكرية والسياسية، مدونات الجزيرة، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/M7eE
11) مباحثات عسكرية جديدة بين روسيا والسودان حول قاعدة لوجستية في البحر الأحمر وتسليح الجيش، صحيفة القدس العربي، 17 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/OtNR
12) عبد الحكيم، أحمد، العلاقة بين مصر والسودان... ما قبل البشير وبعده، صحيفة إندبندنت عربية، 28 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/F7c4rs
13) شافعي، بدر حسن، التقارب المصري من السودان: محاولة للضغط على إثيوبيا، مركز الجزيرة للدراسات، 9 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/5MD5Mj
14) عوض، عبد الحميد، "وفد كونغولي في الخرطوم بشأن سد النهضة"، صحيفة العربي الجديد، 25 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://cutt.us/Zu7V7
15) العلاقات المصرية السودانية... مصالح متبادلة وملفات مشتركة، موقع صحيفة الوطن المصرية على النت، 6 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/ki5sSK
16) السيسي يعلق على أحداث السودان.. ويحذر من "التداعيات السلبية"، سكاي نيوز، 16 أبريل/نيسان 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/Wdw68X
17) موقع الخارجية المصرية على الفيسبوك، 4 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/b8MEIf
18) موقع الخارجية المصرية على الفيسبوك، 12 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2u.pw/gKDig0
19) البيان الختامي لقمة دول جوار السودان، موقع رئاسة الجمهورية المصرية، 13 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/OtO9
20) شافعي، بدر حسن، مصر وأزمة السودان.... حدود الدور والتأثر، مركز الجزيرة للدراسات، 30 مايو/أيار 2023، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/OtOh
21) مصر ومشكلة النزوح، موقع مفوضية شؤون اللاجئين، أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/M7fc
22)- Giorgio Cafiero, UAE, Egypt closer to different sides in Sudan conflict, 28 Apr 2023,Aljazeera English, ,(Visited on 20 Oct.,., 2024) https://2u.pw/MiL549
23) خمسة من مستشاري حميدتي ينشقون عن الدعم السريع، الجزيرة نت، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://2cm.es/OtOm